الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
‏‏(03) قول الماتن " وقد قال أبوعبدالرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ... "‏
تاريخ النشر: ١٨ / شوّال / ١٤٣٤
التحميل: 8975
مرات الإستماع: 5638

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمرحباً بكم جميعاً، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياكم علما نافعاً، وعملاً صالحاً، ونية.

كان آخر ما تحدثنا عنه في الدرس الماضي هو ما كان يقرره شيخ الإسلام -رحمه الله- من أن النبي ﷺ بيَّن لهم معاني القرآن، وذكر في ضمن ذلك أن النبي ﷺ بيَّن لهم المعاني كما بيَّن لهم الألفاظ، هذا يدل على أنه يريد أن النبي ﷺ بيَّن لهم جميع معاني القرآن، ويدل على ذلك الآية التي استدل بها: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل:44]، فذكر أن البيان هنا يتناول هذا وهذا، يعني بيان الألفاظ والمعاني، هذان أمران يدلان على أن مراده ما ذُكر، ثم نستوفي بقية كلامه الذي يقرر فيه هذا المعنى.
ويمكن أن نضع عنوانا هنا -كما سبق- عند قول أبي عبد الرحمن السلمي (عناية السلف بالقرآن)، وهذا الأثر الذي ذكره عن أبي عبد الرحمن السلمي هو الموضع الثالث الذي يدل على أن شيخ الإسلام يريد ما ذُكر أن النبي ﷺ بيَّن لهم الألفاظ والمعاني جميعاً، فسر لهم جميع القرآن، وذلك أنه قال في هذا الأثر: "كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل"، فهذا على سبيل التفصيل، لم يجاوزوها إذا تعلموا من النبي ﷺ، فعشر آيات بمعني أنهم يأخذون ذلك مأخذ الدراسة، ثم بيَّن بعد هذا ما يؤكده أنهم كانوا يبقون مُدَّةً في حفظ السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين ولجميع المسلمين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: "حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل"، قالوا: "فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعاً"، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وقال أنس: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ في أعيننا".

هذا متفق عليه، أخرجه الشيخان، يريد من هذا -أنه جدَّ في أعيننا- يعني صار له منزلة ومكان؛ لأنه قد حفظ هاتين السورتين، وصار أيضاً عالماً بما فيهما من الأحكام والهدايات والعبر والعظات، ومعلومٌ أن سورة البقرة هي أكثر السورِ اشتمالاً على الأحكام، فإذا حفظ البقرة وآل عمران يكون له شأن في أعينهم، يعني لم يكن مجرد حفظ هاتين السورتين دون أن يفقه وأن يفهم ما في مضامينهما من الأحكام، هذا مراده من إيراد هذا الأثر، كل هذا يريد أن يقرر فيه أن النبي ﷺ بين لهم جميع معاني القرآن، وهكذا ما ذكر بعده من أثر ابن عمر.

وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، قيل: ثماني سنين، ذكره مالك.

هذا من بلاغات الإمام مالك -رحمه الله-، كذلك أيضاً ثبت عن عمر أنه حفظ البقرة في مدَّةٍ تقرب من ذلك، وأنه نحر جزوراً بعدما حفظها.

قال: وذلك أن الله تعالى قال: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [سورة ص:29]، وقال: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [سورة النساء:82] و[سورة محمد:24]، وقال: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [سورة المؤمنون:68] وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.

لاحظ الآن حشْد الأدلة على تقرير هذا المعنى: يقول: لابد من تدبره، والتدبر لا يتأتى إلا بالفهم، فالنبي ﷺ بيَّن لهم جميع معاني القرآن؛ ليتحقق هذا المطلب، وهو التدبر، ويجاب عن هذا بأن يقال: هذا القرآن قد جعله الله ميسراً في ألفاظه ومعانيه، فهم يفهمون مثل ما يفهم العربي؛ لأنهم أهل فصاحة وبلاغة وسليقة لغوية، فما يحتاجون إلى أن يفسر لهم جميع القرآن، جميع ألفاظ القرآن، جميع آيات القرآن، وإنما ما يحتاجون إليه كبيان المجمل، ونحو ذلك حل المُشكِل. وإذا قرأ الواحد منهم ما بلّغه النبي ﷺ لأمته، وهذا من البيان لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وأقبل عليه بقلبه فإنه يحصل له من التفهم والتدبر الذي يستخرج به الحِكَم والأحكام والهدايات، ولا يتوقف ذلك على تفسيره لجميع آيات القرآن من قبل النبي ﷺ.

وكذلك قال تعالى أنا أَنزَلْنَاهُ قُرْأنا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة يوسف:2]، وعقلُ الكلام متضمن لفهمه.

وهذا من الأدلة التي يستدل بها، فيقال: هم يفهمون؛ لأنهم خطبوا بلغتهم، ويبقى أن النبي ﷺ بيَّن لهم ما يُحتاج إلى بيانه.

ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك.

هذا لا إشكال فيه، ولكن يبقى ما ذكر في الجواب السابق، يعني حينما يقول الله : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1] هذه يفهمونها لا تحتاج إلى تفسير، حينما يقول: اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة البقرة:255] لا تحتاج إلى تفسير، وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران:189] لا تحتاج إلى تفسير، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۝ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:2-5] كل هذا لا يحتاج إلى تفسير، ويحصل تدبره بتوجيه الفكر وإحضار القلب مع قراءته؛ فيتحقق المراد، والله أعلم.

وأيضاً فالعادة تمنع بأن يقرأ قومٌ كتاباً في فنٍ من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله تعالى الذي هو عصمتهم؟! وبه نجاتهم وسعادتهم؟! وقيام دينهم ودنياهم؟!

هذا يقال فيه: إنهم إنما يستشرحون ما يحتاج إلى شرح وبيان.

ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً.

هذا دليل آخر من الدلائل التي يستدل بها على أن النبي ﷺ فسر لهم جميع معاني القرآن، ووجه ذلك أنهم حينما تلقوا ذلك عن رسول الله ﷺ قل النزاع بينهم، نحن نقول: إن هذا يمكن أن يقال فيه: إنه قلَّ النزاع بينهم أولاً لقرب عهدهم من المصدر، الأمر الثاني: لوفرة علومهم، علوم الصحابة أكمل من غيرهم، الأمر الثالث: سلامة الفطر، الأمر الرابع: قلة التكلف كما يقول بعض المتأخرين.

صاحب الفوز الكبير الدهلوي -رحمه الله- يقول: منذ أن صار المفسرون يشقون الشعرة والشعيرة كثر الخلاف في التفسير، وهذا صحيح، ولو جئنا بأمثلة كثيرة جداً الآن على مواضع تقرءونها وتأتون عليها دون استشكال، فلو بدأنا نشق الشعرة والشعيرة لربما بقيتم في حيرة، ما هو الجواب؟ وما هو المعنى المراد لهذه الآية؟ مع أنك تقرأ الآية دائماً، وتفهم المراد من غير أن تستشكل ذلك.

الصحابة  لم يكن عندهم هذا التشقيق ولا التكلف، والسليقة وافرة، والعلم كذلك، والتقوى التي تكون سبباً لاستنارة البصائر، كل هذه الأمور كانت سبباً لقلة الخلاف بين الصحابة ، لكن الذين يتكلفون مع قلة العلم، وبُعد العهد عن نور النبوة والمنبع الصافي، هؤلاء -مع تدنس الفطر- كما يقول الحسن -وسيأتي إن شاء الله-: أهلكتهم العجمة، العجمة هذه تجعل الإنسان يفهم فهماً على غير المراد أحياناً، ولذلك تجد من لديه هذه العجمة سواء كان من العرب أو من غير العرب يسأل عن أشياء قد لا تخطر على البال، في دقائق لا تخطر على البال، بألفاظ وإعرابات، وزيادة حرف وما أشبه ذلك، لم يكن الصحابة  يقفون عنده، ولا يسألون عنه.

فلو جئت بالزجاج والفراء والكسائي والأخفش، وأئمة التفسير كابن جرير ومن في طبقته في العلم؛ فإنهم سيختلفون على أقوال، بسبب هذا التشقيق، وهذا مشاهد وموجود كثيراً، ولعله يأتي بعض الأمثلة على ذلك، كيف يختلفون كثيراً.

 فهذا هو السبب أن الصحابة قلَّ الاختلاف بينهم، ليس ذلك لأن النبي ﷺ فسر لهم جميع معاني القرآن، لو كان كذلك لنقلوه إلى من بعدهم، وما احتاجوا إلى كثيرٍ من الاجتهادات التي أورثت خلافاً كثيراً في التفسير في زمن التابعين فمن بعدهم.

 وسيأتي مزيد إيضاحٍ لهذا، لكن أنا أريد أن تنتبه هنا إلى أن شيخ الإسلام -رحمه الله- يحشد الأدلة على تقرير هذا المعنى الذي أراده، وهو أن النبي ﷺ فسر لهم جميع معاني القرآن، ولهذا كان النزاع بين الصحابة قليلاً، وهنا نضع عنواناً جديداً (قلة الخلاف بين السلف في التفسير) أنا أذكر هذه العناوين من أجل أن تميز الأشياء إذا جاءت من الاستطرادات، لا نضيع معها.

ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة، فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم، وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر.

هذا صحيح.

ومن التابعين من تلقَّى جميع التفسير عن الصحابة.

هنا ممكن أن نجعل عنواناً أيضاً (تفسير التابعين).

كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها.

مجاهد -رحمه الله- من كبار تلاميذ ابن عباس -ا- وهو: مجاهد بن جبر المكي، مولى السائب بن يزيد، توفى سنة (102هـ)، في ترجمته أنه توفي وهو ساجد -رحمه الله-، ومولى السائب بن أبي السائب توفي وهو ساجد أيضا، وشيخ الإسلام حينما يورد مثل هذا أن مجاهد يقول: عرضت المصحف على ابن عباسٍ أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها، هذا الأثر الذي أخرجه ابن جرير، وأبو نعيم وغيرهما، وإن كان في إسناده ضعف لكن له شواهد تقويه، يريد شيخ الإسلام من هذا أن هذه كانت هي الطريقة في التعلم، تعلم معاني القرآن.

فهذا مجاهد مع قرب العهد من كبار أصحاب ابن عباس كان يوقفه عند كل آية ويسأله عنها، إذاً شيخ الإسلام واضح أنه يريد أن يقرر هذا المعنى، أنهم تعلموا الجميع، جميع المعاني، فسر لهم النبي  ﷺ جميع الآيات، يقول: هذه طريقتهم، فيحتج أيضاً بهذا الأثر عن مجاهد -رحمه الله-، وجاء في بعض الروايات أنه عرض القرآن على ابن عباس أكثر من هذا في بعضها إلى 30 مرة، لكن الذي يظهر -والله أعلم- أن ذلك يختلف، فهناك عرض قراءة، يقرأ عليه القرآن، وهنا عرض تفسير وسؤال عن المعاني.

 فهذا الذي ذكره هنا -والله أعلم- أنه عرض المصحف على ابن عباس، الرواية هكذا، ثلاث عرضات، فهذه يراد منها التفسير، قال: من فاتحته إلى خاتمته هذا التفسير، وليس عرض قراءة على ابن عباس -ا-، يدل على هذا أنه قال: أوقفه عند كل آية وأسأله عنها، وفي رواية أسأله فيم نزلت؟ وكيف كانت؟ وهذا صريح في بيان المراد.

وجاء عن ابن أبي مليكة -رحمه الله- أنه قال: رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب، قال: حتى سأله عن التفسير كله. هذا كله واضح وصريح أنه كان يدرس عن ابن عباس دراسة مفصلة جميع آيات القرآن، وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إذاً هذه الطريقة المعهودة عندهم في تلقي التفسير، فأخذوا التفسير عن النبي ﷺ هكذا، وقال: حتى ابن عباس -ا- لم يتلقَّ جميع التفسير من النبي ﷺ، ومعلوم أن النبي ﷺ توفي وابن عباس لم يزل في مقتبل العمر، لم يزل صغيراً في السن، وإنما كان يسأل الصحابة ، وغالب ما تلقاه من العلم إنما أخذه من الصحابة ، وحال النبي ﷺ تدل على هذا، أنه كان يقرأ عليهم الآيات التي تنزل ويكتفي بهذا في أغلب الأحوال.

أما التفسير المنسوب لمجاهد -رحمه الله- المطبوع في مجلدين فهذا قد لا يثبت عنه، ولعله لآدم بن أبي إياس وليس لمجاهد، وابن أبي إياس متأخر عن مجاهد بنحو قرن من الزمن، ابن أبي إياس متوفي سنة 220هـ.

ولهذا قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.

هذا أخرجه ابن جرير -رحمه الله- باعتبار أنه تلقى عن ابن عباس بهذه الطريقة المفصلة، عرض ثلاث مرات على ابن عباس يسأله عن كل آية، ويوقفه عندها، فمن تلقى عن إمام المفسرين من الصحابة بهذه الطريقة، فما ظنك بعلمه وما حصَّل؟! مع أنه يقال في الوقت نفسه: إن ما يروى عن مجاهد  -رحمه الله- لم يكن ذلك جميعاً مما تلقاه عن ابن عباس، فكونه تلقى التفسير من ابن عباس لا يقتضي بالضرورة أن كل ما يقوله مجاهد مأخوذ عن ابن عباس، بل هو أيضاً عالم، وإمام، ويجتهد، ولذلك وجد له أشياء في التفسير يمكن أن يقال: إن هذا من قبيل الرأي، إن صح ذلك عنه، وبعض ذلك لا يصح، وبعضه وُجد من يوافقه، يعني لو تتبعت واستقرأت تجد أن الأمر ليس كما قد يُظن من أنه تفرد بهذا القول، بل وُجد حتى من الصحابة من قال بقوله.

وبعض الأشياء قد لا تقال من جهة الرأي، عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [سورة الإسراء:79] المعروف أنها الشفاعة العظمى، والمروي عن مجاهد قال: أقعده على العرش، هذا لا يقال من جهة الرأي، وعامة أهل العلم والذي دل عليه الدليل أنها الشفاعة العظمى، لكن لم يتفرد بهذا القول كما قد يُظن، هو مسبوق، وجد من الصحابة من قال بهذا، وتجد أيضاً أشياء أحيانًا قد تقول: اجتهادات، يعني المسخ مثلاً، الذين مسخوا: كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] يرى أن هذا المسخ معنوي وليس بمسخ حسي، وهذا خلاف ظاهر القرآن، بل هو مسخٌ حسي، هذا هو الأصل، وهذا الذي عليه السواد الأعظم من السلف فمن بعدهم، والله على كل شيء قدير، فهل يقال: إن مثل هذا تلقاه عن ابن عباس -ا-؟ الجواب: لا.

ليس كل ما يروى عن مجاهد -رحمه الله- يحكم بأنه مما تلقاه عن ابن عباس، فقد يُتلقى عن العالم ويؤخذ عنه، ولكن يبقى أيضاً لهذا المتلقي آراء واجتهادات ونظر، وهذا أمر مشاهد لا إشكال فيه،  لكن المقصود هنا أن شيخ الإسلام -رحمه الله- يريد أن يقول: إن مجاهداً تلقى بهذه الطريقة، وإن هذا هو الذي كان الناس عليه في ذلك العهد.

ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيرهم ممن صنف في التفسير يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره، والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم السنة، وإن كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط، والاستدلال كما يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط، والاستدلال.

هذا صحيح، الآن لو أردنا أن نحصر هذه الدلائل من المنقول والنظر، التي يقرر فيها شيخ الإسلام هذا المعنى، ونحصي هذه الأشياء التي يقرر فيها أن الصحابة تلقوا عن النبي ﷺ تفسير جميع القرآن، نحسب: الأول قوله: أنه بين لهم معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، أقصد العبارات الدالة على مراده، المواضع التي تدل على مراده، أو نقول: هذه الآن يمكن أن تسمى أو يقال عنها: إنها القضية المراد تقريرها، ثم الأدلة، فلو تجاوزناها وقلنا: هذه هي ما يراد تقريره، فنقول: الأدلة:

الأول: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ

الثاني: أثر أبي عبد الرحمن السلمي.

الثالث: طول المدة في حفظهم للسورة.

وما جاء عن أنس: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران..." يمكن أن نجعله الرابع.

أما قوله: أقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين فيمكن أن نجعله الخامس، أو يكون تابعاً لما قبله، الخامس: أن الله قال: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [سورة ص:29]، والآيات الأخرى في التدبر.

السادس: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة يوسف:2].

السابع: دليل من النظر، وهو أن كل كلام المقصود منه فهم معانيه؛ فالقرآن أولى بهذا.

الثامن: العادة تمنع -هذا دليل من النظر، الدليل من النظر يعني، ليس من المنقول وإنما من المعقول- أن يقرأ قومٌ كتاباً في فنٍ من العلم ولا يستشرحوه.

التاسع: قلة النزاع بينهم.

العاشر: طريقة تلقي التابعين، كما جاء عن مجاهد في هذا.

فهذه عشرة أدلة من المنقول والنظر يوردها شيخ الإسلام ليقرر أن النبي ﷺ بيَّن لهم جميع معاني القرآن، والذي عليه عامة أهل العلم أن النبي ﷺ بيَّن لهم ما يحتاجون إليه فقط، وليسوا بحاجة إلى بيان التفسير في كل موضوعٍ كما يحتاجه الناس اليوم، والله أعلم.

فصل: في اختلاف السلف في التفسير وأنه اختلاف تنوع.

هذا العنوان من العناوين التي ليست من وضع المؤلف، اختلاف السلف في التفسير وأنه اختلاف تنوع يعني يقصد في مجمله وغالبه، وإلا فيوجد منه اختلاف تضاد، والمقصود باختلاف التنوع أن الخلاف المنقول هو خلاف صوري، وليس بخلاف حقيقي كما سيتضح في الأنواع، بمعنى أنه لا يحتاج إلى ترجيح، نقول: الراجح كذا، الآية فيها قولان، فيها ثلاثة، فيها عشرة، والراجح كذا، ما يحتاج إلى هذا. اختلاف التنوع هو أن تتعدد هذه الأقوال صورة، ولكنها في المعنى ترجع إلى شيء واحد، يعني يمكن أن تلتئم تحت معنى تتضمنه الآية، هذا معنى اختلاف التنوع.

واختلاف التنوع له صور متعددة، شيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر منها نوعين أساسيين، وتحت النوع الثاني ذكر أنواعاً، والأمر في هذا يسير، في تسميتها وتقسيمها، لكن شيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر لو أردنا أن نقول على سبيل التفصيل والتشقيق يمكن أن نقول: أنه ذكر أربع صورٍ لاختلاف التنوع أو خمس صور، واختلاف التنوع صوره أكثر من هذا بكثير لو أردنا التتبع وأردنا التشقيق أيضا، وقد أُلِفَت رسالة ماجستير في اختلاف التنوع، وإذا أردتم الوقوف على طرف من ذلك في كلام أهل العلم فانظر على سبيل المثال ما ذكره ابن جُزَيّ الكلبي -رحمه الله- بكتابه (التسهيل) في أوله في المقدمة، ذكر صوراً متنوعة متعددة لاختلاف التنوع.

وانظر ما ذكره الشاطبي -رحمه الله-، ذكر صوراً كثيرة لاختلاف التنوع، فإذا جمعنا هذا وهذا، يعني ما ذكره ابن جُزَىّ، وما ذكره الشاطبي، وما ذكره شيخ الإسلام يجتمع عندنا من الصور ما يقرب من العشرين صورة لاختلاف التنوع، ويمكن أن يتداخل بعضها، والأمر في ذلك يسير، يعني إذا عرف اختلاف التنوع فإن تنوع الصور -تعدد الصور- كثرة وقلة لا يؤثر كثيراً، أعني أن الإحصاء والحصر لذلك ليس بضروري، المهم أن تفهم الفرق بين اختلاف التنوع واختلاف التضاد.

ومما يحصل هنا ويفيد أن يقال: إن اختلاف التنوع يمكن أن نجعله على قسمين:

القسم الأول: هو اختلاف التنوع ابتداء، العبارة تختلف والمضمون واحد، اختلاف في العبارة أيًّا كان هذا الاختلاف، لكن المضمون واحد، وسيتضح لكم معنى ذلك بشيء من التفصيل، أيًّا كان ذلك الاختلاف، لكن المضمون واحد، هذا ابتداء.

القسم الثاني: هو ما كان فيه اختلاف الأقوال في حقيقتها من قبيل اختلاف التضاد، هذا القول غير هذا القول تماماً، هذا المعنى الذي ذكره فلان غير المعنى الذي ذكره فلان، هذا ذكر حقيقة، وهذا ذكر حقيقة أخرى، هو اختلاف تضاد، ولكنه عند النظر فيه يمكن أن تجتمع فيه هذه الأقوال وتكون داخلة تحت الآية، ولا يحتاج إلى الترجيح، وهذا يدخل تحته صور وأنواع هي من اختلاف التضاد؛ ولهذا كان اختلاف التضاد على نوعين:

النوع الأول: نوع لابد فيه من ترجيح أحد القولين، أو أحد الأقوال؛ لأنه لا يمكن أن تجتمع تحت الآية وأن تكون مرادة جميعاً.

النوع الثاني من اختلاف التضاد: هو اختلاف حقيقي، ولكنه لا يحتاج إلى ترجيح، لأن الآية تشمل ذلك جميعاً، كل هذا سيتضح لكم بالأمثلة، لكن أنا أذكر هذا الآن إجمالاً من أجل أن ينتبه الذهن لما سيذكر، وبهذا يكون هذا النوع الأخير الذي ذكرته من اختلاف التضاد الذي يمكن فيه جمع الأقوال يكون ملحقاً باختلاف التنوع؛ لأنه في المآل أمكن جمع الأقوال فيه، ولم نحتج معه إلى ترجيح، فصار في النهاية -في المآل- من قبيل اختلاف التنوع، نقول: كل ذلك مراد، كل هذا داخل تحت معنى الآية، وهذه طريقة الحذاق من المفسرين، لا يضيِّع القارئ، مثل ابن جرير، ابن كثير، ابن القيم يبدع في هذا، الشنقيطي، هؤلاء الأربعة خاصة هذه طريقتهم، بخلاف من يضيع القارئ بتشقيق الأقوال، بكل سهولة يقول لك: هذه فيها عشرة أقوال، وإذا نظرت تجد أن هذه الأقوال هي في الغالب من قبيل اختلاف التنوع، فيتحير القارئ أين القول الراجح، وسترد أمثلة على هذا في ثنايا شرح هذه الرسالة -إن شاء الله-، وسأذكركم بهذا المعنى.

ولذلك تجد مزية في مثل تفسير ابن أبي حاتم مع أنه آثار تسرد، ليس كابن جرير يناقش ويعلل، ويقعّد ويؤصل، إنما يورد الآثار لكن هذا التفسير فيه مزية أن الآثار المنقولة عن السلف التي هي من قبيل اختلاف التنوع يطويها في كثير من المواضع، كيف يطويها؟ يعني يقول: وبنحوه مثلاً عن سعيد بن جبير وقتادة وعكرمة، هو لو أورد هذه الروايات عنهم بعبارات مختلفة لربما ظن الظان أن هذا من قبيل الاختلاف، كما تجد في مثل كتاب (الدر المنثور) تُذكر الروايات جميعاً، أحيانًا ينظر فيها من لا يميز لربما يقف متحيراً أين القول المختار؟ أو من يورد ذلك ملخصاً مثل ابن الجوزي في زاد المسير، وأنا اتعجب ممن يقول للمبتدئين، ابدءوا بمثل كتاب زاد المسير لابن الجوزي.

 زاد المسير لابن الجوزي -رحمه الله- يذكر الأربعة الأقوال والخمسة والستة والسبعة والعشرة، وهذه الأقوال يمكن في كثير من المواضع أن تلخص في قولٍ واحد، أو في قولين، أو في ثلاثة، فيبقى الذي يقرأ ولم يتأهل ينظر هذه العشرة الأقوال ما هو المختار منها، فيضيع، والمبتدئ لا يحتاج إلى مثل هذا، يحتاج إلى أن يبين له المعنى بأقرب طريق، عبارة يلتئم معها أقوال السلف قدر الإمكان، عبارة ضافية وافية، وهذه مزية تجدونها في مثل تفسير (التفسير الميسر)، طبع المجمع، راعوا فيه هذا الجانب، بخلاف مثل تفسير (زبدة التفسير) تجد من يجتزئ ببعض المعنى المنقول في التفسير، فيكون بعض المعنى، والمعنى أوفى من هذا.

 ولهذا كان (التفسير الميسر) أحسن وأنفع من (زبدة التفسير)، وأوفى في العبارة بكثير، وكتب المفسرين تتفاوت في هذا الجانب، وهي من المزايا المهمة، والذين يحسنون التعامل مع هذه القضية أبرزهم ابن جرير، وابن كثير، وابن القيم، والشنقيطي، أدمِنْ قراءة كتب هؤلاء الأربعة، فإذا استطعت أن تقرأ مع هذا ما يذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في تفسيره فهذا من أنفع ما يكون لطالب العلم، لكن لا يكون الابتداء بهذا بطبيعة الحال.

الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.

يعني هنا ممكن أن نجعل عنواناً من قوله: وغالب.. نقول: (أكثر الخلاف الواقع بين السلف هو اختلاف تنوع)، على كل حال المراد أن الاختلاف على نوعين: اختلاف تضاد، وهذا يمكن أن نقسمه إلى قسمين:

الأول: ما يمكن جمع الأقوال فيه، وهذا يرجع إلى اختلاف التنوع، وهنا تنبيه وهو أن القارئ في كتب أصول التفسير مثلاً حينما يرى في كلامهم على اختلاف التنوع، والأمثلة التي تذكر فيه يجد أن بعض هذه الأمثلة يذكرها آخرون في اختلاف التضاد، واضح؟ فلا يلتبس، والسبب هو أن بعض ذلك من اختلاف التضاد، ولكن حينما يُجمع بين هذه الأقوال بطريقة أو بأخرى فيقال: كل ذلك مراد، وداخل تحت الآية يصير في المآل من قبيل اختلاف التنوع، فينتقل، يعني هو في الأصل اختلاف تضاد عولج فما احتجنا معه إلى ترجيح، فآل إلى اختلاف التنوع، فتجد البعض يذكره في اختلاف التنوع ابتداءً، وإذا تأملته هو اختلاف تضاد، هذا المعنى غير هذا المعنى تماماً، ليس اختلاف عبارة أو اسم أو صفة، وبعضهم يذكره في اختلاف التضاد، وحلُّ هذا أنه في أصله اختلاف تضاد وفي مآله اختلاف تنوع، فبعضهم ذكره هنا، والبعض ذكره هنا، هذا هو الجواب.

 اقرءوا وراجعوا كل ما تسمعون مرة بعد مرة يثبت العلم عندكم، لا يكون آخر العهد هو حضوركم في مثل هذه المجالس، أو في غيرها، ما تحصّل من العلم شيئاً بهذه الطريقة، ألاحظ في الاختبارات التي تجري للطلاب الذين يتقدمون للدراسات العليا -اختبار قبول، اختبارات تحريرية- أنه من الوضح أن الأكثر لربما يقرأ كتاباً دون تمييز، فإذا اختبرته في مثل هذه المعاني وأردت أن تختبره هل يميز بين هذا وهذا؟ ما الفرق بين كذا وكذا؟ لماذا هذا كذا، ولماذا هذا كذا؟ أسألة لماذا هذه، تجد النتائج متدنية تماماً تهبط يعني من 100 تجد أن البعض يحصل على 5، وتقديره 4،80 أو4،90 في الجامعة، خمسة من 100، عشرة من 100، واضح جداً أن هؤلاء ليس لهم عناية بالعلم ولا بصر فيه، لكن كانوا يحفظون مذكرات ويختبرون، ويأتون بنتائج عالية، واضح جداً، لكن حينما تأتي وتريد أن تختبر ما عنده من المعلومات، وما عنده من القدرة على التمييز والبصر في العلم تجد النتيجة ضحلة تماماً، يعني حال تجلب الشفقة.

 ونميز تماماً بين إنسان آخر له عناية بالعلم ويحضر مجالس العلم، مثل هذا تجد عنده من الفهم والحفظ والبصر ما تتمنى أحياناً معه لو أن الأسئلة كانت أضعاف هذا لتقرأ إجاباته وتستمتع بما يقرره ويذكره، وهؤلاء ندرة؛ ليس لأن العلم صعب، ولكن لأن حفظ المذكرات ليس هو العلم، هذا السبب، ولذلك تجد الكثيرين يتخرجون من الكليات الشرعية وإذا نظرت إلى الناحية العلمية ضحلة، يسأل أسئلة عوام، إذا سمعته يلقي كلمة أو خطبة سمعت الاستدراكات الكثيرة، واضح جدا حينما تنبهه على بعض هذه الأشياء كأنها لأول مرة تطرق سمعه، ليس عنده تمييز، لا يميز.

 ما فائدة العلم إذا كان صاحبه لا يميز؟! وليس عنده بصر فيه يميز بين الغث والسمين؟! حافظ مذكرات في الفقه، لماذا قال فلان هذا القول؟ ما مبنى هذا القول؟ ما وجهه؟ لا يوجد جواب! وهذه الأسئلة تعتبر مزعجة لكثير من هؤلاء، هو يريد أن تقول له: عدِّد، اذكر، عرِّف، الأشياء التي حفظها ومتوقع أنك تسأله عن هذا، فحينما لا يأتيه ولا سؤال عن هذا، لكن تسأل تقول: ما الفرق بين المطلق والعام؟ فهذه مشكلة يحتاج طالب العلم إلى أنه يعرف كيف يطلب العلم؟ كيف يضبط العلم؟

 جلست قبل حوالي شهرين مع أحد الإخوان يدرس في الماجستير في قسم أصول الفقه، فكنت لسببٍ معينٍ أحتاج أن أعرف مستوى هذا من الناحية العلمية فقلت: في تخصصك فقط سأتناقش معك، فبدأت أسأله لماذا كذا؟ ما الفرق بين كذا وكذا؟ فجلس يبتسم في كل الأسئلة ولم يجب عن سؤال واحد، قلت: هذا تخصصك الآن أصول الفقه، سألت آخر قلت: أعطني البحوث التي كتبتها، أعطاني واحداً وسمّى لي بعض البحوث، قلت: سأسألك فقط عن البحوث التي كتبتَها، وسألته أسئلة من هذا القبيل، لم يجب عن سؤال، قال: بعُدَ العهد، قلت له: كم العهد؟ هذه أشياء لا تنسى إذا كان عند الإنسان قدرة على التمييز ما ينساها، ما هي معلومة عَدِّد وعَرِّف، فأقول: هذا هو السبب في أن الكثيرين يتخرجون عوام، يتخرج عامي من كلية شرعية عامي وقد يظن أن عنده علم، فلذلك نحتاج أننا نعيد، وأن نحضر الأذهان، وأن نراجع، ونفتش، ونحاول أن نضبط ما ندرس، ليس فقط نحضُر وهذا يكون آخر العهد بما سمعنا، ما تستفيد.

فاختلاف التضاد قلنا: يمكن أن نجعله على قسمين: قسم يمكن جمع الأقوال فيه، فهذا يئول إلى اختلاف التنوع، هذا الذي يذكرونه أحياناً في اختلاف التضاد، وأحياناً يذكرونه في اختلاف التنوع، والسبب هو ما ذكرتُ، فمن ذكره هنا فهذا صحيح، ومن ذكره هنا فهذا صحيح، فلو سألتك وقلت لك: قولهم في الآية الفلانية كذا، وقول الآخر كذا، هذا اختلاف تنوع أو اختلاف تضاد؟،إن قلت هذا اختلاف تضاد وكان هو اختلاف تضاد فعلاً فهذا صحيح، سيأتي أمثلة -إن شاء الله-، لكن أكمل قل: هذا اختلاف تضاد يمكن أن تجمع الأقوال فيه تحت الآية، فيئول إلى اختلاف التنوع، ويمكن أن تقول: هذا اختلاف تنوع وإن كان في ظاهره اختلاف تضاد، إلا أنه لا يحتاج إلى ترجيح؛ لأن ذلك جميعاً داخل تحت معنى الآية، الإجابات صحيحة، إجابات إنسان فاهم لما يقول.

الآن إذا بقينا على هذا قلنا: اختلاف التنوع عند السلف هو الأكثر، كما يقول شيخ الإسلام، اختلاف التضاد قليل باعتبار أن كثيراً مما ينقل عنهم هو اختلاف تنوع، يعني اختلاف عبارات والمضمون واحد، بقي النوع الآخر الذي يختلف فيه المضمون حقيقة، لكن يمكن جمع الأقوال فيه، فإذا أضفناه إلى النوع الأول صار الاختلاف الذي يحتاج معه إلى الترجيح قليلاً في المنقول عن السلف، لكن كلما بعد العهد جاءت الأقوال الغريبة والعجيبة التي تدل على عظمة الله -تبارك وتعالى- وجلاله وقدرته، وذلك أنْ فاوت بين هذه الأفهام مفاوتة عجيبة جداً، هذا يفهمها من هنا، وهذا يفهمها من هنا، أشياء غريبة حينما تقرأ في التفسير تقول: سبحان الله! كيف فهم من هذا الآية هذا الفهم؟!

 فإذا أردنا أن نذكر صوراً لاختلاف التنوع مما ذكره شيخ الإسلام وزيادة، فيمكن أن نقول: الأول من الصور: تنوع الأسماء والأوصاف، وهو أن يعبر كل واحد بعبارة مغايرة لعبارة الآخر -هذا ذكره شيخ الإسلام- تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، المسمى واحد ولكن الإطلاقات عليه متعددة، فهذا يرجع إلى شيء واحد، عبَّر كلُّ واحدٍ بعبارةٍ تدل على معنى في المسمى.

 لاحظْ كل عبارة تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر الذي عبر به صاحبه مع اتحاد المسمى، الآن لمّا يقال: من أسماء السيف: البتار والصارم والمهند واليماني، فأسماء السيف كثيرة جداً والمسمى واحد، فحينما يقال: ما هو السيف؟ فواحد يقول: هو الصارم، وآخر يقول: هو البتار، وآخر يقول: هو المهند مثلاً، أو اليماني أو غير ذلك، هل هذا اختلاف يحتاج إلى ترجيح؟ لا، كل واحد عبر بعبارة تدل على صفة، أو معنى في المسمى، فحينما يقول: البتار فهذا من البتر، وحينما يقول: صارم من الصرم، وحينما يقول: مهند باعتبار الصناعة والمنشأ من الهند، وحينما يقال: اليماني باعتبار الصناعة والمنشأ أنه من اليمن، منسوب إلى اليمن، اليماني.

 وهكذا حينما يقال: السَّلوى، ما هي السلوى؟ بعضهم يقول: طائر بالهند أكبر من العصفور، وآخر يقول: طائر يشبه السُّمانَى، الثالث يقول: هو طائر أحمر، إلى آخر ما يقال، الآن كل واحد ذكر صفة، واحد ذكر الحجم، قال: أكبر من العصفور، وواحد ذكر الشبه يشبه السُّمانَى، وواحد ذكر اللون قال: أحمر، هل هذا اختلاف تضاد؟

 نقول: الله أنزل عليهم المن والسلوى ما هي السلوى؟ يأتي واحد يقول: القول الأول: أنه طائر بالهند، والقول الثاني: أنه طائر يشبه السُّمانَى، القول الثالث: أنه طائر أكبر من العصفور مثلاً، هذا لا يصح إطلاقاً أن يورد بهذه الطريقة، يقال: هو طائر ذُكر في صفته كذا وكذا وكذا، وهذا يُحتاج إليه حتى في التعريفات عندما تقرأ في مثل القاموس أو تقرأ في لسان العرب أحياناً تقول: القرآن، تريد أن تعرّف القرآن، تريد أن تعرّف الوحي، تريد أن تعرف مادة من المواد، فتجد في هذه الكتب معاني كثيرة جداً.

 تجد الطلاب في الأبحاث في الماجستير في الدكتوراه في غيرها لربما يكتب 6 صفحات وأكثر في تعريف القرآن أو في تعريف الوحي، والواقع أنه لا يحتاج إلى مثل هذا، قد تكون هذه المعاني جميعاً ترجع إلى أصل واحد، والذي يكشف عن هذا عادة هو أستاذ وإمام اللغة ابن فارس -رحمه الله- في كتابيه (المقاييس والمجمل)، عليكم بهما، قبل أن تنظر في القاموس، وقبل أن تنظر في لسان العرب، وقبل أن تنظر في هذه الكتب، حتى لا تضِيع، ارجع إلى المقاييس ستجد أنه في كثير من الأحيان يقول: مادة كذا، مادة قرأ ترجع إلى أصل واحد، أو يقول: ترجع إلى أصلين، فيرجعك إلى الأصل، فتبقى هذه المعاني التي يذكرونها في صفحات يصلح أن تكون أمثلة فيقال: ومنه قولهم كذا، ومنه كذا، ومنه كذا.

 فالكتب التي تُعنى بالتشقيق مثل كتاب الفيروز آبادي (بصاير ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)، وكتب الأشباه والنظائر هذه تُعنى بالتشقيق، يعني يحاولون أن يأتوا للفظة بمعانٍ كثيرة قد تكون هذه المعاني في الواقع ترجع إلى شيء واحد، وهذا يولع به كثير ممن يتكلمون أو يكتبون فيما يسمى بالتفسير الموضوعي، يكتب مثلاً في الصلاة، ويورد في الصلاة أشياء كثيرة جداً من المعاني، وأطلقت الصلاة على صلاة كذا، المعنى الأول صلاة كذا، والثاني صلاة كذا، والثالث: صلاة كذا، كل هذه صلاة ترجع إلى معنى واحد وإلى أصل واحد ومنه..، ومنه..، ومنه.. ومنه..، تكون أمثلة وتطبيقات، ولا نحتاج أن نورد هذا، وأن نكثّر الكلام فيه على أنها معانٍ جديدة، أو أنها إطلاقات جديدة، فهذا النوع الأول تنوع الأسماء والأوصاف.

النوع الثاني: هو التفسير بالمثال، وهو أن يفسر الاسم العام ببعض أنواعه على سبيل التمثيل، وهذا كثير جداً، يعني مثلاً المنّ ما هو؟ بعضهم يقول: هو التَّرَنْجبين أو الكَمْأ -تعرفون الكَمْأ-، وبعضهم يقول غير ذلك من الأقاويل، هذه من قبيل الأمثلة، المن هو ما يمتن الله عليهم به، بحيث لا يكون ذلك من كد الإنسان ولا عمله، ولا جهده بزراعة أو غيرها، فهذا الكَمْأ من المن كما قال النبي ﷺ، وقل مثل ذلك في غيره مما يكون بهذه المثابة، كل هذا من المن.

 من الأمثلة: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [سورة فاطر:32]، فمن هو الظالم؟ ومن هو المقتصد؟ ومن هو السابق بالخيرات؟ فتجد الأقوال في هذا كثيرة، والواقع أنها من قبيل المثال، هذا يقول: الظالم هو الذي يؤخر الصلاة عن وقتها، والمقتصد هو الذي يصليها في الوقت، لكن ليس في أوله، والسابق هو الذي يصليها في أول الوقت، وآخر يقول: الظالم هو الذي يمنع الزكاة، والمقتصد هو الذي يقتصر على الزكاة، والسابق الذي يخرج معها الصدقة، وهكذا في أمثلة من العبادات يذكرونها والواقع أنها ليست بأقوال، يعني ما يصح أن نقول: القول الأول: الظالم لنفسه هو الذي يصلي خارج الوقت، والمقتصد هو الذي يصلي في وسط الوقت مثلا، والسابق هو الذي يصلي في أوله، ما يصح هذا، وإنما يقال: إن ذلك جميعاً من قبيل التفسير بالمثال، هذه أمثلة فقط، وليست من قبيل الاختلاف والأقوال، هذا الثاني.

مواد ذات صلة