الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(008-أ) من قوله تعالى (وإذ غدوت من أهلك..) الآية 121 – إلى قوله تعالى (ولله ما في السموات وما في الأرض..) الآية 229
تاريخ النشر: ٠٢ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 1440
مرات الإستماع: 1459

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمران:121]، قال: نزلت في غزوة أحد، وكان غدو رسول الله ﷺ للقتال صبيحة يوم السبت، وخرج من المدينة يوم الجمعة بعد الصلاة، وكان قد شاور أصحابه قبل الصلاة.

هذا هو الموضوع الثاني الرئيس في هذه السورة، تحدث عن غزوة أحد، قد ذكر أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- وجه الارتباط بين هذه الآية: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121]، وجه الارتباط بينها وما قبلها، إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، أي: أنكم إذا صبرتم واتقيتم فإنه لا يضركم كيدهم شيئًا، بل ينصركم كما في بدرٍ، وإن خالفتهم أمره فإنه نازلٌ بكم ما نزل بهم في أحد، واذكروا ذلك اليوم إذ غدا نبكم ﷺ يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال[1].

هذا وجه الارتباط الذي يسمونه المناسبة، وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمران:121]، كما سبق في مثل هذا التركيب وَإِذْ غَدَوْتَ أنه يتعلق بمحذوف على قول معروف مشهور واذكر وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، والغداة معروف أنها تكون أول النهار.

يقول: "نزلت في غزوة أحد"، وهذا على قول الجمهور ليس محل اتفاق، لأن من أهل العلم من قال أنها تتحدث عن بدر هذه الآية وَإِذْ غَدَوْت وبعضهم يقول تتحدث عن الخندق، ولكن هذا بعيد والله أعلم، والذي حملهم على هذا القول الذي يبدو غريبًا، والسياق في أحد: الذي حملهم على ذلك هو قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ الغدو أول النهار، والنبي ﷺ خرج إلى أحد بعد صلاة الجمعة، وكانت المعركة يوم السبت، فكيف يكون ذلك من قبيل الغدو، وقد خرج بعد صلاة الجمعة؟ يعني: خرج إليها بالعشي، فهذا وجه الإشكال، وهو الذي حمل هؤلاء على القول بأن ذلك كان في بدر، أو القول بأن ذلك كان في الخندق، ولكن لا شك أن السياق في أحد، ويمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة كما سيأتي.

لكن نبين وجه هذه الأقوال التي قد تبدو في غاية الغرابة، والذين يذكرونها علماء، ومنشأ الإشكال ما ذكرت، والله تعالى أعلم.

يقول: "وكان غدو رسول الله للقتال ﷺ صبيحة يوم السبت" هذا في السنة الثالثة، ذكر عكرمة أنه في منتصف شهر شوال[2].

لاحظ: وكان غدو رسول الله للقتال ﷺ صبيحة يوم السبت، يعني: أن ابن جزي حمل ذلك، وهو جوابٌ لهذا الإشكال الذي لم يصرح به، وَإِذْ غَدَوْتَ، يعني: صبيحة يوم السبت، لكن لم يكن ذلك حينما خرج من أهله -عليه الصلاة والسلام- فقد خرج من أهله بعد صلاة الجمعة بالعشي، فقال الله: وَإِذْ غَدَوْتَ، واذكر إذ غدوت مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ولهذا بعض أهل العلم حمل ذلك على أن المقصود هو الشروع في تعبئة الجيش، قبل المعركة، وذلك صبيحة يوم السبت.

قال: "وهذا محمله". هذا جواب ابن جزي -رحمه الله- يقول: "وخرج من المدينة يوم الجمعة بعد الصلاة وكان قد شاور أصحابه قبل الصلاة".

ويمكن أن يُجاب بغير هذا كما سيأتي إن شاء الله، وفي بعض النسخ: "كان غزو رسول الله ﷺ للقتال" لا ليس غزو، لا يقال غزو الرسول ﷺ للقتال -لا يقال هذا- وإنما يقال غدو رسول الله، الكلام في الغدو، لأنه يتحدث عن وَإِذْ غَدَوْتَ، وهو يجيب عن هذا الإشكال، وهو جواب معروف الذي ذكره ابن جزي -رحمه الله- وَإِذْ غَدَوْتَ أنه غدا إلى القتال يوم السبت، أن هذا هو محمله، وهذا هو المقصود، وليس غزوت للقتال، لا يقال غزوت للقتال، والله أعلم.

فالصحيح: نزلت في غزوة أحد، وكان غدو رسول الله ﷺ للقتال صبيحة يوم السبت.

قوله تعالى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:121]، قال تنزلهم، وذلك يوم السبت حين حضر القتال، وقيل: ذلك يوم الجمعة بعد الصلاة حين خرج للمدينة، وذلك ضعيف؛ لأنه لا يقال غدوت فيما بعد الزوال إلا على مجاز، وقيل: ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس وذلك ضعيف؛ لأنه لم يبوئ حينئذ مقاعد للقتال إلا أن يراد أنه بوأهم بالتدبير حين المشاورة.

لاحظ هذه الاحتمالات والأقوال التي ذكرها، تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، تبوئ يعني: تتخذ لهم وتوطن أصل التبوؤ اتخاذ المنزل، بمعنى: تعبئة الجيش، يضع كل رجلٍ في موضعه المناسب، ويضع للجيش -كما هو معلوم- مقدمة، وميمنة، وميسرة، وقلب وساقة، ونحو ذلك، هذه تعبئة الجيش، تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، تجعل لكل أحدٍ -لكل واحدٍ منهم- منزلًا ومقامًا في الجيش.

يقول: "وذلك يوم السبت حين حضر القتال"، وهذا هو المتبادر؛ لأن تعبئة الجيش حينما تكون قبل المواجهة، ولم يكن ذلك بمجرد خروجه ﷺ يوم الجمعة لاسيما وأنه خرج كما سبق بعد صلاة الجمعة، وليس ذلك من قبيل الغدو، فهذا يبين ما سبق من أنه قصد الغدو، غدا للقتال يوم السبت.

لكن المشكل عليه: مِنْ أَهْلِكَ، وخرج من أهله بعد الزوال يوم الجمعة.

يقول: " ذلك يوم الجمعة حين خرج من المدينة، وذلك ضعيف"، لماذا ضعيف؟ قال: "لأنه لا يقال غدوت فيما بعد الزوال إلا على المجاز" بأي اعتبار؟ يعني على سبيل التوسع، استعمال عبارة: الغدو فيما يكون بعد الزوال، يعني: في الخروج مطلقًا، ولو كان في آخر النهار أو في وسط النهار، فالغدو فيما يكون بعد الزوال، يعني: في الخروج مطلقًا ولو كان في آخر النهار أو في وسط النهار.

فالغدو بهذا الاعتبار في أصله: الخروج أول النهار، ولكن قد يتوسع بالاستعمال، فيعذر به عن الخروج مطلقًا، ولو كان في آخر النهار، وهذا له وجه قوي من النظر أن يستعمل اللفظ بمعنى أوسع، ويشبه هذا قول النبي ﷺ: من راح إلى الجمعة...[3]، والرواح بعد الزوال، ومعلوم أن ساعات الجمعة التبكير للجمعة تُحتسب من أول ساعة في النهار، ساعات النهار تحتسب من طلوع الشمس، الساعة الأولى والثانية إلى الخامسة، ثم يصعد الإمام المنبر.

ولهذا جاء عن الإمام مالك -رحمه الله- أن الرواح، وأن الساعة الأولى تحتسب بعد الزوال، وأن التبكير قبل ذلك ليس بمراد[4]، وهذا يصلح للذين يحبون الأقوال الشاذة هذه الأيام والإغراض على الناس، أن يتلقفوا هذا القول ويذيعوه وينشروه، ويثيروا البلبلة عند الناس، فيما تواطأ الناس عليه وتلقوه عن علمائهم، وانتشر وداع من أن ذلك يكون من الساعة الأولى في صبيحة اليوم، تكون ساعات النهار الخمس، كل ذلك إلى ما قبل الزوال.

على قول الإمام مالك -رحمة الله- لفظ الرواح الزوال، فتبدأ الساعة الأولى بعد الزوال، فمن الناس من يُفتن بمثل هذا، ويولع به، لا سيما أنه قد يوافق هوى، فيأتي بعد الزوال، ويقول: أنا جئت من الساعة الأولى، وحصلت البدنة، وأما مجيئكم من الساعات المبكرة لصبيحة اليوم فهذا ليس له أساس.

هذه فتنة قد يقول العالم الإمام الكبير قولًا يخالف فيه غيره، وقد لا يكون الصواب معه، كل يؤخذ من قوله ويُرَد، لكن يفتن في هذا من يولع بالغرائب، ويأت الناس بما لم يعهدوا، ويكون ذلك سببًا لتشكيكهم فيما وراءهم مما تلقفوه وتلقوه، ونشأوا عليه من الدين الذي دانوا به، فيحذر من مثل هذا، أعني تلقف الغرائب، وإذاعة ذلك بين الناس فهذا فعل من لا يتقِ الله ولم يؤتَ حكمة، قد يفعلها إنسان بحسن نية، ولكن في الغالب إنما يفعلها من ابتلي من حب الإغراض والشذوذ، ومن باب خالف تذكر، ولا يبالي بعد ذلك بالنتائج المترتبة على ذلك من تشكيك الناس في ثوابتهم، وما عهدوه من دينهم ومقرراتهم التي تلقوها منذ نشأتهم، وسيرد مثل هذا في أبواب شتى ما هو من هذا القبيل.

فيكون الإمام العالم: كالإمام مالك -رحمه الله- معذورًا بهذا، ولكن قد لا يُعذر من يفعل ذلك حبًا للإغراض، أو تتبعًا لمثل هذه الأمور لإثارة الجدال والنزاع بين الناس والبلبلة، فهذه علة ونسأل الله العافية والسلامة، وإنما ليكون طالب العلم على الجادة، واليوم قد اتسع الخرق على الراقع، فصار بيد كل أحدٍ منبر يكتب ما يشاء، ويذيعه من ساعته فيصل إلى الآفاق، ولربما يكون من أذاع ذلك ممن لا يحسن كتابة اسمه، فإلى الله المشتكى.

يقول: "لأنه لا يقال وغدوت فيما بعد الزوال"، فهنا مثل الرواح للجمعة، ما محمله عند الجمهور؟ قالوا: نعم الأصل أن الرواح يكون بعد الزوال، ولكنه قد يتوسع بالاستعمال فيقال للخروج مطلقًا، سواء كان قبل الزوال أو بعد الزوال، وهذا هو الشاهد.

فهنا وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ، الغدو يكون في أول النهار، وقد يتوسع في الاستعمال، فيعبر به عن الخروج مطلقًا، فخرج ﷺ بعد صلاة الجمعة، كما عبر بذلك في حضور الجمعة بالرواح، والمقصود من راح بالساعة الأولى أي يكون ذلك بعد طلوع الشمس في أول النهار.

وقوله: "لأنه لا يقال غدوت فيما بعد الزوال إلا على المجاز" باعتبار ماذا؟ عند القائل بالمجاز أن حمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، وهذه قاعدة صحيحة: "إذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة مقدمة"، كما ذكرت في بعض المناسبات أن القواعد الترجيحية هي ما كان مبناها على هذا الأساس، يعني: أنها مصرحة في الترجيح.

وليس كل قاعدة استعملها المفسر في ترجيح قول على قول يقال لها قاعدة ترجيحية كما قد يظن، وكل الكتابات التي وقفت عليها في القواعد الترجيحية صار أصحابها على هذا النهج.

يعني: أنه كل من استعمل قاعدة من المفسرين في ترجيح قول على قول سموها قاعدة ترجيحية، وعلى هذا الأساس كل قواعد التفسير قواعد ترجيحية؛ لأنه يرجح بها قول على قول.

وطرق الترجيح ذكر بعضهم منها -كالآمدي- أكثر من مائة وسبعين طريقًا، وصرح غيره بأن ذلك لا يحد، فمن طرق الترجيح: الترجيح بالقواعد قلَّت أو كثرت أيًا كان نوعها، فصحيح أنه يقدم الحقيقة على المجاز، لكن قد توجد قرينة ودليل يوجب تقديم المجاز على الحقيقة على القول بالمجاز -عند القائلين بالمجاز- إذا اعتبرنا هذا من قبيل المجاز، وإلا فإن الحقيقة هي ما يتبادر إلى الذهن والسياق هو الذي يبين عن ذلك، فيكون ما تبادر عن السياق مقدمًا، وهو الحقيقة وليس بمجاز.

فهنا يوجد قرينة تدل على أن المقصود ما هو أوسع من الخروج في أول النهار، وهو ما عُلِم من مخرج رسول اللهﷺ بعد صلاة الجمعة، هذا الدليل. والله أعلم أن المقصود بالغدو هو خروجه من المدينة، وكان بعد الزوال.

يقول: "وقيل ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس"، لكن هذا ليس بخروج، وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، هذا ليس بتعبئة للجيش، فلم يبوؤهم النبي ﷺ مقاعد للقتال إلا في أرض المعركة.

قال: "وذلك ضعيف؛ لأنه لم يبوئ حينئذٍ مقاعد للقتال إلا أن يراد أنه بوأهم بالتدبير حين المشاورة". وهذا فيه بعد، لكن أحسن من هذا -والله أعلم- أنه على اعتبار أنه يعبر بالرواح والغدو عن الخروج والدخول مطلقًا، فقد يكون أصل الاستعمال في وقتٍ محدد، ولكن توسع الناس فيه وهذا كثير في اللغة فيما توسع الناس فيه في الاستعمال.

وما عُلِمَ من مخرجه ﷺ هذا إذا قلنا بأنه لا مجاز في القرآن ومن يقول بمجاز وهم الجمهور، يقولون هذا مجاز أن الغدو استعمل في غير معناه المتبادر. الذي وضع له أولًا وهو الخروج في أول النهار.

ومن ينظر إلى أن المتبادر هو ما عُلِمَ من السياق كشيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله- يسمى هذه حقيقة في القرائن والسباق واللحاق والسياق، كل هذا يدل على المراد، فيكون متبادرًا بهذا الاعتبار، فعندها يكون هو الحقيقة ليس الحديث عن المجاز، ولكن المقصود بيان محمل ما ذكره ابن جزي -رحمه الله- سواء قلنا أنه مجاز أو حقيقة.

قوله تعالى:

مَقَاعِدَ، قال مواضع وهو جمع مقعد.

مقاعد: مواضع، وهو جمع مقعد، مقاعد مصاف جمع مقعد وأصل المقعد هو مكان القعود، فالمقاعد هنا هي المصاف، حيث يصطف المقاتلون كل في موضعه، ومقامه الذي وضع فيه.

القتال في الإسلام ليس كما هو الشأن في الجاهلية، على طريقة الهيشات -كما يقال- هيشات بطريقة فوضوية، وإنما بصفوف، وينظم الجيش يعبأ، كان النبي ﷺ يسوي صفوفهم كما هو معلوم في الصلاة وفي القتال، بحيث لا يتقدم أحد ولا يتأخر.

قوله تعالى: طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ[آل عمران:122] هما بنو حارثة، -وفي جميع النسخ- هم بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، لما رأوا كثرة المشركين، وقلة المؤمنين هموا بالانصراف، فعصمهم الله ونهضوا مع رسول الله ﷺ.

هذا قد نفى ابن جرير -رحمه الله- وقوع الخلاف فيه[5]، يعني: أنه لا خلاف في أن المراد بالطائفتين هما من الأنصار: بنو حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج، هموا بالرجوع، ولكن الله عصمهم من ذلك.

قوله: أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122]، الفشل في البدن هو الإعياء، والفشل في الرأي هو العجز والحيرة وفساد العزم.

والمقصود هنا: أَنْ تَفْشَلا، يعني: تجبنا وتضعفا، هذا المراد بالفشل والله أعلم، يجبن عن اللقاء، ويضعف، فيحصل له بسبب ذلك التراجع، وترك القتال مع رسول الله ﷺ.

قوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، أي: مثبتهما، وقال جابر بن عبد الله: ما وددنا أنها لم تنزل لقوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا[6]

يقول جابر فينا نزلت: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا قال: نحن طائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب بها أنها لم تنزل لقوله الله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا، فهذه منقذة وشهادة بالإيمان، أن هؤلاء لم يكونوا من المنافقين؛ فإن الله ولي المؤمنين. فهذا محمله، وهذا الأثر والحديث مخرج في الصحيحين.

قوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [آل عمران:123]، تذكير لنصر الله يوم بدر لتقوى قلوبهم.

غزوة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية، وغزوة أحد كانت في السنة الثالثة في منتصف شهر شوال كما سبق.

قوله: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، أذلة هي قلة عددهم وضعف عُدَدِهم، كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا، ولم يكن لهم إلا فرس واحد، وكان المشركون ما بين التسعمائة والألف وكان معهم مائة فرس، فقتل من المشركون سبعون، وأسر منهم سبعون، وانهزم سائرهم.

وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أصل الذل: يقال للخضوع والاستكانة والضعف، وأنتم ضعفاء، وأنتم أذلة، فنصركم الله على ما بكم من ضعف، وعجز، وقلة عدد وعدة، وذلك أن النصر بيد الله -تبارك وتعالى- ليس بالعدد والعدة والكثرة، ففي يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، فلم تغني عنهم من الله شيئًا، وضافت عليهم الأرض بما رحبت، وكانت النتيجة: ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودًا لم تروها.

فالنصر بيده وحده وليس بكثرةٍ وعددٍ وعدة.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]، متعلقٌ بنَصَركم أو بالتقوى والأول أظهر.

يعني: نَصَرَكم ببدر وأنتم أذلاء، نصركم لعلكم تشركون. يعني: يقول وقد نصركم ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون، متعلقٌ بالتقوى، اتقوه لعلكم تشكرون، فإذا اتقى العبد رجي أن يكون شاكرًا لله قال: والأول أظهر، أن ذلك يتعلق بنصركم، نصركم لعلكم تشكرون، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]، ولا يبعد بأن يكون بين القولين ملازمة؛ وذلك أن هذا النصر له متطلبات ومقتضيات، فتقوى الله -تبارك وتعالى- هي من الشكر، فَاتَّقُوا اللَّهَ والفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها وتفيد التعليل، نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله اتقوه لعلكم تتحققون بالشكر، فتقوى الله -تبارك وتعالى- هي من جملة الشكر، كيف يُشكَر؟ يشكر بتقواه وطاعته، وطاعة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.

قوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:124]، كان هذا القول يوم بدرٍ وقيل يوم أحد، فالعامل في إذ على الأول محذوف، وعلى الثاني بدلٌ من إذ غدوت.

إِذْ تَقُولُ يقول: كان هذا القول يوم بدر، وهذا نسبه الطاهر بن عاشور -رحمه الله- إلى الجمهور[7].

وهذا مروي عن جماعة كالحسن، والشعبي، والربيع[8]، واختاره أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[9]، والحافظ بن كثير[10]، جزم ابن جرير -رحمه الله- بأن الألف يوم بدر، في سورة الأنفال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ[الأنفال:9]، سورة الأنفال تتحدث عن غزوة بدر، فالألف في بدر، وتوقف ابن جرير -رحمه الله- في الثلاثة آلاف المذكورة هنا، والخمسة آلاف، أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ۝ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:124، 125]، فابن جرير توقف في الثلاثة، والخمسة هنا، هل هي في بدر أم في أحد؟

منشأ الإشكال: أنه في بدر في سورة الأنفال قال: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، ألف، وهنا ذكر ثلاثة آلاف، وخمسة، وأكثر أهل العلم الجمهور من السلف فمن بعدهم أن الملائكة لم تقاتل في يوم أحد، ولهذا قالوا: كما أضاف ابن عاشور إلى الجمهور أن الثلاثة والخمسة في يوم بدر[11]، لكن قوله -تبارك وتعالى-: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ التي في الأنفال، معنى مردفين: أنهم مردفين يُتبعون بآخرين، يتبعون بثلاثة ثم إلى الخمسة، لكنه مشروط.

وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا [آل عمران:125]، كما سيأتي.

يقول: "كان هذا القول يوم بدر، وقيل يوم أحد فالعامل في إذ على الأول محذوف". العامل في إذ، يعني: واذكر إذ تقولوا للمؤمنين، وبعضهم يقول متعلق بـ "ولقد نصركم الله إذ تقول"، نصركم الله ببدر إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران: 124]، بعضهم يقول: متعلق بهذا.

وعلى الثاني: يعني على القول بأن هذا في أُحد يكون بدل من وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121]، وإذ غدوت في أُحد، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، وإذ غدوت، وإذ تقول للمؤمنين يكون بدلًا منه، يكون هذا في أحد.

قوله: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ [آل عمران:124]، تقرير جوابه بلى، وإنما جاوب المتكلم لصحة الأمر وبيانه، كقوله: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [الرعد: 16].

الجواب هو: بلى كما هو معلوم في مثل هذا في النفي أن يكون الجواب ببلى، فإذا قال: نعم، يعني معنى ذلك النفي، أنه لن يكفي، تقول: أليس زيد مسافر؟ فإذا قلت: بلى، فقد أثبت وأقررت بسفره، وإذا قلت: نعم، فمعنى ذلك أنك أثبت النفي أنه ليس بمسافر. تقول للمؤمنين: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بلى: هذا جاوب المتكلم، المتكلم من هو؟ الله فأجاب: بلى يكفي، فالأصل أن يجيب المخاطب، فأجاب المتكلم؛ لصحة الأمر وبيانه -واضح- يكفي الملائكة، واحد يكفي بحركة في جناحه، أو نفخة يطير هؤلاء هم ورواحلهم ودوابهم، وخيامهم، وأمتعتهم، فيكونون خبرًا بعد عين، لا يوقف بعد ذلك منهم على أثر.

ملك واحد، جبريل رفع قرى، وليست قرية واحدة -قرى يعني مدن- قرى قوم لوط، والمؤتفكات، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [النجم:53]، رفعها إلى السماء، ثم قلبها، وأتبعوا بالحجارة، ملك واحد، فكيف بألف؟ وكيف بثلاثة آلاف؟ وكيف بخمسة آلاف؟ وعدد المشركين بين التسعمائة إلى الألف في بدر، باعتبار أن هذا في بدر، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:124]، ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف ملك مقابل تسعمائة من الأوباش، لكن هذا كما قال الله : وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى [آل عمران:126]،  وفي سورة الأنفال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10]، فبأقوى صيغة من صيغ الحصر في هذا وهذا، يعني وما جعله الله إلا بشرى، يعني: لا يغير ميزان المعركة هو مجرد بشارة، وأكد هذا: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، يعني: نزول الملائكة ليس هو الذي جلب النصر، وإنما النصر من عند الله وحده، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160].

فيطلب النصر منه بالتقوى، وطاعته، والتوكل عليه، والثقة به، وحسن الظن بالله -تبارك وتعالى- إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، مع الدعاء والضراعة، والإخبات، والاستكانة لله رب العالمين، والاعتصام بحبله، والاجتماع، وترك التفرق، إلى غير ذلك من أسباب النصر.

يقول:

كقوله: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [الرعد:16].

يعني: أنه أجاب لظهور الأمر وبيانه، فهو بيِّن.

قوله: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ [آل عمران:125] الضمير للمشركين، والفور السرعة، أي: من ساعتهم، وفي نسختين الفور الساعة، أي: من ساعتهم، وقيل المعنى من سفرهم.

الفور هو السرعة الفور، أي: من ساعتهم، وقيل: المعنى من سفرهم، ويأتوكم من فورهم، قيل: من وجههم كما جاء عن الحسن وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي من وجههم هذا[12]، أو من ساعتهم، أو من غضبهم، باعتبار أن الفور بمعنى الغضب، يقال: فار فائره إذ غضب، "فورهم" أي: من غضبتهم، جاءوا في حال من الحنق على المسلمين.

فإذا قيل: إن هذا كان في بدر فجاؤوا، وهم في حالة من الغضب لعيرهم، وتعرض النبي ﷺ لها، وكانت فيها تجارة عظيمة لقريش، وعلى القول في أن ذلك في أُحد فقد جاؤوا موتورين لما وقع لسراتهم في يوم بدر، جاؤوا يثأرون يأتوكم من فورهم، وبعضهم يقول: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ يعني: خرج المشركون عليكم مباشرة من حيث خرجوا لقتالكم مسرعين إليكم في حدة وحرارة، فجمع بين المعاني المذكورة، يعني: أنهم خرجوا من وجههم في حال من الإسراع والغضب؛ فإن الفور يحتمل ذلك جميعًا، وليس ثمة ما يحدد أحد هذه المعاني دون غيره، فهم خرجوا بحال من الغضب، والإسراع إلى قتال المسلمين بحدة وحرارة.

وبعضهم يقول: يأتي المدد لنصرة إخوانهم المشركين، وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا؛ لأنهم وعدوا عن المشركين بالمدد، فقيد هذا، يعني مجيء الثلاثة والخمسة إذا جاء مدد المشركين، ولم يأتي المدد، فلم تنزل الثلاثة والخمسة على هذا الاعتبار، مع أن هذا من جهة الرواية لا يثبت، يعني: الرواية الواردة في هذا بأنهم وُعدوا بالمدد، لا يصح من جهة الإسناد، يعني: يكون وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يعني: المدد، فينزل المدد من الملائكة مقابل ذلك.

قوله: بِخَمْسَةِ آلَافٍ [آل عمران:125]، بأكثر من العدد الذي يكفيكم ليزيد ذلك في قوتكم فإن كان هذا يوم بدر فقد قاتلت فيه الملائكة، وإن كان يوم أحد فقد شرط في قوله: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:120]، فلما خالفوا الشرط لم تنزل الملائكة.

"خالفوا الشرط لم تنزل الملائكة" وقد جاء في الصحيحين عند سعد بن أبي وقاص قال: "رأيت عن يمين رسول الله ﷺ وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بياض، ما رأيتهما قبل ولا بعد -يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام-"[13].

يعني: جبريل وميكائيل، هذا في يوم أحد، لكن هذا أخذ منه الإمام النووي رحمه الله: أن الملائكة قاتلت يوم أحد[14].

الجمهور يقولون: لم تقاتل يوم أحد، ويقولون: أيضًا يوم حنين نزلت الملائكة للسكينة، والطمأنينة في قلوب المؤمنين، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [التوبة: 26]، في يوم حنين.

فعلى كلِّ حال: حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين يدل على أن الملائكة قاتلوا، لكن هل يعني هذا أن هذا العدد، إذا قيل: بأن ذلك يوم أحد ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف، وقاتلت مع المسلمين؟ لا يدل على ذلك، وإنما هؤلاء الملائكة قاتلوا عن رسول الله ﷺبخصوصه، وإلا لو نزلت الملائكة وقاتلوا لم تحصل الهزيمة، لا يمكن أن تحصل الهزيمة، وعلى القول بأنه في أحد كان مشروطًا بالصبر والتقوى، فلم يحصل ذلك فلم تنزل.

وعلى القول قول الجمهور أن ذلك في بدر يكون واضحًا، وإنما قاتل هؤلاء مع رسول الله ﷺ ذبًا عنه، وإلا فإن المشركين قد قصدوه ﷺ ووصلوا إليه وأصحابه منهم من صعد في الجبل، ومنهم من دخل المدنية، ولم يكد يبق معه إلا في بعض الروايات، أو في بعض المواقع، أو المواقف واحد، وفي بعضها نفر يسير قليل أفراد، حتى وصل إليه بعض المشركين، فكسرت رباعيته ﷺ وشج وجهه، وكسرت البيضة على رأسه، وهي ما يغطي الرأس من الحديد، فهذه تكسر بضرب قوي شديد، وسقط في الحفرة التي حفرها أبو عامر الراهب.

قوله: مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125] بفتح الواو وكسرها، أي: مُعَلَّمين أو مُعَلِّمين بفتح الواو وكسرها، أي معلمين أو معلمين أنفسهم أو خيلهم، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء إلا جبريل، فإنه كانت عمامته صفراء، وقيل: كانت عمائم صفر، وكانت خيلهم مجذوذة الأذناب، وقيل :كانوا على خيل بُلق.

يقول: (مسوّمين) بفتح الواو وكسرها، قرأ ابن كثير، البصريان، وعاصم بالكسر (مسوِّمين)، وبالفتح قرأ الباقون.

يقول: أي معلَّمين على (مسوَّمين) بالفتح، و(مسوِّمين) يعني: معلِّمين تضع علامات معلمين أنفسهم، أو معلِّمين، عليهم علامات أو على خيلهم، يعني بعلامة الحرب المأخوذ من السومة والسيماء وهي العلامة، سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ [الفتح:29]، يعني: علامتهم التي تبدو ظاهرة لكل أحد.

يقول: وكانت سيم الملائكة يوم بدر بيض، وبعضهم يقول: سود وبعضهم يقول خضر، يقول: إلا جبريل فإنه كانت عمامته صفراء، وقيل كانوا بعمائم صفر، وقيل: كانوا على خيل بُلق.

على كل حال: كان من عادة العرب في القتال أنهم يعلمون أنفسهم، وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آل عمران: 14]، على أحد الأقوال فيها: المعلمة بشيات وعلامات، وكانوا يضعون ذلك على الخيل، وتارة على أنفسهم، بعضهم يُعرَف إذا ربط عصابة حمراء، فمعنى ذلك الاستماتة، أنه مقبل على الموت لا يتوانى، فكان يضع ذلك الشجعان؛ ليعرفوا ويقصدوا، يعني: يقصدهم الأبطال من العدو، فلا يكون خفيًا بين الناس، في أغمار الجيش، وإنما يبرز حتى يُستهدف، فكان يفعل ذلك الشجعان.

قوله: وَمَا جَعَلَهُ [آل عمران:126]، الضمير عائد على الإنزال، أو الإمداد، وفي جميع النسخ على الإنزال والإمداد.

على الإنزال، أو الإمداد، وممكن تكون "أو" عاطفة لا إشكال، وبعضهم يقول على التسويم، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ [آل عمران:126]، وهذا بعيد؛ لأن التسويم بمجرده ليس هو البشرى، وإنما نزول الملائكة أني ممدكم، هذا الإمداد هو بشرى، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى، هو مجرد بشرى، ولا يكون جالبًا للنصر، هذه عقيدة ينبغي أن تكون راسخة، وإلا النصر فله متطلبات لابد من تحقيقها، وأصلاه العظيمان: الاعتصام بحبل الله، والثاني: عدم التفرق، وكل ذلك غير متحقق في الأمة في هذه الأوقات، ولذلك لا نرجو نصرًا مؤزرًا على الأعداء، ونحن نشاهد الأمة في هذا التفرق والانقسام والاختلاف بين كل الطوائف على مستوى أهل الجهاد والقتال، طوائف كثيرة متفرقة، فهذا عنوان الهزيمة.

وكذلك على مستوى الدعاة إلى الله، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

فمن أراد النصر فعليه أن يحقق شرط الله فيه، أما هذا الذي نحن فيه في هذا العصر فإن ذلك دليل على قلة العقل، وضعف الدين، وهذه الأحوال التي نشاهدها، المقاتل والمذابح التي تجري على المسلمين رجالًا ونساءًا صغارًا وشيبًا، كل ذلك في سبب هذا البلاء والداء الذي ابتليت به هذه الأمة، فلن يتحقق لها النصر والتمكين إلا بأن يتجرد الناس لله، ويتخلوا عن أهوائهم، وما قد يتشبثون به من مزاعم ومكتسبات، وغير ذلك من الأوهام التي يتشبثون بها، وإلا فلا نصر يتحقق مع هذه الحالة التي نشاهدها، والله المستعان.

وانظر إلى الحروب التي مضت عبر العقود الماضية لا تجد نصرًا حاسمًا يتحقق به مقصود الشارع، وإنما هو استنزاف للأمة في الأرواح والأموال، ويحصل بسبب ذلك ما يحصل من تشريد، وتهجير وهدم للبلاد، إلى غير ذلك مما تشاهدون، هذا بلاء ابتلينا به بسبب تفرقنا وبعدنا عن الله .

الأمة لا زالت في غفوة وفي لهو ونسأل الله أن يلطف بنا، وأن يرد كيد الأعداء في نحورهم، وأن ينصر المسلمين نصرًا مؤزرًا، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يردهم إليه ردًا جميلًا، وأن يرحم ضعفهم وعجزهم ومسكنتهم، ويفك حصارهم، ويغنيهم من الفقر، والله المستعان.

قوله: وَلِتَطْمَئِنَّ [آل عمران:126]، معطوف على بشرى؛ لأن هذا الفعل بتأويل المصدر، وقيل يتعلق بفعل مضمر يدل عليه "جعله".

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ [آل عمران:126]، معطوف على بشرى، بشرى اسم فعطف عليه فعل (ولتطمئن)، قال: لأن هذا الفعل بتأويل المصدر، يعني والاطمئنان، ولتطمئن، يعني: وما جعله الله إلا بشرى ولاطمئنان، أو لطمأنينة قلوبهم، وقيل: يتعلق بفعل مضمر، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ يدل على جعله (ولتطمئن) يعني: أنزلهم لتطمئن القلوب ونحو ذلك والأصل عدم التقدير.

من القواعد الترجيحية: أن الكلام إذا دار بين التقدير والاستقلال، فالأصل الاستقلال، فليستقل هكذا من غير حاجة إلى تقدير.

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى، يعني: هذا الإمداد والإنزال بشرى، ولتطمئن، ولأجل اطمئنان النفوس بذلك.

قوله:

لِيَقْطَعَ [آل عمران:127]، يتعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ [آل عمران:123]، أو بقوله: وَمَا النَّصْرُ [آل عمران:126].

لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني: ليقتل فرقة من هؤلاء الكفار، أو يهلك جماعة، يقطع طرفًا، أو الاستيلاء على أموالهم وغير ذلك، يقطع طرفًا بقتل طائفة منهم، أو بأخذ شيء من أموالهم، أو الاستيلاء على شيء من بلادهم، وغير ذلك.

لِيَقْطَعَ ابن جرير -رحمه الله- يقول: يتعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ.

لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بقتل سراتهم، وأسر أيضًا سبعين، أو بقوله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، نصر ليقطع، ينصركم ليقطع طرفًا من الذين كفروا.

وبعضهم يقول: أنه متعلق بقوله: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: 125]، ليقطع طرفًا كالذين كفروا، لكن ابن جرير يقول أنه يتعلق بما ذكره ابن جزي، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ يقطع طرفًا من الذين كفروا.

قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، جملة اعتراضية بين المعطوفين، ونزلت لما دعا رسول الله ﷺ في الصلاة على أحياء من العرب، فترك الدعاء عليهم.

لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، يقول: نزلت لما دعا النبي ﷺ على أحياء من العرب، فترك الدعاء عليهم.

جاء في الصحيح: عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع، فربما قال: إذا قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف، يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا، لأحياء من العرب حتى أنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128][15].

يعني: هذه نزلت بسبب القنوت، حينما قنت رسول الله ﷺ يدعو على هؤلاء من العرب.

وورد أيضًا أنه دعا على رجال بأسمائهم، وهؤلاء بعضهم أسلم، دعا عليهم ولعنهم في الصلاة في القنوت، اللهم العن فلانًا وفلانًا، لكن قال الله : أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ [آل عمران:128].

ولاحظ أنه قدم التوبة عليهم كما في قوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:129].

فجعل العذاب بين المغفرتين؛ وذلك لأن رحمته سبقت غضبه، فهؤلاء إذا فعلوا هذه الأفاعيل في أحد يقول: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].

وفي حديث أنس قال: كسرت رباعيته يوم أحد، وشج رأسه، فجعل يسلت الدم عنه، ويقول: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله، فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128][16]. وهذا مخرج في صحيح مسلم.

إذًا يكون مجموع ذلك: أن الآية نزلت بسبب دعائه ﷺ هو دعا على أحياء من العرب في حديث أنس، وعلى رجال بأسمائهم، فقد يكون ذلك في وقت متقارب، فيكون الآية نزلت بعد ذلك كله، يعني: لما قال ذلك في أرض المعركة، ودعا على هؤلاء الأحياء.

لكن لا يظهر هذا كل الظهور -والله أعلم- والسبب أن دعاءه ﷺ على أحياء من العرب، هم الذين غدروا بالقراء، كان يدعو على عصية وذكوان، ونحو ذلك من القبائل، فهذا كان بعد غزوة أحد، وحينما كان يسلت الدم عن وجهه ﷺ كان هذا في أرض المعركة، ولهذا يمكن أن يمثل بهذا على ما نزل مرتين والله أعلم.

يكون نزل مرة في أرض المعركة لما قال هذا الكلام كما في صحيح مسلم، حيث كان يسلت الدم عن وجهه ﷺ يقول: كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيه ﷺ؟ فنزلت الآية.

ونزلت أيضًا لما دعا على أحياء من العرب، يعني: قبائل من العرب، فيكون ذلك تذكيرًا بالحكم الأول، ونزول الآية مرتين ليس محل اتفاق، يعني هذا الطريق في الجمع ليس محل اتفاق، بعض أهل العلم يقول: لا تنزل الآية مرتين، ويعمدون إلى الترجيح، الترجيح في شيء من المرجحات، يعني: كأن يقدم المخرج في الصحيحين على غيره، أو يكون الراوي حاضر القصة في أحد الواقعتين، أو بطريقة من طرق الترجيح.

والأقرب -والله أعلم- أن الآية يمكن أن تنزل مرتين، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- تذكيرًا بالحكم[17]، يعني: الأول أن الحكم الثاني نفس الحكم الأول ولا إشكال، والقرآن كان ينزل بمكة على حرف قريش، ثم نزل على الأحرف الستة بعد الهجرة بالسور المكية، فإن السور المكية أيضًا فيها من الأحرف السبعة، ولم يكن ذلك نازلًا في مكة، وإنما نزل بالمدينة.

وليس معنى قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ النهي عن الدعاء، فنوح قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا[نوح:26]، وموسى وهارون دعوا على فرعون: إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [يونس:88].

والنبي ﷺ قال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فلا يمنع الدعاء على الكفار، يعني أو بجمعهم؛ فإن هذا لا إشكال فيه.

قوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ معناه مسلمون.

كما حصل لبعض من دعى عليهم النبي ﷺ لعنهم بأسمائهم صفوان بن أمية فقد أسلم، وسهيل بن عمرو فقد أسلم، وقد لعنه رسول الله ﷺ في قنوت ولعن صفوان، ومع ذلك قال: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، والنبي ﷺ أيضًا دعا ربه فيمن لعنه من هذه الأمة بعينه بشخصه، أن يجعلها الله عليه رحمة، قال ﷺ: اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنته، أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا[18].

وهذا ليس على العموم، كلعنه للنامصات، وإنما بعين فلان، سبه يكون ذلك رحمة عليه.

  1. تفسير الطبري (7/159).
  2. تفسير الطبري (7/399).
  3. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، رقم: (342).
  4. البيان والتحصيل (1/390)، بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/176).
  5. تفسير الطبري (7/161).
  6. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران:122]، رقم: (4051)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل الأنصار ، (2505).
  7. التحرير والتنوير (4/75).
  8. تفسير ابن كثير (2/112). 
  9. تفسير الطبري (7/173).
  10. تفسير ابن كثير (2/112).
  11. التحرير والتنوير (4/75). 
  12. تفسير ابن كثير (2/113).
  13. أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب في قتال جبريل وميكائيل عن النبي ﷺ يوم أحد، رقم: (2306).
  14. شرح النووي على مسلم (15/66).
  15. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران:128]، رقم: (4560).
  16. أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، رقم: (1791).
  17. العجاب في بيان الأسباب (2/751).
  18. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب من لعنه النبي -ﷺ، أو سبه، أو دعا عليه، وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجرا ورحمة، (2600). 

مواد ذات صلة