الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث "هاجرنا مع رسول الله ﷺ نلتمس وجه الله تعالى.."
تاريخ النشر: ٢١ / ربيع الأوّل / ١٤٢٩
التحميل: 1058
مرات الإستماع: 1908

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

باب الزهد:

ففي باب الزهد أورد المصنف -رحمه الله- حديث:

"خباب بن الأرت قال: هاجرنا مع رسول الله ﷺ نلتمس وجه الله تعالى، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات، ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير ، قتل يوم أحد، وترك نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه، بدت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه، بدا رأسه، فأمرنا رسول الله ﷺ أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئًا من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها، متفق عليه"[1].

قوله: "هاجرنا مع رسول الله ﷺ" ليس المراد أنهم صحبوه في سفر الهجرة، فمعلوم أن النبي ﷺ هاجر مع أبي بكر الصديق ، وكان ثالثهم هو الذي يدلهم على الطريق، وهو عامر بن فهيرة، وكان رجلاً مشركًا.

ولكن المقصود: هاجرنا مع رسول الله ﷺ، أي: أننا هاجرنا طاعة واستجابة واتباعًا لرسول الله ﷺ، حيث اتبعناه، ففرنا بديننا إلى حيث نأمن.

"نلتمس وجه الله تعالى" أي: أنهم بهذه الهجرة لم يكن الواحد منهم يهاجر من أجل دنيا يصيبها، وإنما هاجروا من أجل طلب الثواب، وطلب الأجر.

"فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات، ولم يأكل من أجره شيئًا" يعني: وقع أجرنا بسبب هذه الهجرة، فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئًا.

"ومنهم مصعب بن عمير قُتل يوم أحد، وترك نمرة، فكنا إذا غطينا..." إلى آخره.

ومصعب بن عمير هو أول من جاء إلى المدينة من المهاجرين، مع ابن أم مكتوم، جاء مع أهل العقبة الأولى معلمًا ومربيًا، يعلمهم القرآن والإسلام، ويدعو إلى الله ، ثم تتابع الناس بعد ذلك.

يقول: "قتل يوم أحد، وترك نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه" والمقصود بالنمرة كساء ملون من الصوف يقول: "فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه" لقصرها "وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله ﷺ أن نغطي رأسه" لأنه الأشرف "ونجعل على رجليه شيئًا من الإذخر" المقصود: بالإذخر هو نبت معروف، طيب الرائحة.

يقول: "ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها" ومعنى: يهدبها يعني يقطفها ويجتنيها، بمعنى: أنهم فتحت عليهم الدنيا، فتمكنوا منها، فصاروا يأخذون من الدنيا، ويتنعمون بما أفاء الله عليهم من الأموال والعَرَض، فصار الصحابة منهم من كانوا في غاية الغنى، لكن ذلك لم يطغيهم، بل كانوا في غاية الخوف من الله ، ومراقبته وعبادته، ومع ذلك كانوا يخافون أن يكون ذلك نقصًا في أجورهم وأخبارهم في هذا كثيرة، ويأتي -إن شاء الله- طرف منها، في الكلام على الآثار المنقولة عن السلف التي نذكرها بعد كل باب، فكان الواحد ربما يبكي، ولا يأكل، وربما كان صائمًا، فلا يطعم إذا تذكر ما كان الناس عليه قبل ذلك، ويتذكر إخوانه الذين ماتوا ولم يدركوا ما أدركه المتأخرون من هذه السعة والمال، فكيف لو أدركوا ما أدركنا؛ لأن الذين توسعوا من الصحابة ، وحصل لهم كثير من عرض الدنيا، هل يقارن ما حصلوه من وسائل الراحة بما حصلناه نحن؟ أبدًا، تصور حينما يلبس الإنسان أحسن ثيابه، ويركب إلى صلاة الجمعة على دابة على بعير أو حمار، أو بغل يصيبه من عرقها ومن غبار، هؤلاء الأغنياء، والطريق لا يوجد إسفلت، ولا يوجد عمال نظافة، والمساجد يصلي الناس فيها على الحصير، وربما على الحصباء، وهذا إلى عهد قريب، والمسجد الحرام إلى عهد قريب كان الصحن فيه جزء يسير يطوف الناس فيه، والباقي ممرات، وما بين ذلك حصباء، يصلي الناس عليها، هذا شيء أدركناه، والمدينة النبوية في المساحات التي في داخل المسجد القديم كانت توجد حصباء في المربع الأول، وفي المربع الثاني، والناس في المساجد هذه في هذه المدينة الذي أدركناه، وهو ليس بالبعيد، وإنما قريب جدًا، والناس يصلون على الحصر، وهذا شيء أدركناه تمامًا على الحصير، ويتفاوت هذا الحصير، فقد يكون هذا الحصير قديمًا مدكوكًا، ولا يوجد شيء من المكيفات في المساجد أبدًا، وإنما بدأت بعد ذلك، وكانت تبنى المساجد ولا يوجد فيها فتحات أصلاً للمكيفات، وانظر إلى التوسع الذي حصل للناس اليوم، هل يوجد مسجد لا يوجد فيه مكيفات؟ أبدًا، لو أن أحدًا بنى مسجدًا، ولم يضع فيه التكييف ولم يهيئه لهذا لضحك الناس منه اليوم، ومن تصرفه وتدبيره، ولا زالت كثير من البلاد التي حولنا لا توجد في بيوت الناس هذه الوسائل، والناس يعرفون هذا ويدركونه، وربما لا توجد إلا في الفنادق.

فأقول الصحابة لا يوجد عندهم مراوح، والأغنياء والأثرياء وقصور الخلفاء لا يوجد فيها مراوح، ولا يوجد فيها مكيفات، ولا يوجد عندهم سيارات، ولا وسائل التنظيف والغسيل والتطهير، وأدوات النظافة، كما هي عندنا اليوم، يغتسل الواحد بماذا؟ بالأشنان، وبأمور كهذه، وأما اليوم فنسأل بعض الذين يفدون إلى هذه البلاد ما الذي يلفت أنظاركم؟ يقول: يلفت أنظارنا كثرة المطاعم، في كل زاوية مطعم، هذا يدل على ماذا؟ على ترهل عند الناس وتوسع، وأما السابقون فالواحد منهم قد لا يوجد شيئًا يأكله، وإذا وجد كيف يهيأ هذا الطعام يحتاج إلى أن يجلب الحطب، ثم يوقد هذا الحطب، ولا تسأل عن الحالة التي في هذا الموقد من الدخان الكثيف، والمكان أسود، لا ترى فيه شيئًا، فهذا الشيء المتوسطون في أعمارهم منكم أدركه ويعرفونه، والمكان الذي يقال له المطبخ: أسود من الدخان، ثم ينفخ حتى تشتعل هذه النار، ثم متى ينتهي هذا الطعام؟ هذا إلى عهد قريب، واليوم انظروا إلى المطابخ، إذا سألت أصحابها فهم لا يدركون لا يستطيعون أن يتابعوا، وأن يحققوا لكل الناس ما يطلبون؛ ولهذا إذا طلب منهم أن يوصلوا فكثيرًا ما يعتذرون لكثرة من يطلب منهم، فانظر إلى الدنيا، والصحابة كان الواحد منهم يبكي، ويخاف أن يكون ذلك نقصًا في أجره ومرتبته عند الله -تبارك وتعالى-، فماذا نقول نحن اليوم؟ مع أنهم هاجروا مع النبي ﷺ، وهم الذين نقلوا إلينا الإسلام، وهم الذين رفعوا رايته، ونحن الواحد منا ربما لم يقدم عشر معشار ما قدمه رجل كافر، كأبي طالب للإسلام، ومن منا يقول: أنا قدمت للإسلام مثلما قدم أبو طالب؟! حمى النبي ﷺ، ولا أحد يستطيع أن يقول هذا، خيارنا لا يستطيعون أن يقولوا هذا اليوم، ومع ذلك نحن لا نخاف، ولا تساورنا هذه المشاعر، ولا يظهر علينا أثر ذلك بالشكر باللسان والقلب والجوارح، ونزداد عبودية لله -تبارك وتعالى- من منا يشعر بالجوع، ويبيت وهو جائع لا يجد شيئًا، من منا يحصل له مثل هذا؟! أضعف الناس اليوم، وأفقر الناس اليوم في المجتمع، ربما ما يبيت وهو جائع، لكنه يحتاج إلى مزيد من الكماليات، أو ربما أشياء من العلاج، أو نحو ذلك، لكن لا يجد شيئًا يأكله قد يكون هذا نادرًا في هذا المجتمع في المدن.

فأقول: انظر إلى هذه الحال وما أفاء الله وما عند الناس من الخدم والعرض الكثير، وإلى عهد قريب ما كان الناس يحلمون أن يوجد عندهم خادم أو خادمة، ويذكرونه على سبيل الاستبعاد جدًا إذا قيل: من فعل هذا الشيء؟ قال: من يفعله الخادم! يعني: هذا أمر في غاية الاستبعاد، ولا يخطر في البال، ولا يدور في الخيال، واليوم أين البيت الذي لا يوجد فيه خادم أو خادمة؟ فهذا يدعو إلى أن الإنسان يراجع ويفكر ويتبصر في عمله، وهل شكر الله ؟ وهل انغمس في هذه الدنيا، وتعلق قلبه بها فأشغلته وألهته عن ذكر الله وطاعته وشكره، لا يكن الواحد منا من الغافلين، فإن ذلك مظنة أو سبب لزوال النعم وترحلها. وراء ظهورهم.

نسأل الله أن يتوب علينا، وأن يصلح أحوالنا، وأحوال المسلمين، وألا يلهينا بهذه الدنيا ومفاتنها عن طاعته وذكره، والإنابة إليه، وألا يجعل الدنيا غاية همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب إذا لم يجد كفنًا إلا ما يواري رأسه، أو قدميه غطى رأسه برقم (1276) ومسلم في الجنائز، باب في كفن الميت برقم (940).

مواد ذات صلة