الخميس 16 / شوّال / 1445 - 25 / أبريل 2024
الآية 234 و 240 من سورة البقرة
تاريخ النشر: ١١ / رمضان / ١٤٢٥
التحميل: 2958
مرات الإستماع: 2415

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالآية الثالثة عشرة مما قد يُشكل على قارئ كتاب الله هي قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فهذه الآية لا إشكال فيها، ولكن قوله -تبارك وتعالى- بعده بآيات: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، ففي الآية الأولى ذكر الله عِدة الوفاة أن المرأة تبقى أربعة أشهر وعشرًا، وهذا هو المعروف عند الناس إلى ساعتنا هذه، ولكن الآية التي بعدها ذكرت الحول مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، أي: أن العِدة سنة كاملة، فهذا ذهب فيه عامة أهل العلم إلى أن الآية الأولى ناسخة للآية الثانية، يعني: الآية رقم 234 ناسخة للآية رقم 240، وعلى هذا تكون هذه هي الآية الوحيدة في كتاب الله التي نسخت آية بعدها، العادة أن الناسخة تأتي بعد المنسوخة في الترتيب تُذكر الآية ثم يُذكر الناسخ بعدها بسورة أو بآيات، ولكن هنا الناسخة قبل المنسوخة، وهذا في الترتيب فقط، في ترتيب الآيات وليس في النزول قطعاً؛ لأنه لا شك أن الناسخة نزلت بعد المنسوخة قطعاً بلا إشكال، لكن ترتيب الآيات النبي ﷺ يقول: ضعوا هذه الآية في مكان كذا وكذا، فهذا الذي عليه عامة أهل العلم.

فيكون إذاً التربص إلى الحول في العِدة -عدة المتوفى عنها زوجها- منسوخًا، كان في أول الأمر تجلس سنة كاملة ثم نُسخ تخفيفاً من الله فصار أربعة أشهر وعشرًا، والذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -إلى أن ذلك نُسخ من الوجوب إلى الاستحباب، فيُستحب للمرأة أن تبقى مدة حول كامل في العِدة -عدة الوفاة- ولكنه لا يجب، الواجب أن تبقى أربعة أشهر وعشرًا، والجمهور على أن ذلك نُسخ من أصله، تبقى أربعة أشهر وعشرًا فقط، هذا موضع.

الموضع الآخر: وهي الآية الرابعة عشرة وهي في قصة إبراهيم حينما دعا ربه بقوله في سورة البقرة: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260]، فهذه الآية هل يفهم أحد من ظاهرها أن إبراهيم وقع له شيء من التردد في قدرة الله على إحياء الموتى، والنبي ﷺ قد قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم [1]، فما المراد؟ ما المراد خاصة مع هذا الحديث، لأن الحديث يتكلم عن هذه القضية نحن أحق بالشك من إبراهيم ؟، فيقال: المراد -والعلم عند الله هو أن الكمال على درجات، ومراتب متباينة غاية التباين، فإبراهيم  كان قد بلغ الكمال في الإيمان، ولكنه بلغ فيه درجة علم اليقين، الكمال في الإيمان -اليقين الكامل- يكون بعلم اليقين، أن يعلم الإنسان علماً راسخاً ثابتاً لا تردد فيه ولا يقبل التشكيك، هذا علم اليقين، القضية مثل واحد زائد واحد يساوي اثنين، فإبراهيم وصل إلى هذه المرتبة في الإيمان ما عنده تردد في قضية كيف وهو خليل الرحمن، وهو أُمة كما قال الله : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [النحل:120]، فإبراهيم وصل إلى مرتبة علم اليقين، فأراد أن يرتقي إلى درجات أعلى في الكمال وهي درجة عين اليقين، فقال: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، فالإنسان حينما يُخبره مُخبر بقضية، الآن الله أخبرنا عن الجنة ونعيمها، فنحن مؤمنون بها، فهذه المرتبة يقال لها: علم اليقين، ما عندنا أي شك ولا تردد في وجود الجنة، فإذا رأينا الجنة في الآخرة وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء:90]، إذا رأيناها صار هذا عين اليقين، فإذا دخلتها فإن ذلك يكون حق اليقين، أنا حينما أُخبرك مثلاً أنه قد بُني هذا المسجد، وأنت ما رأيته فهذا علم اليقين إذا كنت تثق بخبري، فإذا أشرت إليه أقول: انظر هذا المسجد الذي حدثتك عنه صار عين اليقين، فإذا دخلت كما نحن الآن في وسطه هذا حق اليقين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "حينما يقول لك إنسان: عندي عسل، وأنت تثق بخبره فهذا علم اليقين، فإذا أراكه قال: هذا هو العسل، هذا صار عين اليقين، فإذا فتحته وذُقته صار ذلك حق اليقين"[2].

فهذه هي المراتب الثلاث من مراتب الكمال، فإبراهيم أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، هذا هو المراد، والله تعالى أعلم. 

وأما قول النبي ﷺ: نحن أحق بالشك من إبراهيم ، فالمراد به على ما ذكره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وجماعة من أهل العلم المراد به أن هذه المسافة بين علم اليقين وعين اليقين يصح أن يُعبر عنها في كلام العرب بأنها شك، ليس الشك بمعنى التردد، لا، وإنما فقط من باب التسمية، المساحة بين علم اليقين وعين اليقين يصح أن يقال عنها تجوزاً: إنها شك، وليس بمعنى التردد في الإيمان، فهذا لا يتأتى، هذا المراد به الآية. 

في آية أخرى أسمع أحياناً بعض طلاب العلم يُشدد في النكير على من استدل بها على معنى لربما هو المُتبادر، وهي قوله -تبارك وتعالى- بعد أن ذكر آية الديْن قال في آخرها: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، أنتم تسمعون كثيراً وتقرءون الاستدلال بهذه الآية على أن التقوى هي سبب العلم، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، فبعض طلاب العلم يقولون: لا، هذه ليست على ما تفهمون، "اتقوا الله" أمر بالتقوى، ثم أخبرهم خبراً ما له علاقة بالموضوع، ليس هنا ارتباط، ليس مترتباً على ما قبله ترتب الجزاء على الشرط، وإنما أمرهم بالتقوى وأخبرهم أن الله يُعلمهم، ما فيه مُلازمة، بعض طلبة العلم يقولون هذا، ما بينهما ملازمة، ولكن هذا التشديد لا داعي له، فإن جمعاً من أهل العلم من المحققين قالوا: إن هذه مرتبة على هذه، وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:282]، فتكون النتيجة أن الله يفتح لكم من الفهوم والعلوم، والمعارف ما لا يخطر لكم على بال، وهذا ذكره الحافظ ابن كثير، وذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله، وذكره أبو عبد الله القُرطبي[3]، وجمع من هؤلاء الكبار.

والقول الآخر ذكروه عرضاً يعني الذين ذكروه مثل ابن جرير الطبري والضحاك وهو مروي عنه[4]، لما ذكروا المعنى الثاني وهو أنها ليست مرتبة عليها، قالوا: "اتقوا الله"، أمر بالتقوى، "ويعلمكم الله"، خبر من الله أنه يعلمهم هذه الأحكام المتعلقة بالدين وما أشبه ذلك، ما طرقوا عليها بقوة وقالوا: لا يصح غير هذا المعنى ولا تحتمل إطلاقاً.

فنبهت على هذا لأنه يُحتاج إليه، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله : وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [الحجر:52]، برقم (3372)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، برقم (151).
  2.  انظر: مجموع الفتاوى (10/ 645)، والزهد والورع والعبادة (ص:77).
  3. انظر: تفسير ابن كثير (1/ 727)، وتفسير القرطبي (3/ 406)، وتفسير السعدي (ص: 961).
  4. انظر: تفسير الطبري (5/ 120).

مواد ذات صلة