الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(002) من قوله تعالى (وله ما سكن في الليل والنهار..) الآية 14 – إلى قوله تعالى (فلا تكونن من الجاهلين..) الآية 36
تاريخ النشر: ١٢ / ربيع الأوّل / ١٤٣٩
التحميل: 872
مرات الإستماع: 680

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

فاللهم ارزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، واغفر لنا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين، ولجميع المسلمين، قال الحافظ ابن جزي -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:

 وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الأنعام:13]، عطف على قوله: قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12]، ومعنى سكن: حلَّ، فهو من السكنى، وقيل: هو من السكون وهو ضعيف؛ لأن الأشياء منها ساكنة ومتحركة فلا يعم.

والمقصود عموم ملكه تعالى لكل شيء.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الأنعام:13]؛ يقول: "ومعنى سكن: حلَّ، فهو من السكنى، وقيل: هو من السكون وهو ضعيف" وعلل هذا بما ذكر، "لأن الأشياء منها ساكنة ومتحركة" يعني أنه لا وجه لتخصيص الساكن؛ فالمتحرك أيضًا لله -تبارك وتعالى-، فإذا قيل: من السكنى، كان ذلك أعم، لأن كل شيء يتصف بذلك لا يخرج عنه شيء، وأصل هذا اللفظ يدل على خلاف الاطراد، خلاف الحركة، فيقال: للمستوطن، ويقال أيضًا: للثابت بعد الحركة، لكن من حمله على معنى السكون، فهم جمع من أهل العلم، علله باعتبار أن الساكن أكثر من المتحرك، وأكثر وجودًا، أو باعتبار أن كل متحرك يصير إلى السكون، فقال: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الأنعام:13]؛ بخلاف العكس، فالساكن قد لا يكون متحركًا أو لا يؤول إلى الحركة، أو باعتبار أن السكون هو الأصل، والحركة طارئة.

المقصود أن الذين قالوا: وله ما سكن يعني من السكون الذي يقابل الحركة، عللوه بتعليلات ووجهوه بتوجيهات باعتبار أنه هو المقصود، وَلَهُ ما سَكَنَ [الأنعام:13]؛ لماذا خص الساكن والله له كل شيء، الساكن والمتحرك، عللوه بمثل هذه التعليلات، -والله أعلم-.

قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام:14] إقامة حجة على الكفار، ورد عليهم بصفات الله الكريم التي لا يشاركه غيره فيها، [في جميع النسخ: الكريمة].

لا إشكال، رد عليهم بصفات الله الكريم أو الكريمة، كل هذا يصح.

وقوله: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام:14]؛ الولي هو الناصر، والولاية تأتي بمعنى النصرة.

قوله تعالى: أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [الأنعام:14] أي: من هذه الأمة لأن النبي ﷺ سابق أمته إلى الإسلام.

قوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ [الأنعام:14] في الكلام حذف تقديره وقيل لي: ولا تكونن من المشركين، أو يكون معطوفا على معنى أمرت فلا حذف وتقديره: أمرت بالإسلام، ونهيت عن الإشراك.

وهذا الأصل باعتبار أن الأصل عدم التقدير، وإذا دار الكلام بين الاستقلال والحذف فالأصل الاستقلال.

قوله تعالى: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ [الأنعام:16] أي: من يصرف عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه الله.

المعنى: من يرد عنه العذاب، يدفع عنه.

 وقرئ يصرف بفتح الياء وفاعله الله.

يَصرف، هذه قراءة حمزة والكسائي، من يصرف أي: الله، من يُصرف حذف الفاعل وبني الفعل لما لم يسم فاعله، على قراءة الجمهور يُصرف، باعتبار أن الفاعل معلوم، هو الله -تبارك وتعالى-.

قوله تعالى: وَذلِكَ إشارة إلى صرف العذاب أو إلى الرحمة.

بينهما ملازمة، يعني: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16]؛ وَذَلِكَ ولا يتحقق الفوز إلا بالأمرين معًا، إلا بالأمرين وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16]؛ الله يقول: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]؛ فهنا الصرف عن العذاب لا شك أنه فوز، فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16]؛ بصرف العذاب الذي يكون برحمة الله -تبارك وتعالى-؛ فهذا لا يحتاج مثله إلى ترجيح.

قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام:17] معنى يمسسك: يصبك، والضر: المرض وغيره على العموم في جميع المضرات.

"معنى يمسسك، قال: يصبك" والمس يقال في كل ما ينال الإنسان، كل ما ينال الإنسان من الأمور الحسية والمعنوية، قل: مسه الضر، مسه المرض، وهكذا.

والخير: العافية وغيرها على العموم أيضًا، والآية برهان على الوحدانية لانفراد الله تعالى بالضر والخير، وكذلك ما بعد هذا من الأوصاف براهين ورد على المشركين.

كقوله -تبارك وتعالى-: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]؛ وهكذا في الحديث: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت[1].

قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً [الأنعام:19]، سؤال يقتضي جوابا ينبني عليه المقصود.

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً [الأنعام:19]؛ يعني على صدق ما جئت به.

وفيه دليل على أن الله يقال عليه: شيء، لكن ليس كمثله شيء.

ولكنه لا يسمى بهذا، ليس من أسمائه شيء، ولكن يخبر عنه بذلك: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]؛ فيخبر عنه بذلك، ولكنه ليس من أسمائه، وباب الإخبار أوسع من باب التسمية، فوجه الدليل هنا أن الاستفهام قُلْ أَيُّ شَيْءٍ [الأنعام:19]؛ إذا أضيف إلى كلمة، أي شيء، لاحظ الاستفهام هنا أضيف إلى شيء، صارت هذه الكلمة صادقة على جواب الاستفهام، جوابه هنا: الله، قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19]؛ فإذا قلت: الله، فهذا بمنزلة قولك: قبله شيء، الذي أضفته، أضفت الاستفهام إليه، أي شيءٍ، تقول: أي شيء عندك؟ تقول: قلم، فقلم هنا بمنزلة شيء، فهذا وجه الدليل الذي ذكره هنا، قال: "فيه دليل على أن الله يقال له: شيء".

قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]، يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون الله مبتدأ وشهيد خبره.

والآخر: أن يكون تمام الجواب عند قوله: قل الله، بمعنى أن الله أكبر شهادة، ثم يبتدئ على تقدير: هو شهيد بيني وبينكم، والأول أرجح لعدم الإضمار، والثاني أرجح لمطابقته السؤال، فإنّ السؤال بمنزلة من يقول: من أكبر الناس؟

فيقال في الجواب: فلان، وتقديره فلان أكبر الناس، والمقصود بالكلام استشهاد بالله الذي هو أكبر شهادة على صدق رسول الله ﷺ، وشهادة الله بهذا هي علمه بصحة نبوءة سيدنا محمد ﷺ، وإظهار معجزته الدالة على نبوأته.

كذلك أيضًا بإقراره له في مدة ثلاث وعشرين سنة يدعو الناس، ويتلو لهم القرآن، وأنه كلام الله، وأن الله أرسله، ثم يقاتل من كذبه، والله -تبارك وتعالى- يُقره هذه المدة الطويلة، وينصره على أعدائه، ويجعل العاقبة والظهور له، هذا لا يكون لمن كان كاذبًا على الله -تبارك وتعالى-، كذلك شهادة الله -تبارك وتعالى- له بمثل قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]؛ فهذه شهادة أنه كلام الله -تبارك وتعالى- جاء به جبريل أمين وحيه إلى النبي ﷺ، وأنه ليس اختلاق البشر.

وهكذا كما في قوله -تبارك وتعالى-: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ [النساء:166].

وهكذا في قوله ردًا على المنافقين: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون:1]؛ حينما قال المنافقين: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1].

وقوله هنا: "يحتمل وجهين: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]" أي: يكون الله مبتدأ وشهيد خبره، الله شهيد هذا الوجه في الإعراب واضح، ولا إشكال فيه ولا تكلف.

"والآخر: أن يكون تمام الجواب عند قوله: قل الله" وهذا ظاهر كلام ابن جرير -رحمه الله-[2]، قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام:19]؛ ثم يكون ما بعده استئنافًا على تقدير: هو شهيد بيني وبينكم.

وجه رجحان الأول: أنه لا يحتاج إلى إضمار، والقاعدة أن الأصل عدم التقدير.

والثاني: يقول: "أرجح لمطابقة السؤال، فهو بتقدير: من أكبر الناس؟ فيقال: فلان، وتقديره: فلان أكبر الناس" فهذا يحتمل، قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]؛ هو شهيد بيني وبينكم، أو: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19].

وفيه أوجه غير هذا، غير ما ذكر يحتملها المقام، ولكن هنا لا مجال للتوسع في ذلك، ومن أراد النظر في وجوه الإعراب والمناقشات في هذه الأجوبة المذكورة أو هذه الوجوه المحتملة، فليطالع في مثل تفسير أبي حيان، وكذلك أيضًا في مناقشاته لابن عطية، من نظر في "تفسير ابن عطية"، و"الكشاف" سيجد مناقشات لهذه الأوجه كثيرة في مثل البحر المحيط، وكذلك ما هو أوسع من هذا في " المصون"، فضلاً عن كتب الإعراب الأخرى.

قوله تعالى: وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، عطف على ضمير المفعول في لأنذركم والفاعل بـ"بلغ"، -في جميع النسخ والفاعل بـ"بلغ"-.

هنا يقول: "عطف على ضمير المفعول في لأنذركم" ضمير المفعول هنا في لأنذركم هو الكاف، فالإنذار واقع عليهم، لضمير المفعول، لأنذركم يعني يقع الإنذار عليكم وعلى من بلغ، كقوله على اختلاف في الإعراب هناك في سورة الجمعة: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ .. [الجمعة:2]؛ إلى أن قال: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ [الجمعة:3]؛ على اختلاف، لكن هذا أحد الأوجه التي تتفق مع هذا، بعث في الأميين وآخرين، يعني وفي آخرين؛ أو يتلو عليهم آياته وآخرين، يعني ويتلوا على آخرين، يزكيهم يزكي آخرين، يعلمهم الكتاب والحكمة وآخرين، يعلم آخرين، فهذا يحتمل، فهنا ومن بلغ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ؛ فيكون الإنذار واقعًا عليكم ومن بلغه هذا القرآن.

والفاعل ببلغ ضمير القرآن، والمفعول محذوف يعود على (من) تقديره: ومن بلغه.

ومن بلغ يعني من بلغه، ما الذي يبلغ؟ القرآن، نعم من بلغه القرآن.

 

والمعنى: أوحى إليّ هذا القرآن لأنذر به المخاطبين، وهم أهل مكة، وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إلى يوم القيامة، قال سعيد بن جبير: "من بلغه القرآن فكأنما رأى سيدنا محمدا ﷺ".

هذا الأثر عن محمد بن كعب القرظي عند ابن جرير[3]، وابن أبي حاتم[4]، وابن أبي شيبة[5]، وطرقه لا تخلو من ضعف، لكن يمكن بمجموع طرقه يكون حسنًا لغيره، عن محمد بن كعب القرظي، وليس عن سعيد بن جبير، وليس فيه -في لفظه هنا- هذه العبارة: "فكأنما رأى سيدنا محمدًا ﷺ".

وهذه العبارة ليست مستعملة، كما هو معروف، وإن كان النبي ﷺ، هو سيدنا -عليه الصلاة والسلام- ولا غضاضة في ذلك أن يقال له ذلك، يقال: سيدنا، لكن ليست مستعملة، فالصحابة والتابعون ما كانوا يقولون مثلاً قال: سيدنا رسول الله ﷺ، أو نحو ذلك، "فكأنما رأى سيدنا" هذه ليست في الرواية، بصرف النظر، ليست في الرواية.

يقول: "من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدًا ﷺ ثم قرأ: وَمَنْ بَلَغَ" يعني محمد بن كعب القرظي قرأ الآية: وَمَنْ بَلَغَ، وهنا يقول: "فكأنما رأى محمدًا ﷺ" كأنما رأى محمدًا، الله -تبارك وتعالى- يقول: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]؛ فهذه العبارة يعني في كتب التفسير "فكأنما رأى محمدًا ﷺ" أو في عبارات في التفسير، يقال في تفسير الكلام في الخطاب للنبي ﷺ يقال: يا محمد أمرتك بكذا، أو نهيتك عن كذا، أو افعل كذا، في التفسير، قال: يا محمد، فهذه العبارة لا إشكال فيها، فهذا تارةً يكون تفسيرًا لخطاب المشركين، فهذا لا إشكال فيه، فهم يقولون: يا محمد، فإذا فُسر بهذا الاعتبار، فقيل: يا محمد، أنزل علينا كذا، لن نؤمن لك حتى تفعل كذا، فهذا واضح.

 القسم الثاني وهو ما كان من خطاب الله لنبيه ﷺ فهذا حينما يفسر يقال: يا محمد، هذا كلام الله، باعتبار أنه خطاب من الله لنبيه ﷺ فلا إشكال، الذي نحن نهينا عنه، أن نخاطبه هو ﷺ يكون الخطاب صادرًا منا للنبي ﷺ فنقول: يا محمد، وإنما نقول: يا رسول الله، يا نبي الله، ونحو ذلك، ففرق بين المقامين.

فالبعض قد ينكر مثل هذه اللفظة في التفسير، باعتبار هذه الآيات: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ.. [النور:63]؛ ونحو هذا، فيقولون: التعبير يقال: يا رسول الله، يا نبي الله، لكن هذا الخطاب أحيانًا يكون بسياقات في الرد على بني إسرائيل أو نحو ذلك -أهل الكتاب- فقد يلتبس لو قيل: يا نبي الله، هل المقصود النبي ﷺ أو المقصود نبي من أنبيائهم كموسى أو عيسى ونحو ذلك.

فإذا قيل: يا محمد تبين المراد، فهو باعتبار أنه خطاب من الله، ولسنا نقول: يا محمد في مخاطبتنا له -عليه الصلاة والسلام- وفرق بين المقامين، فلا يلتبس.

ثم هذه العبارة هي كثيرة في كلام السلف "يا محمد"، وفي كلام سعيد بن جبير، كثير غير هذا الموضع.

وكذلك أيضًا لو نظرت في كلام ابن جرير؛ تجد أكثر من ألف وخمسمائة موضع يقول فيها: يا محمد، الحافظ ابن كثير، مئات المواضع يقول فيها: يا محمد في تفسيره، هذا غير هؤلاء كثر، استخدموا هذه العبارة، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- وخلق، كتب التفاسير مليئة بهذا.

وقيل: المعنى ومن بلغ الحلم، وهو بعيد.

لكن في مثل هذا المقام، "فكأنما رأى محمدًا ﷺ" فكأنما رأى رسول الله ﷺ لأنه لا يلتبس، وليس من خطاب الله لنبيه ﷺ الذي يُفسر، هنا "ومن بلغه القرآن فكأنما رأى محمدًا ﷺ، وقيل: المعنى ومن بلغ الحلم وهو بعيد" صحيح هذا لا يساعد عليه السياق، ومن بلغ يعني ومن بلغه القرآن.

أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ [الأنعام:19] الآية: تقرير المشركين على شركهم، ثم تبرأ من ذلك بقوله: لا أَشْهَدُ، ثم شهد لله بالوحدانية، وروي أنها نزلت بسبب قوم من الكفار أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلهًا آخر[6]. [وفي جميع النسخ: أما تعلم مع الله إلهًا آخر].

يمكن أن يكون "ما تعلم مع الله إلهًا آخر" لكن يعني على سبيل الاستفهام، أو "تعلم مع الله إلهًا آخر" هذه الرواية عند ابن إسحاق، وابن جرير[7]، عن ابن عباس -ا- قال: "جاء النحام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحري بن عمير، وفي بعض المصنفات ابن عمرو لكن في ابن جرير ابن عمير، في النسختين المحققتين، فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلهًا غيره -لاحظ هذه الرواية- ما تعلم مع الله إلهًا غيره، هذا لفظها، فقال: لا إله إلا الله، بذلك بُعثت وإلى ذلك أدعو أو ولذلك أدعو؛ فأنزل الله -تعالى- فيهم وفي قولهم: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19]؛ لكن هذه الرواية ضعيفة لا تصح، فابن إسحاق بينه وبين النبي ﷺ هذا الذي يسميه بعضهم المعضل، وبعضهم يسميه: المرسل، باعتبار أن المرسل:

ومرسل قولة غير من صحب؟ قال: إمام الأعجمين والعرب[8]

هذا اصطلاح عند بعض أهل العلم، وهو اصطلاح الأصوليين مطلقًا، يعني حينما يقول البخاري مثلاً: قال النبي ﷺ، فهذا عندهم مرسل، يعني لا يشترط أن يكون من قول التابعي، أن يكون سقط منه الصحابي فقط، وإنما إذا أرسل من قبل من يكون دون التابعي، فعندهم هو مرسل، وبعضهم يقيده كما هو معلوم، إذا سقط منه الصحابي.

قوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ تقدّم في البقرة.

قوله هنا: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ؛ كما قال الله : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]؛ وهناك في سورة البقرة، تجدون هذا في صفحة مائتين وست وأربعين، ومائتين وسبع وأربعين، يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ؛ وذكر هناك في التفسير، وذكرنا أيضًا معه بعض الأوجه.

هنا قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:146]؛ هناك في سورة البقرة في تحويل القبلة، فقوله: "يعرفون" قال: يعرفون القرآن، أو النبي ﷺ قلنا: هذا يعني هذا يمكن وهي أمور متلازمة، وكذلك يعرفون نبوته -عليه الصلاة والسلام- قال: "أو أمر القبلة" يعني تحويل القبلة، وهذا قال به كثير من السلف، لأن السياق في القبلة، يَعْرِفُونَهُ [البقرة:146]؛ يعني: أمر القبلة، وأنها قبلة إبراهيم يعني الكعبة، هناك يعني هذا المعنى لا تعلق له بهذا الموضع في سورة الأنعام، إلا من جهة ما ذكر قبل من أن ذلك يعني القرآن، أو النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [البقرة:146]؛ يعني: يعرفون النبي ﷺ وما جاء به الوحي والقرآن يعرفونه، يعرفون النبي ﷺ وبهذا قال السدي[9]، ورواية عن قتادة[10]، واختاره الواحدي[11]، والقرطبي[12]، وابن كثير[13].

والرواية الأخرى عن قتادة: "يعرفون أن لا إله حق إلا الله"[14]، هنا في مقام تقرير وحدانية الله، قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۝ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [الأنعام:19-20]؛ يعرفون وحدانية الله، وأنه لا إله، لا معبود بحق إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وهذا الذي اختاره ابن جرير[15]، ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله-[16]، والطاهر ابن عاشور حمل ذلك على القرآن[17]، فصار عندنا يعرفونه أي: النبي ﷺ أو القرآن، أو يعرفون أنه لا إله إلا الله.

والقول بأنهم يعرفون النبي ﷺ وما جاء به يعني من الوحي أو نحو ذلك، وهذا المعنى دلت عليه دلائل، وأيضًا هنا قد يدل السياق على أنهم يعرفون وحدانية الله -تبارك وتعالى-: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [الأنعام:20]؛ فاستشهد بهم باعتبار هذه السورة مكية يرد فيها على المشركين؛ لأن موضوع هذه السورة، تتحدث عن قضية التوحيد والرد على المشركين، وشبهاتهم وضلالاتهم المتنوعة في التوحيد وفي العمل، وفي قضايا التحليل والتحريم، والذبائح ... وإلى آخره، وإن كان ذلك جميعًا يرجع إلى الاعتقاد، والتوحيد.

قوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20] الَّذِينَ مبتدأ، وخبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.

وقيل: الذين نعت للذين آتيناهم الكتاب وهو فاسد، لأن الذين أوتوا الكتاب ما استشهد بهم هنا ليقيم الحجة على الكفار.

قوله هنا: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20]؛ ابن كثير -رحمه الله- يقول: "يعني بهذا الأمر الجلي الظاهر، الذي بشرت به الأنبياء، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20]" [18]؛ وهنا لم يذكر المتعلق، متعلق الإيمان حذف، لا يؤمنون، والأصل أن حذف المتعلق يفيد العموم النسبي الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20]؛ لا يؤمنون بما يجب الإيمان به، من توحيد الله -تبارك وتعالى-، ونبوة محمد ﷺ وصحة هذا القرآن وأحقية أنه كلام الله -تبارك وتعالى-.

قال: "الذين: مبتدأ" يعني: مبتدأ، هذا مبتدأ أول الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20]؛ يقول: "خبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" وبعضهم يقول: بأن قوله فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؛ هذا مبتدأ ثاني.

"الذين" مبتدأ أول الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ؛ فهم: مبتدأ ثاني، لا يُؤْمِنُونَ؛ خبر المبتدأ الثاني، وأن المبتدأ الثاني وخبره، خبر المبتدأ الأول، يعني يكون هكذا الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ؛ الذين: هذا المبتدأ الأول، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؛ هذا الخبر، والخبر جملة من مبتدأ وخبر، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؛ فهم: مبتدأ، ولا يؤمنون: خبر.

وقيل: "الذين: نعت، للذين آتيناهم الكتاب، وهو فاسد، لأن الذين أوتوا الكتاب استشهد بهم ليقيم الحجة على الكفار" وبعضهم يقول: الذين خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هم الذين، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ؛ هم الذين، وهذا كله باعتبار أن الذين جملة استئنافية، لا تعلق لها بقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة [الأنعام:12]؛ وهذا الذي اختاره القرطبي[19]، بينما ذهب آخرون كابن جرير -رحمه الله-[20] إلى أن قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ؛ بدل من لَيَجْمَعَنَّكُمْ؛ وهذا أيضًا رجحه ابن عطية[21]،بدل من لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ؛ لكن الذين قالوا بأنها جملة استئنافية، قالوا: الجمع ليس للذين خسروا أنفسهم فقط، إنما الجمع للجميع، جميع الخلائق، فلا وجه لتخصيصهم، والذين يقولون: إنها في خصوصهم، يعني الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ، أن بدل من لَيَجْمَعَنَّكُمْ؛ أن هذا على سبيل التهديد لهم والوعيد لإشراكهم.

لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة؛ هذا عام الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ؛ فإذا قلت: إنه بدل من لَيَجْمَعَنَّكُمْ؛ فيكون كأنه يقول: ليجمعنكم معاشر المكذبين الكافرين إلى يوم القيامة، ويجازيكم على أعمالكم وتكذيبكم وكفركم.

ومن نظر إلى العموم قال: هذه جملة استئنافية الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ؛ سواء قلت: هم الذين خسروا أنفسهم، تكون بهذا التقدير، -والله أعلم-.

قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20]؛ هذا يمكن أن يكون يرجع إلى أهل الكتاب، الذين عرفوا النبي ﷺ وصدق ما جاء به من الوحي ثم لم يؤمنوا، فيكون ذلك عائدًا إليهم.

ويحتمل أن يكون هذا من قبيل الاستشهاد من أهل الكتاب في الرد على المشركين باعتبار أن السورة مكية؛ فيكون هذا كالذي قبله بهذا الاعتبار، هذا يحتمل، -والله أعلم-.

قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ [الأنعام:21] لفظه استفهام، ومعناه لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ وذلك تنصل من الكذب على الله، وإظهاره لبراءة رسول الله ﷺ مما نسبوه إليه من الكذب، ويحتمل أن يُريد بالافتراء على الله ما نسب إليه الكفار من الشركاء والأولاد.

قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ؛ لفظه استفهام ومعناه لا أحد أظلم" باعتبار أنه استفهام مضمن معنى النفي، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]؛ وسبق الجواب عن سؤال يرد في مثل هذا الموضع، وهو أنه جاءت هنا أفعل للتفضيل، لا أحد أظلم ممن افترى على الله، وفي مواضع أخرى ذكر أشياء أخرى، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.. [البقرة:114]؛ إلى آخره، وأن الجواب يجاب عن هذا عادةً بجوابين:

الأول: أن كل آية تختص بموضعها، يعني: لا أحد أظلم في المانعين ممن منع مساجد الله، ولا أحد أظلم في المفترين ممن افترى على الله كذبًا.

أو أن ذلك باعتبار أن أفعل التفضيل لا تمنع الزيادة، لا تمنع التساوي، ولكنها تمنع الزيادة، والإشكال في أفعل التفضيل، لا أحد أظلم، فهي لا تمنع التساوي ولكن تمنع الزيادة، فإذا فهمت هذا القدر؛ انحل الإشكال؛ لأن موضع الإشكال حينما تقول: فلان أكرم الناس، ثم مرة أخرى تقول عن آخر: فلان أكرم الناس، فهل في هذا تعارض، أكرم؟

الجواب: لا؛ باعتبار أن هؤلاء بلغوا الغاية في الكرم، فهي لا تمنع التساوي، لكن تمنع أن يزيد أحدهم عن الآخر؛ لأن أصل أفعل التفضيل معناها: أن اثنين اشتركا في صفة فزاد أحدهما على الآخر فيها، وزيد أعلم من عمرو.

قوله تعالى: أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ [الأنعام:21] أي: علاماته وبراهينه. [وفي جميع النسخ: وبراهين دينه].

لا إشكال في هذا، كذب بآيات علامات، يعني باعتبار أن الآيات هي العلامات والبراهين، التكذيب بالآيات هنا أهم من التكذيب بالآيات المتلوة؛ فيدخل فيه المعجزات للأنبياء، والبراهين الدالة على صدقهم.

قوله تعالى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ [الأنعام:22] يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22] أي: تزعمون أنهم آلهة فحذفه لدلالة المعنى عليه، والعامل في يوم نحشرهم محذوف.

"والعامل في يوم نحشرهم محذوف" ابن جرير -رحمه الله- اعتبره متعلقًا بما قبله، يعني إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21] اليوم وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [الأنعام:22]، يعني: في الآخرة، يعني لا يفلحون لا في الدنيا ولا في الآخرة، وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ [الأنعام:22]؛ وهذا له نظائر، يعني بعضهم في مواضع من القرآن، يربطونه بما قبله.

وبعضهم يقول: العامل فيه مقدر محذوف، تقديره: واذكر، واذكر يوم، وهذا اختاره الواحدي[22].

وبعضهم يقول: بأن عامله نقول، وابن جرير -رحمه الله- ذكر ما سبق، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21] في الدنيا ولا يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ [الأنعام:22]، ويمكن أن تكون جملة استئنافية، يعني إذا قيل بأنه عامل مقدر، واذكر يوم تكون جملة استئنافية جديدة.

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ [الأنعام:23] الفتنة هنا تحتمل أن تكون بمعنى الكفر، أي لم تكن عاقبة كفرهم إلا جحوده والتبرؤ منه، وقيل: فتنتهم معذرتهم، وقيل: كلامهم.

هنا الفتنة، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ، ابن كثير يقول: "يعني لم تكن حجتهم، إلا أن قالوا"[23].

وبعضهم يقول: ثم لم تكن بليتهم، كما قال عطاء الخرساني[24]، يعني حينما ابتلوا قالوا ذلك، وهذا ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ؛ يعني: فسره بأصل المعنى الذي هو الابتلاء، فأعاده إليه، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ.

ويمكن أن يفسر بمجموع ذلك ثم لم تكن مقالتهم وحجتهم؛ أو بليتهم التي ألزمتهم هذه الحجة واضطرتهم إليها.

وبعضهم يقول: هو كفرهم، ثم ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ؛ ابن القيم -رحمه الله- يفسره يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ؛ يعني عاقبة كفرهم ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ؛ فالفتنة تقال: للاختبار والابتلاء[25]، وتقال: لنتيجته، فابن القيم فسرها بالنتيجة، ثم لم تكن عاقبة كفرهم، ومن فسرها ببليتهم فسرها بالمعنى الآخر أنه الامتحان والاختبار، وابن جرير -رحمه الله- قال: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ؛ أي: قولهم[26]، لكن لما كان هذا الجواب واقعًا عند الاختبار، قيل له ذلك، فعبر بعضهم كابن جرير قال: قولهم، باعتبار أن هذا الجواب وقع في حال الاختبار، فأُطلق عليه فتنة، وإلا فالأصل الفتنة هي الاختبار، أو نتيجة الاختبار سواء كانت حسنة أو سيئة، فمنهم من فسر بالنتيجة، ومنهم من فسر بنفس الاختبار قال: بليتهم، ومنهم من فسره بقولهم باعتبار أن هذا القول وقع في حال الاختبار من هذا الوجه، وهذه متقاربة ويمكن أن يعبر بها، -والله أعلم-.

 وقرئ (فِتْنَتَهَمْ) بالنصب على خبر كان واسمها أن قالوا، وقرئ بالرفع على اسم كان وخبرها أن قالوا.

هذه كلها قراءات متواترة، ويقول: قرئ، بصيغة التمريض، لكن هنا لا يقصد صيغة التمريض، فتنتُهم، وفتنتَهم، فقراءة النصب هي قراءة الجمهور، وبالرفع هي قراءة ابن كثير وابن عامر وحفص، يقول: "فتنتَهم بالنصب على خبر كان (لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ)؛ واسمها أن قالوا" وهذا مؤول بمصدر، في التأويل مصدر معنى قولهم.

"وقرئ بالرفع على اسم كان وخبرها أن قالوا" أيضًا كذلك يعني هي في تأويل المصدر يعني قولهم ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ؛ إلا قولهم.

قوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] جحود لشركهم، فإن قيل: كيف يجحدونه وقد قال الله وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42]؟.

يعني هو جحود لشركهم كما قال الله : وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:62]؛ وكما قال: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ۝ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا [غافر:73-74].

فإن قيل: كيف يجحدونه وقد قال الله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42]؟  

فالجواب: أن ذلك يختلف باختلاف طوائف الناس واختلاف المواطن، فيكتم قوم ويقر آخرون، ويكتمون في موطن ويقرون في موطن آخر؛ لأن يوم القيامة طويل وقد قال ابن عباس -ا- لما سُئل عن هذا السؤال: إنهم جحدوا طمعا في النجاة، فختم الله على أفواههم، وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثا.

وهذا الجواب واضح، أنهم يكتمون في بعض الأوقات، ولا يكتمون في وقت آخر، رواية عن ابن عباس -ا- جاءه رجل، فقال: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، وذكر: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42]، وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]؛ فقد كتموا في هذه الآية، فقال ابن عباس -ا-: "وأما قوله: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42]؛ فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فختم على أفواههم، فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثًا، وعنده يود الذين كفروا الآية"[27]، يعني لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42]؛ هذا جواب أنهم لا يكتمون في بعض الأوقات ويكتمون في بعضها، يجحدون فيختم على الأفواه، فتنطق الجوارح، فعندئذ يقرون.

قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، الضمير عائد على الكفار، وأُفرد يستمع وهو فعل جماعة حملاً على لفظ من.

قوله تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام:25].

يعني باعتبار أن من لفظ مفرد والمعنى الجمع، فأحيانًا يراعى اللفظ، وأحيانًا يراعى المعنى، بهذا الاعتبار.

أكنة جمع كنان، وهو الغطاء، وأن يفقهوه في موضع مفعول من أجله تقديره: كراهة أن يفقهوه.

الكنان أو الغطاء، يعني هذه اللفظة تدل على ستر وتغطية.

 ومعنى الآية: أن الله حال بينهم وبين فهم القرآن إذا استمعوه، وعبر بالأكنة والوقر مبالغة، وهي استعارة.

الوقر هو الصمم والثقل الذي يكون في السمع.

يقول: "وهي استعارة" الاستعارة معروفة، هي تشبيه حذفت أداته، وأحد طرفيه ووجه الشبه، على خلاف بينهم هل الاستعارة من المجاز أو ليست من المجاز.

قوله تعالى: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام:25] أي: قصصهم وأخبارهم، وهو جمع أسطار وأسطورة.

أو يعني إسطارة، أو أسطور، أو أسطير، كل هذا.

قال السهيلي: حيث ما ورد في القرآن أساطير الأولين، فإن قائلها هو النضر بن الحارث، وكان قد دخل بلد فارس وتعلم أخبار ملوكهم، فكان يقول حديثي أحسن من حديث محمد[28].

السهيلي له كتاب معروف، الذي هو المبهمات في القرآن؛ فيتبع هذا، وهو مما لا فائدة فيه في الغالب، و المقصود بــأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ؛ يعني: الأباطيل، الأباطيل: ما سطر من أخبار السابقين، أو ما سطروه هم من الكتب، يعني السابقين، وغالبًا ما يقال هذا على الأباطيل، يعني ما سطر من الباطل، أو ما يحكى من الباطل، وإذا أطلق توجه إلى ذلك أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ؛ يعني: الأباطيل والمختلقات، التي سطرها الأولون. 

قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26] هم عائد على الكفار، والضمير في عنه عائد على القرآن، والمعنى وهم ينهون الناس عن الإيمان، وينأون هم عنه أي يبعدون.

يعني هذا المعنى ينهون الناس عن الإيمان به، وينأون عنه بأنفسهم؛ فجمعوا بين الأمرين، وهذا هو المتبادر، وقد قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ: "ينهون الناس عن اتباع الحق، وتصديق الرسول ﷺ والانقياد للقرآن"[29]؛ عن القرآن، عن الحق الذي جاء به النبي ﷺ هذا هو الأقرب، -والله تعالى أعلم-.

والنأي هو البعد، وقيل: الضمير في عنه يعود على النبي ﷺ، ومعنى ينهون عنه: ينهون الناس عن أذاه، وهم مع ذلك يبعُدون أو يبعِدون عنه، والمراد بالآية على هذا أبو طالب ومن كان معه: يحمي النبي ﷺ، ولا يسلم.

هذا بناءً على روايات جاءت عن ابن عباس -ا- والقاسم بن مخيمرة، في أنها نزلت في أبي طالب، ينهى عن أذية النبي ﷺ ولا يتبعه[30]، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ؛ يعني النبي ﷺ عن أذاه، وينأون بأنفسهم فهم لا يتبعونه؛ وهذه حسنها بعضهم بمجموع الطرق، فلو كانت كذلك فعلاً فيكون مما تحتمله الآية باعتبار أن قوله: نزلت في فلان، أن ذلك من قبيل التفسير، يعني أن هذا قال به ابن عباس -ا- والقاسم بن مخيمرة، لكن الذي يشعر به السياق -والله أعلم- وهو المتبادر، أنهم ينهون عن اتباعه والإيمان به، وينأون بأنفسهم عن ذلك.

وفي قوله: ينهون وينأون ضرب من ضروب التجنيس.

يعني جناس التصريف، الجناس أنواع: ينهون وينأون، فهو جناس، جناس التصريف، يعني أن الكلمتين تختلفان في الصيغة، إبدال حرف مكان حرف، أو قريب من مخرجه، سواء كان في يعني الإبدال في الأول، أم كان في الوسط، أم في الآخر، يعني في أي حروفه كان، يقال له: الجناس.

قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام:27] جواب لو محذوف هنا، وفي قوله: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ [الأنعام:30]، وإنما حُذف ليكون أبلغ مما يقدره السامع.

ذكر ابن جرير أن الفصيح أن يقال: وقفوا ولا يقال: أوقفوا على ربهم[31]، أن يقال: وقفوا، ولا يقال: أوقفوا.

[في جميع النسخ ليكون أبلغ ما يقدره السامع]، بدل مما.

ما يقدره السامع وليست مما، يعني: ليذهب الذهن كل ما ذهب بالتقدير، أبلغ ما يكون من ذلك هو وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ، يعني لرأيت أمرًا شنيعًا هائلاً عظيمًا؛ ولهذا قال: بأن حذف جواب لو في مقامات الوعيد يدل على التهويل والتعظيم، يعني الجواب مقدر محذوف، يعني: لرأيت أمرًا هائلاً.

وإنما حذف ليكون أبلغ ما يقدره السامع: أي لو ترى لرأيت أمرا شنيعًا هائلا، ومعنى وقفوا: حبسوا، قاله ابن عطية، ويحتمل أن يريد بذلك إذا دخلوا النار، وإذا عاينوها وأشرفوا عليها. [بجميع النسخ: أو إذا عاينوها].

وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بذلك: إذا دخلوا النار، أو إذا عاينوها، فهذان معنيان:

يعني وقفوا على النار، هل معنى ذلك أنهم دخلوها؟ أو أنهم عاينوها فلما رأوها قالوا ذلك، يحتمل أن يريد بذلك إذا دخلوا النار، يعني باعتبار أن على بمعنى في، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام:27]؛ يعني: في النار، هذا إذا دخلوها، أو أنها على بمعنى الباء باعتبارها من حروف الجر وأنها تتناوب، أن على بمعنى الباء، يعني بقربها، وابن جرير يقول: "حبسوا في النار"[32]، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا [الأنعام:27]؛ في النار، على النار؛ يعني: في النار، يعني: حبسوا في النار.

قوله: أو إذا عاينوها وأشرفوا عليها، ووضع إذ موضع إذا لتحقق وقوع الفعل حتى كأنه ماض.

إذ يكون في الماضي، وإذا في المستقبل، فوضع هذا مكان هذا، لتحقق الوقوع، هو أمر مستقبل، إذ ما قال: إذا وقفوا على النار، باعتبار أنه أمر متحقق، مثل: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]؛ فعبر بالماضي؛ لأنه متحقق الوقوع.

قوله تعالى: (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ) قرئ برفع نكذبُ، ونكون على الاستئناف والقطع على التمني.

قراءة (وَلا نُكَذِّبُ)؛ بالرفع هي قراءة ونكونُ أيضًا، هذه قراءة الجمهور، وَلا نُكَذِّبَ [الأنعام:27]؛ هذه قراءة حمزة وحفص في الموضعين، وفي الثاني الذي هو نكونَ فقط، هذه عند ابن عامر، صار فيها ثلاثة أوجه في القراءة.

قوله: والقطع على التمني [في جميع النسخ عن التمني].

ونكونُ على الاستئناف، والقطع عن التمني، ضعوا عن بدل على، فهنا على قراءة الرفع على هذا الوجه في الإعراب: (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ)؛ الأمنية هي التمني يا لَيْتَنا نُرَدُّ؛ ثم يبدأ كلام مستأنف جديد، مقطوع عن التمني السابق، يعني ليس داخلاً في الأمنية، الأمنية هي الرد، يا لَيْتَنا نُرَدُّ، ثم أضافوا قالوا: (وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؛ فهو مقطوع عن التمني غير داخل في أمنيتهم، الأمنية فقط الرد، يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ [الأنعام:27]؛ ونحن وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].

يقول: "ومثله سيبويه بقولك: "دعني ولا أعود"، أي: وأنا لا أعود، يعني سواء تركتني أو لم تتركني، يعني هو وعد منهم بعدم التكذيب وبالكون مع المؤمنين، ولهذا كذبهم بقوله: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]؛ يعني في هذه الدعوى، والإخبار عن أنفسهم، ليكون من قبيل الخبر وليس التمني؛ لأن الكلام خبر وإنشاء والتمني من باب الإنشاء، وليس من باب الخبر، فإنهم يقولون: في التعريف المشهور عن الخبر، وعليه اعتراضات كثيرة.

وبعضهم يذكر في الخبر كما ذكر صاحب شرح مختصر التحرير، نحو اثنى عشر تعريفًا، وذكر عليها الاعتراضات، فالمشهور في تعريف الخبر، أنه من حيث هو، لذاته يعني وإلا فما يتطرق هذا لكلام الله، ولا لكلام رسوله ﷺ أنه ما يحتمل الصدق والكذب لذاته، فالتمني لا يحتمل هذا، والأمر لا يحتمل هذا، والنهي لا يحتمل هذا، من قبيل الإنشاء، فيكون قوله هنا: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ)؛ فيكون (وَلا نُكَذِّبُ) كلام مستأنف، يعني هم تمنوا الرد ثم أخبروا عن أنفسهم على سبيل الوعد بأنهم لن يحصل منهم تكذيب، وأنهم سيكونون مع المؤمنين، هذا وجه هذا الإعراب، فهو قطع عن التمني، يعني غير داخل فيه.

 ومثّله سيبويه بقولك: دعني ولا أعود، أي: وأنا لا أعود.

ويحتمل أن يكون حالاً تقديره: نرد غير مكذبين، أو عطف على نرد، [وفي جميع النسخ "أو عطفًا"].

قوله هنا: "ويحتمل أن يكون حالاً تقديره: نرد غير مكذبين، أو عطف على نرد" فيكون عدم التكذيب والكون مع المؤمنين داخلين في التمني، كالرد، يعني تمنوا الرد وعدم التكذيب ويكونون قد تمنوا ثلاثة أشياء.

وقرئ بالنصب بإضمار أن بعد الواو في جواب التمني.

"النصب، بإضمار أن بعد الواو في جواب التمني" فلا يكون التكذيب على هذا وكونهم من المؤمنين، داخلين في التمني، والواو بمعنى الفاء، حينئذ تكون أبدلت من الفاء، التقدير: يا ليتنا نرد فلا نكذب ونكون..، كقوله: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58]؛ ويحتمل غير هذا، يحتمل أن يكون النصب بإضمار أن بعد الواو التي بمعنى مع، وتكون أن هذه المضمرة مصدرية ينسبك منها ومن الفعل بعدها مصدر، والواو حرف عطف، فيقدر المعطوف عليه مصدرًا متوهمًا، يعطف هذا المصدر المنسبك من أن وما بعدها عليه، فيكون التقدير: يا ليتنا نرد وانتفاء تكذيب بآيات ربنا، وكون يعني وانتفاء تكذيب بآيات ربنا وكونًا مع المؤمنين، يعني: يا ليتنا لنا رد مع هذين الشيئين، فصارت الثلاثة أيضًا متمناه على هذا الوجه، لكن مجتمعة، لا أن كل واحدة متمناه على حِدة، يقولون: لأن هذه الواو بهذا الاعتبار شرط إضمار أن بعضها أن تصلح مع في مكانها، مع فيكون هذا مجتمعًا، وهناك وجوه أخرى في الإعراب.

قوله تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:28] المعنى ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم وقبائحهم.

وقيل: هي في أهل الكتاب، أي: بدا لهم ما كانوا يخفون من أمر محمد ﷺ.

قال: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:28] "المعنى ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم وقبائحهم" هذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[33]، والآية تخاطب المشركين، وكما ذكرنا بأن السورة مكية، وقيل في أهل الكتاب، لكن الأول أقرب.

وقيل: هي في المنافقين أي: بدا لهم ما كانوا يخفون من الكفر، وهذان القولان بعيدان، فإن الكلام أوله ليس في حق المنافقين ولا أهل الكتاب، وقيل: إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي ﷺ خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر بها أتباعهم، فظهر لهم ذلك يوم القيامة.

هناك معنى آخر غير هذا، غير الذي ذكره اختاره ابن القيم[34]، ومن المعاصرين الطاهر بن عاشور[35]، والسعدي[36]، أن المعنى ما زعموه من أنهم لو ردوا إلى الدنيا لآمنوا بدعوى أنه ظهر لهم الآن صدق النبي ﷺ فهذا غير صحيح؛ لأنهم كانوا يعلمون صحة رسالته، ولكنهم كانوا يخفون ذلك في الدنيا ظلمًا، فيوم القيامة لم يظهر لهم جديد، فحصل لهم العلم فيكونون معذورين، بل ظهر لهم ما كان معلومًا لديهم من قبل، لا جديد لكن كانوا يخفونه، فتمنوا العودة ليس رغبةً في الإيمان، لكن لما رأوا العذاب، وإلا هم قد عرفوا الإيمان ودلائله، وصحة ما جاء به النبي ﷺ.

والحافظ ابن كثير يقول: "ظهر لهم ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة، وإن معنى الإضراب في قوله: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا [الأنعام:28]؛ لكونهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبةً ومحبةً في الإيمان؛ بل خوفًا من العذاب الذي عاينوه؛ فسألوا الرجعة؛ ليتخلصوا مما شاهدوا من النار"[37]، وهذا معنى قول ابن القيم -رحمه الله-[38] وهذا وجه حسن.

فهم كانوا يعرفون هذا كما قال الله : فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]؛ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:28]؛ أنهم يعلمون أنه صادق، وأن ما جاء به فهو من عند الله -تبارك وتعالى- وليست الآية في أهل الكتاب ولا في المنافقين، -والله أعلم-، وليس معناها: ما كانوا يخفونه من الخوف، إذا تليت عليهم الآيات.

قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا [الأنعام:28] إخبار بأمر لا يكون لو كان كيف كان يكون، وذلك مما انفرد الله بعلمه، قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام:28] يعني في قولهم: وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ولا يصح أن يرجع إلى قولهم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ، لأن التمني لا يحتمل الصدق ولا الكذب.

وهذا أيضًا ليس بمسلم؛ لأن هذا التمني لا يحتمل الصدق ولا الكذب، باعتبار أنه إنشاء؛ وإنما يتعلق الصدق والكذب بالخبر، بالخبر من هذا الباب، لكن إذا كان هذا الإنشاء، يتضمن خبرًا أو بمعنى الخبر، أو نحو ذلك ففي هذه الحال يمكن أن يوجه إلى هذا المعنى، ولذلك فإن بعضهم وجهه إلى نحو من هذا، ورد على مثل هذا التعليل، فعلى سبيل المثال مثلاً في قوله هنا: "والتمني إنشاء والإنشاء لا يدخله الصدق والكذب" إلى آخره، فأجيب عن هذا: بأن قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]؛ ليس متعلقًا بالمتمنى، بل هو محض إخبار من الله -تعالى- بأن ديدنهم الكذب، واجترارهم ذلك، فيكون ذلك حكايةً وإخبارًا عن حالهم في الدنيا، أن ذلك لا يرجع للتمني، وإنما وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ؛ يعني: من شأنهم الكذب أصلاً، لكن هذا لا يخلو من بعد، -والله أعلم-؛ لأن الله يرد عليهم ما قالوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ؛ إلى آخره.

التوجيه الثاني: أن هذا التمني قد تضمن معنى الخبر، والعدة الوعد، فإذا كانت سجية الإنسان شيئًا ثم تمنى ما يخالف السجية وما هو بعيد أن يقع منها؛ صح أن يوصف بالكذب على سبيل التجوز، لو قال إنسان: ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك وأعطيك.. الخ، فهذا متمنًا بمعنى الواعد، هي أمنية ليت الله يرزقني فأعطيك، فهذا يتضمن وعدًا والوعد خبر، فإذا رزقه الله مالاً ولم يفعل يكون كاذبًا؛ فيكون تمنيه هذا بمنزلة إن رزقني الله مالاً أعطيتك، فهؤلاء حينما قالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ [الأنعام:27]؛ كأنهم قالوا: إن رددنا لا نكذب، فأكذبهم الله ، باعتبار أن هذا من قبيل الوعد، يعني أن التكذيب عائد إلا ما تضمنه التمني، -والله أعلم-.

ومناقشات النحاة لا تنتهي، وما يذكر هنا فهو قليل مما في كتب الإعراب.

قوله تعالى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام:29] حكاية عن قولهم في إنكار البعث الأخروي.

واعتبرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- تابعًا لما قبله[39]، أي: لردوا، لو ردوا لعادوا إلى لما نهوا عنه وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا [الأنعام:29]؛ ولكن على المعنى الذي ذكره ابن جزي، يكون من قبيل الاستئناف، يعني ذكر عنهم هذا، أنهم من شدة إنكارهم للبعث، يقولون: هذه الحياة فقط نموت ونحيا.

 قوله تعالى: قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ [الأنعام:30]، تقرير لهم وتوبيخ.

يعني: أليس هذا المعاد بحق.

قوله تعالى: قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها [الأنعام:31] الضمير فيها [هنا كلمة في جميع النسخ سقطت هي "في" الضمير في فيها].

لا بأس، الضمير "في فيها".

للحياة الدنيا لأن المعنى يقتضي ذلك وإن لم يجر لها ذكر.

يكون مثل: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]؛ يرجع إلى القرآن، ولم يجرِ له ذكر، فذلك معلوم من السياق، يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31]؛ يعني تركنا وأغفلنا وضيعنا، وهم يتحسرون، يقولون: يا ندامتنا على ما فاتنا، فالحسرة هي الندم الشديد.

 وقيل: الساعة [وفي جميع النسخ للساعة].

"وقيل: الساعة على ما فرطنا فيها" أي: الساعة في شأنها والاستعداد لها.

 أي: فرطنا في شأنها، والاستعداد لها، والأول أظهر.

وهذا القول بأنه الساعة يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31]؛ أي: الساعة، هذا اختاره ابن جرير[40]، أو بمعنى آخر وهو يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا؛ أي: الصفقة التي دل عليها الخسران، وهذا كله يلتئم منه -والله أعلم-، معنى فرطوا في الصفقة يعني بترك العمل في الدنيا، والاستعداد للآخرة، يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا؛ -والله أعلم-.

قوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ [الأنعام:31] كناية عن تحمل الذنوب، وقال: على ظهورهم، لأن العادة حمل الأثقال على الظهور، وقيل: إنهم يحملونها على ظهورهم حقيقة، وروي في ذلك أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة. وأن المؤمن يركب عمله بعد أن يتصوّر له في أحسن صورة.

وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ؛ فالأوزار هي الأحمال الثقيلة، ويقال: الرجل إذا بسط ثوبه، فجعل فيه المتاع، احمل وزرك، يعني: ثقلك، ويقولون: منه الوزير، وهذا مضى في الغريب، الوزير: قالوا: لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية، يتحمل الأعباء والأثقال، وهنا ما ذكره من أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة، والمؤمن يركب عمله.. الخ، هذا جاء في روايات ولكنها مراسيل، جاء عن السدي، وعمرو بن القيس الملائي، عند أبي حاتم عن عمرو بن قيس[41]، ولا يصح إسناده أصلاً.

وعند ابن جرير عن السدي إسناده إلى السدي[42]، لا بأس به لكن هو مرسل، في سياق هذا حاصله، يعني ابن جزي -رحمه الله- يذكر المعنى وحاصل الروايات في الغالب، فهو ذكر حاصل الرواية هنا، وهي لا تصح من أن الكافر يرى عمله بصورة في غاية القبح فينفر من ذلك ويسأل، يقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك، كنت تركبني في الدنيا، وأنا أركبك اليوم، وأن المؤمن يرى عمله بأحسن صورة، يقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك كنت أركبك في الدنيا، وأنت تركبني اليوم، لكن الرواية لا تصح.

قوله تعالى: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [الأنعام:31] إخبار عن سوء ما يفعلون من الأوزار.

ساء: يعني قبح ما يزرون.

قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام:33] قرأ نافع يُحزن حيث وقع بضم الياء من أحزن، إلا قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء:103].

يعني في هذا الموضع فقط عند نافع، لا يَحزنُهم، وإلا الباقي يُحزِنهم في قراءة نافع.

وقرأ الباقون بفتح الياء من حزُن.

فتح الياء وضم الزاي، "فتح الياء من حزُن الثلاثي".

الثلاثي وهو أشهر في اللغة والذي يقولون: قولهم إنه ساحر، شاعر، كاهن.

هذا الذي يقولون، فإذًا على قراءة نافع، يُحزنك هذا المتعدي الرباعي، أحزن يُحزن، وتقول: حزن يَحزن.

قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام:33] من قرأ بالتشديد فالمعنى: لا يكذبونك معتقدين لكذبك، وإنما هم يجحدون بالحق مع علمهم به، [في جميع النسخ يجحدون الحق].

وإنما يجحدون بالحق، يصح هذا ويصح هذا، وفي المطبوع الحق، ولا إشكال فيه، يجحدون الحق، مع علمهم به، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ فهذه قراءة الجمهور، (فَإِنَّهُمْ لا يُكْذِبُونَكَ)؛ هذه قراءة نافع والكسائي.

ومن قرأ بالتخفيف، فقيل: معناه لا يجدونك كاذبا، يقال: أكذبت فلانا إذا وجدته كاذبا، كما يقال: أحمدته إذا وجدته محمودًا، وقيل: هو بمعنى التشديد، يقال: كذب فلان فلانًا وأكذبه بمعنًى واحد، أو كذَّب فلان فلانًا وأكذبه وهو الأظهر؛ لقوله بعد هذا يجحدون، ويؤيد هذا ما روي أنها نزلت في أبي جهل؛ فإنه قال لرسول الله -صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم-: إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به[43]، وأنه قال للأخنس بن شريق: والله إن محمدًا لصادقٌ، ولكني أحسده على الشرف[44].

الأولى: ما روي أنها نزلت في أبي جهل فإنه قال للنبي ﷺ: فإنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به، في الرواية فأنزل الله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ[45]؛ فأنزل الله، لكن هذه الرواية لا تصح، هي عند الترمذي ورجح إرساله عن سفيان الثوري[46]، وضعفها الجماعة من أهل العلم، وضعف الألباني الموصول والمرسل[47].

وجاء نحو هذا أيضًا عن علي عند الحاكم في المستدرك[48]، ولكنه أيضًا ليس صحيحا، فهذا لا يصح في سبب النزول، وكذلك في ما قاله هنا، قال للأخنس، هذه رواية أخرى: "والله إن محمدًا لصادق، ولكني أحسده على الشرف"؛ هذا مرسل أيضًا عن السدي[49]، فلا يصح في سبب النزول شيء، -والله أعلم-.

قوله تعالى: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ؛ أي: ولكنهم ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم.

يعني: ما قال: فإنهم لا يكذبونك ولكنهم بآيات الله يجحدون، يصح هنا وضع الضمير اختصارًا، ولكنه أظهر في موضع يصح فيه الإضمار، قال: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ؛ لإبراز هذا الوصف، وصف هؤلاء بالظلم.

قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:34] الآية، تسلية للنبي ﷺ، وحضّ له على الصبر، ووعد له بالنصر، قوله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ [الأنعام:34] أي: لمواعيده لرسله كقوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ۝ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات:171-172]، وفي هذا تقوية للوعد. 

كقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21]؛ فهنا يقول: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ؛ "أي: مواعيده لرسله" وحمله آخرون كابن جرير -رحمه الله- على ما أنزله وأوحاه إلى رسله[50]، يعني لا مبدل، لا أحد يبدل هذا المنزل، أو ما أنزله على رسوله ﷺ يعني محمدًا ﷺ من الوعد بالنصر على الأعداء.

ويحتمل أن يكون ذلك وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ؛ يشمل الكلمات القدرية الكونية، والكلمات الشرعية، فقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21]؛ هذا كونًا وقدرًا، ويمكن أن يكون أيضًا ذلك قد كتب في اللوح المحفوظ، وأيضًا فيما أنزل على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فهنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ؛ الكونية وكذلك الشرعية، يعني ما أنزله وأوحاه إلى رسله -عليهم الصلاة والسلام- لا مبدل لها، لكن جرى مثل هذا كثيرًا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ؛ يعني فيما كان من هذا القبيل، كثيرًا باعتبار الكلمات الكونية وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ؛ لا مبدل لكلماته، وهكذا حينما تقول: "أعوذ بكلمات الله التامات"[51]؛ فهذا الأقرب أنه يشمل الكلمات الكونية والكلمات الشرعية، وهو في الكلمات الكونية أولى، وإن كان ذلك لا ينفي عن الكلمات الشرعية؛ لأن يصح الاستعاذة بها، باعتبار أن كلام الله صفة من صفاته، فإذا قلت: أعوذ بكلمات الله التامات، يصدق على هذا، يصح بهذا الاعتبار، لكن الأولى أن يحمل على الكلمات الكونية؛ لأنها لا يجاوزها بر ولا فاجر، وأنت تريد الاستعاذة هنا بالمنع من المخاوف ونحو ذلك، فهذا أليق بالكلمات الكونية، -والله أعلم-.

قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34] أي: من أخبارهم ويعني بذلك صبرهم ثم نصرهم، وهذا أيضا تقوية للوعد والحض على الصبر، وفاعل جاءك محذوف تقديره نبأ أو خبر، [في أربع نسخ: أو جلاء، وفي نسخة أو خبر].

محذوف تقديره: نبأ أو خبر، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ؛ أي: من أخبارهم، وفاعل جاءك محذوف تقديره: تقديره: نبأ أو خبر، [في أربع نسخ: أو جلاء] لا يمكن، أما المجرور فهو قوله: من نبأ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ؛ نبأ المجرور.

وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120]؛ كقوله: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ.

وقيل هو المجرور.

نبأ.

قوله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ [الأنعام:35] الآية: مقصودها حمل النبي ﷺ على الصبر، والتسليم لما أراد الله بعباده من إيمان أو كفر، فإنه -صلّى الله تعالى عليه وسلّم- كان شديد الحرص على إيمانهم، فقيل له: إن استطعت أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء فتأتيهم بآية يؤمنون بسببها. [في النسخ: يؤمنوا بسببها] فافعل، وأنت لا تقدر على ذلك، فاستسلم لأمر الله، والنفق في الأرض معناه: منفذ تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض، وحُذف جواب إن لفهم المعنى.

يعني فافعل والعرب تترك الكلام اختصارًا ثقةً بفهم السامع؛ إذا كان لا يلتبس يحذفون، وهذا كثير، وابن جرير ينبه على هذا كثير في التفسير.

قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام:35] حجة لأهل السنة على القدرية.

بهذا الاعتبار وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ؛ أن كل شيء بمشيئة الله والقدرية يقولون: بأن الإنسان يخلق فعله، وأن الله -تبارك وتعالى- لا يقدر على أفعال العباد، ولم يقدرها نعم ولم يخلقها.

قوله تعالى:  فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الأنعام:35] أي: من الذين يجهلون أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى.

هنا في مسألة سابقة كتبها الشيخ ماضي، في صلاة الكافرين في دينهما، بأنهما لا يعظمان صلاة العصر، ما ذكره هنا في الأثر ممكن نقرأه

"قال: بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

بحث عن ثبوت قول ابن جزي في تفسيره وقال ابن عباس: هي صلاة الكافرين في دينهما؛ لأنهما لا يعظمان صلاة العصر، قال: الأثر وجدته في تفسير الطبري، قال الطبري في تفسيره: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن مفضل قال: حدثنا أسباط عن السدي، ثم قال: قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العلجين حين انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت وخونوهما، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له: إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما ويحلفان بالله لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [المائدة:106]؛ قلت: السند منقطع؛ لأنه من رواية السدي عن ابن عباس، والسدي لم يسمع منه، ولم يسمع من أحد من الصحابة إلا ما قيل إنه سمع من أنس بن مالك والسدي متكلمٌ فيه، كذلك يرويه عنه أسباط بن نصر، وأسباط بن نصر أيضًا متكلم فيه، ولهذا رجح الطبري الرواية الأخرى التي جاءت: أنها صلاة العصر، وقد حكم عليها من حقق تفسير زاد المسير لابن الجوزي، كزهير الشاويش -رحمه الله- بالشذوذ، ونقله عنه ابن كثير وعزاه إليه.

وقال أسباط عن السدي: يا أيها الذين، في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:106]؛ قال: هذا في الوصية عند الموت... إلى أن قال: قال عبد الله بن عباس -ا-: "كأني أنظر إلى العلجين، حين انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وخونوهما فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له: إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما إلى أن قال: رواه ابن جرير[52].

قال ابن العربي في كتابه "أحكام القرآن"[53]: قال ابن عباس: كأني أنظر إلى العلجين حتى انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري، ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وجوههما، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد صلاة العصر، فقلت: لا يبالون بعد العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما"، وقد روي عن ابن مسعود: ولم أجده في غير هذه الكتب، كتبه/ ماض بن فالح".

فتح الصحيفة، المقصود بها: الوصية، وصية الميت، والرواية هنا واضح من الإسناد أنها لا تصح، قول المحقق هنا لابن الجوزي، بأنها رواية شاذة، ليست كذلك بل هي رواية منكرة، لأن هنا الضعيف إذا خالف رواية الثقة، فهذا يقال له: منكر، وإذا خالف الثقة من هو أوثق منه، يقال: هذا الشاذ، نعم هذه منكرة.

فهذه الرواية أن بعد صلاتهما يعني الصلاة التي يعظمانها في دينهما، أن هذا غير صحيح، وأن قول الجماهير من السلف فما بعدهم أن بعد صلاة العصر، كونهم لا يعظمون صلاة العصر، لكن لا شك أن هذا أوقع في النفوس وأهيب، أن يحضروا في مثل هذا الوقت، فيكون ذلك أشد في العذاب في من كذب في مثل هذه الساعة، ويمكن أن ينبهوا على هذا، قالوا: هذا وقت معظم، هذه صلاة معظمة، فيأتون بحضرة الناس، الذين يشهدونها، وهم أكثر ما يكونون؛ لأن الناس يجتمعون في صلاة العصر، وتجتمع فيها ملائكة الليل والنهار، ثم يتفرق الناس في أعمالهم وأسواقهم وحرفهم ونحو ذلك من صنائعهم، فيجتمعون في صلاة العصر ما لا يجتمعون في غيرها، هذا مع أنها ليست بوقت عتمة، كالعشاء أو الفجر أو نحو هذا، أقصد بالعتمة الظلام، فيراهم الناس، فإذا ردت شهادتهم وكُذبوا فهذا يكون وقعه شديد، -والله أعلم-.

  1. أخرجه البخاري في عدة مواضع منها في كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، برقم (844)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (593).
  2. تفسير الطبري (9/ 181).
  3. تفسير الطبري (9/ 182).
  4. تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1271).
  5. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 120)، برقم (29958).
  6. تفسير الطبري (9/ 185).
  7. تفسير الطبري (9/ 185).
  8. نشر البنود على مراقي السعود (2/ 60).
  9. تفسير القرطبي (10/ 161).
  10. تفسير القرطبي (10/ 161)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/ 356).
  11. الوجيز للواحدي (ص: 137).
  12. تفسير القرطبي (2/ 162).
  13. تفسير ابن كثير (1/ 462).
  14. انظر: تفسير الطبري (9/ 187).
  15. تفسير الطبري (9/ 186).
  16. تفسير السعدي (ص: 72).
  17. التحرير والتنوير (7/ 170).
  18. انظر: تفسير ابن كثير (3/ 245).
  19. تفسير القرطبي (6/ 396).
  20. تفسير الطبري (9/ 174).
  21. تفسير ابن عطية (2/ 272).
  22. الوجيز للواحدي (ص: 348).
  23. تفسير ابن كثير (3/ 246).
  24. انظر: تفسير ابن كثير (3/ 246).
  25. انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 151).
  26. تفسير الطبري (9/ 189).
  27. صحيح البخاري (6/ 128)، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (10594).
  28. انظر: غوامض الأسماء المبهمة والأحاديث المسندة في القرآن (ص: 51).
  29. تفسير ابن كثير (3/ 247).
  30. تفسير الطبري (9/ 204)، وتفسير ابن كثير (3/ 248).
  31. تفسير الطبري (9/ 207).
  32. تفسير الطبري (9/ 208).
  33. تفسير الطبري (9/ 211).
  34. انظر: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 93)، وعدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 185).
  35. انظر: التحرير والتنوير (7/ 185).
  36. انظر: تفسير السعدي (ص: 254).
  37. تفسير ابن كثير (3/ 249).
  38. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 185).
  39. تفسير ابن كثير (3/ 248).
  40. تفسير الطبري (9/ 214).
  41. تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1281).
  42. تفسير الطبري (9/ 217).
  43. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الأنعام، برقم (3064)، والحاكم في المستدرك، برقم (3230)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وضعف إسناده الألباني في ضعيف الترمذي، برقم ( 3271 ).
  44. انظر: تفسير الطبري (9/ 222)، وتفسير ابن كثير (3/ 252).
  45. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الأنعام، برقم (3064)، والحاكم في المستدرك، برقم (3230)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وضعف إسناده الألباني في ضعيف الترمذي، برقم (3271).
  46. الرواية المتقدمة.
  47. ضعيف الترمذي، برقم (3271)، و(3272).
  48. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (3230)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
  49. انظر: تفسير الطبري (9/ 222)، وتفسير ابن كثير (3/ 252).
  50. انظر: تفسير الطبري (9/ 224).
  51. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، برقم (2708).
  52. تفسير الطبري (9/ 78)، وتفسير ابن كثير (3/ 220-221).
  53. أحكام القرآن، لابن العربي (2/ 235).

مواد ذات صلة