الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(003-أ) من قوله تعالى (ذرية بعضها من بعض..) الآية 34 – إلى قوله تعالى (كذلك الله يفعل ما يشاء..) الآية 40
تاريخ النشر: ٠٥ / محرّم / ١٤٣٨
التحميل: 1130
مرات الإستماع: 1259

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:

فيقول الإمام ابن جُزي الكلبي عند قوله تعالى:

"ذُرِّيَّةً بدلٌ مما تقدم، أو حالٌ، ووزنه: فُعلية، منسوبٌ إلى الذر؛ لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، وغُير أوله في النسب، وقيل: أصل ذرية: ذرورة، وزنها: فعولة، ثم أٌبدل من الراء الأخيرة ياء، فصار: ذُرويةً، ثم أُدغمت الواو في الياء، وكُسرت الراء، فصارت: ذرية".

قوله: "ذُرِّيَّةً بدلٌ مما تقدم" المقصود: آدم، وما عُطف عليه، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33] فيكون بدلًا منه، أو يحتمل أن يكون من نوح، باعتبار أن نوحًا هو آدم الثاني، أو آدم الصغير، كما يقولون، فإن كل من جاء بعده فهو من ذريته وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات:77]، ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء:3]، وبعضهم نظر إلى هذا، فقال: إن ذرية هو بدلٌ من نوح، ولكن الأول أظهر منه -والله تعالى أعلم-.

ويحتمل أن يكون من آل إبراهيم وآل عمران، فتكون آل إبراهيم وآل عمران ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34] فيكون بدلًا منه، يقول: "أو حال" يعني منهم أيضًا، حال كونهم ذرية، والتقدير: اصطفاهم حال كونهم متناسلين، بعضهم من بعض.

يقول: "ووزنه فُعلية منسوبٌ إلى الذر" هذا أحد الأقوال في وزنه، وفي نسبته، أو اشتقاقه، الذرية من أين اشتُق؟ نسبة إلى ماذا؟ قال: "لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، وغُير أوله في النسب" يعني بضم أوله: ذُرية، ذَر مفتوح الأول، ذُرية مضموم الأول، فغُير في النسب، يعني النسبة إلى الذَر تقول: ذُري، وذُرية، فالياء للنسب، تقول: في النسبة إلى مكة مكي، فيقول: "وغُير أوله في النسب" يعني بضم أوله، وقيل: "أصلُ ذرية ذرورة" -هكذا قال بعضهم- "ووزنه فعولة، ثم أُبدل من الراء الأخيرة ياءً فصارت: ذروية، ثم أُدغمت الواو في الياء، وكُسرت الراء فصارت: ذرية" فهذان قولان في وزنه، وقيل غير ذلك، فبعضهم يقول: مشتقٌ من ذروت، ووزنها: فُعُّولة، والأصل ذرورة، يقولون: اجتمع واوان: الأولى: زائدة للمد، والثانية: لام الكلمة، يعني الحرف الأخير في الكلمة، وقُلبت لام الكلمة ياء تخفيفًا، فصار اللفظ: ذرية، قبل ذلك: ذروية، فاجتمع واو وياء، وسُبقت الأولى بالسكون، فقُلبت الواو ياءً، وأُدغمت الياء في الياء، وكُسر ما قبل الياء للمناسبة.

أو يكون وزنها: فُعيلة، والأصل: ذريوة، فأُعلَّت إعلال ما تقدم، وبعضهم يقول: مشتقة من ذريت، الأول: ذروت، والثاني: ذريت، ووزنها: فُعُّولة، أو فُعِّيلة، فإن كانت: فُعُّولة، فالأصل: ذروية، فأُعلَّت، وإن كانت: فُعِّيلة، فالأصل: ذريْيَة، بياءين، الأولى ساكنة، والثانية مفتوحة، فأُدغمت الياء الزائدة في لام الكلمة: ذرية.

وبعضهم يقول: إنه مشتق من ذرأ الله الخلق، ووزنها: فُعِّيلة، والأصل: ذريئة بالهمز، من ذرأ، فخففت الهمزة، فأُبدلت ياءً، ثم أُدغمت الياء الزائدة في الياء المُبدلة من الهمزة.

وبعضهم يقول: مشتقة من الذر -كما ذكر المؤلف- لكن على القول: بأنها مشتقة من الذر اختلفوا في وزنها، فبعضهم يقول وزنها: فُعِّيلة، والياء للنسب، وغيروا الذال من الفتح في "ذَرَّ" إلى الضم "ذُرية"، أو تكون الياء لغير النسب: كقُمرية، ذرية منسوب إلى الذر، وتكون الياء للنسب، لكن "قُمرية" هذا اسمها وهو الطائر المعروف، قُمرية، ليست منسوبة إلى القمر، أو نحو ذلك، وإنما هذا اسمها مرتجل، فبعضهم يقول: يحتمل أن تكون الياء هذه لغير النسب، وبعضهم يعني ممن يقولون: بأنها من الذر يقول: وزنها فُعِّيلة، الأول: فُعلية، والثاني: فُعِّيلة، ويقولون: إن الأصل ذريرة، قُلبت الراء الأخيرة ياءً لتوالي الأمثال، فصار: ذرية.

وبعضهم يقول: هي على وزن فُعُّولة، والأصل: ذرورة، قُلبت الراء الأخيرة ياء لتوالي الأمثال، فصار: ذروية، فأُعِلَّ الإعلال المتقدم، وبعضهم يقول: على وزن فعلولة، والأصل: ذرورة، قُلبت الراء الأخيرة ياءً لتوالي الأمثال، فصار: ذروية، وأُعلَّ الإعلال المتقدم، فتلاحظ كثرة هذا الاختلاف في اشتقاق هذه اللفظة، وفي وزنها، لكن على كل حال الذرية لا تخفى، لكن لما ذكر هنا الوزن والاشتقاق ذكرت ذلك، والمقصود بقوله: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ قال ابن عطية: أي متشابهين في الحال والدين[1]، وهذا أصبح يُستعمل استعمال الأمثال المرسلة، يعني أصبحت هذه الجملة تستعمل استعمال المثل، فتجري على الألسن، فتجد الناس يقولون هذا في المناسبات إذا رأوا صلاحًا في الأولاد قد تبع صلاح الآباء قالوا: ذرية بعضها من بعض، يعني أنهم يتشابهون في الحال والدين.

"إِذْ قَالَتِ [آل عمران:35] العامل فيه محذوف، تقديره: اذكروا، وقيل: عليم، وقال الزَّجاج: العامل فيه معنى الاصطفاء[2].

هو دائمًا إذا جاء مثل هذا -كما ذكرنا في بعض المناسبات- إِذْ قَالَتِ فهو متعلقٌ بمقدرٍ محذوف: واذكر، أو واذكروا إِذْ قَالَتِ، وبعضهم يقول: إنه متعلقٌ بما قبله وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ إِذْ قَالَتِ متعلق بما قبله، يقول: "وقال الزَّجاج: العامل فيه معنى الاصطفاء" إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا [آل عمران:33] إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ [آل عمران:35].

"امْرَأَةُ عِمْرَانَ [آل عمران:35] اسمها حَنَّة بالنون، وهي أم مريم، وعمران هذا هو والدُ مريم -وفي النسخة الخطية-: وعمران هنا هو والد مريم".

لا بأس، ما يؤثر.

أما قوله: بأن اسمها حَنَّة، فهذا لم يرد فيه دليل يُعتمد عليه، وإنما يُتلقى ذلك من أخبار بني إسرائيل، وهذا الذي يسمونه: المبهمات، الذي ألف فيه جماعة: كالسُهيلي، وغيره، وقد تكلمنا على هذا في الكلام على كتب التفسير، وذكرت هناك بأن هذه المبهمات لا فائدة من البحث وراءها، ومن تتبعها، وأن ذلك الذي أُبهم سواءً من المواضع، أو من الذوات، أو من الأزمنة أنه لا فائدة من معرفته؛ ولهذا أبهمه الله .

ثم إن هؤلاء يذكرون غالبًا في هذه المبهمات أشياء مختلفة لا يمكن أن تلتئم وتجتمع، فلا يُعتمد على شيءٍ من ذلك، وذكرت أنه من النادر أن يكون لمعرفته فائدة، قلت هناك: بأن ذلك قد يُحتاج إليه في بيان منقبةٍ، أو دفعِ تهمة، يعني مثلًا: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا [الأحقاف:17]، لما وجهها مروان في القصة المعروفة إلى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، فقالت عائشة -ا- من وراء الحجاب: "ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري"[3] وفي رواية قالت: ولو شئتُ أن أسمي من نزلت فيه لسميته[4].

فالمقصود أن هذا يُحتاج إليه لتبرئة عبد الرحمن من هذه التهمة، هذا قليل، وإلا فالأصل أنه من الاشتغال بما لا فائدة تحته.

ويقول: "وعمران هذا هو والد مريم"، فليس بوالد موسى قطعًا؛ لأن بينهم من الزمن الكثير، ولكن كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، كما قال الله : يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] فليس المقصود هارون النبي، وهو هارون ابن عمران وإنما يحتمل أن يكون ذلك -كما قال بعض أهل العلم- المقصود بهارون أنه أخوها، كما جاء عن المغيرة بن شعبة، قال: لما قدمت نجران سألوني، فقالوا: إنكم تقرؤون: يا أخت هارون، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله ﷺ سألته عن ذلك، فقال: إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم[5]، فيكون هذا هو المتعين.

وإن ذكر بعضُ أهل العلم بأن قولهم: يَا أُخْتَ هَارُونَ يا نظيرة هارون في الطهر والصلاح والتقوى وما أشبه ذلك، لكن "إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل" فكانوا يسمون على أنبيائهم.

"نَذَرْتُ أي: جعلت نذرًا عليَّ أن يكون هذا الولد في بطني حبسًا على خدمة بيتك -وفي النسخة الخطية-: أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيسًا على خدمة بيتك".

يعني أنها أوقفته.

"وهو بيت المقدس.

مُحَرَّرًا أي: عتيقًا من كل شغلٍ إلا خدمة المسجد".

وذكر أبو جعفر بن جرير[6]، والحافظ ابن كثير -رحمه الله[7]- أن معنى مُحَرَّرًا أي: خالصًا مفرغًا للعبادة ولخدمة بيت المقدس، ليس له اشتغال بغير هذا، ولا تعلق بغير ما ذُكر.

"فَلَمَّا وَضَعَتْهَا [آل عمران:36] الآية، كانوا لا يحررون الإناث لخدمة المساجد، فقالت: إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى تحسرًا وتلهفًا على ما فاتها من النذر الذي نذرت".

يعني المقصود أن هذا جوابٌ لسؤالٍ مقدر، هي تخبر الله أنها وضعتها أنثى على هذه القراءة، إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى والله يعلم ذلك، فهل كانت مخبرة لله؟ الجواب: لا، وإنما قالته على سبيل التحسر والتلهف لما قد فات من مأمولها أن يكون المولود ذكرًا، فينهض بهذه الأعمال.

"وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ قُرأ وضعتْ بإسكان التاء، وهو من كلام الله تعظيمًا لوضعها -وفي النسخة الخطية: تعظيمًا لموضوعها- وقُرأ بضم التاء وإسكان العين، -وفي النسخة الخطية: بسكون العين- وهو على هذا من كلامها".

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ يقول: تعظيمًا لموضوعها في النسخة الثانية، كذا؟

"نعم لموضوعها".

ايش عندكم شيخ عبود؟

لموضوعها، هي أحسن عدلوها لموضوعها، يعني المولود.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ يكون من كلام الله على هذه القراءة، وهي قراءة الجمهور[8] ويكون هذا من قبيل المحترزات، وذكرنا في بعض المناسبات أن المحترزات تأتي في القرآن كل موضعٍ بحسبه، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ فالاحتراز هنا من أجل ماذا؟ إذا كان على هذه القراءة وأنه من كلام الله ففيه أولًا: دفع توهم أنها تُخبر، وأن الله لا يعلم بذلك، أنها تضيف إليه علمًا جديدًا وليس كذلك، فقال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ لينفي هذا الوهم الذي قد يتطرق إلى بعض النفوس، وكذلك أيضًا ما أشار إليه ابن جزي -رحمه الله- قال: "تعظيمًا لموضوعها"، تعظيمًا لموضوعها باعتبار أنها وضعت مولودًا عظيمًا، لا تدري ما سيكون من أمره وشأنه في العاقبة، يعني هذه البنت -التي هي مريم- ستكون آية للعالمين، وسيكون منها هذا الرسول الكريم الذي يكون من غير أب، ويرفعه الله -تبارك وتعالى- حيًّا إلى السماء، وأظهر على يده هذه الآيات العظام: من إحياء الموتى بإذن الله وإبراء الأكمه والأبرص، ونحو ذلك مما قص الله من خبره وشأنه، فهي وضعت شيئًا عظيمًا، فيكون هذا الاحتراز فيه هذا المعنى.

لكن على القراءة، قراءة ابن عامر[9]، فهي لا تخبر، تقول: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ فيكون هذا من قبيل الاحتراز في هذا الموضع لإظهار هذا المعنى، فهي تقول لستُ مخبرة وإنما متلهفة، كأنها تقول: أنا لا أضيف إليه علمًا جديدًا، وهذا سبق ذكر أمثلة عليه، كما في قوله -تعالى-: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] الاحتراز ما هو؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ فلئلا يتطرق إلى الفهم أن شهادة الله بأن المنافقين كذبة، وقد قالوا: إنه رسول الله، فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ فهذا هو الاحتراز هنا بين الجملتين، لئلا يُتوهم أن ما قالوه: بأن رسول الله ﷺ هو رسول أن هذا باطل، لا هذا حق، لكنهم غير مؤمنين به، فأكذبهم بهذا، فجاءت هذه الجملة الاحترازية وهكذا.

"وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى يحتمل أن يكون من كلام الله، فالمعنى ليس الذكرُ الذي طلبتِ كالأنثى الذي وهبتُ لكِ، أو يكونُ من كلامها، فالمعنى ليس الذكر كالأنثى في خدمة المساجد؛ لأن الذكور كانوا يخدمونها دون الإناث".

وهذا هو المتبادر والأقرب والذي يدل عليه ظاهر السياق أنه من كلامها، والأصل في الكلام الاتصال، يعني أن يكون من متكلمٍ واحد، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ خاصة على هذه القراءة، وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، الأصل الكلام أنه متصل، لكن على القراءة الأخرى قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى هذا يحتمل أن يكون من كلام الله باعتبار أن الجملة قبله من كلام الله، يحتمل، فيكون الكلام في هذه القضية مقيدًا بهذه القراءة، فيكون له وجه، يعني على قراءة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ فهنا لا وجه للقول بأن قوله: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى من كلام الله وإنما هو من كلامها، هذا كله كلامها، لكن على القراءة الأخرى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى فهذا يحتمل أن يكون من كلام الله، أو يكون من كلامها، والأقرب أنه أيضًا على هذه القراءة من كلامها، وأنه متصلٌ بما بعده وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا، فتكون الجملة الاحترازية هي فقط وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وعلى القراءة الثانية يكون هذا من كلام الله، لكن ما بعده الأقرب أنه على القراءتين من كلامها.

وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى في خدمة المساجد، يقول: لأن الذكور كانوا يخدمونها دون الإناث"، وهذا في خدمة المساجد، وفي غيرها، يعني فيما يليه الذَكر من الأعمال والأعباء وما ينهض به من التكاليف أقوى وأقدر من الأنثى، وهو أكمل كذلك في خلقه وتدبيره وما إلى ذلك، والمرأة تنأى بنفسها عن مواطن الرجال، ونحو ذلك، وهي كما قال النبي ﷺ: المرأة عورة[10]، والمقصود بالعورة هنا كما قال الله عن المنافقين في سورة الأحزاب: يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13] العورة: الشيء الذي يُحترز له، ويُحتاط له، ويُحفظ ويُصان، هذا معنى عورة، مثل البلاد المتاخمة للعدو يُقال لها: عورات الثغور، ونحو هذا، عورات البلد يُقال لها: عورة باعتبار أنها يُحترز لها ما لا يُحترز لغيرها، تجد فيها من الحراسات والحدود والرباط ونحو هذا ما لا يكون في البلاد الداخلية، فالمرأة عورة بمعنى: أنه يُحترز لها، وتُصان، وتُحفظ، ويُحافظ عليها، فلا تُضيع، ولا تُهمل.

"سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ إنما قالت لربها: سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة".

هكذا قالوا -والله أعلم- وبعضهم يقول: بمعنى خادم الرب، فنذرتها وسمتها بالاسم اللائق لحالها، وما نُذرت له العابدة، أو خادم الرب.

"فأرادت بذلك التقرب إلى الله، ويُؤخذ من هذا تسمية المولودِ يوم ولادته".

ويؤُخذ غيره أيضًا من المعاني والفوائد والهدايات، ومسألة شرع من قبلنا الكلام فيها معروف، وقد جاء في تسمية المولود من يوم ولادته في شرعنا ما يقرر هذا، وفي الحديث: ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم[11]، وكذلك في حديث أنس: أنه ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى النبي ﷺ وحنَّكه، وسماه عبد الله[12]، بمجرد الولادة أخذوه فسماه النبي ﷺ وكذلك ما جاء في الصحيحين: عن جابر قال: ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم، فقلنا: لا نكنيك أبا القاسم، ولا كرامة، فأخبر النبي ﷺ فقال: سم ابنك عبد الرحمن[13]، ولم يقل: انتظر إلى سابعه، ولكن ثبت في السنة التسمية في السابع، ولكن ذلك ليس بلازم، وقد يُسمى الولد قبل ولادته أيضًا، يعني يُهيأ له الاسم قبل الولادة، وأصبح الناس عبر هذه الأشعة، ونحو ذلك يعرفون جنس المولود، فيتفق أبواه على اسمٍ، وإن كان الأحق بالتسمية الأب، لكن يؤخذ من هذه الآية أن الأم يمكن أن تسمي، لكن إذا حصلت المشاحة فالأب أحقُ بالتسمية، فالأب هو الذي يلي أمره ويدبره، وينظر فيما يصلحه، وكذلك يُنسبُ إليه، فلان ابن فلان، فيتخير له الاسم اللائق، وذكرنا في بعض المناسبات بأن قول النبي ﷺ في جواب السؤال: من أحقُ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك ثلاثًا[14]، فهل معنى ذلك أن الأم هي التي يجب أن تُطاع في ما يكون معصيةً للأب إذا حصل الاختلاف بين الأبوين في توجيه الولد؟ وذكرت قول الإمام مالك -رحمه الله- لمن سأله قال: إن أبي في السودان وإنه يأمرني أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك؟ فقال الإمام مالك -رحمه الله-: أطع أباك ولا تعصِ أمك[15]، فاختلف علماء المالكية في مراد الإمام مالك بهذا، هل قصد أطع أباك فيما لا يكون معصية لأمك أو ماذا؟ لكن الذي يظهر -والله أعلم- أن ما ذُكر في الحديث: "مَن أحق الناس؟"[16] أنه في ما يتصل بالمخالطة والمعاشرة، فالأم لها حق أعظم من حق الأب في هذا الجانب بالبر والمعاشرة والمخالطة، ونحو ذلك، "من أحق الناس بحسن صحابتي؟" في المصاحبة، وأما اتخاذ القرار والتوجيه، أين يسكن؟، وأين يتجه؟ يسافر أو لا يسافر، ونحو ذلك، فصاحب القرار هو الأب، وليس الأم -والله أعلم- وهو أحق بتسميته.

"وامتنع مريم من الصرف للتعريف والتأنيث، وفيه أيضاً العُجمة".

لأن أصلها أعجمي، فالأسماء -أسماء الأعلام- في القرآن أعجمية، إلا ما قل، كما ذكرنا في بعض المناسبات، قالوا: أربعة أنبياء أسمائهم عربية، والباقي: أعجمية -والله أعلم- لكن هو ممنوعٌ من الصرف للعلمية والتأنيث، ويُنضاف إلى ذلك العجمة، فاجتمع فيه ثلاث علل.

"وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ ورد في الحديث ما من مولودٍ إلا نخسه الشيطان حين يولد، فيستهلُ صارخًا إلا مريم وابنها؛ لقوله: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ الآية".

وأصل المعاذ الموئل والملجأ والمعقل وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فالله -تبارك وتعالى- استجاب ذلك، فذريتها هو عيسى فلم يتسلط عليه الشيطان في النخس، ويؤخذ من هذا مشروعية قول ذلك عند الولادة، إذا رُزق الإنسان بمولود ونحو هذا، يقول مثل هذا لا بأس، قد ذكر النبي ﷺ فيما يقوله إذا أتى أهله: اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا[17]، ذكر أنه إذا قُضي بينهم مولود فإنه لا يضره الشيطان، والأقرب -والله أعلم- أن المقصود بذلك لا يقربه الشيطان، بمعنى لا يتسلط عليه بالإغواء، فيكون خارجًا من الإسلام، كافرًا، لكن المعصية ونحو ذلك هذا يقع كما هو مشاهد، الناس يقولون هذا ومع ذلك لا يخلو أحد من مخالفة ومعصية وتقصير، فلا تكون لهم عصمة من المعاصي.

"فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا أي: رضيها للمسجد مكان الذَكر".

تَقَبَّلَهَا رَبُّهَا تقبلها لهذا، والتقبل هنا جاء بهذا الإطلاق، تقبلها بكليتها بِقَبُولٍ حَسَنٍ، فتقبلها لهذا العمل الذي نُذرت له، ويدخل فيه كل ما يحتمله هذا اللفظ من التقبل، تقبلها الله من أوليائه وأصفيائه، ونحو ذلك.
 

"بِقَبُولٍ حَسَنٍ فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون مصدرًا على غير الصدر [-وفي النسخة الخطية: على غير المصدر-]".

لا، الصواب: على غير الصدر.

أحدهما: أن يكون مصدرًا على غير الصدر، ما المقصود على غير الصدر؟ يعني الآن تَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ، لو بقينا على الصدر تقبَّل تقبُّلًا، هذا الصدر، وهذا هو مصدره، لكن إذا قال: تقبَّل قبولًا، فيكون المصدر هنا على غير الصدر، الصدر: تقبل، ومصدره: تقبلًا، فقال: بِقَبُولٍ فصار المصدر على غير الصدر، وهذا كثير، وأحيانًا الكلمة تختلف تمامًا، تقول مثلًا: جلست قعودًا، والمصدر: جلست جلوسًا، فجاء المصدر على غير الصدر، الصدر لما تقول: ذهب ذهابًا، آبَ إيابًا، دخل دخولًا، هذا الصدر دخل، قعد قعودًا، لكن إذا قلت: قعد جلوسًا، صار المصدر على غير الصدر، قبل قبولًا، وتقبَّل تقبَّلًا، أما تقبَّل قبولًا فالمصدر على غير الصدر:

أحدهما: أن يكون مصدرًا على غير الصدر، يعني فتقبلها بقبولٍ.

"والآخر: أن يكون اسمًا لما يُقبلُ به، كالسعوط، اسمٌ لما يُسعط به".

يكون اسمًا يعني ليس بمصدر، تَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ مثل السعوط، اسم لما يقبلُ به، وهو القبول، فلا يكون مصدرًا، والمصدر المقصود به: ما يأتي ثالثًا في تصريف الفعل يقال: ذهب يذهبُ ذهابًا، والذي قال فيه ابن مالك:

المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمنٍ من أمن[18]

يعني في أحد مدلولي الفعل، مدلول الفعل فيه شيئان: زمن، الزمن الماضي ذهب، ويذهب في المضارع، واذهب في المستقبل، ونسبة، ذهب زيدٌ، نسبة الذهاب إلى زيد، المصدر: ذهاب، نُزع منها الزمان، فبقي أحد المدلولين للفعل، الفعل فيه مدلولان: معنى، وزمن، أو نسبة وزمن، فإذا أخرجت الزمن بقي المعنى والنسبة.

المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمنٍ من أمن[19]

أمنَ ماضي، اسحب الزمن، "أمْن" هل فيها زمن؟ ليس فيها زمن، بقي المعنى والمدلول -والله أعلم- أظن مثل هذه الأشياء ما تحتاج توضيح، فإذا قال: هذا مصدر، وإلا قال مثلًا: مريم ممنوع من الصرف، تعرفون الممنوع من الصرف، ما يحتاج توضيح، يعني هل نقول مثلًا: رأيتُ مريمًا، وجاءت مريمٌ، ومررت بمريمٍ؟ لا نقول هذا؛ لأنه ممنوع من الصرف، فلا يُنون.

"وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا عبارةٌ عن حسن النشأة".

حتى نَبَاتًا هنا في قوله: أَنْبَتَهَا نَبَاتًا مصدر على غير الصدر؛ وأنبتها إنباتًا، بالهمز يكون على الصدر، فإذا قال: أَنْبَتَهَا نَبَاتًا فهذا على غير الصدر.

"وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا قال: عبارة عن حسن النشأة" هذا في بدنها، وخَلقها، وخُلقها، وفي دينها، وفي شأنها كله، يعني كانت تشب في بدنها شبابًا حسنًا، تنبت على غير ما عُهد، وكذلك أيضًا في دينها وأخلاقها وتربيتها، فيشمل هذا وهذا.

وبعضهم يقول: أَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا سوى خلقها من غير زيادة، ولا نقصان، هذا مما يدخل في المعنى، وبعضهم يقول: بمعنى التربية الحسنة العائدة إليها بمصالحها في جميع أحوالها، هذا كله داخلٌ فيه، فيشمل التنشئة الجسمية والجسدية والمادية، والتنشئة المعنوية في الدين والأخلاق والصيانة والحفظ والعفاف والشرف، وما أشبه ذلك؛ ولهذا يقول أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-: أنبتها في غذائه ورزقه نباتًا حسنًا حتى تمت[20].

ويقول الحافظ ابن كثير: أي جعلها شكلًا مليحًا، ومنظرًا بهيجًا، ويسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم الخير والعلم والدين[21]، فنشأت في هذه البيئة الصالحة، فاجتمع لها النشأتان: نشأة الأبدان على أحسن الأحوال، ونشأة الأرواح على الدين والعفاف والخير والصلاح والتقوى التي تعمرُ القلب.

"وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا أي: ضمها إلى إنفاقه وحضانته، والكافل هو الحاضن، وكان زكريا زوج خالتها، وقيل: زوج أختها، وقُرئ: كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا بتشديد الفاء، ونصب زكريا، أي: جعله الله كافلها".

قوله: وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا على هذه القراءة، وفي قراءة الجمهور، التي نقرأ بها: كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا[22]، قال: أي ضمها إلى إنفاقه وحضانته، والكافل هو الحاضن، وكان زكريا زوج خالتها"، وهذا ذكره ابن إسحاق[23]، وابن جرير[24]، وغيرهما: أنه زوج الخالة، قد جاء في الحديث في المعراج" قول النبي ﷺ: ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا -صلوات الله عليهما[25].

يقول: وقيل: زوج أختها، وهذا أدل في كونه ابن خالة مباشرة؛ وقال النبي ﷺ: فإذا أنا بابني الخالة والمراد: يحيى وعيسى، وهما أبناء الخالة، لكن قد يُطلق على ما ذكره ابن جرير -رحمه الله- وابن إسحاق توسعًا بأنه زوج خالتها، فيقال: لولد هذا وهذا أبناء خالة، فخالة الأم بمنزلة خالتك، فقد يُطلق توسعًا بهذا الاعتبار، كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[26]، يعني ما قاله ابن جرير -رحمه الله- ليس بصريح في مخالفة الحديث فيحتمل، لكن الأقرب والأظهر إذا قيل: ابن الخالة فهو مباشرة ابن أختها.

وفيما يتعلق بالقراءتين كَفَلَهَا قام بكفالتها، وكَفَّلَهَا أي الله كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا، فالمعنى متفق، يعني يلتئم باعتبار أنه كفلها بتكفيل الله له إياها، كفلها بتكفيل الله، كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كفَّله إياها فكفلها، فالقراءتان دلتا على هذا، أي جعله كافلها.

الْمِحْرَابَ يقول: في اللغة أشرف المجالس؛ وبذلك سمي موضع الإمام، ويقال: إن زكريا بنى لها غرفةً في المسجد، وهو المحراب هنا، وقيل: المحرابُ موضع العبادة".

ليس المقصود بالمحراب هنا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ هذا الذي نصلي فيه، خارجًا عن حد جدار المسجد إلى القبلة، وإنما سُمي هذا بذلك لأنه أشرف المواضع في المسجد، فالمحراب يُقال للمكان الشريف، والعبادة إنما تكون في الأماكن الشريفة، وقد قال النبي ﷺ: أحب البلاد إلى الله مساجدها[27]، فالمساجد أشرف البقاع، والمساجد بهذا الاعتبار محاريب، فهي مكان شريف، ومكان العبادة فقوله: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ يعني المكان الذي تتعبد به، هذا المراد -والله أعلم- وليس المقصود به هذا الذي أمامكم.

"وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويُقال: إنها لم ترضع ثديًا قط، وكان الله يرزقها".

كان يجد عندها رزقاً، وأُبهم هذا الرزق، لكن قال جماعة من السلف: بأنه كان يجد هذه الفاكهة -فاكهة الصيف في الشتاء- والعكس، وهذا مروي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والنخعي، والضَّحاك، وقتادة، وابن زيد، والربيع بن أنس، والسدي[28]، هؤلاء -كما ترون- كلهم قالوا: بأن المقصود فاكهة الشتاء في الصيف، فهذا يحتمل، هو يجد عندها رزقًا لم يأتها به، وهو كافلها، فقد يكون ما ذُكر، وقد يكون غيره، لكن ليس عندنا دليل في هذا ثابت، لا في الكتاب، ولا في السنة، بأنه كان يجد فاكهة الصيف في الشتاء والعكس، هذا يحتمل.

"أَنَّى لَكِ هَذَا إشارةٌ إلى مكان، أي كيف؟ ومن أين؟".

لكن ذهب ابن عطية[29]، وأبو عبيدة[30] إلى أن معناها من أين؟ فمعنى: أَنَّى لَكِ هَذَا من أين لكِ؟ لكن اعترض بعضهم كالنحاس بقوله: "وهذا القول فيه تساهل؛ لأن أين سؤال عن المواضع، وأنى سؤال عن المذاهب والجهات، والمعنى من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا"[31]، يعني من أي ناحية أتاكِ هذا، ومن أين جاءكِ؟ سؤال عن المصدر، وليس من أين موضع ذلك؟

وأبو حيان -رحمه الله- يقول: بأن هذا سؤال عن الكيفية، كيف جاءكِ؟[32] أَنَّى لَكِ هَذَا، يعني ما أتيتكِ به "أنَّى" وعن المكان وعن الزمان، جمع بين هذا كله، يعني من أي موضع جاءكِ، واختار أنه سؤالٌ عن الجهة، ولم يستبعد أنه سؤالٌ عن الكيفية أَنَّى لَكِ هَذَا، فهو يتعجب ويتساءل.

وهنا ابن جزي جمع بين قولين: أي كيف؟ ومن أين؟

"إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ يحتمل أن يكون من كلام مريم، أو من كلام الله تعالى".

هي قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ قلنا: الأصل في الكلام الاتصال، يعني أنه من كلام متكلمٍ واحد، يعني من كلامها، ويحتمل أنه من كلام الله، تعقيبًا لذلك، قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فقال الله: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- أنه من كلام الله [33]، ولكن قد يُقال: بأن الظاهر بناءً على أن الأصل أن الكلام من متكلمٍ واحد فيكون قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ كله من كلامها، والله أعلم.

"هُنَالِكَ إشارةٌ إلى مكان، وقد يُستعمل في الزمان، وهو الأظهر هنا، أي: لما رأى زكريا كرامة الله تعالى لمريم، سأل من الله الولد".

هُنَالِكَ يعني في ذلك الموضع، أو في ذلك الوقت، يعني في ذلك الموضع حينما دخل عليها المحراب، أو هُنَالِكَ في ذلك الوقت الذي رأى فيه هذه الآية، سأل، فأخذ منه بعض أهل العلم السؤال حال رؤية الآيات والألطاف الربانية، ونحو ذلك، يسأل العبد ربه من فضله، ونحو ذلك.

يقول: "وقد يُستعمل في الزمان، وهو الأظهر هنا" في ذلك الحين، يعني "أي لما رأى زكريا كرامة الله لمريم سأل من الله الولد" يعني في ذلك الوقت، في ذلك الزمان، أو في ذلك المكان الذي هو قائمٌ فيه عند مريم، فهذا يحتمل.

ويمكن أن يكون في ذلك الزمان والمكان، دعا حينها، فهو في ذلك الموضع وقاله في ذلك الوقت هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، ووجه الارتباط بين هذا السؤال وما شاهد: أنه رأى رزقًا من غير سبب، يعني من غير كد، ولا تعب، ولا سعي، ولا جلب، ولا غير ذلك، فلما رأى ذلك سأل ربه الولد، حيث قد انعدمت أسبابه، فهو كبير في السن، وامرأته عاقر، فالله يرزق من يشاء بغير حساب، وقد مضى الكلام على قوله: بِغَيْرِ حِسَابٍ في بعض المناسبات، يعني يعطي عطاءً كثيرًا، أو من غير عوض ولا مقابل، فهذا وجه الارتباط، يعني أنه سأل الولد لما رأى رزقًا من غير سبب، سأل ذلك وقد تلاشت أو تعذرت في مجاري العادات أسبابه، فلا يوجد من امرأة عاقر فضلًا عن زوجٍ كبير في السن، قد رق عظمه، ووهن وبلغ من الكبر عتيًا، وذكرنا أن معنى "عتيا" جفاف المفاصل، فإذا تقادم الإنسان العمر، جفت مفاصله، ووهن العظم، وهي رقة العظام، وهشاشة العظام.

"فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أنَّث رعيًا للجماعة، وقُرئ بالألف على التذكير، وقيل: إن الذي ناداه جبريل وحده، وإنما قيل: الملائكة، كقولهم: فلانٌ يركب الخيل، أي: جنس الخيل".

قوله هنا: "فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قال: أنَّث رعيًا للجماعة"، يعني مراعاةً للفظ الجمع، ملَك مذكر، ملائكة صيغة الجمع، ومن ناحية اللفظ مؤنث، فَنَادَتْهُ فأنثَّ الفعل مراعاةً للفظ الجمع.

وقُرئ بالألف فَنَادَاهُ الْمَلائِكَةُ وهي قراءة حمزة والكسائي، وقراءة الجمهور فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ[34].

فَنَادَاهُ الْمَلائِكَةُ باعتبار أن الملائكة ليسوا بإناث فَنَادَاهُ الْمَلائِكَةُ، لكن أُنِّث في القراءة الأولى مراعاةً للفظ فقط فَنَادَتْهُ، وقيل: "إن الذي ناداه جبريل وحده"، وهذا هو المشهور، وليس كل الملائكة، وإنما قالوا: جبريل، فيكون من قبيل العام المراد به الخصوص، يعني يطلق لفظ عام، ويراد به معنًى خاص، مثل: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173] الذين صيغة جمع، وقيل: إن المقول له أبو بكر الصديق  الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ وليس كل الناس قالوا لهم، وإنما القائل: هو نعيم بن مسعود[35]، إِنَّ النَّاسَ قالوا: قصد به أبا سفيان أو قريش، وليسوا كل الناس، فهذا من العام المراد به الخصوص، ومثله: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ يعني جبريل وإنما قيل: "الْمَلائِكَةُ كقولهم: فلانٌ يركب الخيل، يعني جنس الخيل"، هل يركب كل الخيل الموجودة بأرجاء المعمورة؟ لا، وإن ركب فرسًا واحدًا.

فالمقصود من قوله: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ جبريل وهذا هو الذي اختاره الكثيرون، وجاء عن جماعة من السلف منهم: مقاتل والسدي[36]، وأضافه ابن عطية إلى الجمهور[37].

وقال بعضهم: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أنهم جمع، يعني ليسوا ملكًا واحدًا، ليس بجبريل وحده فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ، أخذًا من صيغة الجمع، على خلافٍ في أقل الجمع -كما هو معروف- هل هم ثلاثة؟ أو أن أقله اثنان؟ وقد مضى الكلام على هذا في بعض المناسبات، ومن قال: بأن أقل الجمع اثنين احتجوا بقوله -تعالى-: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] والإخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس إذا وجد أخوان فأكثر بالاتفاق، فقال: إِخْوَةٌ ويصدق على اثنين، ومثله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] فإذا قلنا: بأن أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فهما شهران، وعشرة أيام، فقال: أَشْهُرٌ إما باعتبار أقل الجمع، أو جبر الكسر، وهو الذي قال فيه صاحب "المراقي":

أقلُ معنى الجمع في المشتهر اثنان عند الإمام الحميري[38]

يعني عند الإمام مالك -رحمه الله- هذا قول لبعض أهل اللغة معروف، لكن المشهور الذي عليه عامة أهل العلم: أن أقل الجمع ثلاثة.

فالحاصل إن ابن جرير -رحمه الله- يرى أنهم جماعة[39]، أخذًا من ظاهر اللفظ، وهذا قال به جماعة من السلف: كقتادة، وعكرمة، ومجاهد[40]، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون المقصود هذا وهذا، والطاهر ابن عاشور -رحمه الله- في التحرير والتنوير ذكر أن في هذا الموضع يحتمل أن يكون جبريل وأن يكون جمع من الملائكة[41]، والله أعلم.

"بِيَحْيَى اسمٌ سماه الله تعالى به قبل أن يُولد، وهو اسمٌ بالعبرانية، صادف اشتقاقًا وبناءً في العربية، وهو لا ينصرفُ، فإن كان في الإعراب -ولفظة "في الإعراب" زائدة في النسخ الخطية- فإن كان في الإعراب أعجميًا ففيه التعريفُ والعجمة، وإن كان عربيًا فالتعريفُ ووزن الفعل".

يقول: "فإن كان أعجميًا، ففيه التعريف والعجمة"، يعني الأعلام معارف، التعريف والعجمة، فإذا قلنا: بأنه أعجمي "يحيى"، "وإن كان عربيًا، فالتعريف، ووزن الفعل"، "يحيى" على وزن فعل مضارع، فيكون ذلك من العلل المانعة من الصرف، يعني اجتمع فيه علتان.

"مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي: مصدقًا بعيسى مؤمنًا به".

مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ فالكلمة هو عيسى يعني مصدقًا بعيسى، وهذا الذي عليه عامة المفسرين، سلفًا وخلفًا.

"وسمي عيسى كلمة الله؛ لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها، وهي قوله: كن، لا بسببٍ آخر، وهو الوالدُ، كسائر بني آدم".

لأنه وُجد بالكلمة، فيكون سمي بالسبب، وُجد بسبب الكلمة، فأُطلق السبب على المُسبب، السبب: الكلمة، والمسبب: المولود عيسى من غير أب، فسمي بها، فقيل: "كلمة، لا بسببٍ آخر، وهو الوالد كسائر بني آدم"، وبعضهم يعللون بغير هذا، لكن هذا هو المشهور، وهو الأحسن والأقرب، والله أعلم، لما وُجد بسبب الكلمة، قيل له: كلمة.

"وَسَيِّدًا السيد الذي يسود قومه، أي: يفوقهم في الشرف والفضل".

يعني هذه كلها تبشر بأن هذا الولد سيعيش حتى يسود، ويكون مصدقًا بعيسى والمؤرخون يقولون: بأن بين عيسى ويحيى من المدة ستة أشهر، يحيى أكبر من عيسى  بستة أشهر، فأدركه، لكن اختلفوا متى قتل يحيى هل قُتل قبل رفع المسيح أو بعده؟ فهذا خلاف بين المؤرخين.

يقول: "يفوقهم في الشرف والفضل"، يعني سَيِّدًا وقال ابن جرير: شريفًا[42]، والنبي ﷺ قال: إن ابني هذا سيد[43]، فالذي يسود لا شك أنه يكون بمنزلةٍ من الشرف رفيعة، والله أعلم.

وبعضهم يقولون: بأنه كان شريفاً وسيدًا في العلم والعبادة؛ لأنه لم يكن له ولاية ورئاسة -كما هو معلوم- والسيادة لا يلزم منها ذلك، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: قوموا إلى سيدكم[44]، يعني سعد بن معاذ، كما في قصة بني قريظة، وهو سيدهم، فهو رئيس الأوس، وكبيرهم المقدم المطاع، لكن هنا قد يُقال للشريف في العلم والعبادة ذلك، وبعضهم جماعة من السلف: كأبي العالية، والربيع، وقتادة، وسعيد بن جبير[45]، وجماعة، قالوا أيضًا عباراتٍ مقاربة مثل الشريف.

وجاء عن ابن عباس، والثوري، والضحاك السيد هو الحكيم التقي[46]، وجاء عن ابن المسيب السيد: الفقيه العالم[47]، وجاء عن عطية العوفي: السيد في خُلقه ودينه[48]، وجاء عن عكرمة: الذي لا يغلبه الغضب[49]، وجاء عن ابن زيد كما قال ابن جرير -رحمه الله-: بأنه الشريف[50]، وكل هذه المعاني صحيحة، فهذه صفات من يسود: العلم، والدين، والفقه، والحكمة، والعلم، والتقوى، والصلاح، ونحو ذلك.

"وَحَصُورًا أي: لا يأتي النساء، فقيل: خلقه الله كذلك، وقيل: كان يمسك نفسه، وقيل: الحصور الذي لا يأتي الذنوب".

فهذان قولان: فقيل: "خلقه الله كذلك لا يأتي النساء" وابن عطية -رحمه الله- نقل إجماع من يُعتد به من المفسرين، بأن هذه الصفة ليحيى إنما هي الامتناع من وطء النساء[51] قال: إلا ما حُكي -يعني ما حكاه مكي بن أبي طالب- من قول من قال: إنه الحصور عن الذنوب يعني الذي لا يأتيها[52].

لكن هذا ليس بإجماع، وهنا وَحَصُورًا قال: أي لا يأتي النساء، فقيل: "خلقه الله كذلك"، من قال بأن الحصور بمعنى المفعول، يعني محصور، يعني أنه محصورٌ عن النساء؛ لأنه لا يقدر على إتيانهن، فهذا ليس بصحيح إطلاقًا؛ لأن ذلك من النقص، وليس من الكمال، ولا يُمدح بهذا، مفعول يعني محصور، حصور بمعنى محصور، فعولٌ بمعنى مفعول، فهذا غير صحيح؛ لأن العُنة -كما هو معلوم- عيبٌ ونقص، ليست بكمال يُمدح به، وليست من فعله أيضًا حتى يُثنى عليه بذلك، وفعول في اللغة العربية أصلًا هي من صيغ الفاعلين، ويمكن مراجعة ما ذكره القرطبي -رحمه الله- في هذا المعنى، وكذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان"، المقصود أن من فسره بعدم إتيان النساء ليس فعول حصور بمعنى مفعول، يعني ممنوع من إتيان النساء، فذلك عيبٌ، وليس بكمال، ولكن الذي قاله الجمهور: بأن الحصور هو الذي لا يأتي النساء يعني باختياره، اشتغالًا بالطاعة والعبادة، والتقرب إلى الله كان ذلك في شرعهم، أما في هذه الشريعة فالنبي ﷺ نهى عن هذا التبتل؛ ولما استأذنه بعض أصحابه في ذلك نهاهم، ولما أُخبر عن بعضهم أنه قال: "لا أتزوج النساء" قام على المنبر وأنكر هذا، وقال: من رغب عن سنتي فليس مني[53]، لكن كان ذلك في شريعتهم، وشرع من قبلنا إذا جاء في شرعنا ما يخالفه فليس بشرعٍ لنا، يقول: "وقيل: كان يمسك نفسه" يعني ليس بممنوع.

القول الأول: "خلقه الله كذلك" يعني لا يقدر على إتيان النساء وقدم هذا القول، مع أنه ليس بصحيح، وذكر الثاني بقيل: "قيل: كان يمسك نفسه" يعني بإرادته، فهذا الذي قاله الجمهور: لعفته واجتهاده في دفع الشهوة، كأنه محصورٌ عنهن، وأصل الحصر يأتي بمعنى الحبس والمنع، والجمع، وقيل: "الحصور الذي لا يأتي الذنوب" يعني إما أن يكون لا يأتي النساء، فإن كان ذلك عن عجزٍ ومنع، فهذا ليس بكمال، ولا يُفسر به، وأما بالاختيار فهذا قول الجمهور.

والقول الثاني: الحصور الذي لا يأتي الذنوب -والله أعلم-.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- ضعَّف القول الذي نُسب إلى الجمهور وهو أنه لا يأتي النساء، واختار: أنه المعصوم عن الفواحش والمدنسات والقاذورات[54]، وأن ذلك لا يمنع من تزوجه بالنساء، وغشيانهن وإيلادهن، فالذي لا يغشى الفواحش يكون عفيفًا، يقول: هذا هو الحصور، وهذا هو المقصود، فهذا اختيار ابن كثير، وهو -كما ترون- من الوجاهة، وإن كان قول عامة أهل العلم: أنه الذي لا يأتي النساء.

فقوله: وَحَصُورًا هل المدح أبلغ أنه لا يأتي الفواحش والقاذورات والمدنسات؟ أو الذي لا يأتي النساء أصلًا؟ يعني سنة المرسلين التزوج، فكأن الثاني أكمل -والله أعلم- يعني أن يُمدح بأنه لا يغشى الفواحش والمدنسات أبلغ من أنه يُمدح بأنه لا يأتي النساء أصلًا -والله أعلم-.

وقول ابن كثير هو كما ترون من الوجاهة كأن ذلك أبلغ في المدح، لكن السواد الأعظم من أهل العلم: على أنه الذي لا يأتي النساء، والآية تحتمل على كل حال، -والله أعلم-.

"أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ تعجبٌ واستبعادٌ أن يكون له ولدٌ مع شيخوخته، وعقم امرأته، ويُقال: كان له تسعٌ وتسعون سنة، ولامرأته ثمانٌ وتسعون سنة، فاستبعد ذلك في العادةِ، مع علمه بقدرة الله تعالى على ذلك".

يدل على هذا أنه هو الذي سأل لما رأى هذه الألطاف تنزل على مريم -رحمها الله- سأل ربه الولد هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، فلو لم يكن يعلم أن الله قادر على هذا لما سأل، وهؤلاء أعلم الناس بالله لكنَّ سؤاله هنا أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ على سبيل الاستعظام، يعني من أي وجه يكون؟ وهو يعلم أن الله على كل شيءٍ قدير، لكن يقول: المحل غير قابل، يعني هذه المرأة الكبيرة العاقر، وهو بهذا السن أيضًا، قد بلغ من الكبر عتياً، ثم يأتيه الولد، أَنَّى من أي وجه؟ يعني هل سترجع شابة؟ وإذا رجعت شابة هي عقيم أيضًا، المانع موجود، أَنَّى يَكُونُ لِي من أي وجه يكون؟ فقال ذلك على سبيل الاستعظام، وأن ذلك مستبعد في مجاري العادات، لكنه ليس ببعيد على قدرة الله -تبارك وتعالى-.

"فسأله مع علمه بقدرة الله [-وفي النسخة الخطية: فسأله لعلمه بقدرة الله-] واستبعده؛ لأنه نادرٌ في العادة، وقيل: سأله وهو شابٌ، وأجيب وهو شيخ".

لا هذا بعيد، يعني لا حاجة لهذا التكلف من أجل أن يُبرر هذا السؤال أَنَّى يَكُونُ لِي يعني بعد ما وصلت إلى هذا السن، فالجواب هو في مضامين الآية: أنه سأل وهو شيخ، يعلم قدرة الله لكن يرد على هذا سؤال: هل هذا من الاعتداء في الدعاء مثلًا؟ أن يسأل أمرًا لا يتفق مع مجاري العادات، يعني ما أجراه الله في هذا الخلق، وسنة الله في هذا الخلق، هذا يحتاج إلى خرق عادة، فهل له أن يدعو بذلك؟ يقال: هذا نبي، وهم أعلم الناس بالله فيحتمل أن يكون قصد بذلك المعجزة، وخرق العادة، فلا يكون لغيره من آحاد الناس، ويحتمل أن ذلك يكون سائغًا باعتبار أن الله على كل شيء قدير، فسأل الولد، مع وجود أصل السبب، ما هو أصل السبب؟ التزوج، لكن الذي يكون خارجًا عن العادة فيمن سأل الولد من غير زواج، يدعو ربه أن يرزقه ولد، ويقول: لا أريد الزواج، ولا يتزوج، فهذا اعتداء في الدعاء، لكن تزوج، ولم يُرزق، وتقدم به العمر، وامرأته عاقر، فهنا أصل السبب وُجد وهو التزوج، لكن وجد المانع، فسأل ربه أن يرفع ذلك، فلا يكون من هذا القبيل، -والله أعلم- وهذا القول بأنه سأل وهو شاب وأُجيب وهو شيخ، لا حاجة إليه، وقد قال الله في خبره في سورة مريم: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم:8] وذكرنا أن العتي: هو اليُبس في المفاصل -والله المستعان- والعظام تكون في حال من الجفاف من شدة الكبر، قال: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [مريم:8] فدل على أنها كانت كذلك في شبابها.

والشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- يقول: كأنه في وقت دعائه لم يستحضر هذا المانع لقوة الوارد في قلبه، وشدة الحرص العظيم على الولد[55]، يعني أنه بلغ هذا السن وامرأته عاقر، فدعا لغلبة الحال عليه، كان ذُهل عن هذا المانع، فسأل، فهذا جواب آخر فيما أوردته: هل هذا يكون من قبيل الاعتداء في الدعاء؟ ولهذا تعجب أَنَّى يَكُونُ لِي، هو سأل، قال: نعم سأل في حال الذهول عن هذا المانع، وقد لا يُحتاج إلى هذا، سأل وهو مستحضر له، لكن حينما قال: أَنَّى يَكُونُ على سبيل الاستعظام، ومعرفة من أي وجه يكون ذلك، وليس باستبعاد على قدرة الله -تبارك وتعالى-.

فالسعدي -رحمه الله- يقول: لما قُبلت دعوته[56]، وكان سأل في حال ذهول عن هذا المانع، حصل عنده هذا التعجب، ولا أرى أن هذا من الضرورة أن يُحمل على هذا المحمل: أنه سأل في حال ذهول، فلا يُظن ذلك بمثله، -والله أعلم- وإن لم يكن ذلك نقصًا، والقرطبي -رحمه الله- ذكر وجهين في معنى هذا الاستفهام أَنَّى يَكُونُ لِي:

الأول: أنه سأل هل يكون له الولد، وهو وامرأته على نفس الحال؟ أو يردان إلى حال من يلد؟ يعني يرجع للشباب.

والثاني: أنه سأل هل يُرزق الولد من امرأته العاقر أو من غيرها؟[57]، سترزق ولد، طيب من أين؟ من نفس المرأة هذه؟ هذا يحتمل.

وبعضهم يقول: من أي شيءٍ استوجب هذا وأنا وامرأتي على هذا الحال؟ وبعضهم يقول: قاله على وجه الاستعظام لقدرة الله لما رأى من الآية في مريم، وليس للاستبعاد، وهذا أقرب -والله أعلم-.

"كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40] أي: مثل هذه الفعلة العجيبة يفعل الله ما يشاء، فالكاف لتشبيه أفعال الله العجيبةِ بهذه الفعلة، والإشارةُ بذلك إلى هبة الولد لزكريا، واسم الله مرفوعٌ بالابتداء، وكذلك خبره، فيجب وصله معه، وقيل: الخبر -وفي النسخة الخطية: وقيل: إن الخبر يفعل ما يشاء- ويحتمل كذلك على هذا وجهين:

أحدهما: أن يكون في موضع الحال من فاعل يفعل.

والآخر: أن يكون في موضع خبر مبتدأٍ محذوف تقديره الأمر كذلك".

وهذا خلاف الأصل، الأصل عدم التقدير.

"والآخر: أن يكون في موضع خبر مبتدأٍ محذوف تقديره الأمر كذلك، أو أنتما كذلك، وعلى هذا يُوقف على كذلك، والأول أرجح لاتصال الكلام، وارتباط قوله: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مع ما قبله؛ ولأن له نظائر كثيرةً في القرآن، منها قوله: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ [هود:102]".
  1. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/423).
  2. معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/400).
  3. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17] برقم: (4827).
  4. أخرجه النسائي في السنن الكبرى برقم: (11491).
  5. أخرجه مسلم في كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء برقم: (2135).
  6. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/335).
  7. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/33).
  8. معاني القراءات للأزهري (1/251) والحجة للقراء السبعة (3/32).
  9. معاني القراءات للأزهري (1/251) والحجة للقراء السبعة (3/32).
  10. أخرجه الترمذي في أبواب الرضاع برقم: (1173) وصححه الألباني.
  11. أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك برقم: (2315).
  12. أخرجه البخاري في كتاب العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد، لمن لم يعق عنه، وتحنيكه برقم: (5470) ومسلم في الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته برقم: (2144).
  13. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب أحب الأسماء إلى الله برقم: (6186) ومسلم في الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء برقم: (2133).
  14. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة برقم: (5971) ومسلم في البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به برقم: (2548).
  15. شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/190).
  16. سبق تخريجه.
  17. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب التسمية على كل حال وعند الوقاع برقم: (141) ومسلم في النكاح باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع برقم: (1434).
  18. شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (2/169) وتوضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (2/644).
  19. شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (2/169) وتوضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (2/644).
  20. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/345).
  21. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/35).
  22. البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة (ص:62) وحجة القراءات (ص:161).
  23. تفسير ابن المنذر (1/180).
  24. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/349).
  25. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السموات، وفرض الصلوات برقم: (162).
  26. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/35).
  27. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، وفضل المساجد برقم: (671).
  28. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/640) وتفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/426) وتفسير ابن كثير ت سلامة (2/36).
  29. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/427).
  30. مجاز القرآن له (1/91) وتفسير السمعاني (1/314).
  31. معاني القرآن للنحاس (1/389).
  32. البحر المحيط في التفسير (3/123-124).
  33. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/359).
  34. حجة القراءات (ص:162).
  35. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (11/252).
  36. زاد المسير في علم التفسير (1/278).
  37. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/428).
  38. نشر البنود على مراقي السعود (1/234).
  39. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/363).
  40. تفسير المراغي (3/147).
  41. التحرير والتنوير (3/239).
  42. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/374).
  43. أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب قول النبي ﷺ للحسن بن علي -ا- برقم: (2704).
  44. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب إذا نزل العدو على حكم رجل برقم: (3043) ومسلم في الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد برقم: (1768).
  45. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/642).
  46. تفسير ابن كثير ط العلمية (2/31).
  47. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/376).
  48. تفسير ابن كثير ط العلمية (2/31).
  49. تفسير ابن كثير ط العلمية (2/31).
  50. تفسير ابن كثير ط العلمية (2/31).
  51. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/430).
  52. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/430).
  53. أخرجه البخاري في النكاح، باب الترغيب في النكاح برقم: (5063) ومسلم في النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه... برقم: (1401).
  54. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/38).
  55. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:490).
  56. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:490).
  57. تفسير القرطبي (4/79).

مواد ذات صلة