الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(024-ب) قوله تعالى "لله ما في السموات وما في الأرض..." الآية 283 - إلى نهاية السورة
تاريخ النشر: ١٢ / شعبان / ١٤٣٧
التحميل: 1206
مرات الإستماع: 1315

"قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] الآية، مقتضاها المحاسبةُ على ما في نفوس العباد من الذنوب، سواءً أبدوه، أو أخفوه، ثم المعاقبةُ على ذلك لمن يشاء الله، أو الغفران لمن شاء الله، وفي ذلك إشكالٌ؛ لمعارضته لقول رسول الله ﷺ: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها[1]، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة "أنه لما نزلت شقَّ ذلك على الصحابة، وقالوا: هلكنا إن حوسبنا بخواطر أنفسنا، فقال لهم النبي ﷺ: قولوا: سمعنا وأطعنا[2]، فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فكشف الله عنهم الكُربة"، ونسخ بذلك هذه الآية، وقيل: هي في معنى كتم الشهادةِ وإبدائها؛ وذلك محاسبٌ به، وقيل: يحاسب الله خلقه على ما في نفوسهم، ثم يغفر للمؤمنين، ويعذب الكافرين والمنافقين، والصحيح: التأويل الأول؛ لوروده في الصحيح، وقد ورد أيضًا عن ابن عباس وغيره، فإن قيل: الآية خبر، والأخبارُ لا يدخلها النسخ، فالجواب: أن النسخ إنما وقع في المؤاخذة والمحاسبة؛ وذلك حكمٌ يصح دخول النسخ فيه، فلفظ الآية خبرٌ ومعناها حكم".

فقوله هنا: "وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] الآية، مقتضاها المحاسبةُ على ما في النفوس -نفوس العباد- من الذنوب، سواءً أبدوه، أو أخفوه، ثم المعاقبةُ على ذلك لمن يشاء الله، أو الغفران لمن شاء الله".

وفسر ابن جرير قوله: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] بقوله: فيُعرِّف مؤمنكم بعفوه عنه، ومغفرته له، فيغفره له، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانيةِ خالقه، ونبوة أنبيائه[3]، فعلى هذا المعنى الذي ذكره ابن جرير تكون الآية محكمة.

وابن جُزي يقول: "مقتضاها المحاسبةُ على ما في نفوس العباد من الذنوب، سواءً أبدوه أو أخفوه، ثم المعاقبةُ على ذلك لمن يشاء الله، أو الغفران لمن شاء الله، وفي ذلك إشكالٌ لمعارضته لحديث: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها[4]"، وذكر أنها لما نزلت شقَّ ذلك على الصحابة "وقالوا: هلكنا إن حوسبنا بخواطر أنفسنا، فقال لهم النبي ﷺ: قولوا: سمعنا وأطعنا[5] فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فكشف الله عنهم الكُربة" ونسخ بذلك هذه الآية.

لكن ابن جرير -رحمه الله- يرى أن هذه الآية محكمة، وليست منسوخة.

ويقول ابن جرير هنا أيضًا: أولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: إنها محكمة، وليست بمنسوخة[6].

ويقول النحَّاس: هذا لا يجوز أن يقع فيه نسخ؛ لأنه خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ[7]، إلا إذا كانت الصيغة خبرية، والمعنى إنشاء، يعني أمر أو نهي.

ويقول ابن رجب: لما نزل قول الله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] شقَّ ذلك على المسلمين، وظنوا دخول هذه الخواطر فيه، فنزلت الآية التي بعدها، وفيها قوله: رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286]، فبينت أن ما لا طاقة لهم به فهو غير مؤاخذ له، ولا مكلفٌ به.

يقول: وقد سمى ابن عباس وغيره ذلك نسخًا، ومرادهم: أن هذه الآية أزالت الإبهام الواقع في النفوس من الآية الأولى، وبينت أن المراد بالآية الأولى: العزائم المصمم عليها، ومثل هذا البيان كان السلف يسمونه نسخًا[8].

وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- فالراجح: أن هذا من قبيل البيان، وليس بنسخ بمعنى الرفع، والسلف كانوا يقولون لكل ما يعرض للنص من بيانٍ للمجمل، وتقييد للمطلق، وتخصيص للعموم، أن ذلك يسمونه نسخًا، فيقولون: نسختها الآية التي بعدها، ونسخها قوله كذا، يعني: بيّنها مثلًا، أو قيّدها، أو خصصها، ونحو ذلك، فهذا ليس برفع، وهي خبر، والأخبار لا يتطرق إليها النسخ.

والطاهر بن عاشور يقول: أحسنُ كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض، في شرحيهما لصحيح مسلم، وهو -مع زيادة بيان- أن ما يخطر في النفوس إن كان مجرد خاطر وتردد من غير عزمٍ، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، إذ لا طاقة للمكلف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها، وإن كان قد جاش في النفس عزمٌ، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتب عليها أفعالٌ بدنية، أو لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتب عليها أفعال، مثل: الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأن مما يدخل في طوق المكلف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتب عليها آثارٌ في الخارج، فإن حصلت الآثار، فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال، كمن يعزمُ على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختيارًا لغير مانعٍ منعه، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، وهو مورد حديث: من همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كُتبت له حسنة[9]، وإن رجع لمانعٍ قهره عن الرجوع، ففي المؤاخذة به قولان: أي إن قوله تعالى: يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] محمولٌ على معنى: يجازيكم، وأنه مجمل تبينه موارد الثواب والعقاب في أدلةٍ شرعيةٍ كثيرة، وإن من سمى ذلك نسخًا من السلف، فإن ما جرى على تسميةٍ سبقت ضبط المصلحات الأصولية -يعني قبل هذا الاصطلاح إطلاق النسخ على الرفع فقط- فأطلق النسخ على معنى البيان، وذلك كثيرٌ في عبارات المتقدمين، وهذه الأحاديث، وما دلت عليه دلائل قواعد الشريعة هي البيان لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:284] في قوله: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:284][10].

فهذه الآية على كل حال محكمة، وليست بمنسوخة، وهذا رواية عن ابن عباس -ا- وبه قال جماعة من السلف كالربيع، والحسن، والضَّحاك[11].

فالمقصود أن قولهم: إنها منسوخة، أو نسخها قوله في هذه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] هذا من قبيل البيان، وأن قوله: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] يعني: فيما يجري فيه الحساب، من الإيمان، والكفر، والنفاق، والشك، والأعمال القلبية، والخوف، والرجاء، والمحبة، وما إلى ذلك، والأعمال القلبية المحرمة أيضًا، مثل: الحسد، والغل، وسوء الظن بالله -تبارك وتعالى- أو سوء الظن بالناس -فهذا كله لا يجوز- فهذا يُحاسب عليه الإنسان، أما الخواطر التي تعرض فهذه لا يد للإنسان فيها، ولا يؤاخذ عليها، لكن هو مُطالب بدفعها، وألا يسترسل معها -والله أعلم-.

فيقول هنا: "فأنزل الله بعد ذلك: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فكشف الله عنهم الكربة، ونسخ بذلك هذه الآية" والقول بالنسخ مروي عن جماعة من السلف: كابن مسعود، وعائشة، وأبي هريرة، والشعبي، وعطاء، وابن سيرين، ومحمد بن كعب[12]، لكن كما سبق أن هذا ليس بالضرورة أن النسخ بمعنى الرفع، ولكن يأتي بمعنى البيان، وفي الحديث: أنه لما شقَّ عليهم فيه، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، هذا في بعض ألفاظ الحديث هكذا: فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286][13]، فيكون ذلك بمعنى: بين الإجمال الذي فيها.

يقول: "وقيل: هي في معنى كتم الشهادة" يعني أنها متصلة بما سبق "وذلك مُحاسبٌ به"، وهذا قال به جماعة: كابن عباس، وعكرمة، والشعبي، ومجاهد[14]، واختاره ابن جرير[15]، قالوا: إنها متصلة بالشهادة، وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:286] أن هذا يتعلق بالشهادة، وعليه فلا نسخ أيضًا، وخصصها مجاهد بما يرد على النفوس من الشك واليقين[16]، يعني: هذا يُحاسب به الإنسان، فليس هناك نسخ على هذا التخصيص.

وقيل: "ذلك يختص بالكفار والمنافقين" وهذا لا دليل عليه.

وعلى كل حال الإنسان يؤاخذ ويحاسب على بعض ما تنطوي عليه النفوس، كما سبق مما يدخل تحت طوقه، والله أعلم.

"فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ [البقرة:284] قُرأ بجزمهما عطفًا على: يُحَاسِبْكُمْ بِهِ [البقرة:284]، وبرفعهما على تقديرِ: فهو يغفر".

يَغْفِرُ ويُعَذِّبُ بالرفع، قراءة متواترة، قرأ بها ابن عامر وعاصم، كما نقرأ، وقراءة الجمهور بالجزم[17]، عطفًا على يُحَاسِبْكُمْ يعني باعتبار أنها جواب شرط، فعُطف عليه فَيَغْفِر، ويُعَذِّب معطوف على المجزوم.

"آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285] سببها ما تقدم في حديث أبي هريرة لما قالوا: سمعنا وأطعنا، مدحهم الله بهذه الآية، وقدَّم ذلك قبل كشف ما شقَّ عليهم، وَالْمُؤْمِنُونَ عطفٌ على الرَّسُولُ أو مبتدأ، فعلى الأول يُوقف على الْمُؤْمِنُونَ، وعلى الثاني يُوقف على من مِنْ رَبِّهِ، والأول أحسن".

يعني وَالْمُؤْمِنُونَ عطفٌ على الرَّسُولُ، يعني آمنوا، أو مبتدأ، فعلى الأول: يُوقف على الْمُؤْمِنُونَ، وعلى الثاني: يُوقف على مِنْ رَبِّهِ.

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285] وَالْمُؤْمِنُونَ هذا يكون مبتدأ، أي: وَالْمُؤْمِنونَ آمنوا، أو وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ... [البقرة:285] إلى آخره، يقول: "والأول أحسن" وهذا صحيح، أنه معطوف على الرَّسُولُ، آمَنَ الرَّسُولُ، وَالْمُؤْمِنُونَ آمنوا، يعني: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285] كذلك، فيكون معطوفًا على الرَّسُولُ.

"كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة:285] إن كان الْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285] معطوفًا، فـكُلٌّ عمومٌ في الرسولِ والمؤمنين، وإن كان مبتدأ فـكُلٌّ عمومٌ في المؤمنين".

يتكلم عن كُلٌّ في الآية، إن كان الْمُؤْمِنُونَ معطوفًا، فـكُلٌّ عمومٌ، "إن كان الْمُؤْمِنُونَ معطوفًا يعني على الرَّسُولُ فـكُلٌّ عمومٌ في الرسولِ والمؤمنين" يعني آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ معطوف على الرَّسُولُ يعني آمنوا، كُلٌّ أي الرَّسُولُ، وَالْمُؤْمِنُونَ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ... إلى آخره، كُلٌّ يعني من النبي ﷺ والمؤمنون، تكون بهذا الاعتبار عموم في الرسول والمؤمنون.

"وإن كان مبتدأ يعني وَالْمُؤْمِنُونَ مبتدأ، آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ يعني كُلٌّ من المؤمنين، عمومٌ في المؤمنين، ووحد الضمير في آمَنَ يعني لم يقل: كُلٌّ آمنوا، على معنى أن كل واحد منهم آمن، وإن الإيمان يتعلق بكل واحدٍ على سبيل الاستقلال، يعني الإيمان ليست قضية مطلوبة من المجموع، وإنما من كل فرد كُلٌّ آمَنَ، فجاء التعبير بالمفرد آمَنَ ولم يقل: كُلٌّ آمنوا، وإنما قال: كُلٌّ آمَنَ، كما قال: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] يعني: كل نفس، فكل نفسٍ مُطالبة بالمحاسبة.

"كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة:285]، إن كان الْمُؤْمِنُونَ معطوفًا فـكُلٌّ عمومٌ في الرسولِ والمؤمنين، وإن كان مبتدأ فـكُلٌّ عمومٌ في المؤمنين، ووحد الضمير في آمَنَ على معنى أن كل واحدٍ منهم آمن، وَكُتُبِهِ قُرأ بالجمع، أي كل كتابٍ أنزله الله، وقُرأ بالتوحيد يريد القرآن أو الجنس".

قُرأ بالجمع وَكُتُبِهِ كما نقرأ، وهذه قراءة الجمهور، وبالإفراد وَكِتَابِهِ، فهذا قراءة حمزة، والكسائي[18]، فهنا "وَكُتُبِهِ بالجمع أي كل كتابٍ أنزله، قُرئ بالتوحيد، يريد القرآن، أو الجنس" جنس الكتب، يعني يكون المعنى واحد على أنها للجنس وَكِتَابِهِ؛ لأن الكتب جمع، وَكِتَابِهِ الكتاب مفرد أُضيف إلى معرفة، التي هي الهاء الضمير في كِتَابِهِ وهذه الإضافة تُكسبه العموم، يعني هي بمعنى كُتُبِهِ فإضافة ذلك إلى المعرفة إلى الضمير يُكسبه العموم، فيكون المعنى واحد في القراءتين، ولا حاجة إلى أن يُقال: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكِتَابِهِ [البقرة:285] يعني: القرآن مثلًا، فهي بمعنى القراءة الأخرى، أي سائر الكتب.

"لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285] التقدير: يقولون: لا نُفَرِّقُ والمعنى: لا نفرق بين أحدٍ من رسله وبين غيره في الإيمان، بل نؤمن بجميعهم، ولسنا كاليهود والنصارى، الذين يؤمنون ببعضٍ، ويكفرون ببعض، وقالوا: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا حكايةُ قول المؤمنين على وجه المدح لهم، غُفْرَانَكَ مصدر، والعاملُ فيه مضمر، ونصبه على المصدرية، تقديره: اغفر غُفْرَانَكَ وقيل: على المفعولية، تقديره: نطلبُ غُفْرَانَكَ".

غُفْرَانَكَ يعني: يحتمل اغفر مغفرتك، أو نطلب مغفرتك، يعني إذا كان على تقدير: اغفر، فهذا على المصدر، غفران، وإذا كان على المفعولية يكون مفعول به، نطلب غُفْرَانَكَ مفعول به منصوب على المفعولية.

"وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] إقرارٌ بالبعث مع تذللٍ وانقياد، وهنا تمت حكايةُ كلام المؤمنين،

 لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] إخبارٌ من الله تعالى برفع تكليف ما لا يُطاق، وهو جائزٌ عقلًا عند الأشعرية، ومحالٌ عقلًا عند المعتزلة".

ماذا يقصد هؤلاء المتكلمين؟ وإلا فلسنا بحاجةٍ إليهم، ولا إلى كلامهم، لكن إذا ابتُلينا بإيراد شيئًا من عقائدهم، فلا بد من بيان المراد، مع بيان الحق في ذلك، يقول: "وهو جائزٌ عقلًا عند الأشعرية"، يقصدون بجائز عقلًا يعني: تكليف ما لا يُطاق، فيجوز عقلًا عندهم -الأشاعرة- أن يكلف الله عباده بما لا يطيقون، لكن ممتنع شرعًا؛ لأن الله أخبر أنه لا يقع لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فهذه الآية تدل على أنه شرعًا لم يقع، لكن من الناحية العقلية هل يجوز أن يكلف عباده بشيءٍ لا يُطاق؟ ويأمرهم بشيءٍ لا يطيقونه؟ الأشاعرة يقولون: نعم، جائز عقلًا، فالعقل يُجوز هذا، من الناحية العقلية مُتَصور، لكن الله أخبر أنه لا يكلفُ عباده ما لا يطيقون.

يقول: "ومحالٌ عند المعتزلة"، والمعتزلة لماذا هو مُحال عندهم؟ لأنهم يوجبون على الله عقلًا فعل الأصلح، يعني المعتزلة يقيسون الله على الخلق، فيقولون: يجب عليه كذا، ويمتنع عليه كذا، فيقولون: تكليف ما لا يُطاق ظلم، فهذا ممتنع أصلًا على الله، فهم باعتقادهم هذا الفاسد لما قاسوا الخالق على المخلوقين، قالوا: يجب عليه كذا، ويمتنع عليه كذا، فأوجبوا عليه فعل الأصلح، هذه عقيدة المعتزلة.

"لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] إخبارٌ من الله تعالى برفع تكليف ما لا يُطاق، وهو جائزٌ عقلًا عند الأشعرية، ومحالٌ عقلًا عند المعتزلة، واتفقوا على أنه لم يقع في الشريعة.

لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:286] أي: من الحسنات، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا [البقرة:286] أي من السيئات".

يعني يقولون: اكْتَسَبَتْ في زيادة حرف، وزيادة المبنى لزيادة المعنى، أن الحسنة تحصل للعبد بأدنى سبب، من همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كُتبت له حسنة[19]، يعني بمجرد الهم، ومن همَّ بسيئة أيضًا فلم يعملها كُتبت له حسنة[20]، لكن السيئة لا تُكتب بمجرد الهم، تحتاج إلى أكثر من هذا، إلى عزمٍ مصمم كما في الحديث: فالقاتل والمقتول في النار قال فقلت: أو قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه قد أراد قتل صاحبه[21]، فصارت المؤاخذة على العزم المصمم، صار المقتول في النار بهذا الاعتبار، وتحتاج أيضًا إلى عملٍ في الخارج، عمل واقعي غير العزم المصمم، يؤاخذ على العزم المصمم، وكذلك أيضًا حينما لا يُؤاخَذ على الهم هو يؤاخَذ على الأعمال التي تصدر عنه، أما في الحسنات فيُجزى على مجرد الهم، ويُثاب على مجرد الهم، وبأدنى تسبب، وقد يكون الأجر على أثر الأعمال، ومن دلَّ على هدى كان له مثل أجور من تبعه، وهكذا الآثار ما يُصيب الإنسان من اللأواء والشدة والتعب، مما لا يكون بكسبه، كما ذكر الله -تبارك وتعالى- في الجهاد والمجاهدين في سبيله، ذكر الأعمال التي ليست من كسبهم ظَمَأٌ، نَصَبٌ، مَخْمَصَةٌ[التوبة:121]، وذكر الأعمال التي هي من كسبهم وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا [التوبة:121]، فهذه أعمال من كسبهم، فذكر هذا وهذا، فكذلك النبي ﷺ ذكر المائد في البحر، الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، وذكر في الغريق أنه شهيد، والحريق، والهدم، والمبطون، ونحو ذلك، وهذه ليست من كسب الإنسان، وذكر ما يصيب الإنسان من الهم، والنصب، والوصب، حتى الشوكة، كل هذا يكفَّر به من سيئاته، ومن تتبع النصوص وجد أن ما يصيب الإنسان من المكروه أنه يحصل له به أيضًا رفعة درجات، فهنا قال: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا [البقرة:286] فزاد حرفًا في اكتساب السيئات ليدل على أنها ليست بمجرد الهم، وإنما تحتاج إلى مزاولة أكثر حتى يُعاقب عليها، وتُحسب عليه، وهذا من رحمة الله بعباده.

"وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] أي من السيئات، وجاءت العبارة بـلَهَا في الحسنات؛ لأنها مما ينتفعُ العبد به، وجاءت بـ،عَلَيْهَا في السيئات؛ لأنها مما يضر بالعبد، وإنما قال في الحسنات كَسَبَتْ وفي الشر -وفي النسخة الخطية: السيئات- اكْتَسَبَتْ؛ لأن في الاكتسابِ ضربًا من الاعتمال والمعالجة، حسبما تقتضيه صيغة (افتعل)، فالسيئات فاعلها يتكلفُ مخالفةَ أمر الله ويتعداه، بخلاف الحسنات، فإنه فيها على الجادة من غير تكلف؛ أو لأن السيئات يجدُّ في فعلها لميل النفس إليها، فجُعلت لذلك مكتسبة، ولمَّا لم يكن الإنسانُ في الحسنات كذلك، وُصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال".

يعني بأدنى تسبب، يُثاب ولو بالهم.

"رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] أي: قولوا ذلك في دعائكم، ويحتمل أن يكون ذلك من بقية حكايةِ قولهم".

قولوا ذلك، يعني: يكون تعليمًا من الله لعباده، كيف يقولون، فيكون الكلام انتهى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا [البقرة:286] ثم علمهم كيف يقولون، رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].

"ويحتمل أن يكون ذلك من بقية كلامهم" آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] ويكون لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:286] مُعترض من كلام الله بين قولهم الأول والأخير.

"رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] أي: قولوا ذلك في دعائكم، ويحتمل أن يكون ذلك من بقية حكايةِ قولهم، كما حكى عنهم قولهم: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285]، والنسيان هو الذهولُ الغالبُ على الإنسان، والخطأُ غير العمد، فذلك معنى قوله ﷺ: رُفع عن أمتي الخطأُ والنسيان[22]".

هو لا يثبت بهذا اللفظ، وإنما هو بلفظ: إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه[23] تجاوز، وليس رُفع.

هنا في قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا [البقرة:286] على الاحتمالين باعتبار أنه من كلام الله يكون تعليمًا للمؤمنين كيف يقولون، يكون على الاحتمالين من: الموصول لفظًا المفصول معنًى، "أي قولوا ذلك في دعائكم".

ويقول: "النسيان هنا أي في رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا هو الذهول" لأن النسيان يأتي بمعنى الترك، نَسُوا اللَّهَ [الحشر:19] أي: تركوا ذكره وطاعته، والإيمان به فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19]، وقوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا [البقرة:286] ليس معناها تركنا طاعتك، وتركنا العمل بما أمرتنا به، ليس هذا المراد بالنسيان هنا، وإنما الذهول نَسِينَا ذهاب المعلوم يُقال له النسيان، يقول الفرق بين النسيان والسهو:

ذهابُ ما عُلم قُل نسيانُ والعلمُ في السهوِ له اكتنانُ[24]

يعني السهو مثل سبق اللسان، يسهو الإنسان عن شيءٍ مُختزن عنده، لكن لضعف الإنسان يحصل له سهو، ولكن النسيان أن يذهب المعلوم من الذهن رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا [البقرة:286]، فلو أكل أو شرب ناسيًا لصومه فصومه صحيح، من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها[25]، فهذا لا يؤاخَذ عليه الإنسان.

"وقد كان يجوز أن يؤاخَذ به لولا أن الله رفعه".

"يجوز أن يؤاخذ به" يعني يجوز عقلًا المؤاخذة بالنسيان، لكنَّ الله رفع ذلك.

"وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا [البقرة:286] التكاليف الصعبة".

الإصر: يُقال للعبء الثقيل، الذي يأصر صاحبه، يعني يحبسه مكانه لثقله، والمقصود بذلك التكاليف الشاقة، وبعضهم يقول: العهد وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران:81]، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[26]، يعني قوله: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] على قول ابن جرير: العهد الثقيل، وكأن المعنى يرجع إلى ما سبق أيضًا يعني تكاليف شاقة، أو العهد الثقيل الشاق بتكاليف شاقة، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [الأعراف:157] يعني التكاليف الشاقة.

"وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا [البقرة:286] التكاليف الصعبة، وكانت قد كُلفت لمن تقدم من الأمم كقتل أنفسهم، وقرض أبدانهم، ورُفعت عن هذه الأمة، قال تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [الأعراف:157]".

يعني بنو إسرائيل في توبتهم من عبادة العجل أُمروا أن يقتلوا أنفسهم، بأن يقتل بعضهم بعضاً فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54] فهذه توبتهم، ورُفع هذا عن هذه الأمة، فيندم الإنسان، ويعزم ألا يرجع إلى الذنب، ويُقلع عنه، فهذه التوبة، وهكذا القرض للأبدان، ونحو ذلك، يعني مثلًا: في مسائل الطهارات اليهود يبالغون في هذا، فيُقطع الثوب الذي أصابه النجاسة مثلًا، والنصارى لا يتنزهون من النجاسات، فجاءت هذه الأمة وسطًا، فتُطهر النجاسة بالماء، ولا يحتاج إلى قطع، ولا غيره.

"وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [الأعراف:157] وقيل: الإصر المسخُ قردةً وخنازير، وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286] هذا الدعاءُ دليلٌ على جواز تكليف ما لا يُطاق؛ لأنه لا يُدعى برفع ما لا يجوز أن يقع، ثم إن الشرع رفع وقوعه، وتحقيقُ ذلك أن ما لا يُطاق أربعةُ أنواع".

يقصد بـ(يجوز) يعني عقلًا، وهو الكلام الذي نقله عن الأشاعرة، وأن المعتزلة قالوا: هذا مُحال.

ثم النسخة الثانية: إن الشرع...

الطالب: موجودة في الهامش -يا شيخ- أيضًا هذه.

دفع وقوعه، أو رفع وقوعه، لا إشكال، لكن (دفع) كأنها أقرب باعتبار أنه لم يقع، والرفع يكون لشيءٍ واقع، فدفع ربما تكون أليق.

"وتحقيقُ ذلك أن ما لا يُطاق أربعةُ أنواع:

الأول: عقليٌ محض، كتكليف الإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن، فهذا جائزٌ، وواقع بالاتفاق".

عقليٌ محض، يعني كالتكليف بما لا يُطاق، كالتكليف بالإيمان لمن علم أنه لن يؤمن، مثل أبو لهب، هو مُطالب بالإيمان، لكن علم الله أنه لن يؤمن، لا هو ولا امرأته؛ لأن الله قال: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3] قالها عنه وهو حي، فدل على أنه يموت على الكفر، وفعلًا لم يؤمن، آمن كثير من كبراء المشركين: كأبي سفيان، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وأمثال هؤلاء، ولم يؤمن أبو لهب، ولا امرأته، يقول: "كتكليف الإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن، فهذا جائزٌ وواقع" يعني: جائزٌ عقلًا، وواقعٌ شرعًا.

"والثاني: عاديٌ، كالطيران في الهواء".

فما لا يُطاق إما أن يكون عقلي، حتى الامتناع يقولون: في امتناع عقلي، وفي امتناع عادي، وفي امتناع شرعي، ثلاث أنواع.

وهنا يتحدث عن ما لا يُطاق، إما عقلًا من الناحية العقلية، أو عادي يعني: في مجاري العادات، كالطيران في الهواء، لو كُلف الإنسان أن يطير كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] يعني: يحاول الصعود ولا يستطيع، فهذا ممتنع عادةً، مثل وجود الولد من غير زواج ممتنع عادةً، وجود الثمر من غير شجر، ومن غير زرع هذا ممتنع عادةً، لكن يمكن أن يوجد، يعني مريم -رحمها الله- جاءها الولد من غير زواج، وكان يأتيها الرزق والثمر، ونحو ذلك من غير زرع أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37]، قيل: كانت تأتيها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، كما سيأتي -إن شاء الله- في سورة آل عمران.

"والثالث: عقليٌ وعادي، كالجمع بين الضدين، فهذان وقع الخلاف في جواز التكليف بهما، والاتفاق على عدم وقوعه".

جواز التكليف يعني الجواز العقلي، إنه جائز عقلًا، هل يجوز أو لا يجوز؟ والاتفاق على عدم الوقوع يعني من الناحية الشرعية، فإذا رأيتم في كتب الأصول أن المتكلمين يقالون: هذا جائز، فيقصدون الجواز العقلي، فهذا الذي لا يُطاق عقلًا وعادةً، كالجمع بين الضدين، مثل الضدان: ما لا يجتمعان في وقت واحد في ذاتٍ واحدة، ويمكن ارتفاعهما، فالجمع بينهما ممتنع، وكذلك الجمع بين النقيضين -فهو أشد- لا يجتمعان، ولا يرتفعان، لا بد من وجود واحد منهما، فالجمع بين الضدين، والجمع بين النقيضين، مثل: الوجود والعدم هذان نقيضان، والليل والنهار هذان نقيضان، والحياة والموت نقيضان، فهذا جمعٌ بين النقيضين، الجمع بين الضدين قلنا: لا يجتمعان، ويمكن ارتفاعهما، مثل لو أراد الإنسان يجمع بين القيام والقعود مثلًا، فهذا ممتنع، جمعٌ بين الضدين، لو أراد أن يجمع بين الحركة والسكون هذا جمعٌ بين النقيضين، لا يجتمعان ولا يرتفعان، يعني: إما ساكن، وإما متحرك، فلو كُلف بأن يكون ساكنًا متحركًا في آنٍ واحد، ما يستطيع، فكيف يكون بين ساكن ومتحرك؟! أن يجمع بين القيام والقعود في آنٍ واحد، قائم قاعد ما يمكن، إما قائمًا أو قاعدًا فهذان ضدان، وتلاحظون أن مثل هذه الأمثلة مُتكَلفة، وإنما يشتغل بذلك أهلُ الكلام، أما السلف فهم أبعد ما يكونون عن هذا الجدل والاشتغال، يكفيهم قول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] انتهى، بعيدًا عن هذه التكلفات.

"والرابع: تكليفُ ما يشقُ ويصعب، فهذا جائزٌ اتفاقاً".

يعني عقلًا.

"فقد كلفه الله من تقدم من الأمم، ورفعه عن هذه الأمة".

فهو جائز وواقع في الأمم السابقة، ورُفع أو دُفع عن هذه الأمة، ولاحظ هنا التعبير بالرفع هو موافق للعبارة الأولى -التي عدَّلناها- ثم إن الشرع رفع وقوعه، وقلنا: إن دفع أقرب وأدق، وهنا "ورفعه عن هذه الأمة" باعتبار أنه وقع على الأمم السابقة، فرُفع عن هذه الأمة، بناءً على لفظ: "رُفع عن أمتي الخطأ" لكنها لا تثبت والثابت لفظ: إن الله قد تجاوز عن أمتي[27]، يعني المقصود "تكليف ما يشقُ ويصعب" يعني ما كان فيه مشقة بالغة، كالآصار التي كانت على من قبلنا، والتكاليف الشاقة الصعبة، أما المشقة العارضة في التكليف المحتملة، فهذا لا يكاد يخلو منه عمل: كالطهارة، والضوء على المكاره، والصلاة، والمشي للصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، فكل هذا تكاليف لا تخلو من مشقة، لكنها مشقةٌ محتملةٌ.

"وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا [البقرة:286] ألفاظٌ متقاربةُ المعنى، وبينها من الفرق: أن العفو تركُ المؤاخذة بالذنب، والمغفرةَ تقتضي مع ذلك الستر، والرحمة تجمع ذلك مع التفضل بالإنعام".

"العفو بمعنى ترك المؤاخذة بالذنب" من المحو، تقول: عفت الريح الأثر، فتُمحى عنه هذه الذنوب والخطايا، لا يؤاخذ عليها، والغفر فيه معنى التجاوز، يعني: أن لا يقع عليه تبعة بسبب هذا الذنب، بالإضافة إلى الستر، فهذا الغفر، قلنا من ذلك يُقال: المغفر، وهو ما يلبسه المقاتل على رأسه مما يقيه الضرب بالسلاح، ويستر رأسه، فيكون الغفر وقاية وستر اغْفِرْ لَنَا [البقرة:286].

فيكون الغفر والعفو من باب التخلية، والرحمة من باب التحلية، فبالرحمة يحصل له الألطاف الربانية، والإنعام، والإفضال، ودخول الجنة لن ينجي أحداً منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته[28]، فالعفو والتجاوز، والغفر، كذلك أيضًا مع الستر، والرحمة يكون بها دخول الجنة، ونزول الألطاف الربانية.

"مَوْلانَا [البقرة:286] ولينا وسيدنا".

المولى: الولي، والسيد، الناصر، ونحو ذلك، هذا آخر سورة البقرة.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يبارك لنا ولكم بالقرآن العظيم، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكِّرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.

اللهم اشف مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، واغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.

الأسئلة:

طيب إذا كان لديكم سؤال:

س: هذا يقول: هل من اللازم عدم كتم الشهادة أن يتقدم المرء من تلقاء نفسه، أم يلزمه عدم الكتمان إذا طُلب منه أدائها؟

ج: إذا طُلب منه أدائها يجب عليه أن يؤديها، لكن إذا ما طُلب منه، يوجد آخرون، أو يثبت الحق بأمور أخرى لا تحتاج إلى شهادته، فلا يجب عليه، يعني يشهدون، ولا يُستشهدون[29]، ذُكر في توجيهه يشهدون قيل: حيث يُستغنى عن شهادتهم، لكن لجرأتهم يُقدمون على الشهادة ولم تُطلب منهم، ولم تقم الحاجة إليها، لكن لو كان عند الإنسان شهادة لا يعلم بها صاحب الحق، وسيضيع الحق إن لم يشهد بها، فهنا يجب عليه أن يشهد، ولو لم يُطلب، يعني: قد يكون عنده شهادة في أمرٍ يضيع فيه الحق، وصاحب الحق لا يعلم أن هذا لديه هذه الشهادة، فيجب عليه أن يشهد في هذه الحالة.

س:....

ج: اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54]، تكلمنا عليها من قبل، يعني: فليقتل بعضكم بعضًا، فنزَّل النفوس منزلة النفس الواحدة؛ لأن النفوس مجتمعة على ملة ودين كالنفس الواحدة، يعني مثل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] يعني: لا يأكل بعضكم مال بعض، وهكذا.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر برقم: (127).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} [البقرة:284] برقم: (125).
  3. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/147).
  4. سبق تخريجه.
  5. سبق تخريجه.
  6. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/143).
  7. الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:274).
  8. تفسير ابن رجب الحنبلي (1/199).
  9. التحرير والتنوير (3/130).
  10. لم أعثر عليه بهذا اللفظ، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب برقم: (130) بلفظ: ((ومن هم بسيئة فلم يعملها، لم تكتب، وإن عملها كتبت)).
  11. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/574).
  12. تفسير ابن كثير ط العلمية (1/567).
  13. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} [البقرة:284] برقم: (125).
  14. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/572).
  15. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/128).
  16. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/141).
  17. السبعة في القراءات (ص:195) ومعاني القراءات للأزهري (1/237).
  18. السبعة في القراءات (ص:195) ومعاني القراءات للأزهري (1/238).
  19. سبق تخريجه.
  20. سبق تخريجه.
  21. أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما برقم: (2888).
  22. لم نعثر عليه بهذا اللفظ.
  23. أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي برقم: (2043) وصححه الألباني.
  24. شرح نظم الورقات (27/14).
  25. أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكر، ولا يعيد إلا تلك الصلاة برقم: (597) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها برقم: (680).
  26. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (10/496).
  27. سبق تخريجه.
  28. أخرجه أحمد ط الرسالة (15/516-9831) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  29. أخرجه البخاري في كتاب أصحاب النبي -ﷺ، باب فضائل أصحاب النبي ﷺ برقم: (3650) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى- عنهم باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم برقم: (2535).

مواد ذات صلة