الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(4) حديث عمر وابن عمر والبراء بن عازب رضي الله عنهم
تاريخ النشر: ٢١ / ذو القعدة / ١٤٣١
التحميل: 546
مرات الإستماع: 935

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب فضل قراءة القرآن أورد المصنف -رحمه الله- حديث:

"عن عمر بن الخطاب أن النبي ﷺ قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين[1]، رواه مسلم".

إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا يعني: أن منزلتهم تعظم، ويرتقون بين أهل الإيمان، بسبب اشتغالهم بهذا الكتاب، وإيمانهم به، وإقبالهم عليه؛ ولهذا لما كان عمر في طريقه إلى مكة، في أيام خلافته، واستقبله أميرها ببعض الطريق، سأله: من خلفت على أهل الوادي؟ فقال: فلان، فسأله عنه، فأخبره أنه من الموالي، فعمر ذكر هذا الحديث: إن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا لأن أميرها ذكر لعمر حال هذا الرجل؛ لما سأله عمر: كيف خلفت على قريش الذين هم أعرق الناس نسبًا، وأشرف العرب رجلاً يكون أميرًا، وهو من الموالي؟!

يعني: أنه كان رقيقًا، فأعتق، فأخبر: أنه قارئ للقرآن، وعالم بالفرائض، فذكر عمر عندها هذا الحديث: إن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا، ويضع به آخرين وتجد مثل عطاء بن أبي رباح، عالم إمام من أئمة الدنيا في زمان التابعين، وكان أسود، شديد السواد، أفطس الأنف، أعور العين، وكان الخليفة الأموي وأولاده يأتون في موسم الحج، ويجلسون بجواره؛ ليسألوه عن المناسك، حيث كان أعلم الناس بالمناسك، وكان يصلي، وهو في شغل بهذه الصلاة عنهم، حتى فرغ من صلاته، فتلطف الخليفة بسؤاله، حتى إن بعض ولده قد ضجر من هذا الذي لا يكاد ينظر إليهم فالله يرفع بهذا القرآن أقوامًا، فلو لم يكن له اشتغال بالقرآن ربما كان يشتغل في منجم، أو في أعمال نظافة، أو في أعمال بناء، أو في أعمال مهنة من المهن، لكان لا قيمة له، لكن الخليفة يأتي هو وأولاده في غاية التلطف به، ثم بعد ذلك يجيب دون أن يلتفت إليهم.

وإذا نظرت إلى العلماء ربما لا تجد نسبًا، ولا مالاً، ولا عافية بدن، أمراض، وعلل فيه، وربما لا تجد تلك الصورة والمرأى والنضرة والجمال، ولكنه إمام الدنيا، كالشمس، ولما اطلعت زوجة بعض خلفاء بني العباس، ونظرت إلى أحد الأئمة العلماء، والناس يجرون خلفه، وتتقطع نعالهم، فقالت: من هذا؟ فقيل: هذا فلان من العلماء، قالت: هذا الملك! وليس بملك هارون الرشيد، الذي ملك من حدود الصين إلى الأندلس، لكن ذاك يساق الناس إليه بالعصا، وهذا يجرون خلفه محبة وتقديمًا له؛ لماذا؟ لا من أجل دنيا، ولا من أجل خوف، وإنما لما يحمله من القرآن إن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا وقيمة الإنسان ما يحسن، فإذا كان الإنسان من أهل الاشتغال بالقرآن قُدِّم، وعمر لما طُعن، وأراد أن يولي، وجعلها شورى في النفر الستة الذين توفي رسول الله ﷺ، وهو عنهم راضٍ، قال عمر : "لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًا لاستخلفته" وسالم مولى من الموالي، كان رقيقًا، فأعتق، لكنه من أهل القرآن، من القراء، من الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم-، وكانوا هم الذين يثبتون في المغازي، كما في غزوة حنين أمر النبي ﷺ العباس أن ينادي: "يا أصحاب سورة البقرة"[2]؛ لأن هؤلاء هم الذين يثبتون، ويبقون في النهاية في أرض المعركة.

وفي حروب الردة في اليمامة لما تضعضع الناس، وانهزموا هزيمة منكرة، وحصل مقتلة كبيرة، كانوا يتداعون، ويتنادون: يا أصحاب سورة البقرة، وينادون أهل القرآن، وجمع أصحاب النبي ﷺ، ووضعوا في المقدمة، وكان الأعراب هم الذين قد تقدموا، فأُخِّروا، فحصل النصر بعد ذلك.

فأقول: الإنسان قيمته بحسب ما يحسنه، وتجد الإنسان إذا أقبل على هذا الدين، وأقبل على كتاب الله ، وعمل به، واشتغل به، ترتفع مرتبته ويكون له محبة في قلوب الخلق، إن كان له في ذلك نية، والله المستعان.

ويضع به آخرين انظر عم النبي ﷺ أعني أبا لهب، وهو قريشي، ومع ذلك نحن نقرأ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] فما نفعه النسب، ولا القرب من النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لما كذب بالقرآن، فيضع الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن آخرين.

والحديث التالي:

"عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار[3] متفق عليه".

قوله ﷺ: لا حسد إلا في اثنتين لا حسد يعني: لا غبطة، لا أحد يُغبط، يغبط على ماذا؟ على كثرة الأولاد، أو على كثرة المال؟!

لا حسد إلا في اثنتين، رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار يعني: ساعات الليل، وساعات النهار، قد حفظه يصلي بهذا القرآن، هذا الذي فعلاً يغبط، وليس فقط حفظ حروفه، ولم يعمل به.

ورجل أتاه الله مالاً فماذا فعل؟ كثر أرصدته في البنوك، ومنع الزكاة؟ لا، فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار، فهذا الذي يغبط.

وكثير من الناس يغبطون في أشياء ثانية كل ما مضى في طريق، أو ذهب في ناحية، أو في شارع، ينظر ويقول: هذه العمارة لفلان، وهذه الأرض الكبيرة لفلان، وهذه الأملاك لفلان، وهذا تاجر صعد في البلاد، وأصبح يملك أشياء كثيرة، ومخططات وأمور، فهذه ما فيها غبطة، غدًا يلف بخرقة من البلدية مجانًا، ويوضع في نصف متر في متر، وسبعين سم، أو ثمانين سم، وأحيانًا يحتاجون يوسعون شوية؛ لأنه صار أعرض من الحفرة التي هو فيها، فالحفرة مجانًا، واللفافة مجانًا، وماذا نفعته المخططات والعقارات والعمائر والمحلات والمعارض والأثاث والمخابز والشركات والمصانع؟ ما نفعته بشيء، وما جابت إلا الحساب الكبير، والشقاء والتعب في جمعها، والذهاب والتردد، والحسابات والصداع الطويل، والتفكير فيها ليل نهار، فهو مشغول، وحارس عليها، ولن تدخل معه في القبر، فمثل هذا يغبط على ماذا؟ على الشقاء الذي هو فيه، بعضهم يفتخر يقول: من أكثر من ثلاثين سنة ما أكل وجبة مع عياله، وما جلس معهم على طعام، مشغول دائمًا، ما فائدة هذه الأموال، وما قيمتها؟

فأقول: لا حسد إلا في اثنتين هذا الذي يغبط عليه الإنسان رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار وليس له وقت محدد للنفقة، بل ينفق بالليل، وينفق بالنهار.

ثم ذكر الحديث الثالث وأختم به:

"وعن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة، فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي ﷺ، فذكر له ذلك، فقال: تلك السكينة، تنزلت للقرآن[4]، متفق عليه".

هذا الرجل جاء في رواية: أنه أسيد بن حضير [5]، وهو من الأنصار، كان يقرأ سورة الكهف، وعنده فرس مربوط بشطنين، يعني: بحبلين، فتغشته سحابة، وهو يقرأ في الليل، فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي ﷺ، فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة، تنزلت للقرآن متفق عليه.

تلك السكينة تنزلت السكينة: ما المراد بها؟ الأقرب: أنها تفسر بالملائكة؛ لأنه قد جاء في رواية أخرى: تلك الملائكة[6]، فذكر له النبي ﷺ أنها نزلت لتسمع قراءته؛ ولهذا قال له: اقرأ ابن حضير[7]، فالسكينة هنا المراد بها الملائكة.

وجاء في تلك الرواية: ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم[8]، فالسكينة هنا نزول الملائكة، وإن كانت السكينة قد تأتي في بعض المواضع بمعنى: السكون، والطمأنينة، وذهاب المخاوف من القلب، فهذا قد يحمل عليه قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:248] والله هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين؛ ليزدادوا إيمانًا، فهذه طمأنينة النفس، وسكون القلب، وذهاب المخاوف.

والنبي ﷺ أخبر أنه: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده[9].

وهنا في هذا الحديث يحتمل أن يكون المقصود بالسكينة هي السكون، وتحفهم الملائكة، ولا يبعد أن يراد به نزول الملائكة، وأن ما ذكر بعده من حف الملائكة أمر زائد على ذلك.

ولا شك أن من اشتغل بكلام الله، وكلام رسوله ﷺ، ومجالس الذكر والعلم، أن السكينة تنزل عليه، وهذا أمر لا يخفى، وإذا أردت أن تعرف هذا انظر إلى حال أناس خرجوا من درس، أو من محاضرة، وقارن بينهم مع آخرين خرجوا من ملعب رياضي مثلاً، فانظر إلى حال هؤلاء وهؤلاء، تفهم معنى السكينة التي تنزل في مجالس الذكر.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن، ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه، أو غيره فعمل بها وعلمها برقم (817).
  2. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (1776) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  3. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا فعلت كما يفعل)) برقم (7529) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن، ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه، أو غيره فعمل بها وعلمها برقم (815).
  4. أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة الكهف برقم (5011) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب نزول السكينة لقراءة القرآن برقم (795).
  5. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب نزول السكينة لقراءة القرآن برقم (796).
  6. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب نزول السكينة لقراءة القرآن برقم (796).
  7. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب نزول السكينة لقراءة القرآن برقم (796).
  8. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب نزول السكينة لقراءة القرآن برقم (796).
  9. أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم (2699).

مواد ذات صلة