الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
وقفات مع قوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب)
تاريخ النشر: ٠٨ / محرّم / ١٤٣٥
التحميل: 13784
مرات الإستماع: 7761

لماذا خص الشرح بالصدر؟

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فسلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته.

أيها الإخوة، والأخوات في هذه الليلة حديثنا عن خاتمة سورة الشرح، سورة الانشراح، سورة أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ.

وذلك - كما قد سمعتم - قوله - تبارك، وتعالى - : فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب [الشرح: 7 - 8]. 

والحديث عن هاتين الآيتين ليس بمعزل عن الحديث عن صدر هذه السورة.

فنحن بحاجة إلى شيء من التطرق لما جاء في أولها؛ من أجل أن يرتبط المعنى بآخرها.

هذه السورة يقول الله - تبارك، وتعالى - في أول آية فيها: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1].

شرح الصدر يعني: فتحه بإذهاب ما يصد عن الإدراك، ويورث الضيق، وخص الصدر؛ لأنه محل أحوال النفس من العلوم، والإدراكات، لأنه محل للتفكير، محل لتعقل الأشياء، محل لتقبلها، محل للقناعات، هو محل للفهم، محل لاستقرار المعلومات، كل ذلك يكون في الصدر، يكون في القلب.

فخص الصدر بالشرح؛ لأنه موضعه، ومعنى الآية، وإن لم نكن بصدد تفسيرها، لكن من أجل أن نربط أول السورة بآخرها، معنى ذلك: شرحنا لك صدرك.

لأن الاستفهام إذا دخل على النفي قرره، الهمزة للاستفهام، فدخلت على "لم" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟

فإذا دخل الاستفهام على النفي جعله للإثبات، فالله يقول لنبيه ﷺ على سبيل الامتنان، على سبيل التفضل: شرحنا لك صدرك. 

شرح الله - تبارك، وتعالى - صدر نبيه ﷺ للهدى، والإيمان، شرح صدره لمعرفة الحق، كل ذلك شرح به صدره، كما يقول كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -[1].

شرح صدره بأن جعله محلا للوحي، جعله متحملاً لأعباء الرسالة، لأعباء الدعوة، وما تتطلبه من جهود، وأعمال، ومشقات، وما يلاقيه القائم بها، المتوظف بوظيفتها من الأذى، فإنه لن يسلم بحال من الأحوال من المناوئين، من الأعداء، من الخصوم الذين لا يقر لهم قرار، ولا يهنأ لهم بال إذا ظهرت الأنوار، أنوار النبوة، والرسالة.

فهم خفافيشُ أعماها النهارُ بضوئهِ فوافقها قِطْعٌ من الليل مظلمُ

فهذه الرسالة: مثل النهار يزيد أبصار الورى نورًا، ويعمي أعين الخفاش.

سيلاقي ما يلاقي من هؤلاء من الأكاذيب، والفرى، وأنواع الأذى، الذي لابد من توطين النفس عليه، ولابد من شرح الصدر لئلا يضيق ذرعاً، لئلا ينقطع، لئلا يتوقف، لئلا يتراجع، لئلا يتزعزع، بل يثبت، ويرسخ في هذا الطريق قدمه حتى يكون أثبت من الجبال الراسيات.

قال ابن كثير - رحمه الله - : "وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحاً، واسعاً، سمحاً، سهلاً، لا حرج فيه، ولا إصر، ولا ضيق"[2].

هذا بالإضافة إلى الشرح الحسي حينما شُق صدره ﷺ وأُخرج منه ما أُخرج من علقة تتصل بحظ الشيطان منه - عليه الصلاة، والسلام - فصار الصدر محلا قابلاً لهذه الأنوار، والوحي، والهدايات، والتنزيل برفع، ودفع، وإزالة ما يضاده من الأمور الحسية، والمعنوية أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ۝ وَوَضَعْنَا عَنْكَ، وِزْرَكَ ۝ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ۝ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 1 - 4].

ذكر له ثلاثة أشياء امتن عليه بها، شرح الصدر، ووضع الوزر الذي هو الإثم، غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، حطّ عنه الأوزار، فصار نقيًّا من كل شائبة، ودنس، وإثم، ورفع له ذكره ﷺ.

هذه الأمور الثلاثة متلازمة، وهي حاصلة للنبي ﷺ ولأتباعه منها نصيب، كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في هذا الموضع بعينه، وكما يقول الشاطبي - رحمه الله - في كلام له يؤصل فيه أصلا كبيراً يمكن أن يكون هذا من أمثلته.

 فما أعطاه الله لنبيه ﷺ فلأتباعه منه نصيب بقدر اتباعهم له.

لأتباعه ﷺ من انشراح الصدر بقدر متابعتهم له، لأتباعه من حط الأوزار بقدر اتباعهم له، ولأتباعه من رفعة الذكر، والمنزلة بقدر ما يكون لهم من الاتباع لنبيهم ﷺ.

وعليه، فإن أشرح الناس صدراً هم أتبعهم لرسوله ﷺ وهم أوضع الناس وزراً، وأرفعهم ذكراً، وكلما قويت المتابعة علماً، وعملاً، وحالاً، وجهاداً قويت هذه الثلاثة حتى يصير صاحبها بمنزلة عالية، رفيعة من جهة الذكر، ويصير في حال من الانشراح، والسعادة، والسرور، والأنس بالله - تبارك، وتعالى -.

فتتقشع همومه، وغمومه، وأوصابه، وأنصابه بقدر ما له من متابعة رسول الله ﷺ.

فهذه الأمور الثلاثة متلازمة، فإذا حُطت الأوزار كان ذلك سبباً لرفع الذكر، وكان ذلك سبباً لانشراح الصدر، وإذا انشرح الصدر كان ذلك سبباً لحط الأوزار؛ لأن الأوزار تثقله، وتوهنه، وترهقه، وتُدسِّيه فلا يكون له من الرفعة نصيب.

ولهذا قال الله : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 9 - 10].

فالدسّ، والتدسيس، والتدسية كل هذا هبوط، وسفول، ونزول، وانحطاط، هكذا تفعل الأوزار، والذنوب، والمعاصي بأصحابها.

فهنا حط عنه الوزر، فكان ذلك سبباً لانشراح الصدر، ورفعة الذكر.

شرح صدره، فكان ذلك سبباً لحط أوزاره، ورفعة ذكره، هذه الأمور متلازمة، كما أن أضدادها متلازمة، الصدر يضيق حتى يصير حرجاً بسبب الذنوب، والمعاصي، بسبب الإعراض عن الله - تبارك، وتعالى -.

وإذا ضاق الصدر، وكثرت الأوزار انحط ذكر العبد، وانهبطت مرتبته، وانحدرت، وصار في سفول لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۝ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين: 4 - 6].

فعلى أحد الأقوال في تفسير الآية: الإيمان يرفعهم، والأعمال الصالحة ترفعهم حتى يصير الواحد منهم في غاية الرفعة، ويكون له من الذكر الجميل ما جعله الله لأوليائه، وخاصته، وأهل طاعته، وعبادته - جل جلاله، وتقدست أسماؤه -.

إن الكثيرين لربما يتلفتون يمنة، ويسرة، ويبحثون عن الأنس، والراحة، وانشراح الصدر في غير موطنها، يبحث عن السعادة في المعصية، وهؤلاء الذين يواقعون ما يواقعون من الذنوب، والمعاصي إنما الذي أوقعهم بذلك ضيق الصدر، فهم يطلبون انشراحه بلذات محرمة.

هذا الذي يسمع المعازف لماذا يسمعها؟ يقول: ليطرب، ليأنس، ليُسرّ.

الذي يشرب الخمر، لماذا يشربها؟ الذي يتعاطى المخدرات، لماذا يتعاطاها؟ 

يبحث عن السعادة، يطرد الهم، يظن أن سعادته، ولذته، وراحته، وأنسه بهذه الأمور التي تفعل به على الضد من مطلوبه تماماً، فلا يزيده ذلك إلا بؤساً، وضيقاً، وحرجاً.

ولكنه عمى البصائر، إذا عميت البصائر صار الإنسان يطلب راحته في مواقع حتفه.

كما يقول شاعرهم:

وكأسٍ شربتُ على لذَّةٍ وأخرى تداويتُ منها بها[3]

الأولى شربها يتلذذ، فأورثته بؤساً، فيشرب الأخرى؛ ليتداوى من آثار الأولى.

يعني: هو لا يشرب الثانية لشوق، ولذة يجدها فيها، وهكذا الإنسان إذا أدمن المعاصي، وأضعفت قوى القلب، فضعف الإدراك الذي هو البصيرة، صار الإنسان يتعاطى الذنوب، والمعاصي، والجرائر، والجرائم من غير التذاذ.

يفعلها؛ لأنها صارت كالعلة المستديمة اللازمة لذاته، كالعادة التي لا يستطيع أن يتخلص منها، وانظروا إلى هذا الجاهلي الآخر الذي يقول:

لا أتقي حَسَكَ الضغائن بالرُّقى فِعلَ الذليل ولو بقيتُ، وحيدا
لكن أُعد لها ضغائنَ مثلها حتى أداوي بالحُقود حُقود[4]

نسأل الله العافية، يداوي بالحقد الحقد السالف قبله، يقول:

كالخمرِ خيرُ دوائها منها بها تشفي السقيم وتبرئ المنجودا[5].

وشاعر الفسق كما يسميه ابن القيم - رحمه الله - أعني أبا نواس - يقول:

دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراءُ وداوني بالتي كانت هي الداءُ

يقصد الخمر، فيتدواى منها بها.

المقصود أن العبد إذا حمل الأوزار فإن ذلك يوجب له ضيق الصدر، وخمول الذكر.

ثم إن خمول الذكر يوجب له ضيق الصدر، فلا يزال المعرض عن ربه - تبارك، وتعالى - وعن طاعته، وعبادته متردداً بين هذه المنازل الثلاث، نسأل الله العافية -.

ضيق الصدر، وتحميل الأوزار، وضعة الذكر.

بخلاف المطيع، بخلاف المؤمن، بخلاف المقبل على ربه - تبارك، وتعالى -.

فهذا المؤمن الموحد يدور بين تلك المنازل الثلاث من الانشراح، ورفعة الذكر، وحط الأوزار، هذه الأوزار إذا أثقلت الظهر مُنع القلب عندها من الانطلاق، والسير إلى الله - تبارك، وتعالى - فيبقى معطلاً، مشغولا بالمدانس، مشغولاً بالخبائث، مشغولاً بالمعاصي التي ترهقه، وتثقله، وتقعده عن سيره، وسفره إلى ربه، وإلى الدار الآخرة.

فتتعطل بعد ذلك الجوارح عن الطاعة، عن العبادة، فإن السفر الطويل لا يمكن أن يقطعه قلب مثقل بهذه الأوزار، يحملها، وترهقه، وتقعده، فإذا وُضعت عنه أوزاره صح سيره، واستقام في انطلاقته، وصار واصلاً إلى مطلوبه، وحصلت له السعادة الحقيقية، فينقلب عسره يسراً.

وإن من أعظم العسر: الانغماس في الرذيلة، الانغماس في المعاصي، الانغماس في الجرائر، والجرائم، والذنوب، الإغراق في اللذات، والشهوات،  كل هذا من أعظم أسباب العسر، وهو من أعظم أسباب خمول الذكر، وانحطاط مرتبة العبد، وهذا أمر يلوح على وجه الإنسان.

ويبقى في النتيجة النهائية تقييماً يلازمه، ويلاحقه مهما تزين بالثياب، وجميلها، وبالمراكب، وفاخرها، وسكن القصور، فإن النهاية أن له قدراً لا يتجاوزه، وحجماً لا يمكن أن يزيد عليه؛ لأنه إنما يرتفع بطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ.

ولا يمكن أن يحصل لقلبه الإشراق إلا بهذا، لا يمكن، ولا يمكن أن تُحط عنه الأوزار إلا بأن يكون مطيعاً.

فهنا يحصل له الأجر، ووضع الوزر، فهؤلاء، وأمثالهم، وإمامهم، ومقدمهم نبينا محمد ﷺ لهم هذه العِدة فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5 - 6] هذه الفاء التي يسمونها بالفصيحة تدل على كلام مقدر محذوف بحسب السياق.

يعني كأنه يقول: إذا علمت ذلك، إذا تقرر ما سبق، إذا اتضح، واستبان ما ذكر من أن الله أعطاك، وأولاك، وأكرمك بهذه الأمور الثلاثة، فاعلم أنه يعقب الشدةَ الفرجُ.

المعنى: إذا تقرر ما سبق فاعلم أن مع الضيق السعة، ومع الشدة الرخاء، ومع الكرب الفرج.

إن الذي حباك، وأولاك، وأكرمك لن يضيعك، ولهذا من أحسن الأدب في الدعاء أن يذكر الداعي سوالف النعم، وسوابغها، وما كان له من إجابة لدعائه من ربه - تبارك، وتعالى -.

ماذا قال زكريا ﷺ ؟ ذكر هذا المعنى، فقال:  وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: 4].

يعني يقول: أنا لم أشقَ فيما سبق حينما دعوتك، ما كنت شقيًّا بدعائك، عودتني الإجابة، فاستجب لي يا رب هذه المسألة، هكذا يا رب عودتني أن تعطيني، وأن توليني، وأن تكرمني، وأن تجيب دعائي، أرفع يدي فيأتي الفرج، فاستجب لي في هذه المسألة، كما عودتني يا رب في مسائلي، وحاجاتي، ومطالبي الماضية.

هذا أدب مع الله في الدعاء، هذا تلطف، وحري لمن تلطف، وتأدب في دعائه مع الله أن يستجاب له. 

  1.  تفسير الطبري (24/493).
  2.  تفسير ابن كثير (8/429).
  3. درة الغواص في أوهام الخواص (ص: 143).
  4.  حماسة القرشي (ص: 86).
  5.  تاريخ دمشق لابن عساكر (40/302).
إن مع العسر يسراً

ولاحظوا هنا فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5، 6].

العسر هنا معرف بأل "العسر، العسر" ذُكر مرتين، واليسر ذكر منكراً مرتين، والقاعدة أن المعرف إذا تكرر فالثاني هو الأول، والمنكر إذا تكرر فالثاني غير الأول.

هذا الذي عليه عامة أهل العلم، وإن خالف فيه صاحب التحرير، والتنوير، وسبقه إلى ذلك صاحب الكشاف، لكن عامة أهل العلم يذكرون هذه القاعدة، ويقررونها، ومعناها: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ هذا عسر واحد يُسْرًا قابله بيسر، ثم قال: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.

فالعسر معرف فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5، 6].

يعني العسر الأول، هذا عسر واحد، فالأول قابله بيسر بصيغة التنكير يُسْرًا ما قال: فإن مع العسر اليسر، إن مع العسر اليسر، لا، قال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.

فالعسر هذا هو نفس الأول، عسر واحد، الأول هو الثاني، والثاني هو الأول، لكنه في اليسر قال: "يسرًا" "يسرًا".

فهذان يسران، ومن هنا: فلن يغلب عسر يسرين، لابد أن تنفرج.

لا تظن أن هذه الشدة التي حصلت، لا تظن أن هذا المرض، لا تظن أن هذه الخسارة، لا تظن أن هذه المصيبة أنها نهاية المطاف، ليست نهاية المطاف، هذا عسر، وهو مقابل بيسرين، والفرج أقرب من اليد للفم.

فأحسن الظن بالله أحسن الرجاء، أقبل عليه بالانكسار، والدعاء، والتذلل، والضراعة.

فهذه الشدة تقربك من الله.

أحد الإخوان - وغيره كثير لكن هذا أقرب ما سمعت - قبل يومين يقول: أصابه مرض، فبقي يدعو، ويتضرع إلى الله أربع سنين، وصار بحال من القرب من الله - تبارك، وتعالى - ما لو مات لرجا أن يكون على خير، يقول: فبرئت من غير علاج، مع أن هذا المرض لربما يقف أمامه الأطباء عاجزين.

يقول: ولما شفيت من هذا المرض لم أكن كما كنت في حال المرض.

هو على صلاح، وعلى خير بعد المرض، لكن يقول: لم أكن كما كنت حال المرض.

فحينما يسوق الله للعبد شدة ليس هذا هو نهاية المطاف، ستبقى ذكريات، ستنتهي، هي مثل السحب تنجلي، وتبقى ذكرى.

فينبغي أن يكون العبد على حال مرضية سوية بحسن ظنه بربه - تبارك، وتعالى - وعبادته، وأن يُرِي الله من نفسه ضراعة، وعبادة، ودعاء، مع حسن الظن، فهذا عسر محفوفٌ بيسرين، يسر قبله، ويسر بعده، فأين يذهب؟ أين يذهب العسر؟ فلماذا يضيق الصدر، ولماذا ينقطع الصبر؟

لما قرر له هذه الأمور، هذه المعاني، قال له بعدها: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح: 7 - 8].

لما ذكر له هذه النعم السالفة، ووعده بالتيسير لأموره، بعد أن حط أوزاره، وأثقاله، ورفع ذكره، وشرح صدره لينطلق بلا أثقال، ولا ضيق، ولا عصرة تعصر قلبه، ووعده في المستقبل بالتيسير لأموره فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5 - 6].

فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ

وتذكروا ما قلناه عن الشاطبي، وابن القيم من أن لأتباعه من ذلك نصيبًا، قال له بعد ذلك: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح: 7 - 8].

الذي أعطاك، الذي أكرمك ينبغي أن تشكره على ذلك، أن تعبده فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ فرغت من ماذا؟ انصب في ماذا؟

أقوال المفسرين في هذا متعددة، متنوعة، فمنهم من يقول: إذا فرغت من الفرائض، فانصب في قيام الليل، لا يوجد أجازة، الفرائض لها أوقات محدودة، إذا فرغت منها اشتغل بقيام الليل، كما جاء عن ابن مسعود [1].

وبعضهم يقول: إذا فرغت من الصلاة، فانصب في الدعاء، هذا جاء عن ابن عباس، والضحاك، ومقاتل[2] انصب بالدعاء، فرغت منها، بمعنى أنه إذا انتهى من التشهد، والصلاة على النبي ﷺ فكما قال النبي ﷺ : ليتخيّر من الدعاء أعجبه[3].

فهذا موطن للدعاء، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ضعّف هذا القول؛ لأن الله أطلق، قال: "فإذا فرغت" ما قال من الصلاة[4].

هذا من جهة، ومن جهة أخرى: أنه إذا أريد الفراغ من العبادة، يقول شيخ الإسلام: فالدعاء عبادة.

"إذا فرغت" الفراغ من العبادة، الدعاء عبادة، وإن أريد الفراغ من أشغال الدنيا فالصلاة ليست من أشغال الدنيا.

كما أن الصلاة يُدعى فيها في الاستفتاح، وبعد الرفع من الركوع، وبين السجدتين، وفي السجود، وبعد التشهد، فالدعاء فيها، وهي مشتملة عليه، فكيف ينصب في أمر هو مشتغل به؟

إذا فرغ منه يقال له: انصب بذلك.      

كيف يؤمر بشيء هو متلبس به أن ينصب به، أن يشتغل به، أن يجتهد في أدائه؟

وبعض أهل العلم يقول: إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربك، هذا جاء عن الحسن، وقتادة[5].

وبعضهم يقول: إذا فرغت من أمر دنياك، فانصب في عمل آخرتك، هذا جاء عن مجاهد[6] وهو الذي رجحه ابن كثير[7] وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[8] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[9].

إذا فرغت من أعمالك الدنيوية، فاجتهد في العبادة.

وبعضهم يقول: إذا فرغت من التشهد فادعُ لدنياك، وآخرتك، قاله الشعبي، والزهري[10].

والفرق بينه، وبين الثاني: أن الثاني إذا فرغت من الصلاة فانصب بالدعاء، أطلقوه هكذا، فيحتمل أن يكون قبل التشهد، ويحتمل أن يكون بعد التشهد، وقبل السلام، ويحتمل أن يكون بعد السلام، ولكن لا يشرع الدعاء بعد السلام.

وبعضهم يقول: إذا صح بدنك فاجعل صحتك نصباً في العبادة، هذا جاء عن علي بن أبي طلحة - رحمه الله -[11].

هذه الأقوال - كما قال جمع من أهل العلم - متقاربة.

فالذين قالوا: إذا فرغت من أعمالك الدنيوية، فرغت من الأشغال فانصب في العبادة.

فالنصَّب هو التعب بعد الاجتهاد، كما قال الله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ۝ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية: 2 - 3].

هذا النصَّب قد يكون للدنيا، وقد يكون للآخرة، ومن هنا وقع الاختلاف بين أهل العلم، إلا أن الذين قالوا بأن المقصود بالفراغ: الفراغ من الأشغال الدنيوية، فينصب بعدها بالطاعات، والعبادات، والقربات، كأنهم استأنسوا بمثل قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء: 79].

قالوا: من الليل فتهجد به.

النهار مكان للذهاب، ظرف للأعمال، ومزاولة الحاجات، وطلب الرزق، وما إلى ذلك، فيتفرغ في الليل، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] لأنها وقعت وقت الفراغ من عمل النهار، وقعت في هدأة الليل، في سكون الليل.

قالوا: وهكذا قال الله لنبيه ﷺ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۝ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 1 - 3].

قالوا: إن الله أمر نبيه ﷺ إذا فتح عليه الفتوح، وأقبل الناس على دين الإسلام أن يتفرغ للتسبيح، والذكر، والاستغفار فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ.

فيكون وقته كله مشغولاً، إما للدنيا، وإما للآخرة، وفي هذا حل لمشكلة الفراغ التي يعاني منها الكثيرون.

المؤمن لا يكون فارغاً بحال من الأحوال، كيف يكون فارغاً، وهو يسمع مثل هذه الآية؟ وقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه مر على رجلين يتصارعان، فقال لهما: ما بهذا أُمرنا بعد فراغنا[12].

وجاء عن عمر أنه قال: إني أكره لأحدكم أن يكون خالياً سبهللاً لا في عمل دنيا، ولا دين[13].

ولهذا لم يشكُ الصدر الأول من الفراغ.

نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ[14].

وهذا شُريح القاضي - رحمه الله - مر على قوم من الحاكة في يوم عيد، وهم يلعبون، فقال: مالكم تلعبون؟

قالوا: إنا تفرغنا.

يعني: كانوا مشغولين قبل العيد بالخياطة للناس، يخيطون ألبسة العيد، ففي العيد ما عندهم شيء، سلموا الثياب لأصحابها، قالوا: إنا تفرغنا.

قال: أوَبهذا أُمر الفارغ؟!.

وتلا هذه الآية: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح: 7 - 8][15].

المقصود أن هؤلاء استأنسوا بمثل هذه النصوص يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۝ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 1 - 2] إلى قوله: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ۝ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلً [المزمل: 6 - 7].

ذهاباً، ومجيئاً، وبالليل تكون فارغاً، هكذا علل شيخ الإسلام، والشنقيطي، ومن وافقهم عللوا ترجيح هذا القول: إذا فرغت من أشغالك في النهار فانصب في العبادة، والقيام في الليل.

ولكن مع وجاهة هذا القول، فإن الأحسن - والله تعالى أعلم - أن يبقى ذلك على إطلاقه؛ لأن الله قال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ.

ولم يقل: فرغت من أشغالك الدنيوية، ولم يقل: فرغت من الصلاة، ولم يقل: فرغت من الجهاد.

فحُذف المتعلق، وحذف المُتعلّق يفيد العموم.

يعني: حُذف المقدر، ما قال: إذا فرعت من كذا، وإذا حُذف القيد فإن ذلك يُحمل على العموم، إذا فرغت من ماذا؟

ولهذا يقول كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - بأن الآية محمولة على ذلك جميعاً[16] إذا فرغت من غزوة اشتغل بغزوة، فرغت من الجهاد اشتغل بالذكر، والصلاة، وقراءة القرآن، وقيام الليل، إذا فرغت من صلاتك فادعُ في آخرها قبل السلام، وهكذا.

فإن الله لم يخص شيئاً يحصل الفراغ منه.

وهكذا في النصَّب، ما قال: فانصب في الصلاة، فانصب في القيام، قال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ.

انصب في ماذا؟ انصب في الطاعة.

ومن هنا ذهب صاحب التحرير، والتنوير إلى أن قوله: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ تفريع على ما تقرر من اللطف، والعناية، والعِدَة بتيسير الأمور، هي الأمور المذكورة في أول السورة: شرح الصدر، ورفع الذكر، ووضع الوزر، والوعد بتيسير الأمور[17].

  1.  زاد المسير في علم التفسير (4/462).
  2. المصدر نفسه.
  3. أخرجه النسائي، باب تخيير الدعاء بعد الصلاة على النبي ﷺ (3/50)، رقم: (1298).
  4. مجموع الفتاوى (22/495). 
  5.  تفسير القرطبي (20/109).
  6.  تفسير الطبري (24/497).
  7.  تفسير ابن كثير (8/255).
  8. مجموع الفتاوى (22/ 495).
  9.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (8/ 579).
  10.  تفسير البغوي (8/466).
  11.  زاد المسير في علم التفسير (4/ 462).
  12.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (8/579).
  13.  المصدر السابق.
  14. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة (8/88)، رقم: (6412).
  15. مجموع الفتاوى (22/495).
  16.  تفسير الطبري (24/497).
  17. انظر: التحرير، والتنوير (30/416).
الاشتغال بطاعة الله

فهذا كله يقتضي أن يكون مشتغلاً بطاعة الله مبلغاً للرسالة، ينتقل من عبادة إلى عبادة، من طاعة إلى طاعة، من عمل صالح إلى عمل صالح، بلا توقف، بلا انتظار، بلا أجازات، في الدعوة ليس هناك أجازة، ولا يوجد تقاعد من الدعوة.

قد يشتغل الإنسان بالدعوة صدراً من حياته، فإذا صار إلى حال من الكهولة قعد، وترك ما كان يزاوله من تعليم، ودعوة، ولربما أوهم نفسه، أو أوهم غيره أنه صار كبيراً على هذه الأشياء.

ليس هناك كبير على العمل الصالح، ليس هناك كبير على وظيفة الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108].

فأتباعه هم الدعاة من بعده، وهم أهل البصائر أيضاً في دعوتهم من بعده.

فعلى هذا القول يكون مساق السورة من أولها يدل على تيسير المصاعب في الدعوة إلى الله - تبارك، وتعالى - وما يحتفّ بذلك، كأنه يقول له: حينما أتممت عليك هذه النعم فأنت إذا أتممت عملاً من الأعمال، فرغت من عمل، فرغت من مشروع، فرغت من طاعة، فرغت من عبادة، فاشتغل بالذي بعده بلا توقف.

ليس هناك توقف، أنا أتأمل أحوال الناس من أصحاب المهن، والأعمال، والمزاولات المختلفة.

طبيب الأسنان، لربما نضيق بالمواعيد الأربعة، أو الخمسة، أو الستة من أجل إصلاح سن، ولكن حينما أتأمل في حاله فهو ينتهي من هذا، ويشرع بالثاني، وينتهي من هذا المريض، ويشرع بالثالث، وينتهي من الثالث، ويشرع بالرابع، وهكذا العمر بلا توقف.

كم العدد؟ ما هي الغاية؟ ما هو السقف الذي ستقف عنده؟ لا يوجد.

هذا البنّاء، هذا الذي يبلط، لربما ينتظر صاحب الدار بفارغ الصبر متى ينتهي، متى يتخلص، ولكن هذا العامل يزاول هذا العمل بلا توقف، ينتهي منك، وينتقل لآخر، ينتهي من الآخر، وينتهي من الذي بعده، لو سألته: كم متراً ستبلط في حياتك؟

قال: ليس هناك سقف، أنتهي من هذا، وأشتغل بالذي بعده.

الأعمال الدنيوية هكذا أصحابها.

حينما ننظر إلى أحوالنا في الحج، في الزحام، الإنسان يحمل همًّا كبيراً كيف سيؤدي النسك؟ كيف سيطوف؟ كيف سيسعى في الزحام؟

وإذا نظرت إلى أولئك الذين قد اصطفوا، وهم يترقبون من يأتي للطواف، أو السعي فهم يطوفون به بأجرة، ينتهون من هذا، ويشرعون بالثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والعاشر، بلا توقف، بلا كلل، ولا ملل، زحام شديد، تعب، ومع ذلك لا يتوقفون، هذا في عمل دنيوي شاق.

هذا الإنسان الذي يسافر لربما في العام مرة، لربما يحسب لها ألف حساب، لكن هذا الذي حياته أسفار، فهو يؤجر سيارته، يؤجر شاحنته، فحياته من أولها إلى آخرها سفر.

لو نظرت إلى العداد في هذه الشاحنة تجد أنه قد جاوز المليون، وهذا أمر معهود لا غرابة فيه عند أصحاب هذه المركبات، بلا توقف.

أليس المسافر إلى الله، والدار الآخرة أولى بهذا؟ ألسنا أولى بالعمل، والجد في نصر الدين، وإعزازه؟ في الدعوة إلى الله - تبارك، وتعالى -؟ في تبليغ الرسالة؟ في المواصلة بين عمل الليل، وعمل النهار؟

لا يوجد فراغ، لا يوجد أجازات، لا يوجد توقف عن الأعمال الصالحات، ومن ظن ذلك فهو لم يعرف الطريق، ولم يعرف الوظيفة التي خُلق من أجلها وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].

تكون الحياة من أولها إلى آخرها مستغرقة في ألوان الطاعات، والقربات قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].

فنحن مأمورون بهذا، فهنا إذا فهمنا الآية على هذا المعنى فإن ذلك يدفعنا إلى مزيد من البذل، وأن لا نستكثر القليل الذي نقدمه لدين الله أو في سبيل مرضاته.

الله - تبارك، وتعالى - هنا أمر نبيه ﷺ بشيئين، وهو أمر للأمة، أمره أن يجتهد في العبادة بعد فراغه من عبادة، أو من أشغال الدنيا، أن ينصب، أن يجتهد، أن يجد، أن يبذل وسعه.

والأمر الثاني: أن تكون رغبته لربه وحده دون أحد سواه.

فهذان مطلوبان، هذان أمران أمر الله بهما نبيه ﷺ وهما المذكوران في قوله - تبارك، وتعالى - : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ هذه هي العبادة إِيَّاكَ نَعْبُدُ.

وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ وحِّد الوجهة، الرغبة تكون إلى الله، ولهذا قدم الجار، والمجرور - المعمول - وَإِلَى رَبِّكَ ما قال: ارغب إلى ربك.

لو قال: ارغب إلى ربك، لا يفيد الحصر، ارغب إلى ربك، وارغب إلى غيره.

لكن قال: وَإِلَى رَبِّكَ لتكن رغبتك متوجهة إلى واحد.

فلواحدٍ كن واحدًا في واحد أعني سبيلَ الحق والإيمانِ

لا تلتفت هنا، وهناك، لا يصح أن يكون في القلب أدنى التفاتة إلى المخلوقين وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ نستعين بك، دون أحد سواك.

 
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ

فالله هو الذي له الملك في الدنيا، والآخرة، ونواصي الخلق تحت يده، وقدرته، وتصرفه، فكل الحاجات عنده، فهو الذي يعطيك، ويوليك، هو الذي يحقق لك ما ترغبه فتوجه إليه، وكن راغباً له وحده دون ما سواه.

وهذا في قوله أيضاً: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123].

فذكر الأمرين، وهما في قوله: قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد: 30].

وقول شعيب ﷺ : عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88].

فهنا هذه الآية تكون قد انتظمت نوعي الدعاء: دعاء العبادة فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ودعاء المسألة "يا رب" وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ.

انظروا هذه الهدايات التي تضمنتها هذه الآية، ولاحظوا هنا حصر الرغبة أن يكون التوجه فيها إلى الله، فأمر بالرغبة إليه، ولم يأمر قط المخلوقين أن يرغبوا إلى أحد سوى الله لا يوجد في نصوص الكتاب، ولا في نصوص السنة أن يُتوجه إلى مخلوق في الرغبة.

ولهذا فإن الأفضل للعبد أن لا يوجه حاجته إلا إلى ربه، وفاطره، وخالقه - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - ولا يكون له أدنى افتقار إلى أحد من المخلوقين حتى في الأمور التي يقدرون عليها، هذا الأكمل، مع أنه يجوز للإنسان أن يرغب إلى مخلوق في أمر يستطيعه هذا المخلوق، ويطيقه، ويتمكن منه.

ولكن إذا علم العبد أن ربه فوق الجميع، وأنه يملك جميع الحاجات، وهو القادر على أن يعطيك، ويغنيك، فما الحاجة إلى المخلوقين؟

من ثَمّ فإن النبي ﷺ قد بايع بعض أصحابه أن لا يسألوا أحداً من الناس شيئاً، فكان السوط يسقط من أحدهم لا يقول لصاحبه: ناولني.

رغبة كاملة إلى الله، لا يحتاج لفلان، ويا أبا فلان، من أجل أن يشفع له، أن يكلم له فلاناً ليكلم له فلاناً، وليكلم الآخر، وليكلم العاشر.

هذا الرقّ، رقّ القلب، عبودية القلب، الافتقار إلى المخلوقين هو نقص في مرتبة العبودية، وإن لم يكن محرماً على كل الحالات، والصور، ولكن التخلي عن ذلك، والتخلص منه لا شك أنه أكمل، وأفضل.

أما التوجه إلى مخلوق في أمر لا يقدر عليه إلا الله فذلك الشرك الأكبر كما هو معلوم.

فهنا وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ واللهُ ما أمر بالتوكل إلا عليه وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا [المائدة: 23] بتقديم الجار، والمجرور.

ولهذا أخذ بعض أهل العلم من هذه الآيات التي يقدم فيها المعمول على عامله ليفيد الحصر: أنه لا يجوز التوكل على المخلوق حتى في أمر يقدر عليه المخلوق، التوكل فقط على الله.

لا تقل لمخلوق: أنا متوكل عليك في الأمر الفلاني، في الموضوع الفلاني، في الحاجة الفلانية، ولا يركن القلب إلى أحد من المخلوقين.

لا بأس، الإنسان يبذل الأسباب، ولكن القلب يرتبط بمسبب الأسباب لا بهذه الأسباب.

وأخبر الله عن الشيطان فقال: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل: 99].

"على ربهم" يعني: ليس على أحد سوى الله - تبارك، وتعالى -.

فالتوكل على الله وحده، الرغبة إليه، الرهبة منه وحده، هذا هو التوحيد، أن يخلو القلب مما سوى الله لا يتلفت إلى أحد سوى الله لا يكن لديه عبودية لمخلوق مهما علت مرتبته.

وإذا كان النصَّب هو التفرغ، والاجتهاد في العبادة، والطاعة، والرغبة إلى الله وحده، تجريد التوحيد، فمن قام بهذين الأصلين حصل له من انشراح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر بحسب ما قام به، وبُدل عسره يسرًا.

من قام بهذه الأمور، اجتهد في العبادة، انتهى من شيء ابتدأ في الآخر، وصارت رغبته إلى الله وحده، وهنا يحتاج الداعية أن يُذكَّر.

قد ينصَب في الدعوة من محاضرة إلى درس، من بلد إلى منطقة، إلى دولة، يسافر هنا، وهناك بلا توقف، لكن قد تكون الرغبة إلى المخلوقين، إما لدنيا لمال مقابل هذه البرامج، مال من القنوات، مال من قبل الجهة المستضيفة، أو أن يحصّل ما هو أعظم، وأخطر من المال، ويُبذل المال في سبيل تحصيله لدى الكثيرين: الجاه، والمنزلة، والحظوة، فالقلب صار ملتفتاً إلى المخلوقين يرجّيهم، ويؤملهم، ويتطلع إلى ما عندهم، فهذه الجهود الجبارة، وهذا النشاط، والعمل، والجهد الكبير المتواصل، هذه المشروعات، هذا الخير، هذا النفع ينبغي أن يقترن بالأمر الآخر، وهو: وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ.

لا تتطلع إلى شيء آخر هنا، أو هناك، فيهدم عليك ما بنيت، من حصّل هذه الأمور، وحققها فهو حري بشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، بحسب ما قام به من ذلك، وبُدّل عسره يسرًا.

 
لماذا قدم الفراغ عن النصب؟

وتأملوا التقديم في قوله: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ولم يقل: انصب إذا فرغت.

هنا يركز على الفراغ، هذا الفراغ ينبغي أن يُملأ؛ لأنك لا يصح أن تكون فارغاً معطلاً من كل عمل مثمر، فتتعاقب الأعمال، وتتابع الخيرات، وتتعاقب الجهود، فلا يكون التوقف إلا حينما يضع آخر رجل في الجنة.

ولهذا لما سُئل الإمام أحمد - رحمه الله - متى يجد المؤمن طعم الراحة؟ قال: إذا وضع رجله في الجنة.

هنا يأتي طعم الراحة، هنا يستريح الإنسان، هنا تُحط عنه الهموم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34].

 
إنجازات النبي - عليه الصلاة والسلام -

انظروا إلى حال النبي ﷺ لما هاجر منذ السنة الأولى، انظر إلى هذه الإنجازات، فبعد عشر سنين ماذا حقق، وانظر إلى أحوال الأمة اليوم على تفرق الجهود، بل، وتناقضها، وتضاربها، وتصادمها، وتضادها.

ففي السنة الأولى لما هاجر ليلة السابع، والعشرين من شهر صفر وصل إلى قباء في الثامن من ربيع الأول، فبنى مسجد قباء مباشرة، ثم توجه إلى المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول يوم الجمعة، فبنى مسجده ﷺ وآخى بين المهاجرين، والأنصار، وعقد المعاهدة مع اليهود، وجاء الإذن بقتال قريش، "الإذن" هنا تبدأ العبادة الشاقة.

في السنة الثانية فرض الصوم، والزكاة بأنصبائها، وإن كان أصلها قد فرض بمكة، لكن من غير تقدير على الأرجح، وصلاة العيد، وزكاة الفطر، وصار الجهاد مفروضاً، تحويل القبلة، وكان أمراً في غاية المشقة.

ثم جاءت غزوة بدر في السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية، وحصل هذا الانتصار الساحق، ثم جاءت غزوة بني قينقاع، وأجلاهم النبي ﷺ من المدينة.

ثم جاءت السنة الثالثة، فجاءت غزوة أحد في شوال.

وفي سنة أربع حصلت الوقائع المؤلمة، الرجيع، بئر معونة، ثم صارت غزوة بني النضير، فأجلى النبي ﷺ اليهود من هؤلاء، وأخذ ديارهم، وأموالهم.

في السنة الخامسة جاءت غزوة الخندق، اجتمع الأعداء على المدينة، أحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم.

ثم جاءت غزوة بني قريظة، المجموعة الأخيرة من اليهود، قتل كل من يقدر على حمل السلاح، حمله، أو لم يحمله، كل بالغ قتل، وسبيت النساء، والذرية، وأخذت الأموال، ثم فرض الحج، وفرض الحجاب، وحرم التبني.

في السنة السادسة وقع صلح الحديبية، وبيعة الرضوان، وبعث النبي ﷺ بالرسائل إلى الملوك في ذلك العهد، في ذلك الزمان.

لاحظوا، صُدّ عن البيت، لم يتمكن من النسك، العمرة التي جاء من أجلها، في نفس السنة يرسل إلى الملوك، يدعوهم إلى الإسلام.

في السنة السابعة فتحت خيبر، وحصلت عمرة القضاء.

في السنة الثامنة صارت غزوة مؤتة، وفتحت مكة، وغزوة حنين، وحصار الطائف.

في السنة التاسعة عزوة تبوك، ثم كان ذلك العام عام الوفود، قدم إلى المدينة أكثر من سبعين وفداً يبايعون النبي ﷺ على الإسلام.

في السنة العاشرة كانت حجة الوداع، وجهز ﷺ جيش أسامة.

في السنة الحادية عشرة قتل الأسود العنسي، وتوفي النبي ﷺ في ربيع الأول، وبويع لأبي بكر بالخلافة.

حياة حافلة بالإنجازات.

دخلت جزيرة العرب جميعها في الإسلام خلال عشر سنوات، فتحت مكة.

ونحن في تعاقب هذه المواسم، انظروا المواسم التي سبقت، انظروا إلى العام، تأمل في العام الهجري، ما الذي مضى؟ شهر رجب شهر من الأشهر الحرم، ثم جاء بعده شعبان، وكان النبي ﷺ يصومه، أو يصوم عامته، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لم يكن النبي ﷺ يصوم شهرًا أكثر من شعبان"[1].

ثم جاء رمضان أفضل شهور العام، وفيه ليلة القدر، وفيه العشر الأواخر.

ثم جاء شوال، من أول ليلة ظهر فيها هلاله دخلت أشهر الحج، وفيه صوم ستة أيام غير محددة من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر[2].

ثم يأتي ذو القعدة، وهو من الأشهر الحرم، وهو من أشهر الحج، ثم يأتي ذو الحجة، وهو من الأشهر الحرم، من أشهر الحج، فيه أفضل عشرة أيام في العام، وفيه يوم عرفة يكفر صومه سنة ماضية، وسنة آتية، وفيه الحج الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[3] من أتى هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه[4].

ثم يأتي محرم، لاحظوا العام الهجري يختم بماذا؟ يختم بأفضل الأعمال، وأفضل الأيام.

ينتهي رمضان، الست من شوال، بدأت أشهر الحج الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة يكفر الذنوب، والراجح أن الكبائر داخلة في هذا الذي يكفره؛ لأنه قال: رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

فهذا يختم به العام.

الذي لا يحج صيام يوم عرفة يكفر سنة ماضية، وسنة آتية، وهذا لا يدخل فيه الكبائر على الراجح.

ثم يأتي شهر محرم، أفضل الصيام بعد رمضان، صوم شهر الله المحرم، وهو من الأشهر الحرم يفتتح به العام، وفيه عاشوراء، صومه يكفر سنة ماضية.

انظر كيف يُبتدأ العام، وكيف يختتم، وكيف ننتقل من موسم إلى موسم، من طاعة إلى طاعة، والسنة في كل آنائها، وساعاتها هي موسم للعبادة، والطاعة.

فهذه نعم متوالية، وفرص متتابعة، متعاقبة، فنسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يعيننا، وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صوم شعبان (3/38)، رقم: (1970).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا لرمضان (2/822)، رقم: (1164).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب العمرة، وفضلها (3/2)، رقم: (1773) ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج، والعمرة، ويوم عرفة (2/983)، رقم: (1349).
  4.  أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج، والعمرة، ويوم عرفة (2/983) رقم: (1350).

مواد ذات صلة