الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[22] من قول الله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} الآية 80 إلى قوله تعالى: {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} الآية 83.
تاريخ النشر: ٢٥ / شوّال / ١٤٢٦
التحميل: 3371
مرات الإستماع: 2236

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۝ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا [سورة النساء:80، 81].

يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد ﷺ بأنه من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني وهذا الحديث ثابت في الصحيحين[1].

وقوله: وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [سورة النساء:80] أي: ما عليك منه، إن عليك إلا البلاغ فمن اتبعك سعد ونجا، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له، ومن تولى عنك خاب وخسر، وليس عليك من أمره شيء، كما في جاء في الحديث: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه[2].

وقوله: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [سورة النساء:81] يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة، فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ أي: خرجوا وتواروا عنك بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [سورة النساء:81] أي استسروا ليلًا فيما بينهم بغير ما أظهروه لك.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي قوله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء المنافقين: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [سورة النساء:81] يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة“ هذا تفسير لمعنى الآية، لكن التركيب في قوله: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [سورة النساء:81] فيه مقدر محذوف تقديره أمْرنا طاعة أو شأننا طاعة وهذا كقوله : وَقُولُواْ حِطَّةٌ [سورة البقرة:58] يعني مسألتنا أن تحط عنا خطايانا وهنا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [سورة النساء:81] أي شأننا طاعة أو أمرنا طاعة أو لك منا طاعة أو نحو ذلك مما يقدر في الكلام فيتضح وجه هذا التركيب.

قوله تعالى: فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ [سورة النساء:81] أي: خرجوا وتواروا عنك بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [سورة النساء:81] إما أن يكون المعنى غير الذي تقول أنت مما خاطبتهم به وأمرتهم به ونهيتهم عنه، أي أنهم بيتوا المخالفة والمعصية.

ويحتمل أن يكون معنى بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [سورة النساء:81] أي غير الذي تقوله تلك الطائفة نفسها فإنهم قالوا لك: طاعة، فإذا خرجوا من عندك بيتوا في أنفسهم غير الذي قالوه.

وقوله: بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يقول: ”أي استسروا ليلًا فيما بينهم بغير ما أظهروه لك“ أي دبروا ذلك ليلًا، ولذلك يقال: هذا أمر قد بُيِّت بليل أي دُبِّر بليل.

وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [سورة النساء:81] أي: يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد يعلمون ما يفعلون، والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى أخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلًا من مخالفة الرسول ﷺ وعصيانه وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة وسيجزيهم على ذلك كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا الآية [سورة النــور:47].

وقوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة النساء:81] أي: اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تخف منهم أيضًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا [سورة النساء:81] أي: كفى به وليًا وناصرًا ومعينًا لمن توكل عليه وأناب إليه.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا جمع المعاني التي قالها السلف في قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة النساء:81] فالأمر بالإعراض هنا أمر عام يدخل فيه ما قيل من أن المراد لا تعاقبهم، وذلك أن النبي ﷺ كان في أول الأمر مأمورًا بالصفح والإعراض والتجاوز، ويدخل أيضًا في قوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة النساء:81] ألا يشتغل بهم، فهو يقول له: لا تشتغل بهم فهؤلاء قد طمس عليهم بالنفاق وليس ثمت ما يجدي وينفع من الاشتغال بهم وصرف الأوقات والهمم إلى استصلاحهم وإنما امض إلى ما أمرك الله واشتغل فيما ينفع ودع هؤلاء فالله هو الذي يتولى حسابهم، وقيل: يدخل فيه أيضًا أنه أمر من الله لنبيه ألا يفضحهم.

فالمقصود أن النبي ﷺ أُمر بالإعراض عنهم وهذا لا يعارض قوله -تبارك وتعالى: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة:73] فهذا مما نزل في سورة التوبة وهي آخر ما نزل، وقد قال من قال: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف؛ لأنه أمر بالإعراض عن المنافقين، لكن الراجح أن هذا ليس من قبيل النسخ وإنما يكون ذلك في أوقات الضعف والعجز وأوقات الفترة، وأما في وقت الظهور والقوة والتمكن فتأتي العزائم كما قال سبحانه: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة:73].

وهكذا يقال في أهل الأهواء والبدع، فإذا كان أهل السنة فيهم ضعف فإنهم يعرضون عنهم كما قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة النساء:81] بل ربما احتاجوا إلى شيء من المصانعة، أما إذا كان أهل السنة في ظهور وقوة فهنا تأتي العزائم بالزجر والهجر والإغلاظ وما أشبه ذلك، فهذا يختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ولذلك تجد أن الأئمة من أهل السنة ما كانوا يرون هجر أهل القَدَر الذين كانوا في البصرة، وما كانوا يرون هجر أهل التشيع في الكوفة؛ لأنه في ذلك الحين كان القول بالقدر هو الغالب على أهل البصرة، والتشيع هو الغالب على أهل الكوفة، فالهجر لا يجدي، بل إذا هجرهم الإنسان صار هو المهجور. 

وإذا كان هؤلاء -من أهل الأهواء- لهم ظهور وقوة وصاروا هم الذين يمثلون العلماء والقضاة فهنا يُحتاج إلى شيء من الصبر وسعة الصدر ومجادلتهم بالتي هي أحسن كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بينما كان المتقدمون يسدون هذا الباب أو يكادون فلا يسمعون منهم ولا يكلمونهم وينهون عن هذا ويغلظون عليهم غاية الإغلاظ سدًا للباب الذي أوشك أن يفتح في ذلك الحين، فلما كسر الباب واستشرت تلك الأهواء في الأمة وصارت تمثل سوادًا عظيمًا احتاج العلماء إلى مناقشة هؤلاء والرد عليهم وإلى التلطف بهم وبطوائفهم وأتباعهم لاستمالتهم إلى الحق، لكن لا بد إلى التنبه إلى أن هذا الأمر يضبط بضوابط شرعية، فليس على إطلاقه، وليس لكل أحد أن يرد على هؤلاء المنحرفين.

أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ۝ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا [سورة النساء:82، 83].

يقول تعالى آمرًا لهم بتدبر القرآن وناهيًا لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانية المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبرًا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تضاد ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق، ولهذا قال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [سورة محمد:24] ثم قال: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ [سورة النساء:82] أي: لو كان مفتعلًا مختلقًا كما يقوله من يقول من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم.

لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا [سورة النساء:82] أي: اضطرابًا وتضادًا كثيرًا، أي: وهذا سالم من الاختلاف فهو من عند الله، كما قال تعالى مخبرًا عن الراسخين في العلم حيث قالوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [سورة آل عمران:7] أي: محكمه ومتشابهه حق، فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا؛ ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين.

قوله تعالى: لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82] المقصود بالاختلاف هنا أنه يناقض بعضه بعضًا ويكذب بعضه بعضًا، ولذلك وصف الله القرآن وصفًا عامًا بالتشابه اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا [سورة الزمر:23] بمعنى أنه يشبه بعضه بعضًا في الحسن والفصاحة والبلاغة، ولا تناقض فيه ولا تعارض البتة، فهو في غاية الحسن والإتقان، ولذلك وصفه بالإحكام وصفًا عامًا فقال: أُحْكِمَتْ آيَاتُهٍُ [سورة هود:1] بمعنى أنك لا تجد فيها خللًا ولا ما ينتقص لا في الألفاظ ولا في المعاني ولا تجد بين المعاني معارضة.

والمقصود أنه ليس معنى قوله تعالى: لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82] أن الناس يختلفون فيه أو يختلفون في المعاني، ليس هذا هو المراد إطلاقًا، فالقرآن كما قال علي : ”حمَّال ذو وجوه“ بمعنى أن الآية تحتمل معانيَ متعددة كما هو معلوم، وليس اختلاف العلماء في تفسير الآيات هو المنفي في الآية، ولم يقل أحد بهذا، وإنما المراد في قوله: لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا [سورة النساء:82] أي لو كان من عند غير الله لوجدوه مختلفًا في نفسه فيضرب بعضه بعضًا ويناقض بعضه بعضًا وهذا غير موجود في كلام الله. 

أما في كلام الناس فلو أن أحدًا بقي يكتب في ثلاث وعشرين سنة فإنك تجد في كلامه من المعارضات والمناقضات والتباين والتفاوت ما الله به عليم سواء في الأسلوب أو في الأمور التي يقررها، بل لو أن إنسانًا كتب شيئًا وقرأه بعد خمس سنوات فإنه ربما يستغرب كيف كتبه! وكيف قبل الناس هذا الكلام منه واستحسنوه!، وتجد الفرق الواضح بين أسلوب الإنسان حينما يكتب أول ما يكتب وبين ما يكتبه في آخر حياته، أما النبي ﷺ فكان ينزل عليه القرآن في ثلاث وعشرين سنة ومع ذلك تجد من أول سورة نزلت إلى آخر سورة نزلت كلها في غاية الفصاحة والبلاغة والبيان وفي أعلى مستوى الإتقان لا فرق بين أوله وآخره، فهذا يدل على أنه من عند الله -تبارك وتعالى.

روى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لقد جلست أنا وأخي مجلسًا ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله ﷺ على باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم،م فخرج رسول الله ﷺ مغضبًا حتى احمرَّ وجهه يرميهم بالتراب ويقول: مهلًا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضًا إنما يصدق بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالِمه[3].

هذه الرواية ورد بمعناها روايات أخرى ثابتة صحيحة، وفي بعضها أنه خرج كأنما فُقئ في وجهه حب الرمان[4]، يعني: من الغضب، فالمقصود بمثل هذا الحديث أن هذا النقاش الذي حصل كان مذمومًا، وذلك أن هذا كان ينزع آية وهذا ينزع آية، فهذا يقول: ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول: ألم يقل الله كذا؟ يعني فيما يقابله كأن يقول الأول: ألم يقل الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ؟ [سورة الشورى:30] ويقول الآخر: ألم يقل الله تعالى: قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ؟ [سورة النساء:78] فهذا يأتي بآيات تُرجع ما يقع للإنسان إلى نفسه كقوله تعالى: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] وذاك يأتي بالآيات التي ترجع ذلك إلى الله وأنه بقضائه وقدره فيقع في مثل هذا ضرب بعض القرآن ببعض، ولهذا كان هذا النوع من الجدال والنقاش والحوار محرمًا. 

وهذه واحدة من الآفات التي وقعت فيها طوائف أهل الكلام وهي أحد الأسباب التي جعلت كلام المتكلمين مذمومًا، فمن الآفات التي دخلت على علم الكلام أن أهله يضربون النصوص بعضها ببعض، فيقع بسبب ذلك من التفرق والتشكيك والاضطراب ما الله به عليم، وهذا الذي وقع لهم جعل الواحد منهم يتلون ويتغير في اليوم الواحد عدة مرات، وقد قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل.

أما إذا كان الكلام على سبيل التفهم لا على ضرب القرآن بعضه ببعض، أو كان النقاش في الفقه مثلًا من أجل معرفة الأحكام فهذا لا إشكال فيه، ولهذا جاء في بعض الروايات أنهم كانوا يتنازعون أو يتجادلون أو يتكلمون في آيات تتعلق بالقدر ولذلك غضب النبي ﷺ.

وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو -ا- قال: هجَّرت إلى رسول الله ﷺ يومًا فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان في آية فارتفعت أصواتهما فقال: إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب ورواه مسلم والنسائي[5].

وقوله: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ [سورة النساء:83] إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها وقد لا يكون لها صحة.

قوله: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ [سورة النساء:83] يعني إذا سمعوا بانتصار المسلمين أو بغنيمة أو بشيء يفرح أذاعوا به ونشروه، وإذا سمعوا بشيء مكروه كهزيمة وقعت أو مقتلة وقعت في أصحاب النبي ﷺ أو نحو هذا أذاعوا مع أن هذا الأمر قد لا يكون له أساس من الصحة، وقد تكون المعلومات التي فيه غير دقيقة، وقد يكون ذلك صحيحًا لكنه لا يحسن إفشاؤه في الناس كأن تقتضي المصلحة أن لا يذكر أو أن لا يذكر في هذه المرحلة على الأقل؛ لأن مثل هذه القضايا إذا ظهرت وصار يتحدث بها كل أحد ويفشيها كل أحد فإن أمور الأمة تبقى في اضطراب وفوضى. 

والمطلوب أن يُرجع في ذلك إلى من يقدر المصالح ويستطيع أن يتحقق من هذه الأمور ويعرف خلفيتها ووجهها ثم بعد ذلك يتكلم بما يصلح أن يتكلم به، ومعلوم أنه ليس كل ما يعلم يقال أصلًا، فهناك أمور لا حاجة إلى ذكرها وإفشائها في الناس وإشغالهم بها، ومن الأمور ما يكون كسرًا لقلوبهم وإضعافًا لعزائمهم فلا يعان الشيطان عليهم.

وقد روى مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع وكذا رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه[6].

وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله ﷺ نهى عن قيل وقال[7] أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين.

وفي الصحيح: من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين[8].

ولنذكر هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته حين بلغه أن رسول الله ﷺ طلق نساءه فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك فلم يصبر حتى استأذن على النبي ﷺ فاستفهمه: أطلقت نساءك؟ فقال: لا فقلت: الله أكبر، وذكر الحديث بطوله[9].

وعند مسلم فقلت: أطلقتهن؟ فقال: لا فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله ﷺ نساءه، ونزلت هذه الآية: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [سورة النساء:83] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر[10].

ما ذكره من سبب نزول هذه الآية: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ [سورة النساء:83] يدل على أن ذلك التصرف لا يختص بالمنافقين حيث كان يفعله أهل النفاق وقد يقع فيه غيرهم ممن لم تتهذب نفسه وتتروض، ومن أمثلة ذلك هذا الحدث حيث جلس الناس يبكون في المسجد ويقولون: طلق رسول الله ﷺ نساءه فجاء عمر يسألهم: أحضرت الروم؟ وذلك أنهم كانوا قبل ذلك يتوقعون مجيء الروم؛ حيث ذهب بعض المنافقين إلى بلاد الشام يستعينون بالروم للمجيء إلى المدينة لمحاربة النبي ﷺ وبقية إخوانهم بنوا مسجد الضرار في الناحية الشمالية من المدينة –عند مدخلها- وكانوا ينتظرون قدوم الروم من أجل أن يفتحوا لهم الطريق ويدلوهم على موقع النبي ﷺ وأصحابه، والمقصود أن هؤلاء المسلمين جلسوا في المسجد يبكون ويسارعون في تلقي الأخبار ونشرها حول ما إذا كان النبي ﷺ قد طلق نساءه، وكان هذا تصرفًا غير صحيح.

ومثل ذلك ما وقع في قصة الإفك حيث قال تعالى عنهم: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [سورة النــور:15] فقد كان هذا الأمر يقع على ألسن الصحابة قبل أن يقع على أسماعهم، وذلك من شدة مسارعتهم لنقله وإفشائه، وهكذا يكون سماع الإنسان الذي يريد النشر وهذا خطأ، فالإنسان ينبغي عليه ألا يسارع في نشر الكلام قبل أن يتحقق من صحته، وقبل النظر هل يجوز له نشره أم لا؟ وهل المصلحة تقتضي نشره أم لا؟ ولو كان ذلك بدافع الغيرة وخاصة ما يتعلق بتفصيلات تمرض القلوب مما يتعلق بآفات وفواحش؛ لأن ذلك يؤدي إلى موت الغيرة في النفوس وذهاب ما فيها من الحساسية تجاه المنكر فيصير مألوفًا وتجترئ عليه كثير من النفوس وتذهب هيبته، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يحصيها إلا الله ولهذا ذم الله تعالى الذين وقعوا في شيء من ذلك.

ومعنى قوله: يَسْتَنبِطُونَهُ [سورة النساء:83] أي: يستخرجونه ويستعملونه من معادنه، ويقال: استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها.

وقوله: لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا [سورة النساء:83] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: يعني المؤمنين.

في قوله تعالى: إِلاَّ قَلِيلًا يقول ابن عباس –ا: ”يعني المؤمنين“ وهو كقوله تعالى: وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [سورة الأعراف:17] وكقوله: إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة الحجر:40] وكقوله: إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة سبأ:20] وهذا وجه متبادر وظاهر في معنى الآية، والله تعالى أعلم.

وتحتمل معنىً قريبًا منه أيضًا وهو أن يقال: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا اتباعًا قليلًا منكم، يعني اتبعتموه في غالب الأمور إلا ما قل سواء في باب نشر الأخبار أو في غيرها، أي إما أن يكون إلا قليلًا من الأفراد الذين يسلمون من ذلك ممن يسلمه الله وإما أن يكون لاتبعتم الشيطان إلا في قليل من المفردات، يعني اتبعتموه في عامة أحوالكم إلا ما قل.

ويمكن أن تكون القلة هنا بمعنى العدم، فالعرب يعبرون عن العدم أحيانًا بالقلة كما قلنا في قوله تعالى: وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:18] أي لا يأتون البأس أصلًا -على أحد الاحتمالات في معناها- ويحتمل أن يكون قوله: لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا [سورة النساء:83] يعني إلا قليلًا منهم لم يُذِع الخبر، وهذا الأخير وإن قال به بعض الأئمة إلا أنه بعيد، والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأحكام – باب قول الله تعالى: أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [سورة النساء:59] (6718) (ج 6 / ص 2611) ومسلم في كتاب الإمارة - باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (1835) (ج 3 / ص 1466).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة - باب الرجل يخطب على قوس (1099) (ج 1 / ص 428) وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود برقم (1097).
  3. أخرجه أحمد (6702) (ج 2 / ص 181) وصححه الألباني في شرح الطحاوية برقم (218) وقال في السلسلة الصحيحة: "سنده صحيح على شرط الشيخين (1522) (ج 4 / ص 96).
  4. أخرجه أحمد (6845) (ج 2 / ص 195) وقال فيه شعيب الأرناؤوط: "صحيح وهذا إسناد حسن".
  5. أخرجه مسلم في كتاب العلم - باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عن الاختلاف في القرآن (2666) (ج 4 / ص 2053).
  6. أخرجه مسلم في مقدمة كتابه الصحيح - باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (5) (ج 1 / ص 10).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب ما يكره من قيل وقال (6108) (ج 5 / ص 2375) ومسلم في كتاب الأقضية - باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات وهو الامتناع من أداء حق لزمه أو طلب ما لا يستحقه.
  8. أخرجه مسلم في مقدمة كتابه الصحيح - باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله ﷺ (ج 1 / ص 7).
  9. أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب التناوب في العلم (89) (ج 1 / ص 46) ومسلم في كتاب الطلاق - باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ [سورة التحريم:4] (1479) (ج 2 / ص 1105).
  10. أخرجه مسلم في كتاب الطلاق - باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ [سورة التحريم:4] (1479) (ج 2 / ص 1105).

مواد ذات صلة