الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(2) تتمة تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الآية 1 إلى قوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} الآية 4‏
تاريخ النشر: ٢١ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 4697
مرات الإستماع: 2770

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وقوله: مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ [سورة النساء:3] أي: انكحوا ما شئتم من النساء سواهن، إن شاء أحدكم ثنتين، وإن شاء ثلاثاً، وإن شاء أربعاً، كما قال الله تعالى: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [سورة فاطر:1] أي: منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة؛ لدلالة الدليل عليه، بخلاف قصر الرجال على أربع فمن هذه الآية كما قاله ابن عباس -ا- وجمهور العلماء؛ لأن المقام مقام امتنان وإباحة فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

مرَّ الكلام على من كانت في حجره يتيمة يقوم بشأنها، وأراد أن يتزوجها وهو يعلم أنه لن يعطيها مهر مثلها، فإنه يجب عليه أن يعدل إلى ما سواها من النساء إن شاء اثنتين وإن شاء ثلاثاً وإن شاء أربعاً لكن بشرط العدل والقسط بينهن، فإن خشي ألا يعدل فواحدة، ولذلك لم يعبر بحرف العطف [أو:]؛ لئلا يتوهم أن ذلك للحصر، إذ الآية في مقام الامتنان والتوسعة.

وفهم بعض أهل العلم من الآية أن الأصل في النكاح التعدد؛ لأنه ابتدأ به قبل ذكر الواحدة، وأن البقاء على واحدة هو الاستثناء، والله أعلم.

روى الإمام أحمد عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي ﷺ: اختر منهن أربعاً[1].

الرواية إلى هذا الحد مرفوعة، وهي لا تخلو من ضعف، وممن ضعفها الإمام البخاري وجماعة من أئمة هذا الشأن، وأوعزوا الضعف إلى الخطأ الذي وقع فيه أحد الرواة وهو معمر بن راشد، إذ ساق الرواية سياقاً واحداً دون أن يفرق بين المرفوع والموقوف في الرواية، مع أن لكل واحد منهما طريقاً وإسناداً مختلفاً عن الآخر، وبعض أهل العلم يصحح هذه الرواية؛ لكثرة شواهدها فقد وردت روايات أخرى خيّر النبي ﷺ فيها رجالاً بين الإمساك ومفارقة ما زاد على الأربع.

وأما الرواية الموقوفة فتبدأ من قوله:...

فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه.

مراده أنه طلق الأربع اللاتي أمسكهن ممن كن في عصمته في آخر حياته؛ بقصد حرمانهن من الميراث، وللعلماء كلام في حكم من كانت نيته هذه، يقولون: إنه يعامل بنقيض قصده فيرثنه، ولهذا من مُلَح الألغاز الفقهية التي يذكرها العلماء في سهم الزوجات مسألة: رجل يرثنه ثماني نسوة ميراث الزوجة؟ قالوا: ذلك إذا طلق أربعاً من نسائه في مرض الموت المخوف، وتزوج أربعاً خلافهن بعد أن انتهت عدتهن فيرثنه المطلقات وحديثات النكاح.

فبلغ ذلك عمر فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع، سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك لا تمكث إلا قليلاً، وأيم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثهن منك، ولأمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال"[2]، وهكذا رواه الشافعي، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي وغيرهم، إلى قوله: اختر منهن أربعاً، وباقي الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد.

أبو رغال قيل: إنه من ثمود وكان في الحرم حينما وقعت الصيحة بثمود، فلما خرج من الحرم نزل به ما نزل بهم، وقيل: كان رجلاً عشاراً، يعني رجلاً صاحب مكوس، وقبره يرجمه الناس بين مكة والطائف.

ووجه الدلالة: أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوغ له رسول الله ﷺ سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن معه، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال، فإذا كان هذا في الدوام ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى، والله أعلم بالصواب.

من تزوج أكثر من أربع قبل نزول الحكم فلا يجوز له بحال أن يستدمن معه بعد بلوغ الحكم، ويجب عليه أن يقتصر على الأربع فقط، وأما نكاح أكثر من أربع ابتداء فلا يجوز للإنسان بحال إذا بلغه الحكم، ومن باب أولى الاستدامة معهن.

والقاعدة الفقهية في الاستدامة والابتداء، أن الاستدامة أقوى وأثبت من الابتداء كالطِّيب في الإحرام، فإذا ضمخ الإنسان نفسه بالطيب، ثم شرع في الإحرام فليس عليه أن يغسل أثر الطيب، حتى لو انتقل بنفسه من مكان إلى آخر، لكن ليس له أن يضع طيباً جديداً، والله أعلم.

وقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أي: فإن خشيتم من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن كما قال تعالى: وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ [سورة النساء:129]، فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة، أو على الجواري السراري، فإنه لا يجب قسم بينهن ولكن يستحب، فمن فعل ذلك فحسن، ومن لا فلا حرج.

العدل الواجب لا يدخل فيه ميل القلب، وما قد يقع من الإنسان من غير إرادة ولا قصد، فهذا أمر لا يمكن التوقي منه، لكن هذا الميل إن أوصل إلى الإجحاف وضياع العدل مع بقية الزوجات فلا يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من واحدة.

والقاعدة الشرعية: أن الخطاب الشرعي إذا توجه إلى المكلف بشيء لا يدخل تحت طوقه فإنه يتوجه إلى سببه أو أثره، ففي هذه الآية يتوجه إلى الأثر؛ لأن المحبة القلبية لا يملكها الإنسان لكن يجب عليه أن يعدل في قسمه بين هؤلاء الزوجات، هذا هو الضابط والله أعلم.

والتقدير على قراءة النصب في قوله سبحانه: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أي: الزموا واحدة، أو فانكحوا واحدة، وعلى قراءة الرفع يكون التقدير: فواحدة فيها مقنع، أو فواحدة تكفي.

وقوله سبحانه: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يحتمل معنيين:

الأول: أن تكون أو بمعنى الواو، والمعنى: فإن خفتم ألا تقسطوا... فواحدة والباقي ملك اليمين.

الثاني: أن الإنسان إذا لم يستطع العدل مع الواحدة، فليصرف نظره إلى ملك اليمين؛ لأنه لا يجب القسم مع ملك اليمين في المبيت والسكنى والعزل...، بل ويجوز له أن لا يطأها أصلاً، فتكون الآية بهذا التدريج، والله أعلم.

وقوله: ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ أي: أن لا تجوروا، يقال: عال في الحكم إذا قسط وظلم وجار، وقد روى ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو حاتم بن حبان في صحيحه عن عائشة -ا- عن النبي ﷺ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ قال: لا تجوروا[3].

قال ابن أبي حاتم: قال أبي: هذا حديث خطأ، والصحيح: عن عائشة موقوفاً.

وقال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس وعائشة -ا، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وأبي مالك، وأبي رزين، والنخعي، والشعبي، والضحاك، وعطاء الخرساني، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: لا تميلوا.

ذكر أهل اللغة لكلمة "عال" معانيَ كثيرة، وما عليه عامة أهل العلم سلفاً وخلفاً أنها من الجور، أي: ألا تجوروا، والمناسبة واضحة بينها وبين السياق الذي جاءت فيه، وهو أن الاقتصار على الواحدة أقرب إلى تحقيق العدل من الاثنتين والثلاث والأربع.

ونقل عن الشافعي قوله: ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ أي: لا تكثر عيالكم، وهذا رده كثير من أهل العلم من جهات عدة:

منها: ما يتعلق بنفس اللفظة، فمن جهة أصل الكلمة وتصريفها فإن مادة تعول إذا كانت: من عال يعول، فالمعنى: جار وظلم، وأما إذا كانت من عال يعيل: فالمعنى كثر عياله، فهي مادة أخرى كما قال كثير من أئمة اللغة، وابن القيم –رحمه الله- رجح بين القولين بهذه الطريقة.

وقد سبق في بعض تفاسير أهل البدع عن المعتزلة، في قوله -تبارك وتعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [سورة طـه:121] هل هي من غوي الفصيل بمعنى أنه أصابه البشم من الرضاع، أو أنها مادة أخرى، وكذا في قوله تعالى: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:273] هل المعنى أحصروا في سبيل الله، أي: أن العدو حاصرهم فلا يستطيعون ضرباً في الأرض للتجارة؛ لكون القبائل تحاربهم وتتربص بهم وتتخطفهم، أو المقصود أنهم حصروا أنفسهم على الجهاد، ومنه قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، ابن جرير يرجح في الموضعين الرجوع إلى هذا الأصل.

وقد ذكر جماعة من أئمة اللغة: أن هذه لغة مسموعة في عال يعول إذا كثر عياله، مع أن المشهور: عال يعيل، لكن السياق يدل على المعنى الآخر -ألا تظلموا وتجوروا- وهو المناسب لسياق للآية، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [سورة النساء:4].

اختلف أهل التأويل في الموجه إليه الخطاب:

 فقيل: إن الخطاب في الآية موجه للأولياء، فقد كان الولي في الجاهلية يأخذ مهر المرأة لنفسه ولا يعطيها شيئاً، ومعلوم أن المهر ملك للمرأة، ولا يجوز له أن يأخذ منه شيئاً إلا بإذنها.

وذهب بعضهم إلى أن الخطاب موجه للأزواج، فهم مأمورون أن يعطوا هذه المرأة صداقها، يتيمة كانت أو غير يتيمة، ولعل هذا هو الأقرب، وذلك أن السياق كله في الأزواج، والقاعدة تقول: إن اتحاد الضمائر عند حمل الآية على معنى صحيح هو الأولى، وهذه طريقة من طرق الترجيح بين أقوال المفسرين.

ولو أردنا بالخطاب الأولياء لتفرقت الضمائر، وهذا مثل قوله سبحانه: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الفتح:9] لو قلنا المراد بقوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ النبي ﷺ، وبقوله: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا الله فرقنا الضمائر، ومقتضى القاعدة: إذا أمكن التوحيد فهو أفضل. 

والتوحيد في الآية ممكن بأن يقال: إن الضمير يرجع إلى الله، لا إلى النبي ﷺ؛ لأنه ما جرى ذكر التسبيح مع النبي ﷺ، ولا طلب أن يسبَّح النبي ﷺ بكرة وأصيلاً إطلاقاً، فنوحد الضمائر برجوع ذلك جميعاً إلى الله، والله أعلم.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: نِحْلَةً المهر، عن عائشة -ا: نِحْلَةً فريضة، وقال مقاتل وقتادة وابن جريج: نِحْلَةً أي: فريضة، زاد ابن جريج: مسماه، وقال ابن زيد: النحلة في كلام العرب الواجب، يقول: لا تنكحها إلا بشيء واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعد النبي ﷺ أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب.

ويمكن أن يفسر قوله سبحانه: وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً أي: عطية واجبة وفريضة لازمة لا خيار لكم فيها، تقول: نحلته بمعنى أعطيته، وبعضهم يقول: تديناً لله ، بمعنى أنك تعطيها وأنت طيب النفس في غير تفضل منك، كما قال ابن جرير: نِحْلَةً أي: فريضة واجبة لازمة.

ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذباً بغير حق، ومضمون كلامهم أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتماً، وأن يكون طيب النفس بذلك، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيباً بها، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيباً بذلك، فإن طابت هي له به بعد تسميته، أو عن شيء منه فليأكله حلالاً طيباً، ولهذا قال: فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا [سورة النساء:4].

وأما إذا أعطته المرأة من غير طيب نفسها لخوفها من الطلاق، أو أعطته تحت ضغط التهديد والوعيد فلا يحل له أن يأخذ من أموالها شيئاً؛ لانتفاء الشرط وهو طيب النفس في البذل.

وقوله سبحانه: فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا صفتان لمصدر محذوف، تقديره أي: فكلوه أكلاً هنيئاً مريئاً، أو يكون نصب على الحال والتقدير أي: أكلاً هنيئاً مريئاً.

وللمفسرين آراء متباينة في المراد بالهنيء المريء:

فقيل: الذي لا تنغيص فيه ولا كدر.

وقيل: ما يكون محمود العاقبة، ولا يحصل معه إثم ومؤاخذة وتبعات.

وقيل: الذي يأتي من غير مشقة، والصواب أن اللفظ يشمل هذه المعاني جميعاً.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

  1. سيأتي تخريجه عند تمامه.
  2. رواه أحمد في مسنده برقم (4631) (2/14)، وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
  3. رواه ابن أبي حاتم في صحيحه برقم (4028).

مواد ذات صلة