الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث "كنا مع النبي ﷺ ستة نفر.."
تاريخ النشر: ١٨ / شوّال / ١٤٢٧
التحميل: 677
مرات الإستماع: 3780

كنا مع النبي ﷺ ستة نفر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "ملاطفة اليتيم والبنات، وسائر الضعفة، والمساكين، والمنكسرين، والإحسان إليهم، والشفقة عليهم، والتواضع معهم، وخفض الجناح" صدّر المصنف -رحمه الله- جملة من الآيات التي تتعلق بهذا الباب، وقد تحدثنا عنها، ثم ذكر:

حديث سعد بن أبي وقاص قال: "كنا مع النبي ﷺ ستة نفر فقال المشركون للنبي ﷺ: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله ﷺ ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه، فأنزل الله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه [الأنعام: 52] رواه مسلم.

"اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا"، يعني اطرد هؤلاء الضعفاء والفقراء والمساكين، لا يجترئون علينا، يعني لئلا ينكسر الحاجز بين هؤلاء وبين هؤلاء، فيتعاملون معهم كأنهم أنداد، أو أقران أو نظراء، فهم في مقاييسهم يمثلون طبقة عليا، ولا يرون هؤلاء في عداد البشر، لا نجلس معهم، لا يُظلّنا وهم سقف واحد، اطرد هؤلاء، يقول: "وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما"، قيل: هما أبو بكر وعلي -رضي الله عنهما، ولا يخلو من بُعد.

قالوا: كره أن يسميهم؛ لئلا يلحقهم معرة بسبب ذلك، يعني هؤلاء جعلوهم في عدادهم، وهم يعملون أنهم من أشراف قريش، لكنهم كرهوهم لاختلاف الدين، لا نجلس معهم، يقول: "فوقع في نفس رسول الله ﷺ ما شاء الله أن يقع"، وقع يعني في قلبه، ما شاء الله أن يقع يعني من طرد هؤلاء، من إبعادهم، أن يكلهم إلى إيمانهم، وذلك أن النبي ﷺ كما هو معلوم لما قسم القَسم -الغنيمة- في غزوة حنين أعطى عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وأبا سفيان، وابنه معاوية، وعمرو بن العاص، وجماعة من كبراء الناس، وعظمائهم يتألفهم على الإسلام، وترك الأنصار ما أعطاهم شيئاً، فلما وقع ذلك في نفوس بعضهم جمعهم النبي ﷺ وخطبهم، وبين أنه وكلهم إلى إيمانهم، "فحدث نفسه ﷺ فأنزل الله تعالى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الأنعام:52[1]، رواه مسلم.

حدث نفسه لماذا؟ محبة لهؤلاء الكبراء، مجاملة لهم؛ لأنه يميل إلى الأغنياء دون الفقراء؟، أبداً، إنما هؤلاء كانوا الرؤساء فإذا أسلم هؤلاء الناس أسلم مَن وراءهم، فهم تبع لهم، فطمع النبي ﷺ بإسلام الناس إذا جلس إليه هؤلاء واستمعوا له، فبين الله له أن الأمر على خلاف ذلك، وأن هذا الأمر الذي طلبوه لا يجوز إجابتهم فيه بحال من الأحوال، ولربما اقترحوا على النبي ﷺ أن يجعل لهم يوماً ويجعل لهؤلاء يوماً، المهم أن لا يجلسوا معهم، ولربما اقترحوا عليه أن يجلس معهم بعض الوقت فإذا قاموا عنه جلس إلى من شاء من هؤلاء الناس، وقد جاء في بعض الروايات كما جاء عن خباب بن الأرت قال: "جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله ﷺ مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعداً في ناس من الضعفاء..."، يمكن أن تكون هذه القضية حصلت من هؤلاء ومن هؤلاء، طلب منه كبراء قريش، وطلب منه أيضاً كبراء بعض القبائل، "في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي ﷺ حقّروهم، فأتوه فخلوا به، وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً، تعرف لنا به العرب فضلنا"، هؤلاء لهم مجلس خاص، كبراء، مجلس الملأ، لا يجلسون مع البسطاء والأعبُد كما يقولون، يقولون: "فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبُد -يقولون: رأينا عيينة بن حصن جالسًا مع بلال، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت"، قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، قال: فدعا بصحيفة، ودعا عليًّا ليكتب، ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريل ﷺ فقال: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ  [الأنعام:52]، ثم ذَكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فقال: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ الأنعام:53، يقولون: لو كان هذا حقًّا ما تبعه الأراذل من الناس، نحن أولى به، كما قال قوم نوح لنوح ﷺ: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [هود:27]، ثم قال: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وكان رسول الله ﷺ يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28]، ولا تجالس الأشراف تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا الكهف:28، قال: يعني عيينة والأقرع، طبعاً قبل أن يسلما، ثم أسلموا وحسن إسلامهم ، يقول: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، قال: هلاكًا، قال: أمْرُ عيينة والأقرع، ثم ضرب لهم مثل الرجليْن ومثل الحياة الدنيا، يعني في سورة الكهف، قال خباب: "فكنا نقعد مع النبي ﷺ فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم؛ لأنه منهي عن القيام"[2]، فصاروا يعرفون ذلك من نفوسهم، إذا جاء الوقت الذي يقوم فيه قاموا لئلا يثقلوا على رسول الله ﷺ، فهذه هي التربية القرآنية لأفضل البشر، وأكرمهم على الله ، يجلس مع هؤلاء الضعفاء ولا تعدو عيناه عنهم، طلباً لزينة الحياة الدنيا، ولا يطيع هؤلاء الذين أغفل الله قلوبهم عن ذكره، وصار همهم وغايتهم هي هذه الحياة وما فيها من المتاعب، وبهذا يتأدب الإنسان بمثل هذه الآداب، لا يستنكف عن الجلوس مع الضعفاء، مع الفقراء، مع المساكين، مع السائقين، مع الخدم، وهذا هو مقتضى الأخوة الإيمانية ألا نترفع، ما المانع من أن يجلس الإنسان مع السائق، ويأكلون معاً؟، ما المانع أن تجلس المرأة مع خادمتها وتأكل معهم؟، ما تجلس كأنها حشرة، يستنكفون من الجلوس معها، ومن رؤيتها أثناء الطعام، لماذا؟ هذه مثلكم آدمية، مسلمة، ما الفرق بينكم وبينها؟، كلنا أولاد آدم، إذا كانت غير نظيفة تتنظف، أما إذا كانت هي تحرج، ولا تعرف تأكل بهذه الطريقة أو نحو ذلك فهي تُدعى تقديراً لها وإشعاراً لمكانتها، الناس عندهم مشاعر، ضع نفسك مكانه، كيف تنظر نفسُك، تجلس أحياناً في يوم عيد، وترى الكبار والصغار يسلمون على بعضهم، والناس قد بسطوا للطعام واجتمعوا حوله، ثم تُفاجأ أن أكثر من عشرة كلهم وقوف ينظرون بطريقة كلها ضعف، وحرج، وحياء، كلهم من السائقين، ويوم عيد، ما يجرؤ واحد منهم أن يأتي ويجلس، ولربما نسيهم الناس، ما تفطنوا لهم، فجلسوا وهؤلاء وقوف، كم هذا له من الآثار حينما ينظر بعضهم إلى بعض، ويعرف كل واحد منهم قدر صاحبه وقدر نفسه في عين أخيه، وفي عيون هؤلاء الناس، حتى الصغار يدفعونهم، هذا ما له أثر؟، ألم يكن آباؤنا أو أجدادنا يذهبون إلى تلك البلاد يبحثون عن العمل؟، ما كانوا يذهبون في يوم من الأيام، وعلى وسائل بدائية، وعلى أقدامهم، على شيء فقط يأكلون فيه في يومهم؟، فالذي أفقر هؤلاء قادر على أن تعاد القضية مرة أخرى، وهناك فرق كبير بلادهم جنات وأنهار، وبلادنا صحراء، لا يوجد فيها شيء إلا التراب، فالله يغني من شاء، ويفقر من شاء، والله يقول: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، فالواجب على المؤمن أن لا يكون كذلك، أن لا يزيده الغنى إلا تواضعاً، ولا تتخيل السلام فقط حينما تسلم عليه له أثر عجيب، وأحياناً البعض قد يستنكف أن يمد يده، لماذا؟.

الواجب على المؤمن أن لا يكون كذلك، أن لا يزيده الغنى إلا تواضعاً، ولا تتخيل السلام فقط حينما تسلم عليه له أثر عجيب، وأحياناً البعض قد يستنكف أن يمد يده

فأقول: نحن بحاجة إلى مراجعات لكثير من سلوكنا العملي، يعني نحن من الناحية النظرية قد نقول كلاماً آخر، لكن من الناحية العملية، أبداً، بل من الناس من لا يحتمل أن يسمع، أن يقال له، يعني لو قلت للنساء الآن: لماذا لا تجلس هذه الخادمة معكم، وتأكل معكم؟، لربما تجد استنكافاً شديداً، لماذا تستنكفون؟ هذه أختكم، هذه مسكينة جاءت من بلاد بعيدة غريبة، لا تعرف لغة، تركت الوالدة والولد والزوج وكل شيء، ونعاملها على أنها عبارة عن قطعة من الجماد، ما عندها أحاسيس ولا مشاعر، تقوم من الصباح الباكر إلى أن ينام الناس وهي تشتغل، ما أحد يسألها عن مشاعرها، عن همومها، عن آلامها، كم من الأثر لو أن المرأة أعطتها الهاتف تكلم أولادها!، ما تريد دفع كربة!، ما تريد أجرًا عظيمًا كبيرًا جدًّا!، كم هذا له من الأثر على هذه المرأة إذا سمعت صوت أولادها!، شيء هائل قد يدخل به الإنسان الجنة، عمل بسيط قد يدخل به الجنة، كم من السرور يحصل لها!، لكنها مسكينة ما تجرؤ على أقل من هذا، ما تجرؤ أن تتكلم مكالمة داخلية، ما تجرؤ أن تستأذن أن تتكلم مكالمة داخلية في الهاتف، لا تجرؤ لأنها ترى أنها أحقر من أن تقترح أو تطلب، ولربما تتصل أمها أو أختها أو زوجها، ومصادرة لكل الحقوق، ليس كل الناس، لكن يوجد من الناس من يفعل هذا، ومنهم من يفعل أكثر من هذا من الأذى والضرب ومنع الحقوق وتشتغل شهورًا طويلة ولا تُعطَى شيئًا، حسرة.

فأقول: التواضع للناس والجلوس معهم، ما تواضع أحد لله إلا رفعه[3]، والمتكبر ينخفض، الناس لا يحبونه، وينفرون منه، والمتواضع تنجذب إليه القلوب، فالكِبر لا يصلح إلا لله ، والجميع ضعفاء، ولو نظر الإنسان في حاله وفي عجزه وفي ضعفه وتأمل لا يتكبر على أحد، وصلى الله على نبينا محمد,وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب في فضل سعد بن أبي وقاص ، برقم (2413).
  2. أخرجه ابن ماجه، أبواب الزهد، باب مجالسة الفقراء، برقم (4121)، وصحح إسناده الألباني في صحيح السيرة النبوية (222).
  3. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، برقم (2588).

مواد ذات صلة