الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[8] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 24 إلى قوله تعالى: {أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الآية 25.
تاريخ النشر: ٠٧ / صفر / ١٤٢٨
التحميل: 2814
مرات الإستماع: 2331

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [سورة الأنفال:21]: وقال ابن إسحاق: هم المنافقون، فإنهم يظهرون أنهم قد سمعوا واستجابوا، وليسوا كذلك، ثم أخبر تعالى بأن هذا الضرب من بني آدم شر الخلق والخليقة، فقال: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ[سورة الأنفال:22]، أي: عن سماع الحق، الْبُكْمُ عن فهمه، ولهذا قال: الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ فهؤلاء شر البرية؛ لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله فيما خلقها له، وهؤلاء خُلقوا للعبادة فكفروا، ولهذا شبههم بالأنعام في قوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء [سورة البقرة:171] الآية، وقال في الآية الأخرى: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [سورة الأعراف:179]، وقيل المراد بهؤلاء المذكورين: نفر من بني عبد الدار من قريش، روي عن ابن عباس -ا- ومجاهد واختاره ابن جرير.

وقال محمد بن إسحاق: هم المنافقون. قلت: ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا؛ لأن كلا منهم مسلوب الفهم الصحيح والقصد إلى العمل الصالح، ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح، ولا قصد لهم صحيح، لو فرض أن لهم فهماً فقال: وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا [سورة الأنفال:23]، أي: لأفهمهم، وتقدير الكلام: ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم؛ لأنه يعلم أنه ولو أسمعهم أي: أفهمهم لتولوا عن ذلك قصداً وعناداً بعد فهمهم وَهُم معْرِضُونَ عنه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ المراد بذلك ما نُقل عن ابن عباس ومجاهد أنهم نفر من بني عبد الدار، قال: واختاره ابن جرير، هذا صح عن ابن عباس -ا، والذي اختاره ابن جرير -رحمه الله: أن المراد بذلك كفار قريش، واحتج لترجيح هذا القول بالسياق، قال: السياق في هذه الآيات يتحدث عن كفار مكة الذين جاءوا بجيشهم لقتال النبي ﷺ، وقول ابن إسحاق بأن المراد أهل النفاق، لأنهم أظهروا الاستجابة بألسنتهم، والقبول والانقياد ولكن قلوبهم معرضة فهي منطوية على الكفر، وهذا لا شك أن ظاهره يصدق على المنافقين قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ

ولكن قد يستشكل هذا القول باعتبار أن النفاق لم يكن موجوداً في أول الهجرة، ووقت غزوة بدر، وإنما وجد النفاق بعد غزوة بدر، فعبد الله بن أبي لما انتصر المسلمون في بدر سارت لهم قوة وشوكة فقال لأصحابه: هذا أمر قد توجه فأرى أن تدخلوا فيه ظاهراً، أي أظهروا لهم الموافقة، لا تصادموا هذه القوة التي لا تستطيعون الوقوف في وجهها، فبدأ الكيد الخفي، فبهذا يتبين أن قول ابن جرير-رحمه الله هو الراجح، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- حمل الآية على المعنيين، والآية بظاهرها وعمومها تشمل كل من يصدق عليه هذا الوصف، أي كل من أظهر قبولاً وطاعة وانقياداً وهو ليس كذلك.

وقوله: وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ هذا من علمه -تبارك وتعالى- للغيب، وهي كقوله: لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [سورة التوبة:47]، وقال أيضاً عن المنافقين الذين تولوا اليهود ووعدوهم بالنصر، أو أن يتحد مصيرهم بمصيرهم فإذا أُخرجوا خرجوا معهم قال: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ [سورة الحشر:12]، فعلم ما سيكون والحال التي يكونون عليها لو حصل أمر آخر غير ما وقع. 

وقال: وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ، فهم يسمعون القرآن ويسمعون دعوة النبي ﷺ ولكن لا يسمعون سماع فهم، فهم لا يفقهون عن الله ، وكما قال الله في مواضع عن المنافقين مثلاً وحالهم إذا سمعوا الوحي والقرآن وما ينزل على النبي ﷺ يخرجون ويقولون: مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16]، وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ أي: لأفهمهم، ثم قال: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ أي: أفهمهم لتولوا عن ذلك قصداً وعناداً، بعد فهمهم، فهم لا يفقهون، ولو أنهم سمعوا سماع تفهم لما حصل لهم الإيمان لفساد قصدهم، فجمعوا بين عدم الفقه والفهم عن الله -تبارك وتعالى- وفساد القصد، ومن كان بهذه المثابة -أي يجمع بين هذين الأمرين: لا علم له ولا فهم، وليس له قصد صحيح، إنما قصده فاسد- فقد جمع بين أصلي الضلال، فهذا مهما جاءته من الحجج والبينات والبراهين لا يمكن أن يؤمن.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة الأنفال:24].

قال البخاري: اسْتَجِيبُواْ أجيبوا، لِمَا يُحْيِيكُمْ لما يصلحكم[1]، ثم روى عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي فمر بي النبي ﷺ فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ثم قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج فذهب رسول الله ﷺ ليخرج فذكرت له -وقال معاذ: إن حفص بن عاصم سمع أبا سعيد رجلاً من أصحاب النبي ﷺ بهذا- وقال: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] هي السبع المثاني[2].

وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ أي: للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل، وقوّاكم بها بعد الضعف، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم.

قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ كثير من السلف حملها على القتال في سبيل الله، فبه تحصل لهم المنعة، وبه يكون حفظ النفوس والأعراض والبلاد والأموال، وبه يكون حفظ الدين، ويكونون أعزة بين الناس، فإذا ضيعوا ذلك ألقوا بأيديهم إلى التهلكة، كما قال ابن عباس -ا- في تفسير قوله -تبارك وتعالى: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ[سورة البقرة:195]، وظاهرها العموم، وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أي في كل ما تحصل به التهلكة، لكن ابن عباس -ا- فسرها بالامتناع من الإنفاق في الجهاد؛ لأن ذلك يتسبب عنه ضعف المجاهدين فيقوى عليهم عدوهم ويظهر، وإذا ظهر عليهم عدوهم حصل ما حصل من القتل والأسر والاستحواذ على ما في أيديهم، وينشأ عن ذلك أيضاً إضعاف دينهم وفتنتهم وغير ذلك من الأمور التي لا تخفى، وهو معنى صحيح، وإن كانت الآية تشمل هذا المعنى وغيره، لا شك أنه إذا دعاهم إلى القتال والجهاد في سبيل الله أن هذا من الدعاء إلى ما يحييهم. 

لكن الآية أعم من هذا، ولهذا حملها بعض المحققين كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- على أنها تشمل كل ما فيه الحياة لهم، فيدخل فيه الجهاد في سبيل الله، ويدخل فيه كل ألوان الحياة الحقيقية الكاملة في الدنيا والآخرة، وذلك أن الاستجابة لله وللرسول ﷺ تحصل به الحياة الطيبة في الدنيا والسعادة والراحة والنعيم الذي يجده أهل الإيمان بحسب إيمانهم، وبه تتحقق ضروراتهم وتحصل مصالحهم؛ لأنهم إذا لم يستجيبوا لله ولا للرسول ﷺ فإن ذلك يعني ذهاب الدين والعقل، فيتحول الإنسان إلى مشرك عابد لوثن وهذا فساد العقول، وتفسد العقول أيضاً بالخمر والمخدرات وما أشبه هذا، ويكون ذلك سبباً لسلب الأعراض والشرف وضياع النسل، وكثرة أولاد الزنى، ويحصل به أيضاً فساد الأموال، فيأكل الناس أموال بعضهم بالباطل، لا يتحرزون من معاملة محرمة، قصدهم هو الكسب، بأي طريق كان بالقمار والربا والرشى، وغير ذلك، فالضرورات الخمس التي بها الحياة الكاملة لا تتحق، وبهذا تصير حياة الناس أشبه بالحيوانات، فالذي يدخل النار لا يموت فيها ولا يحيى، وأهل الجنة يحصل لهم كمال النعيم. 

اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ كل ما يأمر به النبي ﷺ فهو داخل في هذا، ففيه الخير وكرامة الإنسان ورفعته وسعادته في الدنيا والآخرة، وحديث أبي سعيد بن المعلى الذي ذكره الحافظ أن النبي ﷺ دعاه وهو يصلي فلما لم يجب احتج عليه النبي ﷺ بهذه الآية: اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ، وظاهر سياق قوله: إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ، يعني من طاعة الله والنبي ﷺ احتج بها على أبي سعيد في الدعاء، أي: إذا ناداكم، كما في حديث أبي سعيد الخدري ولكن النبي ﷺ لم يقصرها على هذا المعنى، فالآية عامة، ومن عمومها الدعاء، فإذا هتف بك يجب عليك إجابته. 

وقيل: ظاهر السياق: إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ يعني من طاعة الله ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرها، ولهذا يقال بأن الآية قد تنزل في معنى وتُحمل على معنى آخر أخذاً من عمومها، كما في قول النبي ﷺ لما قال لعلي وفاطمة -ا: ألا تصليان؟، فقال علي : إن أرواحنا بيد الله متى ما شاء أن يبعثها بعثها، فرجع النبي ﷺ، وهو يلطخ فخذه ويقول: وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا[سورة الكهف:54][3] فالآية نازلة في معنى أن الإنسان يجادل في البعث والتوحيد والنبوة والوحي، فحملها النبي ﷺ واحتج بها في هذا المعنى. 

وهكذا قال النبي ﷺ: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً وقرأ الآية: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104][4]، فذكرها النبي ﷺ في هذا المعنى الذي هو كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ أي: يعاد كما خرج من بطن أمه غير مختون، وليس عليه ثياب، وسياق الآية في الاحتجاج على البعث بالنشأة الأولى، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة يــس:79]، ولما اختلف الخدري والعوفي -ا- في أول مسجد أسس على التقوى، قال العوفي: قباء، وقال الخدري: مسجد النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: هو مسجدي هذا فهذا لا ينفي عن قباء، وسياق الآية في قباء، لكن مسجد النبي ﷺ أولى بهذه الصفة، وأكمل من مسجد قباء، والله تعالى أعلم.

فالشاهد من هذا أن الآية قد تنزل في سياق معنى، ويؤخذ من عمومها معنى آخر-والله أعلم.

وقوله تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24]، قال ابن عباس -ا: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، رواه الحاكم في مستدركه موقوفاً وقال: صحيح ولم يخرجاه[5]، وكذا قال مجاهد وسعيد وعكرمة والضحاك وأبو صالح وعطية ومقاتل بن حيان والسدي.

وفي رواية عن مجاهد في قوله: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أي: حتى يتركه لا يعقل.

وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.

وقد وردت الأحاديث عن رسول الله ﷺ بما يناسب هذه الآية.

وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: كان النبي ﷺ يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قال: فقلنا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها، وهكذا رواه الترمذي في كتاب القدر من جامعه وقال: حسن[6].

وروى الإمام أحمد عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت النبي ﷺ يقول: ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، وكان يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قال: والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه، وهكذا رواه النسائي وابن ماجه[7].

قوله: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ المعاني التي ذكرها الحافظ وغيرها مما نقل عن السلف، يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان، وما ذكر أن الإنسان لا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإذن الله -تبارك وتعالى- يحول بينه وبين التوبة، فلا يحصل عليها، يحول بينه وبين قلبه فلا تحصل له الهداية، كل ذلك داخل فيه، ولذلك حملها كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- على أعم معانيها، وأدخل فيها جميع أقوال السلف، فالله -تبارك وتعالى- أملك للقلوب من أصحابها، فهي بين أصبعين من أصابعه، يقلبها ويصرفها كيف شاء، فلا يقدر صاحب قلب على أن يدرك به شيئاً إلا بإذن الله -تبارك وتعالى، هذا -والله أعلم- من أحسن ما تفسر به الآية. 

ومناسبة قوله: أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، بعد قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم [سورة الأنفال:24]، أن الإنسان الذي يُعرض عن الاستجابة فإن ذلك قد يكون سبباً لإزاغة قلبه، كما قال الله : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5]، فهذا من الجزاء الوفاق، والحكم العدل الذي جازاهم الله -تبارك وتعالى- به، فمن أعرض عن الحق فإن ذلك قد يكون سبباً لطمس قلبه، والله يقول: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ۝ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ [سورة التوبة:75- 77]، وقول النبي ﷺ: تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء، وأيما قلب أُشربها نكت فيه نكتة سوداء، حتى تصير القلوب على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هَوَاه[8]، الكوز المجخي أي المنكوس المقلوب، فلا يعي قلبه هدىً ولا ينتفع بموعظة، فالقلوب المعرضة عن الله لا تدخلها الهداية.

وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الأنفال:25]، يحذر تعالى عباده المؤمنين فتنة أي: اختباراً ومحنة يعم بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب بل يعمهما حيث لم تدفع وترفع، كما رواه الإمام أحمد عن مطرف قال: قلنا للزبير: يا أبا عبد الله ما جاء بكم؟ ضيعتم الخليفة الذي قتل ثم جئتم تطلبون بدمه!، فقال الزبير -: إنا قرأنا على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان -: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت"[9].

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في قوله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً يعني: أصحاب النبي ﷺ خاصة، وقال في رواية له عن ابن عباس -ا- في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب. وهذا تفسير حسن جداً.

قال كثير من المفسرين: إن هذه في أصحاب النبي ﷺ، وإن ذلك وقع لهم في الاقتتال الذي وقع في الجمل وصفين، فهذا مما يدخل في الآية: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً، فهم داخلون في هذا ولكنها عامة لهم ولغيرهم، فلا تختص بأصحاب النبي ﷺ، ولا يرد على هذا قوله -تبارك وتعالى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة النجم:38]، بأن الإنسان لا يتحمل تبعة ذنب الآخرين، فإن ذلك محمول على من رأى المعاصي والمنكرات ولم ينكر، فإن العقوبة قد تنزل وتكون عامة، والله إذا أهلك هؤلاء بعثهم على نياتهم كما دلت عليه النصوص. 

وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً إذا نزلت العقوبة عمت، إذا كان الشر والمنكر والفساد ظاهراً، والله ذكر ذلك في الآيات، فقال: وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [سورة الأنفال:73]، فهذا الفساد الكبير والفتنة التي تكون في الأرض تعم، الصالح وغير الصالح، يلقون من نتائجها وآثارها السيئة ويعانون ما يعانون، وهذا هو المنتشر في أقطار الدنيا، لم يحقق أهل الإيمان هذا المعنى بأن يوالي المؤمنون بعضهم بعضاً، ولم يتركوا مولاة الكفار فحصل الإخلال بمقتضى هذه الأمور فحصلت الفتنة الكبيرة والفساد الكبير.

ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً هي أيضاً لكم، وكذا قال الضحاك ويزيد بن حبيب وغير واحد.

وقال ابن مسعود -: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، إن الله تعالى يقول: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [سورة التغابن:15]، فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن"[10]، رواه ابن جرير.

فالأموال والأولاد لا تخلوا من فتنة بحال من الأحوال، النبي ﷺ كان يخطب على المنبر، فدخل الحسن والحسين وعليهما ثوبان أحمران، يعثران ويقومان فنزل فأخذهما فصعد بهما المنبر ثم قال: صدق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ[11]؛ لشدة تعلق القلب بهم، لكن الفتن منها ما هو مضل ومنها ما هو ليس كذلك، ولهذا روي عن أم سلمة زوج النبي ﷺ وا- أنها قالت: يا رسول الله، ألا تعلمُني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى، قولي: اللهم رب النبي محمدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتنا[12]، بدلاً من أن تقول: أعوذ بك من الفتن، لكن قول الإنسان: أعوذ بالله من الفتن لا إشكال فيه؛ لأن هذا ورد كثيراً، فلا يقال: إن هذا من الأخطاء.

والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم -وإن كان الخطاب معهم- هو الصحيح.
  1. صحيح البخاري (4/1703)، كتاب التفسير، باب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
  2. رواه البخاري برقم (4370)، كتاب التفسير، باب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
  3. رواه البخاري برقم (1127)، كتاب الجمعة، باب الطيب للجمعة، ومسلم برقم (775)، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح.
  4. رواه البخاري برقم (3171)، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: واتخذ الله إبراهيم خليلا}، ومسلم من حديث ابن عباس ا برقم (2860)، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة.
  5. رواه الحاكم في المستدرك (2/358)، برقم (3265)، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأنفال.
  6. رواه الترمذي برقم (2140)، كتاب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، وأحمد في المسند برقم (12107)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1685).
  7. رواه الإمام أحمد في المسند برقم (17630)، واللفظ له، وقال محققوه: إسناده على شرط الشيخين، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2091).
  8. رواه مسلم من حديث حذيفة برقم (144)، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وأنه يأرز بين المسجدين.
  9. رواه الإمام أحمد في المسند (3/31)، برقم (1414)، وقال محققوه: إسناده جيد.
  10. رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان في تأويل القرآن (13/475)، رقم (15912).
  11. رواه الإمام أبو داود من حديث بريدة برقم (1109)، كتاب الصلاة، باب الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث، والترمذي برقم (3774)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من حديث الحسين بن واقد، كتاب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب مناقب الحسن و الحسين عليهما السلام، والنسائي برقم (1413)، كتاب الجمعة، باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة وقطعه كلامه ورجوعه إليه يوم الجمعة، وابن ماجه برقم (3600)، كتاب اللباس، باب لبس الأحمر للرجال، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1016).
  12. رواه الإمام أحمد في المسند (44/201)، برقم (26576)، وقال محققوه: بعضه صحيح بشواهده، وهذا إسناد ضعيف لضعف شهر، وهو ابن حوشب، وبقية رجاله رجال الشيخين، غير عبد الحميد - وهو ابن بهرام ، فقد روى له البخاري في الأدب المفرد، والترمذي، وابن ماجه، وهو ثقة، والطبراني في الكبير (23/338)، برقم (785)، وابن جرير الطبري في جامع البيان في تأويل القرآن (6/214)، برقم (6652).

مواد ذات صلة