الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
(003-أ) من قوله تعالى (ولكم نصف ما ترك أزواجكم..) الآية 12 - إلى قوله تعالى (والَذان يأتيانها منكم..) الآية 16
تاريخ النشر: ١٤ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 1054
مرات الإستماع: 1143

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.

يقول الإمام ابن جزي عند قوله تعالى:

"وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12] الآية خطابٌ للرجال، وأجمع العلماء على ما تضمنته هذه الآية من ميراث الزوج والزوجة، وأن ميراث الزوجة تنفرد به إن كانت واحدة، ويقسم بينهن إن كن أكثر من واحدة، ولا ينقص من ميراث الزوج والزوجة [في النسخة الخطية: من ميراث الزوج] وسائر السهام، إلّا ما نقصه العول على مذهب جمهور العلماء، خلافًا لابن عباس[1]، فإنه لا يقول: بالعول.

فإن قيل: لم كرر قوله: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ [النساء:12] مع ميراث الزوج وميراث الزوجة، ولم يذكره قبل ذلك إلّا مرة واحدة في ميراث الأولاد والأبوين؟

فالجواب: أن الموروث في ميراث الزوج هو الزوجة، والموروث في ميراث الزوجة هو الزوج، وكل واحدةٍ قضيةٌ على انفرادها؛ فلذلك ذكر ذلك مع كل واحدة بخلاف الأولى، فإن الموروث فيها واحدٌ، ذكر حكم ما يرث منه أولاده وأبواه، وهي قضيةٌ واحدة؛ فلذلك قال فيها: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ [النساء:12] مرةً واحدة".

قوله هنا: "ولا ينقص من ميراث الزوج والزوجة وسائر السهام، إلّا ما نقصه العول" العول معروف، وهو زيادة السهام على أصل الفريضة، يقول: "على مذهب جمهور العلماء، خلافًا لابن عباس -ا-[2]، فإنه لا يقول: بالعول".

ثم ذكر تعليل تكرُّر مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12] تكرر مع ميراث الزوج وميراث الزوجة، بينما لما ذكر ميراث الأولاد والأبوين ذكر ذلك بعدهما، يعني لم يذكر ذلك بعد الأبوين، ثم كرره بعد ميراث الآباء مثلًا، وأجاب عن هذا: أن ميراث الزوج يعتبر مسألة مستقلة من مسائل الفرائض، وميراث الزوجة كذلك فكرره لأجل هذا.

يقول: "بخلاف الأولى فإن الموروث فيها واحدٌ، ذكر حكم ما يرث منه أولاده وأبواه" لكن في الصورة السابقة الموروث زوجة أو زوج، فاختلف الموروث، فقال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ [النساء:12] كرر بعد كل واحد منهما.

"وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً الكلالة: هي انقطاع عمود النسب -وفي النسخة الخطية: عمودي النسب- وهو -والنسخة الخطية: وهي- خلو الميت عن ولدٍ ووالدٍ".

"هي انقطاع عمود النسب"، أو عمودي، فلا إشكال، باعتبار أن عمود مفرد مضاف، فيكون بمعنى الجمع، والعموم، يعني من أعلى وأسفل، يعني: مات وليس له وارثٌ من جهة آبائه، وليس له وارث لا من جهة الأصل، ولا من جهة الفرع، فعمود هنا تعم الجهتين كذلك "انقطاع عامودي النسب"، يعني: من أعلى وأسفل، مات ولم يترك وارثًا من جهة الأصل ولا من جهة الفرع، فهذه الكلالة.

وبعضهم يقول: هي مشتقة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جميع جوانبه.

وهنا يقول: "خلو الميت عن ولدٍ ووالدٍ" وهذا ثبت عن ابن عباس -ا- أنه قال: كنت أخر الناس عهدًا بعمر يعني: قبل استشهاده، فسمعته يقول: القول ما قلت، قلت: وما قلت؟ قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد، وهو ثابت عن عمر وأخرجه عبد الرزاق[3]، وابن أبي حاتم[4]، وصححه الحافظ ابن كثير[5]، والشيخ أحمد شاكر[6] -رحم الله الجميع-.

وجاء عن أبي بكر أيضًا أنه سئل عن الكلالة، فقال نحو هذا[7]، مثل ما قال عمر وهذا مروي عن جماعة، كعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد، والشعبي، والنخعي، والحسن، وقتادة، وجابر بن زيد، وبه يقول أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، والفقهاء السبعة في المدينة، والأئمة الأربعة[8]، بل حكى عليه الإجماع جمعٌ من أهل العلم[9].

"ويحتمل أن تطلق هنا على الميت الموروث، أو على الورثة".

يعني الكلالة هنا هل تطلق على نفس الميت من مات بهذه الصفة لم يترك أصلًا ولا فرعًا من الوارثين يقال له: كلالة؟  أو يقال ذلك على الورثة؟

يوجد إضافة يا شيخ في النسخة الخطية: أو على الورثة، أو على الوراثة.

يعني بعض أهل العلم يقولون: أن الكلالة تقال: لهذه الصورة، وهذا الذي أشرت إليه قبل قليل في توجيه (وهو) "أو على الورثة، أو على الوراثة"، يعني: هذه الحالة.

"ويحتمل أن تطلق هنا على الميت الموروث، أو على الورثة، أو على الوراثة، أو على القرابة، أو على المال، فإن كانت للميت فإعرابها خبر كان، ويورث في موضع الصفة، أو يورث خبر كان، وكلالة حالٌ من الضمير في يورث، أو تكون كان تامة، ويورث في موضع الصفة، وتكون كلالة حالٌ من الضمير، وإن كانت للورثة فهي خبر كان على حذف مضاف، تقديره ذا كلالة".

"فإن كانت للميت، فإعرابها خبر كان" كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء:12] خبر كان، واسم كان (رجل) و(يورث) يقول: "في موضع الصفة" لاسم كان، للرجل.

يقول: "أو يورث خبر كان" رجل اسمها، والخبر جملة فعلية، يُورَثُ كَلالَةً [النساء:12] خبر كان، "وكلالة حالٌ من الضمير في يورث" يورث هو يعني حال كونه كَلالَةً [النساء:12] باعتبار أن الكلالة تقال لنفس الميت.

"أو تكون (كان) تامة" يعني بمعنى وجد، فلا تكون عاملةً برفع المبتدأ على أنه اسمٌ لها، وتنصب الخبر على أنه خبرًا لها.

يقول: "أو تكون (كان) تامة، و(يورث) في موضع الصفة، وتكون كلالة حالٌ من الضمير" إذا كانت تامة، ويورث في موضع الصفة، فيكون الرجل فاعل وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ [النساء:12] يعني وإن وجد رجلٌ، فرجل فاعل، وليس باسم كان، باعتبار أنها تامة، قال: "ويورث في موضع الصفة، وتكون كلالة حالٌ من الضمير" في (يورث) أي يورث هو، حال كونه كلالة، باعتبار أنه هو كلالة، وهذا كله باعتبار أن الكلالة هو الميت الذي كان بهذه الصفة.

يعني على نية حذف مضاف، يورث ذا كلالة، يورث هو، يعني حال كونه كذلك، ذا كلالة، هذا إذا كان تامة، والكلالة هي نفس الميت.

يقول: "وإن كانت للورثة" أي كانت الكلالة تقال للورثة وليس للميت، باعتبار أنهم أحاطوا به وتكللوه؛ لأنهم حواشي، وليسوا بأصول ولا فروع، من تكلله النسب.

يقول: "فهي خبر كان على حذف مضاف، تقديره: ذا كلالة" هذا على حذف مضاف، إذا كانت خبر، وهناك على أنها حال، وإن كان رجلٌ يورث ذا كلالة، يعني صاحب كلالة، يعني قرابة وارثين بهذه الصفة "ذا كلالة".

"أو حال على حذف مضافٍ أيضًا كما سبق، في حال كونه ذا كلالة.

"وإن كانت للورثة، فهي خبر كان على حذف مضاف تقديره ذا كلالة، أو حالٌ على حذف مضافٍ أيضًا، وإن كانت للورثة، فهي مصدر في موضع الحال".

وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء:12] "مصدر في موضع الحال"، يعني: حال كون الوراثة الكلالة.

"وإن كانت للوراثة فهي مصدر في موضع الحال، وإن كانت للقرابة، فهي مفعولٌ من أجله تقديره: يورث من أجل القربى، وإن كانت للمال فهي مفعولٌ ليورث [وفي النسخة الخطية: فهي مفعولٌ ثانٍ ليورث] وكل وجهٍ من هذه الوجوه على أن تكون (كان) تامة، ويورث في موضع الصفة، وأن تكون ناقصة [وفي النسخة الخطية: أو تكون ناقصة] ويورث خبرها".

وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء:12]، يعني: يورث هو، فهو نائب فاعل، ويكون كَلالَةً [النساء:12] مفعول ثانٍ "وكل وجهٍ من هذه الوجوه على أن تكون (كان) تامة، و(يورث) في موضع الصفة.

"أو تكون ناقصة، و(يورث) خبرها" مع أنه سبق أنه يورث يمكن أن تكون صفة لاسمها وهو رجل، وكلالة خبر.

"وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [النساء:12] المراد هنا: الأخ للأم والأخت للأم بإجماع، وقرأ سعد بن أبي وقاص: وله أخٌ أو أختٌ لأمه؛ وذلك تفسير للمعنى".

يعني القراءة غير المتواترة إذا صح سندها فهي تفسر القراءة المتواترة، فهنا وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [النساء:12] يعني من الأم، فهؤلاء لهم لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12] هذا في حال الانفراد.

"فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12] هذا إذا كان الأخ للأم واحدًا فله السدس، وكذلك إذا كانت الأخت للأم واحدة، فهم شركاء في الثلث إذا كان الإخوة للأم اثنين فصاعدا، فلهما الثلث بالسواء بين الذكر والأنثى؛ لأن قوله: شركاء يقتضي التسوية بينهم، ولا خلاف في ذلك.

غَيْرَ مُضَارٍّ منصوبٌ على الحال، والعامل فيه يوصي، ومضار اسم فاعل، قال ابن عباس: الضرار في الوصية من الكبائر[10]، ووجه المضار [وفي النسخة الخطية: ووجوه المضارة] كثيرة: منها الوصية للوارث، والوصية بأكثر من الثلث، أو بالثلث فرارًا عن وارثٍ محتاج، فإن علم أنه قصد بوصيته الإضرار رد ما زاد على الثلث اتفاقًا، واختلف هل يرد الثلث على قولين في المذهب؟ والمشهور أنه ينفذ".

قوله: غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء:12] ذكر المضارة في هذا الموضع دون الآية التي قبلها، والآية التي قبلها لما ذكر ميراث الآباء والأولاد لم يذكر المضارة.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- أشار هنا إلى ملحظ، وهو أن المضارة غالبًا لا تقع على الآباء والأبناء، وإنما تقع على غيرهم من القرابات، يعني لا يريد أن يرثه الحواشي مثلًا، فلربما صدر عنه ما يحصل به الإضرار على الوارثين.

يقول: غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء:12] "منصوبٌ على الحال" يعني حال كونه كذلك "والعامل فيه يوصي"، "ومضار اسم فاعل، قال ابن عباس: الضرار في الوصية من الكبائر[11]، ووجوه المضارة كثيرة: منها الوصية لوارث، والوصية بأكثر من الثلث، أو بالثلث فرارًا عن وارثٍ محتاج" يعني لا سيما إذا كان المال قليلًا "فإن علم أنه قصد بوصيته الإضرار رد ما زاد على الثلث اتفاقًا" هذا باعتبار أنه يجوز الوصية بأكثر من الثلث إذا أجازه الورثة، والمسألة ليست محل اتفاق.

وذكر بعضهم من وجوه المضار: أن يوصي "بأكثر من الثلث" كما سبق، أو أن يقر بكل ماله، أو ببعضه لأجنبي، أو أن يقر على نفسه بدينٍ لا حقيقة له دفعًا للميراث عن الورثة، أو أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه، وصار إليه، يعني هناك مستحقات عند الآخرين فيزعم أنه استوفاها، بحيث لا يأتي مال آخر، فيصير إليهم، أو أن يبيع شيئًا بثمنٍ بخس، أو أن يشتري شيئًا بثمنٍ مرتفع، كل ذلك لغرض ألا يصل المال للورثة، أو يوصي بالثلث من غير إرادة ما عند الله -تبارك وتعالى- وإنما فقط للإضرار بهم، يعني: لينقص حقوقهم، فهذه المزاولات جميعًا سواءً كان هذا أو هذا، فالمقصود أنه يريد إيصال الأذى إليهم، فيضيع المال، فهناك أموال عند الآخرين يطالبهم بها فيقول: قد استوفيتها، وليس عند أحدٍ لي شيء، يعني هو لا يبالي أن يضيع المال، فمقصوده ألا يصل إلى هؤلاء الورثة، أو يذهب ويشتري أشياء بأكثر من السعر المعتاد، أو يبيع الممتلكات والعقارات بأسعار بخسة، حتى لا يصل للورثة شيء يذكر، أو يهب، أو يقول: هذا المال ليس لي، وإنما هو لفلان، ونحو هذا.

ولذلك تكلم الفقهاء على الهبة مثلًا في مرض الموت المخوف، هل تكون نافذة أو لا؟ وكذلك تكلموا عن مسائل فيما طلق الزوجات في مرض الموت المخوف؛ ولهذا يذكرون من صور المسائل التي يرث فيها أكثر من أربع زوجات، يقولون: قد يرث ثمان، فيطلق أربعًا من الزوجات التي عنده، فإذا انقضت العدة عقد على أربع في مرض الموت المخوف، ليحرم أولئك من الميراث، ويصير الميراث إلى هؤلاء من بنات عمه مثلًا، فيقول: المال لا يخرج عن دائرة الأسرة مثلًا، فهذا يحصل، قد لا تتصور مثل هذا، لكن أحيانًا يكون للأب أولاد عققة أذوه، ولقي منهم عنت، فهو لا يريد أن يصل لهم شيئًا من المال، أو قد يكون أحد هؤلاء الأولاد في حالة من الفساد، يعني توجد حالات يسأل أحيانًا أرباب المال والثروة عنها، يكون هؤلاء الورثة من المجرمين، الذي يتعاطون المخدرات ويبيعونها ويروجونها، أو نحو ذلك، فيقول: هذا المال إذا صار إليهم سيكون عونًا على المعصية والإجرام والشر والمنكر، فماذا أفعل؟ أجعله وقفًا، أو أهب هذا المال لآخرين؟ كيف أتخلص من هذا البلاء الذي هو المال لئلا يصير بعد ذلك بعدي سببًا لمعصية الله فهذه حالات توجد، فيريد أن يتخلص من هذا المال بطريقة مناسبة، بحيث لا يصل إلى هؤلاء الوارثين، ولربما لا يعلمون بالمال أصلًا، لو علموا لربما قتلوه حتى يستحوذوا على هذا المال، وتوجد أحوال لربما يفعل هذا: إما لسوئهم، وإما لغرضٍ آخر عنده، يعني: قد يكون الورثة هؤلاء من غير الأصول والفروع من الحواشي، وبينهم قطيعة، قد يكون هذا المال سيصير إلى أخ واحد مثلًا، أو إلى إخوة، وبينهم عداوة وقطيعة وشر، وهو لا يريد أن يصل المال إليهم، فكيف يفعل؟ يتصرف بمثل هذه التصرفات.

"وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ [النساء:12] مصدرٌ مؤكدٌ لقوله: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ [وفي النسخة الخطية: مصدرٌ مؤكدٌ لقوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء:12] ويجوز أن ينتصب بغير مصدر".

يقول: "وَصِيَّةً مصدرٌ مؤكدٌ لفعلٍ محذوف، يعني: وصى وصيةً، أو يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء:12] وصيةً مصدر مؤكد لفعلٍ محذوف، يعني: هذا الذي شرع من أحكام الميراث عهدٌ مؤكد من الله إليكم؛ لأن الوصية: هي العهد المؤكد، أو الأمر والنهي الذي فيه تأكيد، يعني حينما تقول: افعل أو لا تفعل، لا يقال: هذه وصية، لكن حينما يكون معه توكيد يكون ذلك وصية.

"ويجوز أن ينتصب بغير مصدر -وفي النسخة الخطية: أن ينتصب بغير مضار-".

هو مصدرٌ منتصب على المصدرية، مؤكد لفعل محذوف يُوصِيكُمُ اللَّهُ بذلك وصيةً من الله.

"ويجوز أن ينتصب بغير مصدر" ماذا عندكم في النسخ؟

في جميع النسخ الخطية "بغير مضار".

لا هو لم ينتصب أصلًا بمضار، وإنما انتصب على المصدرية، يوصيكم الله بذلك وصيةً، فهو مصدر من فعل محذوف يوصيكم، والله أعلم.

"تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [النساء:13] إشارةٌ إلى ما تقدم من المواريث".

والحافظ بن كثير -رحمه الله- اختار أن يكون ذلك عائد على المواريث فقط[12]، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [النساء:13] وهو ما ذكر فيما يتصل بالمواريث قبله، فهذه حدود الله، وكلام المؤلف أعم من هذا، أنه يتعلق بالمواريث وغير المواريث من الأحكام التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- من أول السورة، كقضايا اليتامى والأيتام.

"وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:14] الآية، تعلق بها المعتزلة في قولهم: إن العصاة من المؤمنين يخلدون في النار، وتأولها الأشعرية على أنها في الكفار".

وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:14] ثم قال: يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا [النساء:14] فذكر الخلود هنا مع المعصية يقول: "تعلق بها المعتزلة في قولهم: إن العصاة من المؤمنين يخلدون في النار، وتأولها الأشعرية على أنها في الكفار" لسنا بحاجة إلى قول الأشعرية، وإنما يكفينا قول أهل السنة والجماعة، فهذه الآية بالكفار وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:14] وهذا إذا أشكل على أحدٍ من الناس فهو في حقه من المتشابه، فيرجع إلى المحكمات، فقد دل المحكم الواضح إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116] أن ما تحت الشرك سواءً كان من الكبائر أو الصغائر فهو تحت المشيئة، فيغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

وكذلك النصوص الأخرى الدالة على الشفاعة والمغفرة أيضًا، وأنه يخرج من النار من أهل الإيمان والتوحيد من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فهؤلاء في المآل يخرجون ولا يخلدون، وإنما يخلد فيها أهل الكفر، فذكر الخلود هنا يحمل على الكفار يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:14]، أو أن يكون المراد بالخلود البقاء لمدة طويلة، فذلك يقال له: خلودٌ عند العرب، وإن لم يكن المقصود به البقاء الأبدي السرمدي الذي يكون للكفار، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93] فإذا اعتبرت هذا مع قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116] فالقتل دون الشرك، فهو داخل في عموم المشيئة، فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة.

فهذا إذا أريد بالعصيان الكفر، فالخلود يكون على بابه، الخلود البقاء الأبدي الذي لا انقطاع له، وإن أريد به ما دون الشرك من الكبائر، أو نحو ذلك، فيكون المراد بالخلود: طول المدة، وهذا ذكره جماعة، كالقرطبي[13]، والطاهر بن عاشور[14]، ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-: يدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي[15]، فلا يكون فيها شبهة بالخوارج القائلين: بكفر أهل المعاصي، فإن الله تعالى رتب دخول الجنة على طاعته، وطاعة رسوله، ورتب دخول النار على معصيته، ومعصية رسوله، فمن أطاعه طاعةً تامة دخل الجنة بلا عذاب، ومن عصى الله ورسوله معصيةً تامة، يعني: حتى في التوحيد والإيمان، فيكون كافرًا، لم يؤمن أصلًا، فيدخل فيها الشرك وما دونه، دخل النار وخُلِّد فيها، ومن اجتمع فيه معصيةٌ وطاعة كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية، وقد دلت النصوص المتواترة على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد غير مخلدين في النار، فما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود فيها، وهذا على اعتقاد أهل السنة والجماعة، فلا يخلد في النار أحدٌ من أهل التوحيد، وأهل المعاصي والكبائر تحت المشيئة، فإن عذبوا فهم لا يخلدون في النار، فهذه الآية تفهم على ضوء النصوص الأخرى الواضحة، أما هؤلاء أهل البدع من المعتزلة والخوارج فإنهم يأخذون مثل هذه النصوص، ويعمون عن النصوص الأخرى، الواردة في الباب، مما يوضح ذلك ويبينه.

"يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ هي هنا الزنا".

أصل الفحش هو كل شيء مستقبح ومستشنع من الأقوال والأفعال، أي الشيء الفاحش الذي عظم في قبحه، وتناهى في شناعته، فهذا الأصل، ولكن هنا المقصود بالفاحشة الزنا، وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15] وذكرنا من قبل في التعليق على المصباح المنير: أن بعض أهل العلم يقول: بأن الفاحشة بـ(أل) المعرفة تقال: للزنا وما في معناه، وإذا جاءت مقيدةً بفاحشةٍ مبينة مثلًا يقولون: فهي عقوق الزوج مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب:30] وإذا ذكرت هكذا من غير (أل)، ومن غير تقييد بالبيان، فإنها بمعنى الذنب العظيم المستشنع، وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [النساء:22] لكن هذا التفصيل ليس على إطلاقه، والسياق هو الذي يبين المراد، فالفاحشة المراد بها هنا في هذه الآية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15] الزنا.

"مِنْ نِسَائِكُمْ [النساء:15] أي: من المسلمات؛ لأن المسلمة تحدّ حدّ الزنا".

يعني باعتبار أنه أضافهن إليهم، مِنْ نِسَائِكُمْ [النساء:15] ففهم منه أن المقصود المسلمات، وليس المقصود الزوجة بخصوصها.

"وأما الكافر أو الكافرة -وفي النسخة الخطية: وأما الكافر والكافرة- فاختلف، هل يحدّ أو يعاقب؟".

بالنسبة للكافر أو الكافرة هل يقام عليه الحد أو لا؟ يقول: اختلف في ذلك، وأقوال العلماء في هذا في التفريق بين أنواع الكفار: الذميين، يعني الذين لهم عقد الذمة، وهم مواطنون في الدولة الإسلامية، من غير المسلمين، يعني: أهل الكتاب، في البلاد التي تُفتح، ويحكمها المسلمون، فقد يكون فيها بعض السكان من غير المسلمين، من أهل الكتاب، فيعقد لهم الذمة، فيكون هؤلاء أهل ذمة.

وهناك المستأمنون، يعني: من أعطوا الأمان من الكفار، هؤلاء غير أهل الذمة، فأهل الذمة من جملة السكان، وهناك أهل العهد: كفار بين المسلمين وبينهم عهد، والرابع: أهل الحرب، يعني ليس بين المسلمين وبينهم عهد وإنما حرب؛ ولهذا يفرقون بالحكم بين هؤلاء، فالمستأمن هل يقام عليه الحد أو لا؟ سواءً كان حد الزنا، أو حد القذف، أو حد شرب المسكر، أو نحو ذلك؟

لكن الكلام هنا في هذه المسألة هو في حد الزنا، فأبو حنيفة -رحمه الله- يقول: إذا زنى الحربي المستأمن -الذي أعطي الأمان- بذمية، تحد الذمية ولا يحد الحربي، وإذا زنا ذمي بمستأمنة، يحد الذمي ولا تحد المستأمنة، باعتبار أن الذمي تقام عليه أحكام الشرع؛ لأنه تحت حكم المسلمين، بخلاف هذا المستأمن، أو المستأمنة[16].

أبو يوسف يقول: يحد الجميع المستأمن والذمي[17]، ومحمد بن الحسن يقول في الصورة الأولى، يعني: لو زنى الحربي المستأمن بذمية: لا تحد الذمية؛ لأن المرأة تابعة للرجل، فإذا لم يقم الحد على الزاني المستأمن فلا يقام على المزني بها، وهي الذمية؛ لأن الرجل هو الأصل عنده في الحد، فإذا انتفى عنده الحد في حق الأصل انتفى في حق الفرع، هكذا قال[18].

والمالكية يقولون في حد الزنا: إن الذمي والكافر عمومًا يؤدب فقط، ولا يقام عليه الحد، والمستأمن والمعاهد من باب أولى، يقولون: إلا إذا اغتصب امرأةً مسلمة فإنه يقتل لنقضه العهد، وهكذا يقولون: إذا ارتكب اللواط -أعزكم الله، فإنه يرجم-[19]، هذا عند المالكية.

والشافعية يقولون: يستوفى من الذمي ما ثبت من الحدود كالزنا والقطع، لكن إذا كان الشيء حلالًا عندهم مثل الخمر، فإنه لا يقام عليه الحد عند الشافعية.

والإحصان عندهم لا يشترط فيه أن يكون مسلمًا، يعني: أن الذمي يمكن أن يرجم، لكن لا يقام على المستأمن حد الزنا على المشهور عند الشافعية، وإنما على الذمي[20].

والحنابلة يقولون: إذا رفع إلى الحاكم من أهل الذمة من فعل محرمًا يوجب عقوبة مما هو محرمٌ عليهم في دينهم كالزنا والسرقة والقذف والقتل، فعليه إقامة الحد على هذا الجاني[21]؛ وذلك لحديث ابن عمر: "أن النبي ﷺ أتي بيهوديين فجرًا بعد إحصانهما فأمر بهما فرجما"[22] هذا دليل على إقامة الحد على أهل الذمة، يقولون: وإن تحاكم مسلم وذمي وجب الحكم بينهم بغير خلاف، قد نص الإمام أحمد -رحمه الله- على أنه لا يقام حد الزنا على المستأمن[23]، فهذه خلاصة في أقوال الأئمة، في إقامة الحد على هؤلاء.

"فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء:15] قيل: إنما جعل شهداء الزنا أربعةً تغليظًا على المدعي، وسترًا على العباد، وقيل: ليكون شاهدان على كل واحدٍ من الزانيين".

يعني: بمعنى أربعة، فيشهد على الرجل اثنان، وعلى المرأة اثنان، فصاروا أربعة، بل الصحيح أنه ليس كذلك، فلو شُهِد على الرجل أنه زنا، وتركت المرأة، كم يحتاج إلى شاهد؟ وكذلك القذف لو قذف رجل بالزنا فكم يحتاج إلى شاهد؟ يحتاج إلى أربعة شهود، فلا يقال: بأن ذلك ينقسم على الرجل والمرأة.

والحكمة من كونهم أربعة يقول: "تغليظًا على المدعي، وسترًا على العباد" يعني: من أجل ألا يتصارع الناس بالقذف بهذه الفاحشة العظيمة؛ ولذلك لم يطلب أربعة شهود بغير هذا، فالقتل يكفي فيه اثنان، أما الزنا فلا بد من أربعة، وفي هذا ما فيه من تنزيه الأسماع والألسن، ويبقى الناس يأمنون على أعراضهم، ولا ويجترأ ويتفوه أحد؛ ولذلك قلما تثبت هذه الجريمة بالشهادة؛ لأنها ليست مجرد شهادة أنه زنا فقط، وإنما شهادة مفصلة أنه رأى ذلك منه كالميل في المكحلة، يعني: رأى الرجل يواقعها مواقعة مفصلة، بحيث أنه رأى ذلك منه كالميل في المكحلة، وهذا كيف يتأتى؟ فهذا من أصعب الأشياء، وأربعة يرونه كذلك، ويشهدون به بهذه الطريقة، فهذا كيف يثبت بالشهادة؟

ولذلك فالزنا لا يكاد يثبت بهذه الطريقة، وكل ذلك احتياطًا للأعراض، وتشديدًا في هذه المسألة، لما يترتب عليها غير إقامة الحد من تدنيس الأعراض، ولا يلحقه ذلك وحده، بل من ورائه من أهل وقرابة وعشيرة، ونحو هذا؛ ولهذا المرأة التي اتهمت بالزنا في عهد النبي  -صلى الله عليه وآله وسلم- لاعنها زوجها، فلما لاعنت في الأربع الأولى -أي الأيمان الأربع- تشهد بالله عليه أنه من الكاذبين، فيما نسبه إليها من الزنا، والخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فهي توقف في الخامسة كما يوقف الرجل، ويقال لها: إنها موجبة، فالمرأة لما قيل لها ذلك تلكأت وترددت ساعةً، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، ثم قالت ذلك الخامسة، وذكر الرسول ﷺ أوصاف الولد: إن كان لمن رُمِيت به، وإن كان لزوجها، فجاء على الوصف المكروه، يعني: أنها كانت فعلًا كما قال زوجها، ومع ذلك ما أقام النبي ﷺ عليها الحد، وإنما مثل هذه القضايا يُكتفى فيها بما أمر الله به، إن كانت زوجة فاللعان بهذه الطريقة، ولا يحتاج أن يقال: أن يُؤخذ منه تحليل مثلًا، ولو قالوا: بأن ذلك التحليل لا يخطئ، وإنما يكفي اللعان في قذف الزوجة، والشهود الأربعة على غيرها، والأيمان الأربعة بمنزلة الشهود الأربعة، ويكتفى بهذا، ولا يقال في حالة الشهادة عليه مثلًا: بأنه يمكن أن يطلب تحاليل، وما أشبه ذلك، فلا حاجة لهذا.

أو يثبت ذلك بالاعتراف، أو بالحمل، كبكر حملت، أو امرأة زوجها منقطع عنها في سفر، وبعيد عنها سنوات، ثم حملت.

س: شيخنا: هل يقال: حد الزنا لم يثبت بشهادة الشهود على مر التاريخ؟

ج: الله أعلم؛ لأنه ليس عندنا استقراء، لكن لا يكاد يثبت، والصحابة في زمن عمر شهد أربعة، ثم تراجع واحد، فحُدوا الثلاثة، فحصلت شهادة أربعة، لكن تراجع أحدهم.

"فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [النساء:15] كانت عقوبة الزنا الإمساك في البيوت، ثم نسخ ذلك بالأذى المذكور بعد هذا، وهو السب والتوبيخ، وقيل: إن الإمساك في البيوت للنساء، والأذى للرجال، فلا نسخ بينهما، ورجحه ابن عطية[24]، وابن الفرس[25] بقوله: في الإمساك مِنْ نِسَائِكُمْ وفي الأذى (منكم)، ثم نسخ الإمساك والأذى بالرجم للمحصن، وبالجلد لغير المحصن، واستقر الأمر على ذلك، فأما الجلد فمذكورٌ في سورة النور، وأما الرجم فقد كان في القرآن، ثم نسخ لفظه، وبقي حكمه، وقد رجم ﷺ ماعزًا الأسلمي[26]، وغيره".

قال: "كانت عقوبة الزنا الإمساك في البيوت، ثم نسخ ذلك بالأذى المذكور بعد هذا، وهو السب والتوبيخ" باعتبار أن الإمساك في البيوت عام، لكن يشكل على هذا أن الإمساك في البيوت جاء بصيغة التأنيث وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15] وجاء بالتقييد مِنْ نِسَائِكُمْ [النساء:15] فهذا في النساء، فكيف يقال: بأن هذا نسخ بالذي بعده من قوله: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا [النساء:16]؟ يعني إن الإمساك وهو الحبس بالبيوت إلى أن تموت نسخ بالأذى، والذي هو السب والتوبيخ، وقد جاء عن ابن عباس، وسعيد بن جبير: الشتم، والتعيير والضرب بالنعال، لا على سبيل الحد[27]، وهذا القول وهو أنه نسخ بالآية التي بعدها وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] إنما حمل القائل به عليه -والله تعالى أعلم- أن الصيغة في الثانية بالتثنية، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] فما المقصود بذلك؟ فقال: الرجل والمرأة، فذكر الأذى، فقال: وهذا ناسخ للحبس، ولكن قال: "وقيل: إن الإمساك للنساء، والأذى للرجال" وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا [النساء:16] وهذا أقرب لظاهر اللفظ؛ لأن الآية الأولى في النساء، والآية الثانية في الرجال، فيكون ذلك الحكم في الابتداء، قبل أن ينسخ ذلك بالحد فيما يتعلق بالبكر والثيب، يقول: "فلا نسخ بينهما" يعني الثانية ليست ناسخة للأولى، "ورجحه ابن عطية[28]، وابن الفرس[29]"، وابن الفرس له كتاب في أحكام القرآن، وهو من المالكية "بقوله: في الإمساك مِنْ نِسَائِكُمْ وفي الأذى (منكم) ثم نسخ الإمساك والأذى بالرجم للمحصن، وبالجلد لغير المحصن، واستقر الأمر على ذلك" يعني: أن البكر يجلد مائة، وتغريب عام، والثيب يرجم، واختلف في الجلد هل يجلد مائة ويرجم؟ يعني: يجمع له بين هذا وهذا؟ والجمهور على أنه لا يجمع له بينهما، ولكن ثبت عن علي القول بالجمع[30]، استنادًا إلى سنة رسول الله ﷺ الصحيحة، وهذا النسخ الذي ذكره -يعني: نسخ الحبس للنساء، والأذى للرجال، الذي كان في أول الأمر- نقل عليه الإجماع جماعة من أهل العلم، كابن الجوزي[31]، والحافظ ابن كثير[32]، وهذه المسألة عند الأصوليين هي المسألة المعروفة بالمغي بغاية، هل يكون من قبيل النسخ إذا بلغ تلك الغاية أو لا؟ هنا قال: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، يعني: إلى أن يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15] فهذا غاية، قال النبي ﷺ: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة، والرجم[33]، فهذا الذي غيي بهذه الغاية، هل يقال له: نسخ؟ والغاية نوعان، ولها صورتان، إما أنها غاية مطلقة، مثل هذه: يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15] أو غاية مقيدة ومحددة، وهذه لا وجود لها في الكتاب والسنة، أصلًا ليس في الكتاب والسنة -فيما أعلم- إلا هذا المثال، لكن الغاية المقيدة المحددة عندهم هي فرضية، يقولون: كما لو قلت لإنسان: اعمل بكذا إلى وقت كذا وكذا، فهذا ليس بنسخ إذا بلغ ذلك الوقت، وهذه الصورة لا حاجة إليها، لكن نتحدث عن ما له تطبيقات من النصوص، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: بأن الاختلاف بمجرد التسمية[34]، يعني هل يقال: إن المغيي بغاية إذا بلغ الغاية، وتغير الحكم ببلوغ الغاية، هل يقال له: نسخ أو لا؟ هم متفقون في النهاية على أن الحكم في ثاني حال، غير ما ذُكر سابقًا، يعني: أن الحكم هو الجلد والتغريب أو الرجم، وليس الأذى والحبس في البيوت، فهم متفقون على هذا، ولكن هل يقال له هنا: نسخ أو لا يقال له: نسخ؟ الخلاف في التسمية فقط، وهذا غير مؤثر، وكما سبق بعض أهل العلم نقل الإجماع على أن هذا نُسخ، يقول: "واستقر الأمر على ذلك".

في قوله تعالى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] عبر بصيغة المذكر التي أشكلت على بعض أهل العلم، فحملوها على محامل أخرى، كقول بعضهم: هذه ناسخة للتي قبلها، وإن المقصود الرجل والمرأة، أو نحو ذلك، فمن حملها على الزاني والزانية وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] قالوا: هذا من باب التغليب، حيث غلّب الذكور في الصيغة فقط، وإلا فالمقصود الذكور والإناث.

وبعضهم يقول: الأولى في النساء خاصة، محصنات وغير محصنات، أي الإمساك في البيوت، والثانية في الرجال بالصنفين، محصن وغير محصن، وهذا الذي اختاره أبو جعفر النحاس[35]، وهو الذي استحسنه القرطبي[36]، وبه قال جماعة من أهل العلم: أن الأولى في النساء، والثانية في الرجال، وهذا الذي اختاره ابن عطية[37]، كما ذكر المؤلف.

وبعضهم يقول: الأولى وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ [النساء:15] في النساء المحصنات، وهو الإمساك في البيوت، وهذه أشد من الأذى والتوبيخ والسب، ونحو ذلك، تحبس إلى أن تموت، فقالوا: هذا في المحصنات، ويدخل معهن الرجال المحصنين، فيمسكون في البيوت ويحبسون إلى الموت، لكن لماذا عبر بصيغة المؤنث؟ فيمكن أن يجيب هؤلاء -وما وقفت على قول أحدٍ منهم: بأن ذلك باعتبار شناعة صدور الفاحشة من المرأة، لا سيما المحصنة- ولهذا في آية النور قدم الزانية على الزاني الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور:2] فلماذا قدم الزانية؟ بعض أهل العلم يقالون: باعتبار أن الزنا أشنع في النساء، وبعضهم يقول: إن الزنا يكون مبدأه غالبًا من المرأة: بالتبرج والاختلاط، والخضوع بالقول، ونحو ذلك من الأمور.

وأما قول من قال: باعتبار أن شهوة المرأة أقوى من شهوة الرجل فقدمها، فهذا باطل، لا يصح لا شرعًا ولا واقعًا، فشهوة الرجل أقوى من شهوة المرأة، وقد أبيح له أن يتزوج أربع، ويتسرى من النساء بما شاء، فهذا الأصل، وما يردده بعض الناس في كلامهم ومجالسهم، ونحو ذلك، فهذه أساطير لا حقيقة لها، وغاية ما هنالك أن تكون مثل حال الرجل، لكن ما يذكر من كلامٍ ومبالغات فهذا غير صحيح، ولا يقال: إنه قُدّم ذكر الزانية لهذا السبب.

وبعضهم يقول: الأولى: الحبس في البيوت للرجال والنساء المحصنين، والأذى: للأبكار من الرجال والنساء، وهذا القول على غرابته اختاره أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-[38] ، ورده النحاس[39]؛ لاستبعاد تغليب المؤنث وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15]، وابن جرير يقول: يدخل فيها الرجل والمرأة[40]، لكن من أحصن منهم.

وبعضهم يقول: كان الإمساك خاصًا بالمرأة، وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15]، ثم قال: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] فالأذى للرجل والمرأة على حدٍ سواء، فجاء بصيغة التثنية، وهذا له وجه أقوى بلا شك من الذي قبله، فيكون الأذى للجميع.

وذهب بعضهم: كمجاهد[41] إلى أن قوله: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] هنا بصيغة المذكر في التثنية أن المقصود بذلك اللواط -أعزكم الله- لكن هذا بعيد في الآية فالكلام في الزنا.

وابن جرير ذكر قاعدة يوضح فيها هذا الإشكال، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] فهنا عمم الرجل والمرأة، يعني: البكرين، و(اللاتي) بصيغة المؤنث عمم الرجل والمرأة، يعني: الثيبين.

وابن جرير -رحمه الله- تكلم عن هذه المسألة في الأخير لما ذكر الأقوال، وعلق عليها بعد ذلك مرجحًا، حيث قال: "وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال عني به البكران غير المحصنين إذا زنيا" يعني وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ "وكان أحدهما رجل والآخر امرأة؛ لأنه لو كان مقصودًا بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال، كما كان مقصودًا بقوله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ قصد البيان عن حكم الزواني، لقيل: (والذين يأتونها منكم فآذوهم) أو قيل: (والذي يأتيها منكم)[42]"، يعني لماذا ثنى؟ "كما قيل في التي قبلها وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ فأخرج ذكرهن على الجميع" يعني: بصيغة الجمع "ولم يقل: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ وكذلك تفعل العرب" هذه التي ذكرها "إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل، أو الوعد عليه، أخرجت أسماء أهله بذكر الجميع أو الواحد" يعني: ما يذكرون التثنية، الذين يفعلون كذا يكون لهم كذا، أو الذي يفعل كذا يكون له كذا. يقول: "وذلك أن الواحد يدل على جنسه" يعني: إذا ذُكر واحد، الذي يفعل كذا له كذا، عليه كذا، يعاقب بكذا، فهذا يصدق على كل من فعل ذلك يقول: "ولا تخرجها -يعني العرب- بذكر اثنين -يعني بصيغة التثنية- فتقول: الذين يفعلون كذا فلهم كذا، والذي يفعل كذا فله كذا، ولا تقول: اللذان يفعلان كذا فلهما كذا، إلا أن يكون فعلًا لا يكون إلا من شخصين مختلفين -يعني رجل وامرأة- كالزنا لا يكون إلا من زان وزانية" فلا يتصور وقوع الزنا من شخص واحد، فالزنا عملية مشتركة، يقول: "فإذا كان ذلك كذلك، قيل بذكْر الاثنين يراد بذلك الفاعل والمفعول به، فأما أن يُذكر بذكْر الاثنين، والمراد بذلك شخصان في فعل قد ينفرد كل واحد منهما به، أو في فعل لا يكونان فيه مشتركين، فذلك ما لا يعرف في كلامهم" كلام العرب يعني، بفعل لا يكونان فيه مشتركين، لا يكون على سبيل الاشتراك أصلًا، يتصور بالانفراد مثل أكل الحرام والسرقة، ونحو ذلك، فلا تقول العرب فيه: (واللذان يسرقان منكم) مثلًا، لكن يقول: والذي يسرق، والذين يسرقون، الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] ولا يقول: (واللذان يأكلان الربا) لكن ما لا يتم ولا يتحقق إلا بفعل اثنين كالزنا، فهذا يمكن أن يعبّر عنه بهذه الصيغة، يقول: "وإذا كان ذلك كذلك فبيّن فساد قول من قال: عني به وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ الرجلان" يعني: هنا خصوص الرجل فقط، دون والمرأة، يقول: "العرب لا تعبر بهذا تريد به المفرد" المنفرد الواحد "إلا في فعل يشترك فيه اثنان فيراد به كلاهما" يقول: "وصحة قول من قال: عني به الرجل والمرأة، وإذا كان ذلك كذلك فمعلوم أنهما غير اللواتي" يعني اللاتي يأتين الفاحشة منكم، اللاتي تقدم بيان حكمهن في قوله: وَاللَّاتِي يقول: حتى لا يكون تكرار، فيكون ذاك مغلظ في حق المحصنين الحبس إلى الموت الرجل والمرأة.

والثاني (الأذى) يكون في حق الأبكار، يقول: "لأن هذين اثنان، وأولئك جماعة، وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الحبس كان للثيبات عقوبة حتى يُتوفين من قبل أن يجعل الله لهن سبيلًا؛ لأنه أغلظ في العقوبة من الأذى الذي هو تعنيف وتوبيخ أو سب وتعيير، كما كان السبيل التي جُعلت لهن من الرجم أغلظ من السبيل الذي جعلت للأبكار من جلد المائة، ونفي السنة"[43]، فهذا كلام ابن جرير، وحينما تنظر إلى هذا التأصيل والتقعيد، فإن ذلك يكون عذرًا له، حينما يذكر مثل هذا القول الذي قد يبدو غريبًا، والله أعلم.

لكن لو قيل: بأن قوله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ هذا في النساء وكان في أول الأمر الحبس إلى الموت، وقوله: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ في حق الرجال، وهو الأذى.

وأما وجه قول ابن جرير فهو أنه لا يقال: واللذان يقصد به خصوص الرجال؛ لأن العرب لا تعبر بذلك عن المفرد، وإنما عن المشتركين بهذا الفعل، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ أي: الرجل والمرأة، وعبّر بصيغة المذكر من باب تغليب المذكر على المؤنث، هذا على قول ابن جرير -رحمه الله-.

وعلى كل حال فهذه الآية نسخت، أيًا كان محملها فهي دالة على الحبس في البيوت، وعلى التعنيف، وكان ذلك في أول الأمر، ثم نسخ بالجلد والتغريب للأبكار، والرجم للثيب على قول الجمهور، أو الرجم والجلد أيضًا بالنسبة للثيب، والله أعلم.

"فَأَعْرِضُوا عَنْهُما لما أمر بالأذى للزاني أمر بالإعراض عنه إذا تاب، وهو ترك الأذى".

ترك الأذى، والتأنيب، والتعنيف، والتذكير والتعيير بما يسبق منه من المعصية.

  1. البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/475).
  2. البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/475).
  3. مصنف عبد الرزاق الصنعاني (10/304-19191).
  4. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (3/887-4933).
  5. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/230).
  6. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/59-8767).
  7. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/53-8745).
  8. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/230).
  9. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/230).
  10. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/65-8784).
  11. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/65-8784).
  12. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/232).
  13. تفسير القرطبي (1/241).
  14. التحرير والتنوير (4/268).
  15. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 171).
  16. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/34) والمبسوط للسرخسي (9/55) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (5/19).
  17. المبسوط للسرخسي (9/55).
  18. المبسوط للسرخسي (9/55).
  19. التهذيب في اختصار المدونة (4/420).
  20. نهاية المطلب في دراية المذهب (17/184).
  21. دليل الطالب لنيل المطالب (ص: 312) والكافي في فقه الإمام أحمد (4/181).
  22. أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى برقم: (1699).
  23. الشرح الكبير على متن المقنع (10/280).
  24. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/22).
  25. أحكام القرآن لابن الفرس، دار ابن حزم (2/103).
  26. أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت برقم: (6824) ومسلم في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى برقم: (1693).
  27. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/235).
  28. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/22).
  29. أحكام القرآن لابن الفرس، دار ابن حزم (2/103).
  30. أخرجه أحمد ط الرسالة (2/255-942) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح". وأخرجه البخاري مختصرًا.
  31. زاد المسير في علم التفسير (1/382).
  32. ( تفسير ابن كثير ت سلامة (2/233).
  33. ( أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الزنى برقم: (1690).
  34. ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/153).
  35. معاني القرآن للنحاس (2/40).
  36. تفسير القرطبي (5/87).
  37. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/22).
  38. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (23/439).
  39. معاني القرآن للنحاس (2/40).
  40. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/83).
  41. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/235).
  42. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/83).
  43. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/83).

مواد ذات صلة