الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
سورة قريش كاملة
تاريخ النشر: ٠٤ / محرّم / ١٤٣٥
التحميل: 5053
مرات الإستماع: 15258

بسم الله الرحمن الرحيم

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ۝ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ۝ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ۝ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [سورة قريش:1- 4].

هذه سورة: لإيلاف قريش، وبعضهم سماها: لإيلاف، وهذا اختصارًا، وبعضهم سماها: قريش، وهي السورة الوحيدة التي ذكر الله فيها هذه القبيلة، وهي من السور المكية عند الجمهور، ونقل عن الضحاك والكلبي: أنها مدنية، ونقل بعضهم الإجماع على أنها سورة مستقلة بدليل نزول البسملة معها، والبسملة علامة الفصل: "ما كنا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم".

وقد ذُكر أن في مصحف أبي بن كعب أنها مع السورة التي قبلها وهي: سورة الفيل، أي: أنهما سورة واحدة، وثبت عن عمر أنه قرأ في الركعة الثانية: الفيل ولإيلاف قريش، ففهم بعضهم من ذلك أنه ربما يكون عمر أيضاً كان يرى أنهما سورة واحدة، ولكن الذي عليه أهل العلم ويشبه الإجماع: أنهما سورتان، والدليل نزول البسملة.

ولا شك أن موضوعهما فيه مقاربة، فهناك تحدث الله عن إهلاك الفيل، وامتن على قريش بذلك، وهنا ذكر منته عليهم برحلتي الشتاء والصيف، وما أنعم عليهم من كونه أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، فأصحاب المناسبات، الذين يتكلمون على المناسبات بين السور، ويربطون بين سور القرآن، والذين يقولون: إن ترتيب السور توقيفي: معروف أنهم يربطون بين هذه السورة والتي قبلها بأن الله فعل ما فعل بأصحاب الفيل لإيلاف قريش، أي: أن ما وقع لأصحاب الفيل إنما هو لإيلاف قريش، وسيأتي مزيد إيضاح لهذا -إن شاء الله.

هذه السورة مفصولة عن التي قبلها في المصحف الإمام، كتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، وإن كانت متعلقة بما قبلها، كما صرح بذلك محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ لأن المعنى عندهما: حبسنا عن مكة الفيل، وأهلكنا أهله؛ لإيلاف قريش، أي: لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين. 

وقيل المراد بذلك: ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام في المتاجر وغير ذلك، ثم يرجعون إلى بلدهم آمنين في أسفارهم؛ لعظمتهم عند الناس؛ لكونهم سكان حرم الله، فمن عرفهم احترمهم، بل من صُوفِيَ إليهم وسار معهم أمن بهم، وهذا حالهم في أسفارهم، ورحلتهم في شتائهم وصيفهم، وأما في حال إقامتهم في البلد فكما قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [سورة العنكبوت:67]، ولهذا قال تعالى: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ۝ إِيلَافِهِمْ.

يعني: من الكلام على قوله: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ۝ إِيلَافِهِمْ يتبين لك مدار الخلاف بين العلماء في تفسيرها بالنظر إلى أمرين:

الأمر الأول: وهو اللام هذه، ما موقعها؟

والأمر الثاني: معنى الإيلاف، ما المراد به؟

فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- نقل عن محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنها متعلقة بما قبلها، فإذا قلنا بأنها متعلقة بما قبلها، وبه يقول بعض أصحاب المعاني كالفراء والزجاج أيضاً، أي: أنها متعلقة بآخر السورة التي قبلها، يعني: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، فاللام تكون متعلقة بما قبلها، وعليه فهي تعليلية، فاللام للتعليل، أي: فعلنا ذلك بأصحاب الفيل فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، هذا معنى ما نقله عن محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال به من أصحاب المعاني -معاني القرآن- الفراء والزجاج، فتكون اللام للتعليل، يعني: لأجل إيلاف قريش، وهذا ليس محل اتفاق.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- كأنه اقتصر في كلامه على هذا، وذكر القول الآخر فقال: "وقيل: المراد بذلك: ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام.." إلى آخر ما ذكر.

فالمراد على الأول: فعل ذلك بأصحاب الفيل؛ لإيلاف قريش، يعني: كيف يكون معنى لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ؟ فكما سبق أننا أيضًا بحاجة إلى معرفة المراد بالإيلاف، فابن كثير -رحمه الله- ذكر هنا المعنيين فقال: "أي: لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين"، فالإيلاف يعني: الائتلاف لاجتماعهم وعدم تفرقهم.

قال: "وقيل: المراد بذلك: ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء والصيف" يعني: يكون الإيلاف من الإلف، أي: ما يألفه الإنسان ويعتاده، فيكون المعنى على هذا: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ أي: ليألفوا الخروج، ولا يجترئ عليهم أحد، ذكر نحو هذا ابن قتيبة، يعني: سواء ربطنا ذلك بالسورة التي قبلها أو جعلنا هذه السورة مستقلة غير مرتبطة، والذين قالوا بالارتباط لا يعني هذا أنهم قالوا: إنهما سورة واحدة، ليس هذا هو المراد، ولكن قالوا: باعتبار النظر إلى المناسبة بين السورة والسورة، وسبق الكلام في عدد من المناسبات: أن المناسبات بين السور غير معتبرة إذا قلنا بأن ترتيب السور غير توقيفي، وهذا هو الأقرب.

فيكون المعنى على القول بأن اللام للتعليل، وأنه يرجع إلى ما قبله من السورة السابقة، يكون المعنى: فعلنا ذلك بأصحاب الفيل؛ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ.

والمراد بقوله: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ على المعنيين، يعني: من أجل ائتلافهم وجمعهم، فلا يحصل لهم تفرق وتشتت وتشرذم في البلاد، يعني: لو أن أبرهة غلب على البيت وهدمه؛ لصارت هذه القبيلة كغيرها من القبائل تتفرق في البلاد، وتتطلب معايشها، والمواضع التي تأمن فيها، فهي في وادٍ غير ذي زرع، والله جعل هذا البيت، جعل الكعبة البيت الحرام، جعله قِيَامًا لِلنَّاسِ [سورة المائدة:97].

ومن المعاني التي ذكرناها هناك عند قوله: قِيَامًا لِلنَّاسِ [سورة المائدة:97]، أي: تقوم به مصالحهم ومعايشهم، ويكون أيضاً قيامًا لدينهم، فعلى هذا فعلنا ذلك بأصحاب الفيل؛ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ يعني: لجمعهم وائتلافهم، أو فعلنا ذلك بأصحاب الفيل؛ لأجل قريش أن يألفوا الخروج في رحلتي الشتاء والصيف، بأي اعتبار؟

باعتبار أن قريشًا تبقى وما قد ألفت من رحلة الشتاء والصيف، كما يقول الزجاج: فعلنا ذلك بهم؛ لتبقى قريش وما ألفت من رحلة الشتاء والصيف، فيأمنون إذا خرجوا في أسفارهم، فتعرف لهم العرب ذلك، وتعظمهم وتهابهم ولا يجترئ عليهم مجترئ، ولا يحصل لهم ما يحصل لغيرهم من قبائل العرب من المكاره والمخاوف؛ بسبب الغارات والسلب والنهب الذي كان ذائعًا شائعًا في ذلك الحين، وهذا باعتبار أن اللام هذه للتعليل، أي: الربط بين هذه السورة والتي قبلها، فالمعنى على هذا يحتمل هذين المعنيين: أنه فعل ذلك بأصحاب الفيل؛ لجمع قريش، وإقرارهم في البيت الحرام، وائتلافهم، أو ليألفوا ما عهدوا من رحلتي الشتاء والصيف.

وبعضهم يقول: إن اللام هنا في قوله: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ لا ترتبط ولا ترجع إلى السورة التي قبلها، باعتبار أن هذه سورة مستقلة، وتلك سورة مستقلة، مع أن الأولين يقرون بهذا، لكن هؤلاء يقولون: لا يصح رجوعها إلى تلك السورة، وإنما ذلك يرجع إلى مذكور في السورة نفسها، أي: سورة قريش، فهؤلاء بعضهم يقول كابن عاشور، وسبقه إلى ذلك آخرون كالخليل بن أحمد، وقال به أيضاً صاحب الكشاف: إن اللام هذه متعلقة بقوله: فَلْيَعْبُدُوا، يعني: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ؛ لأجل إيلافهم الرحلتين، سواء قلنا: الإيلاف هنا بمعنى: أن يألفوا من الإلف، أو لأجل أن الله أنعم عليهم بأن جمعهم، وألف بينهم، فصاروا مجتمعين في البيت الحرام، قد قُسمت بينهم وظائف البيت من سقاية وحجابة ورفادة وما إلى ذلك، فتكون الفاء الداخلة على قوله: فَلْيَعْبُدُوا واقعة في جواب الشرط، بناء على ما في الكلام من معنى الشرط، فيكون المعنى: إن لم يعبدوه لسائر إنعامه عليهم، وأنه هو الذي خلقهم ورزقهم؛ فليعبدوه لأجل هذه النعمة التي أنعم بها عليهم، أي: فليعبدوه على هذه النعمة الظاهرة الجليلة التي تميزوا بها على غيرهم من العرب.

فانظر كيف يكون المعنى الآن، فقوله: فَلْيَعْبُدُوا يعني: لتعبد قريش رب هذا البيت؛ لأجل أنه أنعم عليهم بهذا الإيلاف، سواء قلنا: إن معناه: الاجتماع، أو قلنا: إن معناه أنه أنعم عليهم بهاتين الرحلتين اللتين ألفوهما، وصاروا يذهبون إلى الشام واليمن آمنين مما يخافه الناس، فتكون اللام على هذا للتعليل.

ولماذا التقديم؟ أي: لماذا قدم لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ؟ قالوا: للاهتمام به، أن هذا المطلب، هذا الإنعام، هذا الإفضال الذي تميزوا به ينبغي أن يعبدوا الله -تبارك وتعالى- شكرًا على هذه النعمة؛ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ۝ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ۝ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [سورة قريش:1-3]؛ لأنه أنعم عليهم بذلك.

وبعضهم يقول: إن هذه اللام للتعجب، يعني: اعجبوا لإيلاف قريش، وبعضهم يقول: إنها بمعنى إلى، فبهذا يتضح المعنى.

ابن جرير-رحمه الله- يقول: "والصواب: أن اللام لام التعجب"، وهذا سبقه إليه الكسائي والأخفش، وقال به بعض المعاصرين، يقول: "كأنه يقول: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف"، يعني: ابن جرير يقول، وهؤلاء أيضاً يقولون في هذا: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، يعني: اعجبوا لإلفهم رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة رب هذا البيت، يعني: اعجبوا لهذه النعمة التي أعطاهم الله وحباهم في الوقت الذي تركوا فيه عبادة رب هذا البيت.

فابن جرير يعلل هذا القول بقاعدة، وهي: أن العرب إذا جاءت بهذه اللام فأدخلوها في الكلام للتعجب اكتفوا بها دليلاً على التعجب، يعني: عن التصريح بالفعل الذي يجلبها، يعني: لا يحتاجون أن يقولوا: اعجبوا لإيلاف قريش، يقول: فإذا جاءوا باللام عرف المراد، ولا يحتاجون أن يأتوا بالفعل قبلها، هكذا قال، وبهذا يكون المعنى في هذه السورة بالنسبة إلى اللام: أنه يمكن أن تكون للتعليل، ويمكن أن تكون للتعجب، ويمكن أن تكون بمعنى إلى، والله أعلم.

وقوله: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ هذه قراءة الجمهور: بالياء مع الهمز لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، ومعناه: إما أن يكون بمعنى: الإلف، أو الإيلاف، الذي هو: الائتلاف والاجتماع، ونحو ذلك.

وأما قراءة ابن عامر فالأولى: همزة بدون ياء: لِإِلَافِ قُرَيْشٍ والثانية بالياء: إِيلَافِهِمْ.

وفي قراءة لأبي جعفر، وهي قراءة متواترة، لكن ليست سبعية: بياء ساكنة من غير همز: لِيلَافِ قُرَيْشٍ، وأما الثانية فقرأها بهمزة مكسورة من غير ياء: إِلَافِهِمْ.

وعليه: فإذا قرأ القارئ: لإِلَافِ قُرَيْشٍ ۝ إِلَافِهِمْ، هكذا من غير ياء أيضاً الثانية فهذا لا إشكال فيه، وإذا قرأ: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ۝ إِلَافِهِمْ، فلا إشكال في ذلك، وإذا قرأ: لإِلَافِ قُرَيْشٍ ۝ إِيلَافِهِمْ، فلا إشكال في ذلك؛ لأنه يجوز الخلط بين القراءات بضوابط وشروط ثلاثة ذكرناها في مناسبات سابقة، وهنا لا تترتب إحدى القراءتين على الأخرى، ولا تنبني عليها في المعنى، فلا يحصل إخلال بذلك، فهذه كلها قراءات متواترة.

وقد جاء في قراءة شاذة لربما تفسر بعض هذه القراءات المتواترة، كما جاء عن عكرمة: ليألف قُرَيْش، فهذا يفسر الإيلاف بمعنى: الإلف، لكن تكون اللام: لام الأمر، يقولون: هكذا كان في مصحف ابن مسعود -والله أعلم، ويقولون: بفتح اللام: لام الأمر، وأنها لغة.

قال: ولهذا قال تعالى: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ۝ إِيلَافِهِمْ، بدل من الأول، ومفسر له.

وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ۝ إِيلَافِهِمْ، يعني: هناك قال: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، فصرح باسم القبيلة، قال: إِيلَافِهِمْ فجاء بالضمير، فيكون بدلاً تفسيرًا لما قبله، وبعضهم يقول: للتوكيد.

قال: ولهذا قال تعالى: إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، قال ابن جرير: الصواب: أن اللام لام التعجب، كأنه يقول: اعجبوا لإيلاف قريش ونعمتي عليهم في ذلك، قال: وذلك لإجماع المسلمين على أنهما سورتان منفصلتان مستقلتان.

ولذلك ابن جرير ينكر على من يربط بين السورتين باعتبار أن اللام تعليلية، أي: فعلنا ذلك بأصحاب الفيل لإيلاف قريش، وبهذا الاعتبار على هذا المعنى الذي ذكره عن ابن جرير -رحمه الله- هنا في قوله: إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، يكون قوله: رِحْلَةَ مفعولا به للفعل قبله لِإِيلَافِ، أي: لإيلاف قريش رحلة، يعني: ليألفوا رحلة الشتاء والصيف.

وبعضهم يقول: إن النصب هنا بمصدر مقدر، تقديره: ارتحالهم رحلة الشتاء والصيف، وبعضهم يقول: منصوب على الظرفية، وهكذا لو فسر بأن المقصود الاجتماع، يعني: لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، بمعنى: أن هذه الرحلة كأنها السبب في هذا الاجتماع، بحيث ما احتاجوا إلى الخروج إلى البلدان، والتفرق في نواحي الأرض، فكانوا يكتفون بهذه الرحلة، رحلة الشتاء والصيف، فهم قارُّون في البلد الحرام، مع أنه كما وصف الله -تبارك وتعالى: بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [سورة إبراهيم:37].

قال: ثم أرشدهم إلى شكر هذه النعمة العظيمة، فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ أي: فليوحدوه بالعبادة كما جعل لهم حرمًا آمنًا وبيتًا محرمًا، كما قال تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [سورة النمل:91].

وقوله تعالى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي: هو رب البيت، وهو الذي أطعمهم من جوع.

يعني: هذا الجوع متى كان؟ وما المراد به؟ هل هو جوع كان واقعًا؟ بعضهم يقول: نعم، كان قبل الرحلتين، فأغناهم الله بذلك، وبعضهم يقول: هو الجوع الذي كان بسبب دعاء النبي ﷺ عليهم، والناس جوعى إلا من أطعمه الله -تبارك وتعالى.

وقوله: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ، هذا الخوف هل المقصود به خوف وقع لهم؟ المشهور أن المراد بذلك: آمنهم مما كان يخافه غيرهم من السبي والسلب والغارات والنهب، وبعضهم يقول: لا، ولكن المقصود بقوله: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ هو: خوف الفيل وأصحابه، وهذا قال به جماعة، كالضحاك وربيع وسفيان وغيرهم، وبعض السلف قال: الجذام.

ابن جرير-رحمه الله- كعادته يحمل ذلك على هذه المعاني، يقول: ليس عندنا دليل على إرادة أحد هذه المعاني، فالله آمنهم من جميع المخاوف، أي: من كل خوف، سواء كان ذلك من أصحاب الفيل، أو من السلب والنهب والغارات، أو من العلل والأمراض.

قال: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أي: تفضل عليهم بالأمن والرُّخْص، فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ولا يعبدوا من دونه صنمًا ولا ندًّا ولا وثنًا؛ ولهذا من استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، ومن عصاه سلبهما منه كما قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ۝ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [سورة النحل:112، 113].

آخر تفسير سورة لإيلاف قريش، ولله الحمد والمنة.

في هذه السورة الله -تبارك وتعالى- يمتن على قريش بهذه النعم العظيمة، حيث هيأ لهم أسباب المعايش، وآمنهم من المخاوف، وأغناهم، وأطعمهم، فصاروا في حالة من الكفاية، فينبغي أن يشكروا هذه النعمة، وأن يعبدوا رب هذا البيت الذي جعله الله سببًا لأمنهم، وقيام دينهم ودنياهم، فليس لهم عذر في التخلي عن عبادة الله -تبارك وتعالى.

سواء كان ذلك من جهة التخوف من تخطف الناس، كما تعللوا بذلك حين قالوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [سورة القصص:57]، يعني: أن العرب لا تتركنا، وإنما يرموننا عن قوس واحدة، فالله -تبارك وتعالى- يقول: إن الذي آمنكم من المخاوف جميعًا التي يتخوفها الناس، سواء كان ذلك من جهة الجوع، أو من جهة الأعداء هو الذي يحفظكم ويحوطكم ويرعاكم، ويكف عادية الأعداء عنكم، فهذا فيه عبرة لأهل الإيمان، وعظة لأهل هذه البلاد خاصة، فإن الذي فعل ذلك بهؤلاء وهم على شركهم يكون حفظه أعظم لأهل الإيمان إذا استقاموا على أمره، وعبدوه، وأطاعوه وأطاعوا رسوله ﷺ، ونواصي الخلق بيد الله -تبارك وتعالى، فليس لأحد عذر في ترك القيام بما أمر الله -تبارك وتعالى- به خوفًا من الناس، مهما كانت قوتهم، ومهما كان عددهم وعتادهم.

الطاهر بن عاشور -رحمه الله- له كلام جيد في هذا المعنى، قبل أن أذكره أشير إلى كلام له في قوله -تبارك وتعالى: رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وهما رحلتان: الأولى في الشتاء لليمن، والثانية في الصيف للشام، يقول: "والسَّنة بالتحقيق أربعة فصول.."[1].

يعني: أن الله ذكر الشتاء والصيف فقط، فقال: رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.

قال: "الصيف: ثلاثة أشهر، وهو الذي يسميه أهل العراق وخرسان: الربيع، ويليه القيظ: ثلاثة أشهر، وهو شدة الحر، ويليه الخريف: ثلاثة أشهر، ويليه الشتاء: ثلاثة أشهر، وهذه الآية صالحة للاصطلاحيْن..."[2].

بمعنى: أن رحلة الشتاء والصيف لربما يكون المقصود بالصيف: القيظ الذي هو: ثلاثة أشهر، ويحتمل أن يكون المراد به مع الثلاثة الأخرى التي تسمى عند البعض: الربيع، وهي من أشهر الصيف، وهكذا الشتاء يمكن أن يكون المقصود به: الشتاء، يعني: في شدته، ويمكن أن يدخل معه الخريف، أي: يمكن أن يكون ذهابهم في شدة الحر وشدة البرد، ويمكن أن يكون ما هو أوسع من ذلك، فتكون السنة منقسمة إلى قسمين: صيف وشتاء، بإدخال الربيع مع الصيف، والخريف مع الشتاء.

يقول: "واصطلاح علماء الميقات تقسيم السنة إلى: ربيع وصيف وخريف وشتاء، ومبدأ السنة: الربيع هو دخول الشمس في برج الحمل، وهاتان الرحلتان هما رحلة تجارة وميرة كانت قريش تجهزهما في هذين الفصلين من السنة، إحداهما: في الشتاء إلى بلاد الحبشة، ثم اليمن، يبلغون بها بلاد حمير، والأخرى: في الصيف إلى الشام، يبلغون بها مدينة بصرى من بلاد الشام..."[3].

ثم تكلم على المعنى الذي يؤخذ من هذه السورة، فقال: "ومعنى الآية: تذكير قريش بنعمة الله عليهم؛ إذ يسر لهم ما لم يتأتَّ لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين وغارات المغيرين في السنة كلها، بما ييسر لهم من بناء الكعبة، وشرعة الحج، وأنْ جعلهم عمار المسجد الحرام، وجعل لهم مهابة وحرمة في نفوس العرب كلهم في الأشهر الحرم وفي غيرها، وعند القبائل التي تحرم الأشهر الحرم، والقبائل التي لا تحرمها، مثل: طي وقضاعة وخثعم، فتيسرت لهم الأسفار في بلاد العرب من جنوبها إلى شمالها، ولاذ بهم أصحاب الحاجات يسافرون معهم، وأصحاب التجارات يحمّلونهم سلعهم، وصارت مكة وسطًا تُجلب إليها السلع من جميع البلاد العربية، فتوزع إلى طالبيها في بقية البلاد، فاستغنى أهل مكة بالتجارة؛ إذ لم يكونوا أهل زرع ولا ضرع، إذ كانوا بوادٍ غير ذي زرع، وكانوا يجلبون أقواتهم، فيجلبون من بلاد اليمن الحبوب من بر وشعير وذرة وزبيب وأديم وثياب والسيوف اليمانية، ومن بلاد الشام الحبوب والتمر والزيت والزبيب والثياب والسيوف المَشْرفية، زيادة على ما جعل لهم مع معظم العرب من الأشهر الحرم، وما أقيم لهم من مواسم الحج، وأسواقه، كما يشير إليه قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، فذلك وجه تعليل الأمر بتوحيدهم الله -تبارك وتعالى- بخصوص نعمة هذا الإيلاف مع أن لله عليهم نعمًا كثيرة؛ لأن هذا الإيلاف كان سببًا جامعًا لأهم النعم التي بها قوام بقائهم"[4].

  1. التحرير والتنوير (30/ 558).
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر السابق (30/ 559، 560).

مواد ذات صلة