الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[12] من قول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا} الآية 93 إلى قوله تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الآية 97.
تاريخ النشر: ١٣ / ربيع الأوّل / ١٤٢٧
التحميل: 3429
مرات الإستماع: 2214

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وقوله: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] أي: تجعلون جملتها قراطيس، أي: قطع تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم، وتحرفون منها ما تحرفون، وتبدلون وتتأولون، وتقولون: هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة البقرة:79] أي: في كتابه المنزل وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة آل عمران:78] ولهذا قال: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91].

وقوله تعالى: وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91] أي: ومن أنزل القرآن الذي علَّمكم الله فيه من خبر ما سبق، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك لا أنتم ولا آباؤكم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] مضت الإشارة إلى أن قراءة الياء (يجعلونه قراطيس يبدونها) يكون في اليهود، وذلك ظاهر من هذه القراءة والله تعالى أعلم، وأما على قراءة التاء تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا [سورة الأنعام:91] فمن قال: إن الآية من أولها في اليهود، قال: إنه رد عليهم بهذا، فقال مخاطباً لهم: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91]، وهذا هو الذي يدل عليه ظاهر السياق.

ولكن يشكل على هذا كما سبق أن السورة مكية، وذكرنا توجيه الحافظ ابن القيم لهذا المعنى على قراءة تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] أن هذا من باب الاستطراد على قول من قال: إن الآية مكية وأن ذلك في المشركين من قريش، فلما ذكر الرد عليهم قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91] استطرد في ذكر اليهود تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا [سورة الأنعام:91] وذكرنا نظائر ذلك.

وقوله: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا [سورة الأنعام:91] سبق الكلام في موضعين من القرآن عن التحريف، وهل كان الذي قد حرف هو أصل الكتاب أو أن الذي حرف هي تلك القراطيس التي كانوا يبدونها للناس ولم يقع التحريف في أصل الكتاب، وقد ذكرنا قبل بأن الأقرب من أقوال أهل العلم -والله تعالى أعلم- أن التحريف وقع في أصل كتابهم؛ ويدل على هذا تلك النسخ المنتشرة في الآفاق التي تتناقض غاية التناقض، ولا يوجد ما يثبت في حال من الأحوال أنهم يحتفظون بأصل الكتاب الذي لم يحرف.

وقوله -تبارك وتعالى: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا يعني تظهرونها للناس وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] هذه الآية أو ما قبل هذه الجملة من قوله: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91] هذا مندرج تحت قاعدة معروفة وهي: أن القرآن إذا ذكر مقالة قائل فإنه إن لم يذكر معها ما يبطلها أو يدل على بطلانها قبلها أو في أثناء ذكرها أو بعد أن يذكرها فإن ذلك يدل غالباً على صحتها، كما قلنا في قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [سورة الكهف:22] فما رد على من قال بالعدد الأخير، فقد يؤخذ منه أن هذا هو القول الصحيح فيهم، وعامة المواضع في القرآن يذكر ما يدل على البطلان كما في هذه الآية: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ فرد قائلاً: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91] فرد هذه المقالة وأبطلها.

وقوله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91] أي: والحال أنكم علمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم، ويحتمل أن تكون هذه الجملة استئنافية مقررة لمضمون الجملة التي قبلها وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91]، والذي عُلِّموه هو الذي أخبرهم عنه النبي ﷺ من الأمور التي أوحى الله بها إليه، فهي مشتملة على علم ما لم يعلموه من كتبهم إذا قلنا: إن ذلك يقصد به أهل الكتاب، أي: وعلمتم ما لم تعلموا مما أظهره النبي ﷺ لكم وأبانه مما ليس في كتابكم.

وكذلك إذا قيل: إن الخطاب متوجه للمشركين، أعني قوله: وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91] فيعني عن طريق هذا الوحي الذي أنزله الله على رسوله ﷺ.

ويجوز أن تكون "ما" من قوله: وَعُلِّمْتُم مَّا يقصد بها ما علموه من التوراة؛ ليكون ذلك على وجه الامتنان عليهم بإنزال التوراة، أي: قل لهم: من الذي علمكم هذا، فهذا رد على اليهود وامتنان عليهم بذلك.

وبعضهم يقول: إن هذا الخطاب للمؤمنين، بمعنى أنه انتقل من الكلام على اليهود أو من الكلام على المشركين ثم قال: وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91] أي كنتم في جهالة وعماية ثم بعث الله لكم هذا النبي فعلمتم من الوحي ما صرتم به بمنزلة عالية رفيعة من العلم والإيمان، فهو يمتن على المؤمنين بهذا، وهذا المعنى هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله، وقد يقال والله أعلم: إن ظاهر السياق أن ذلك في اليهود، وأن الله يرد عليهم ويذكر مننه وإنعامه وافضاله الذي كفروه ولم يقابلوه بالشكران، والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: قُلِ اللّهُ [سورة الأنعام:91] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: أي: قل الله أنزله.

وقوله: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [سورة الأنعام:91] أي: ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون حتى يأتيهم من الله اليقين فسوف يعلمون ألهم العاقبة أم لعباد الله المتقين.

وقوله: وَهَذَا كِتَابٌ يعني القرآن أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى [سورة الأنعام:92] يعني مكة وَمَنْ حَوْلَهَا من أحياء العرب، ومن سائر طوائف بني آدم ومن عرب وعجم، كما قال في الآية الأخرى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف:158].

يقول تعالى: وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [سورة الأنعام:92] أم القرى مكة، ومن حولها العالم بأكمله، وهذا من الأدلة الدالة على عموم بعثة عليه ﷺ، ومن توهم غير هذا من هذه الآية فينبغي أن يضم إليها سائر الآيات والأحاديث الدالة على عموم بعثته ﷺ كقوله: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف:158] وما شابه ذلك.

وقال: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [سورة الأنعام:19] وقال: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17] وقال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [سورة الفرقان:1] وقال: وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [سورة آل عمران:20].

وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي وذكر منهن: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث إلى الناس عامة[1] ولهذا قال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة الأنعام:92] أي: كل من آمن بالله واليوم الآخر يؤمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد وهو القرآن وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ [سورة الأنعام:92] أي: يقيمون بما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ۝ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة الأنعام:93-94].

يقول تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا [سورة الأنعام:93] أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له شركاء أو ولداً أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله، ولهذا قال تعالى: أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [سورة الأنعام:93] قال عكرمة وقتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب.

ذكر هنا قضيتين: الأولى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا [سورة الأنعام:93] والثانية: أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [سورة الأنعام:93] يعني ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، وكذلك من أظلم ممن قال أوحي إلي ولم يوحَ إليه شيء، وهذا داخل في عموم الذي قبله؛ لأن الذي يقول: أوحي إليه ولم يوحَ إليه هو مفترٍ على الله الكذب.

وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحد أظلم؛ فهذا استفهام مضمنٌ معنى النفي كما سبق في نظائر هذه الآية كقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114].

فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآيات، بمعنى أيهما أظلم الذي يمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أم من افترى على الله كذباً؟ قلنا: يجاب عن هذا بجوابين أحدهما: أن أفعل التفضيل تمنع أن يزيد أحد الطرفين على الآخر ولكنها لا تمنع التساوي، أي أن هؤلاء وغيرهم كلهم قد بلغوا في الظلم غايته، فلا إشكال أن يُذكرَ أصناف ويقال: إنهم أظلم الناس أو لا أحد أظلم منهم؛ لأن المراد أنه لا أحد يزيد عليه لكن يبقى هناك من يشتركون معهم بقدر معين من الظلم الذي وصلوا إليه دون أن يزيدوا عليهم فيه.

الجواب الثاني: أن هذه الآيات تشترك في أن كل آية منها تقول: لا أحد أظلم ممن فعل هذا الفعل على أن كلاً منها تكون مختصة بباب معين، ففي باب الافتراء لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وفي المنع من دخول المساجد لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وهكذا كل واحدة مختصة بالباب الذي ذكرت فيه، والله أعلم.

يقول –رحمه الله: "قال عكرمة وقتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب" هذا عن عكرمة وقتادة من قبيل المراسيل، والمرسل من أنواع الضعيف كما هو معلوم، وقد جاءت روايات أخرى أنها نزلت في عبد الله بن أبي السرح في قصته المعروفة لكنها لا تصح أيضاً وذلك أنه قال في آخر الآية التي كان يمليها عليه النبي ﷺ وقد كان من كُتَّاب الوحي، قال: فتبارك الله أحسن الخالقين، أي قال ذلك من عند نفسه، فقال النبي ﷺ: هكذا أنزلت فقال: إن كان محمد يختلق القرآن فقد قلت مثله، وإن كان يوحى إليه فقد أوحيَ إليَّ فارتدَّ ورجع إلى مكة[2] فلما جاء عام الفتح ذهب إلى أخيه من الرضاعة عثمان بن عفان فطلب له الأمان من رسول الله ﷺ فالمقصود أن الروايات الواردة في أنه قال ذلك، وأنه ارتد بسبب هذه القضية لا يثبت منها شيء، ولو ثبتت فمعلوم أن القرآن قد ينزل موافقاً لما جرى على لسان بعض الناس كما في موافقات عمر والله أعلم.

وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ [سورة الأنعام:93] أي: ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول كقوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا الآية [سورة الأنفال:31].

قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ [سورة الأنعام:93] أي: في سكراته وغمراته وكرباته.

الغمرات هي جمع غمرة، وهي الشدة والكرب والحال الصعبة، وأصل ذلك كأنه مأخوذ مما يغمر الشيء ويغطيه، تقول: غمره الماء، فيقال: فلان في غمرة يعني في كرب وشدة.

وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] أي: بالضرب، كقوله: لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي الآية [سورة المائدة:28].

قوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] قال: أي: بالضرب"؛ لأن البسط يأتي بهذا المعنى كما قال تعالى: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ [سورة الممتحنة:2] فالبسط يكون بإيصال الأذى بالقول أو بالفعل، يقال: بسط إليه يده ولسانه، بمعنى أنه آذاه بيده ولسانه.

فقوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] يعني بالضرب الوجيع وذلك عند نزع أرواحهم أو في اليوم الآخر، لكن الأقرب والله تعالى أعلم أن تفسر بما بعدها أعني بقوله: أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93] وإن كان يحتمل أن يراد بالبسط بسط اليد لاستلام الروح لكن أحسن من هذا أن تفسر بالآية الأخرى وهي قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [سورة الأنفال:50] فهذا الضرب هو المراد بقوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] والله تعالى أعلم؛ وذلك أن خير ما يفسر به القرآن القرآنُ.

وإن كان قوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] يعني في الآخرة وباسطوا أيديهم يعني بالضرب والعذاب فإن قوله: أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93] يعني يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم وخلصوها مما أنتم فيه إن استطعتم، وإذا قلنا: إن هذا عند الموت فإن معنى أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93] أي يضربونهم لينتزعوا منهم الأرواح ويقولون لهم: أخرجوا أرواحكم لنقبضها، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ الآية [سورة الممتحنة:2] وقال الضحاك وأبو صالح: بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] أي: بالعذاب كقوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [سورة الأنفال:50] ولهذا قال: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] أي: بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، ولهذا يقولون لهم: أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93] وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم فتتفرق روحه في جسده وتعصى وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ الآية [سورة الأنعام:93] أي: اليوم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون على الله وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله.

قوله: عَذَابَ الْهُونِ [سورة الأنعام:93] هذا من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، وعذاب الهون –بضم الهاء- يعني العذاب المهين، وأما الهَون –بفتح الهاء- فمعناه الرفق كما في قوله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63] يعني يمشون برفق.

وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر عند الموت، وهي مقررة عند قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [سورة إبراهيم:27].

وقوله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:94] أي: يقال لهم يوم معادهم هذا، كما قال: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الكهف:48] أي: كما بدأناكم أعدناكم، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه فهذا يوم البعث.

المعنى الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ هو المعنى الأول يعني منفردين، وهذه الآية هي كقوله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104] بمعنى أن الله كما ابتدأ خلقكم أعاده ثانية.

والمعنى الثاني الذي يحتمله قوله تعالى: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:94] يعني أن الإنسان يأتي يوم القيامة كما خلقه الله حين خلقه، كما قال النبي ﷺ: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً[3] أي غير مختونين، فيكون قوله: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:94] يعني: كهيئة خلقكم الذي خلقكم الله عليه من غير شيء يغير ذلك.

فإن كانت الآية في سياق الاحتجاج على النشأة الثانية بالنشأة الأولى، فالمعنى أن الذي خلقكم أولاً قادر على أن يعيدكم ثانية، وهذا الذي قد يفهم من ظاهر الآية، لكن النبي ﷺ حملها على المعنى الآخر حينما قرأها على المنبر حيث ذكر معها قوله ﷺ: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ولذلك يقال: إن الآية تحمل على المعنيين، وإن كان السياق في الاحتجاج على المشركين بالبعث. 

وما يقال في قوله -تبارك تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:94] يقال أيضاً في قوله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104] ولهذا حملها ابن جرير وجماعة من أهل العلم من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- على أن المراد حفاة عراة غرلاً لا ثياب ولا خدم ولا حشم ولا أموال، وإنما يأتي الإنسان متجرداً من ذلك كله، هكذا قالوا فيها، والحافظ كما رأينا جعلها من قبيل الاحجتاج على النشأة الثانية بالنشأة الأولى، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وهذا يوجد ما يشهد له في القرآن، ويوجد ما يشهد له أيضاً من السنة، والله أعلم.

وقوله: وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ أي: من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا وَرَاء ظُهُورِكُمْ [سورة الأنعام:94].

الخوَل: هو ما يعطاه الإنسان من متاع الحياة الدنيا، فقوله: وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ [سورة الأنعام:94] أي: ما أعطيناكم من متاع الدنيا من الأموال والزينة والأولاد وما أشبه ذلك.

وثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس[4].

وقال الحسن البصري: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج، فيقول الله : أين ما جمعت؟ فيقول: يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول له: يا ابن آدم أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئاً، وتلا هذه الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ الآية [سورة الأنعام:94] [رواه ابن أبي حاتم].

يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج من الذل، والبذج هو ولد الضأن، والمعنى أنه يؤتى به وهو في غاية الضعف والذلِّ بعد أن كان يشمخ بأنفه ولا يرى الناس شيئاً، وفي الحديث الآخر: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان[5] نسأل الله العافية.

وقوله ﷺ: يقول ابن آدم مالي مالي[6] يعني أنه في الدنيا يتحدث فيقول: هذا مالي، وهذه أرضي، وهذا داري، وليس له إلا ما ذكر النبي ﷺ؛ لأن هذا هو الذي يبقى، ولو عقل الإنسان وفكر لعرف هذه الحقيقة جيداً، ولذلك لو نظرت إلى الناس فيما يملكون وما تحت أيديهم من الأموال فإنك ترى عجباً، فأحياناً قد ترى الإنسان فتظنه من الفقراء وهو يملك أموال طائلة لم تؤثر عليه فلم تُرَ نعمة الله عليه، وربما لا يتصدق ولا تراه يلبس لباساً حسناً، وهكذا إنما يشقى غاية الشقاء.

يقول أحد الإخوة المدرسين: كنت عند الصرافة فجاء شخص لا يعرف القراءة والكتابة وبالتالي لا يستطيع استعمال الصرافة، ورأيت ثيابه في غاية الرثاثة فاستغربت كونه يمتلك بطاقة مع أن شكله فقير حتى ظننت أنه يسأل!!

يقول: فقال لي: اسحب لي من الصرافة مائة ريال وإن كنت لست بحاجة إليها لكني أريد أن أعرف رصيدي! يقول: قلت له: يمكنك أن تعرف الرصيد دون أن تسحب مائة ريال، قال: إذن: انظر لي كم الرصيد، يقول: والله ما عرفت أقرأ الرصيد، فقلت له: لم أعرف، لكن أخرج لك ورقة من الآلة وخذها معك! هذه من القصص العجيبة، فهذا ماذا يستفيد من ماله؟ لا شيء إلا أنه سيحاسب عليه، نسأل الله العافية.

وقوله: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء [سورة الأنعام:94] تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم إن كان ثَمَّ معاد، فإذا كان يوم القيامة تقطعت بهم الأسباب وانزاح الضلال وضلّ عنهم ما كانوا يفترون، ويناديهم الرب على رؤوس الخلائق: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة القصص:62] ويقال لهم: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ۝ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ [سورة الشعراء:92-93] ولهذا قال هاهنا: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء [سورة الأنعام:94] أي: في العبادة لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم، ثم قال تعالى: لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:94] قرئ بالرفع أي: شملُكم.

قوله تعالى: لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:94] قرئ بالرفع (بينُكم) أي: تقطَّع شملُكم باعتبار أن (بينُكُم) فاعل، وهذه القراءة هي التي عليها عامة القراء عدا نافعاً والكسائي وحفص حيث قرأها هؤلاء بالنصب ليكون المعنى لقد تقطع ما بينكم، بل ورد هذا المعنى على أنها قراءة أحادية وهي قراءة ابن مسعود .

وعلى قراءة لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:94] يمكن أن يكون النصب على الظرفية، لقد تقطع بينكم يكون منصوباً على الظرفية، ويكون فاعل تقطع محذوفاً تقديره تقطع ما بينكم أو تقطع الوصل بينكم أي: تقطع وصلكم وشملكم وتمزقت الأواصر والوشائج التي بينكم وبين معبوداتكم وأعوانكم ومن يشاركونكم في هذا الجرم ولو كانوا من قراباتكم، نسأل الله العافية.

لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:94] قرئ بالرفع: أي شملكم، وبالنصب: أي: لقد تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات والوسائل وَضَلَّ عَنكُم [سورة الأنعام:94] أي: ذهب عنكم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة الأنعام:94] من رجاء الأصنام والأنداد كقوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:166-167] وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ [سورة المؤمنون:101] وقال تعالى: إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة العنكبوت:25] وقال: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ الآية [سورة القصص:64] وقال: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ [سورة الأنعام:22] إلى قوله: وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:24] والآيات في هذا كثيرة جداً.

إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۝ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ۝ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:95-97].

يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى، أي: يشقه في الثرى، فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها من الحبوب والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها من النوى.

قوله: فَالِقُ الْحَبِّ يعني يفلق الحب فيخرج منه النبات، ويفلق النوى فيخرج منه الشجر.

وبعضهم يفسر قوله: فَالِقُ بمعنى خالق يعني خالق الحب والنوى، والمعنى الذي قبله هو الذي عليه عامة المفسرين وهو الأقرب، والله تعالى أعلم، وبعضهم يقول: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95] المقصود أن الله جعلها صفتها وهيئتها مفلوقة أي مشقوقة من الوسط، فأنت ترى النواة مشقوقة من الوسط وترى حبة البر فيها هذا الشق أيضاً، فبعضهم يقول: إن هذا هو المراد بقوله: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95] أي خلقه بهذه الهيئة، وبعضهم يقول: يفلق الحب عن السنبل ويفلق النواة من التمرة.

والأقرب والله أعلم أن قوله: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95] أي: يفلق من الحب النبات فيخرج منه السنبلة ويفلق النواة فيخرج منها الشجرة التي يخرج منها الثمر.

وعلى كل حال فالله -تبارك وتعالى- أخبر أنه فالق الحب والنوى فيدخل فيه هذا المعنى، أي يفلق الحب فيخرج منه النبات ويفلق النوى فيخرج منه الشجر، ولا مانع من أن يدخل فيه المعنى الآخر وهو أن الله خلقها بهذه الصفة فهو فالقها، والمعنى الثالث داخل في ذلك أيضاً وهو أنه خالقها فكل هذا يصدق عليه أنه فلق، ولهذا قال: فَالِقُ الإِصْبَاحِ [سورة الأنعام:96] أي أن الله خلقه، أو أنه ينشق عمود الصبح عن الظلام فيظهر نور الصبح وذلك يرجع إلى الخلق أيضاً فيكون معنى فالق الحب يمكن أن يدخل فيه خالق وبهذه الصفة ويفلق من هذا الحب النبات ومن النوى يفلق السنبلة، وأما النوى فلا يختص بالتمر بل النوى يصدق على كل ما يمكن أن يقال: إنه كل ثمر فيه العجم سواء في ذلك الخوخ والمشمش والتمر وما شابه ذلك مما فيه نوى، والله أعلم.

ولهذا فُسِّر قوله: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95] بقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [سورة الأنعام:95] أي: يخرج النبات الحيَّ من الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت.

الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- أن قوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ يكون من قبيل التفسير بفالق الحب والنوى، بمعنى أنك إذا قلت: ما معنى قوله: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95]؟ قال: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [سورة الأنعام:95] وهذا الذي مشى عليه ابن كثير تحتمله الآية وهو لا ينافي القول السابق، فالنواة تعتبر ميتة والحبة تعتبر ميتة فيخرج منها الحي وهي الشجرة الخضراء، أو النبتة الخضراء.

ويمكن أن يكون ذلك من قبيل عطف الأخبار فهو أخبر عن الله أخباراً تدل على قدرته وعظيم شأنه ودقة في الخلق وبديع صنعه، فأخبر أنه فالق الحب والنوى وأخبر أنه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وعلى هذا يكون هذا خبر جديد يقرر فيه قضية جديدة تدل على قدرة الله تعالى هي قضية غير القضية الأولى.

كقوله: وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [سورة يــس:33] إلى قوله: وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [سورة يــس:36].

وقوله: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [سورة الأنعام:95] معطوف على فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95] ثم فسره، ثم عطف عليه قوله: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [سورة الأنعام:95].

وقد عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى، فمن قائل: يخرج الدجاجة من البيضة وعكسه، ومن قائل: يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه، وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها.

على القول بالمجاز نقسم الحي والميت إلى قسمين: حي حقيقة وحي مجازاً، وميت حقيقة وميت مجازاً، والقاعدة أن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز فالأصل حمله على الحقيقة، وإذا حملناه هنا على الحقيقة يكون معنى الآية أن الإنسان الحي خلق من نطفة ميتة، ولا يقول قائل: اكتشف العلم الحديث أن الحيوانات المنوية تسبح، فالكلام الذي يقصده الفقهاء بلغة الكتاب والسنة أن الميت هو ما لا روح فيه، فيقولون: النطفة ميتة يعني لا روح فيه فهذا لا ينافي كون النطفة فيها حيوانات منوية تسبح.. إلى آخره.

والخلاصة أن النطفة تخرج من الإنسان ميتة وهو حي، والفرخ الحي يخرج من الدجاجة الميتة، والبيضة ميتة تخرج من الدجاجة الحية، وهكذا، ويمكن أن ندخل في هذا القول بأن النبات حي باعتبار أن الله سمى ذلك إحياء وحياة كما في قوله تعالى: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [سورة الروم:19] فيقال أيضاً: يخرج النبات الحي من الحبة الميتة، والشجرة الحية من النواة الميتة، والنواة الميتة تخرج من الشجرة الحية، وهكذا، هذا هو المقصود بالموت والحياة إذا حملنا لفظ الموت والحياة على المعنى الحقيقي.

وإذا حملنا الحياة على المعنى المجازي فيدخل في الحياة والموت الهدى والضلال والإيمان والكفر، فالله يقول: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [سورة الأنعام:122] فقوله: مَيْتًا يعني ضالاً، وقوله: فَأَحْيَيْنَاهُ يعني أحياه الله فعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [سورة الأنعام:95] يعني يخرج المؤمن من صلب الكافر والمهتدي من الضال، وقوله: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [سورة الأنعام:95] يعني يخرج الكافر من المؤمن، والضال من المهتدي، ولهذا فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: هي معان متقاربة، وهذا صحيح فالقاعدة أنه يمكن حمل الكلام على حقيقته ومجازه ما لم يوجد مانع يمنع من ذلك؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فتفسر الآية بهذا كله، الله ما خص شيء دون شيء، فيخرج الحي من الميت يخرج المهتدي من الضال، ويخرج الفرخ من البيضة، وهكذا، والله أعلم.

ثم قال تعالى: ذَلِكُمُ اللّهُ [سورة الأنعام:95] أي: فاعل هذا هو الله وحده لا شريك له فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [سورة الأنعام:95] أي: كيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل، فتعبدون معه غيره.

وقوله: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96] أي: خالق الضياء والظلام، كما قال في أول السورة: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1] أي: فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح فيضيء الوجود ويستنير الأفق ويضمحل الظلام ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه كقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [سورة الأعراف:54] فبيّن تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه، فذكر أنه فالق الإصباح وقابل ذلك بقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96].

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: فَالِقُ الإِصْبَاحِ [سورة الأنعام:96]: "يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح، فيضيء الوجود ويستنير الأفق ويضمحل الظلام ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه".

وبعضهم يقول: أي أنه فالق عمود الفجر عن بياض النهار؛ لأن النهار يستنير بانفلاقه من عمود الفجر الذي يسمونه الفجر الصادق، فهو يبدو في أول ما يبدو مختلطاً بالظلام ثم بعد ذلك لا يزال ينبلج وينجلي حتى يصير أبيض خالصاً.

قوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96] أي: ساجياً مظلماً لتسكن فيه الأشياء كما قال تعالى: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [سورة الضحى:1-2].

وقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96] فيه قراءة أخرى هكذا (ساكناً) والمعنى واحد؛ لأن سكناً يعني ساكناً أو محل للسكن، فالله جعل الليل مظلماً من أجل أن ينقطع الناس من أشغالهم وكدهم وسعيهم وانتشارهم؛ فيسكنون في الليل ويستريحون من الكد والتعب وأعباء النهار، فهو يمتن بهذه الآية على خلقه أنه جعل الليل بهذه المثابة كما قال في الآية الأخرى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [سورة يونس:67] وقال أيضاً: وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ [سورة القصص:73].

وفي آية القصص هذه ذكر قضيتين ثم ذكر ما يتعلق بكل واحدة منهما على الترتيب الذي سبق، وهذا من باب ما يسمى باللف والنشر المرتب، فقوله: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ [سورة القصص:73] أي: لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار، والله أعلم.

وقابل ذلك بقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96] أي: ساجياً مظلماً لتسكن فيه الأشياء كما قال: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [سورة الضحى:1-2] وقال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ۝ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [سورة الليل:1-2] وقال: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [سورة الشمس:3-4].

وقوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [سورة الأنعام:96] أي: يجريان بحساب مقنَّن مقدر لا يتغير ولا يضطرب بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً.

في قوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [سورة الأنعام:96] قال: "يجريان بحساب مقنن مقدر لا يتغير" وهذا هو المعنى هو المتبادر والله أعلم، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله.

وبعضهم يقول: إن قوله: حُسْبَانًا مصدر حسبت، والاسم هو الحساب؛ لأنك تقول: حسبت حساباً، وبعضهم يقول: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [سورة الأنعام:96] أي: ضياءاً، ويحتجون لهذا بقوله -تبارك وتعالى: حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء [سورة الكهف:40] يعني النار، وقيل لها ذلك لإضاءتها، لكن الأقرب والله تعالى أعلم أن قوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [سورة الأنعام:96] أي: يجريان بحساب مقدر فيترتب على ذلك اختلاف الأوقات، وتحصل ألوان المنافع من الضياء، وبالتالي فإن من فسر ذلك بالضياء كأنه فسره باللازم، وحساب الأوقات يكون عن طريق الشمس والقمر، والله أعلم.

كما قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ الآية [سورة يونس:5] وكما قال: لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يــس:40] وقال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ [سورة النحل:12].

وقوله: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة الأنعام:96] أي: الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف، العليم بكل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

وكثيراً ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر بختم الكلام بالعزة والعلم كما ذكر فيه هذه الآية وكما في قوله: وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ۝ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة يــس:37-38]، ولما ذكر خلق السماوات والأرض وما فيهن في أول سورة حم السجدة، قال: وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة فصلت:12].

وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [سورة الأنعام:97]، قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه: أن الله جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر.

وقوله: قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ [سورة الأنعام:97] أي: قد بيّناها ووضحنها لقوم يعلمون، أي: يعقلون ويعرفون الحق ويتجنبون الباطل.

جعلها زينة للسماء ورجوماً للشياطين كما قال تعالى: وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا [سورة فصلت:12] وكما قال: بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ۝ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ۝ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ۝ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ [سورة الصافات:6-9] وقال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ [سورة الملك:5]، وكذلك أيضاً جعلها الله للاهتداء بها كما قال هنا: لِتَهْتَدُواْ بِهَا [سورة الأنعام:97] كما في هذه الآية، فهذه ثلاث فوائد للنجوم ذكرها الله تعالى في كتابه.

قوله: لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [سورة الأنعام:97] الظلمات تشمل ما يصدق عليه هذا اللفظ ابتداء وهي الظلمة المعروفة، ويدخل فيها المعنى الآخر الذي ذكره طائفة من السلف، أي إذا اختلطت عليهم السبل وخفيت عليهم الطرق وتاهوا فصاروا في عماية لا يهتدون، وكبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- حملها على المعاني الثلاثة، وهي اشتباه الطرق، والتباس السبل بحيث لا يعرف كيف يهتدي، وظلمة الليل، وبعبارة أخرى يدخل في الظلمات ظلمة الخطأ، وظلمة الضلال، وظلمة الليل، ويقول: إن الله لم يخص شيئاً من هذه المعاني ولذلك دخلت فيها جميعاً.

وقوله: ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [سورة الأنعام:97] أي: ظلمة الأرض والماء، فظلمة البر يعني ظلمة الأرض وظلمة البحر يعني ظلمة الماء، وكونه أضاف الظلمات إلى البر والبحر يمكن أن يكون ذلك باعتبار ملابسة الظلمة لهما.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب التيمم (328) (ج 1 / ص 128) وفي أبواب المساجد - باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً (427) (ج 1 / ص 168) وأخرجه أيضاً مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (521) (ج 1 / ص 370).
  2. هذه القصة أوردها الواحدي والقرطبي ونسباها لرواية الكلبي عن ابن عباس، والكلبي متهم بالكذب، وروايته ساقطة وللقصة أصل عند أبي داود والنسائي، انظر كتاب " تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن" (ج 1 / ص 133).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب كيف الحشر (6162) (ج 5 / ص 2391) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (2859) (ج 4 / ص 2194).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق (2958) (ج 4 / ص 2273).
  5. أخرجه البخاري في الأدب المفرد (557) (ج 1 / ص 196) والترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ باب 47 (2492) (ج 4 / ص 655) وحسنه الألباني رحمه الله.
  6. قد سبق أنه في صحيح مسلم في كتاب الزهد والرقائق (2958) (ج 4 / ص 2273).

مواد ذات صلة