الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(05) مواصلة الحديث في أسباب الاختلاف التي ترجع إلى أمور منهجية في التلقي والنظر والاستدلال
تاريخ النشر: ٠٧ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 9835
مرات الإستماع: 2443

المقطع المرئي

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. 

مرحبًا بكم جميعًا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

نواصل الحديث فيما كنا بصدده من الكلام على أسباب الاختلاف التي ترجع إلى أمور منهجية في التلقي والنظر والاستدلال.

وعرفنا كيف صارت الفلسفة وترجمة كتب اليونان والهند وفارس والروم سببًا لتوسع الاختلاف، وسببًا لكثرة التفرق والتمزق.

ونواصل الحديث فيما وقفنا عنده، وذلك ما أشرت إليه من كون الاختلاف قد يبدأ في أول أمره يسيرًا، ثم ما يلبث بعد ذلك أن يتسع، ويتحول إلى شيء آخر.

وهذا شيء مشاهد في القديم والحديث، وذكرت قول شيخ الإسلام -رحمه الله: إن البدع تكون في أولها شبرًا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعًا وأميالًا وفراسخ[1].

الخوارج في أول أمرهم وظهورهم -كما هو معلوم- ما كانوا يردون النصوص باعتبار أنها تخالف المعقول، وإنما كانوا يطعنون في النقلة.

لما كفروا أصحاب النبي ﷺ صاروا يقبلون خبر من يرتضون، فهم لا يردون خبر الآحاد الذي لم يبلغ حد التواتر، ولكنهم يقبلون خبر الآحاد الذي يكون بالطريق التي يرتضونها.

لا شك أن هذا أدى إلى رد السنة بعامتها، ولكن ما كانوا يردون ذلك -كما أسلفت- بسبب أنه يعارض المعقول كما فعلت المعتزلة، وطوائف من أهل الكلام.

المرجئة والقدرية لما حدثوا في أواخر عهد الصحابة كانوا ينتحلون النصوص، ويحتجون بها على قولهم، وما كانوا يدعون أن لديهم من العقليات ما يعارض النصوص، هذا في البداية.

فهذه الفرق في بداياتها أخطأت في التعامل مع النصوص، وصاروا يأخذون بجزء منها، ويتركون ما يقابله من النصوص، فحصل بسبب ذلك الانحراف، كما هو معروف.

الجهمية لما حدثت في أواخر عهد التابعين، أي: في عهد صغار التابعين، هؤلاء هم الذين عارضوا النصوص برأيهم، لكن كانوا في البداية مقموعين.

نحن عرفنا أن الجعد بن درهم قُتل، وأن الجهم بن صفوان قتل، فكان هؤلاء لا يجرءون على الإعلان بباطلهم وإظهاره كما اجترءوا بعد ذلك.

ومن هنا، انظر إلى حال هؤلاء مع النصوص، وكيف كانت البدايات، أعني المعتزلة.

واصل بن عطاء عرفنا أنه المؤسس للمعتزلة، وأبو الهذيل العلاف، والنظّام، هؤلاء ثلاثة رءوس من رءوس المعتزلة، ينضاف إلى هؤلاء  مثل: عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء.

واصل بن عطاء سئلت عنه زوجته، فقالت: كان واصل إذا جنه الليل صف قدميه يصلي، ولوحٌ ودواة موضوعان، فإذا مرت آية فيها حجة على مخالف جلس فكتبها، ثم عاد في صلاته[2].

هذا يهتم بموضوع تقرير البدعة، والرد على المخالفين، وهو يقوم الليل، إذا مرت به آية رأى أنها تؤيد باطله، أو ترد على الخصوم أخذ الدواة واللوح وكتبها وهو يصلي، ثم عاد إلى صلاته.

يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، عجائب وغرائب في التاريخ.

لو تقرءون في ترجمة أبي العلاء المعري الذي رمي بالزندقة، هذا الذي كان يعترض على قطع اليد بربع دينار، هذا الرجل اعتزل الناس تسعًا وأربعين سنة في بيته لا يخرج، ما خرج قط إلا مرة أحاط الجيش بالبلدة لحدث وقع، فجاء الناس إليه ليشفع عند السلطان، فخرج تلك المرة فقط في تسع وأربعين سنة، معتزل، ولا يأكل الحيوانات، لا اللحوم ولا البيض.

ويرى أن هذا من الظلم، ما ذنب وما جناية هذه حتى يؤكل لحمها أو بيضها، وكان يصوم الدهر، ويقوم الليل، يحييالليل كله طول السنة، والرجل رُمي بالزندقة، هو معتزل الناس تسعًا وأربعين سنة[3].

وانظر إلى الضلال الذي كان ينغمس به.

النظّام المتوفى سنة مائتين وواحد وثلاثين، وقيل غير ذلك، هذا من أكبر شيوخ المعتزلة، رمي بالزندقة، والذين رموه بالزندقة ليسوا أهل الحديث، بل كبار علماء أهل الكلام مثل: الباقلاني شيخ المتكلمين من الأشعرية في زمانه.

يطعن في الصحابة -أعني النظّام- وينكر القياس والإجماع.

يقول عنه الجويني وهو من كبار علماء المتكلمين بعد أن نقل طعنه في الصحابة، وإنكار الإجماع والقياس، يقول: "وما ذكره النظّام كفر وزندقة، ومحاولة استئصال قاعدة الشرع"[4].

يقول عنه أديب أهل السنة والجماعة ابن قتيبة -رحمه الله- وكان في مناكفات مع النظام والجاحظ،  ورءوس الضلالة.

الجاحظ الأديب المعروف، صاحب كتاب "الحيوان"، هذا من رءوس المعتزلة، وله طائفة وفرقة خاصة تنتسب إليه يقال لها: "الجاحظية".

النظّام له طائفة تنتسب إليه أيضًا من المعتزلة.

يقول ابن قتيبة عن النظّام: "وجدنا النظّام شاطرًا من الشطار"[5]الشاطر غير ما نعهد الآن، ونستعمل هذا اللفظ، الشاطر: هو الذي أعيا أهله بخبثه.

يقول ابن قتيبة عن النظام: كان شاطرًا من الشطار، يغدو على سكر، ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها ويدخل  في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات.

شيخ لفرقة من المعتزلة، يغدو على سكر، ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها، وشيخ طريقة، هؤلاء الأتباع الذين يتبعون على ماذا؟! لكن لكل ناعق تبع.

واصل بن عطاء ماذا فعل؟ كان في البداية بالنسبة للتعامل مع النصوص قد قرر قاعدة وأصلًا، وهو أن المقبول من النصوص هو ما لا يحتمل التواطؤ على الكذب.

تواطؤ الرواة، الاحتمال العقلي، بصرف النظر عن ثقة الرواة، ولو كان بسلسلة الذهب، بصرف النظر عن كون هذا الحديث من أصح الأحاديث.  

المهم عنده هذا المعيار العقلي إذا كان ذلك يُحتمل عقلًا، أي: يحصل تواطؤ من قبل الرواة على الكذب سواء كان متواترًا، أو من قبيل الآحاد لا فرق.

كان هذا أول مسمار وضعه واصل بن عطاء، وكان في أواخر القرن الأول الهجري، وبدايات القرن الثاني الهجري.

تطورت هذه المقالة، يعني واصل بن عطاء مولود سنة ثمانين ومتوفى سنة مائة وواحد وخمسين، تطورت هذه المقالة بعد ذلك.

لكن هذا مؤشر إلى قضية مهمة، وهي أن العقل بدأ يدخل في الحكم على ما يُقبل، وما يرد من النصوص، في هذا الوقت المبكر.

جاء بعده شيخ كبير من شيوخ المعتزلة، وهو: أبو الهذيل العلاف، المتوفى سنة مائتين واثنتين وثلاثين للهجرة. 

أبو الهذيل العلاف وجد بعد ترجمة كتب اليونان، واصل بن عطاء لم يمعن في كتب الفلسفة؛ لأنها لم تترجم بعد، لكنّ أبا الهذيل العلاف نهل منها، وأكب عليها، ويمكن أن يقال: إنه أول من قام بالربط بين قضايا الاعتقاد والتشريع وبين الفلسفة، أوغل في هذا الباب، وخلط كلامه بالفلسفة، وكلام الفلاسفة.

أيد مقالة واصل بن عطاء، وبدأ ينظر لها وطورها؛ حيث جعل الرواية للأخبار ريبة، وجعل الحق في الاتباع للمقاييس العقلية.

يعني: جعل النقل ريبة، يعني: يبعث على الريبة -الارتياب، وأن الاطمئنان والثقة إنما هي بالمقاييس العقلية. عِش رجبًا ترى عجبًا، كما يقال في هذه الخلائق. 

أعطيكم من الطرائف فتعجبون كما كنت أنظر وأعجب في كتب التاريخ وكتب الفرق، خذ هذه الواقعة لأبي الهذيل العلاف مع صالح بن عبد القدوس.

صالح بن عبد القدوس هذا من الموغلين في الفلسفة، يعتبر من الفلاسفة، وعلى رأي الثنوية، فكان بينه وبين أبي الهذيل العلاف مناظرات، الشاهد أنه مات ولد لصالح بن عبدالقدوس، فجاء أبو الهذيل العلاف مع تلميذه النظّام، وكان النظّام في ذلك الوقت فتى، ثم بعد ذلك صار من شيوخ المعتزلة.

جاء إلى صالح بن عبدالقدوس يعزيه، فلما رآه حزينًا قال له: لا أعرف لجزعك وجهًا إلا إذا كان الإنسان عندك كالزرع.

ماذا يقصد؟ يقصد مذهب الدَّهرية، يقولون: أرحام تَدفع وأرض تبلع،لا خالق، ولا مدبر، يقول أبو الهذيل العلاف لهذا الفيلسوف صالح بن عبدالقدوس، ما وجه هذا الجزع؟ إلا إذا كان الإنسان عندك كالزرع، يعني: ينبت هكذا، ثم يحصد إذا استتم.

فماذا قال صالح بن عبدالقدوس؟ قال: إنما أجزع لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك.

قال له العلاف: وما كتاب الشكوك؟

قال: كتاب وضعته -أي: ألفته، من قرأ فيه شك فيما كان -يعني: فيما وقع، يشك في كل شيء- حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان.

يعني: يشك فيما وجد، ومالم يوجد.

فقال له أبو الهذيل العلاف: فشُكّ أنت في موت ابنك، واعمل على أنه لم يمت، وإن كان قد مات، وشُكّ أنه قد قرأ الكتاب، وإن كان لم  يقرأه، فتحير صالح بن عبدالقدوس، ولم يرد عليه ببنت شفه[6].

ذكرت هذا المثال لتعرف طريقة هؤلاء، والتفكير، والمستوى الذي وصلوا إليه بعدما درسوا هذه الفلسفة، وكيف تحولت العقول والأفهام، وتحمد الله على العافية.

مثل هذا هل تظنون أنه يعتقد أنه على باطل وأنه ضال؟ أبدًا، يموت وهو ثابت على باطله، كما سيأتي أمثلة من التاريخ كيف يموتون في سبيل باطلهم وبدعهم، هو يعتقد أنه على الحق، ويتمسك به، ويسأل الله الثبات عليه قائمًا وقاعدًا.

الإنسان يعرف قدر الهداية، ولا يفرط بنعمة الله عليه باتباع السنة، والله المستعان.

من المعتزلة رجل يقال له: عبّاد بن سليمان، يقولون عنه ملأ الأرض كتبًا وخلافًا، يؤلف، ليس له شغل إلا في التأليف والجدل، والرد على المخالفين، وخرج عن حد الاعتزال، قالوا: إلى الكفر والزندقة -نسأل الله العافية- الخطوة الأولى معتزلي، المرحلة التي بعدها الزندقة.

يقولون: لِحِدّة نظره وكثرة تفتيشه، الذكاء أحيانًا يكون نقمة على صاحبه، لا يريد أن يكون أسوة العامة، كانوا يسمون أهل العلم من أهل الحديث والعلماء والفقهاء يسمونهم الجمهور.

ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما ذكر طريقة الرد على المخالفين، وذكر أنه يرد بأقرب طريق، ذكر أن بعض النفوس مريضة، وأن ذلك لا يجدي معها؛ لأنه لا يريد أن يكون مثل الجمهور، أو العامة، فيحتاج إلى طريقة خاصة، مريض يحتاج إلى دواء مر، يقول: فلا بأس أن يُسلك معه الوعر من الطرق، يعني: يُجادَل بطرق فيها عبارات ومصطلحات صعبة، وكلام لا يفهمه عامة الناس، بل عامة طلاب العلم والعلماء، اصطلاحات منطقية، واصطلاحات جديدة، وما إلى ذلك؛ لأن هذا الذي يروق له، وهذا الذي يجد صدى في نفسه، لا يريد أن يُناقَش يقال له: قال الله، وقال رسوله، أخرج الإمام البخاري في صحيحه؛ لأن هذا لا يعرف قدر الوحي، هذا يحتاج إلى مصطلحات.

مثل بعض المفتونين اليوم بالغرب، وبأفكار الغرب، وفلسفات الغرب المعاصرة، مثل هذا قد يحتاج معه إلى أشياء من هذا القبيل من كلام أولئك من المفكرين الغربيين الذي يبينون به فساد وانحراف تلك النظريات والأفكار، وما جنت على البشرية، والله المستعان.

من هؤلاء أبو علي الجُبّائي المشهور، وهذا له فرقة أيضًا تنتسب إليه،أبو علي الجُبّائي هذا هو الذي سهل الجدل على الناس، ثم جاء ابنه أبو هاشم الجبائي، يقولون: فوضع مائة وستين كتابًا في الجدل.

ماذا تحوي هذه الكتب؟،كيف قضى هؤلاء حياتهم؟،ثم ماذا كانت النتيجة؟ سترون كيف كانت النتائج، سترون كيف أدى ذلك إلى أحوال مرة، وحصاد مر .

تطورت هذه المقالة على يد تلميذ أبي الهذيل العلاف، وهو النظّام، وكان النظّام هذا حفظ كتب أرسطو الفيلسوف المعروف في الفلسفة، والمنطق، وكان من أعلمهم بالكلام كما يشهد له أيضًا تلميذه الجاحظ.

هنا ازداد الارتباط بين فكر المعتزلة مع فكر الفلاسفة على يد النظام، وازداد إيغالهم في النظر العقلي المجرد البعيد عن الوحي تمامًا، فبقدر ما يقتربون من الفلسفة يكون بعدهم عن مشكاة الوحي والنبوة.

النظام هذا زاد على مقالة واصل وأبي الهذيل العلاّف فقال: "إن الحجّة العقلية قادرة على نسخ النقل" الحجة العقلية تنسخ النص! هل هذا يتصور؟ إلى هذا الحد؟ العقل عندهم هو الأصل وعليه المعول.

لاحظ كيف تطورت مقالة المعتزلة على ثلاث مراحل، وآل الأمر عندهم إلى أن العمدة هو العقل، والمقاييس العقلية، وأما الوحي فإنه لا يصلح للاحتجاج، هكذا آل الأمر.

كانت القضية في البداية في الفاسق الملي، صاحب الكبيرة في مجلس الحسن البصري، لما جاء سائل، وقال ما حكمه؟ فقال واصل بن عطاء: أرى أنه في منزلة بين المنزلتين.

كان الخلاف فقط في هذه، وانتهى أين فيما بعد؟،هكذا البداية تكون أحيانًا بكلمة، ثم تنتهي بهاوية قد تهوي بأصحابها في جهنم -نسأل الله العافية.

كثر بعد ذلك الاختلاف والتنازع بين المعتزلة أنفسهم فضلاً عن غيرهم.

أبو علي الجُبّائي يكفر ابنه أبا هاشم  الجُبّائي، وهذا له طائفة، وهذا له طائفة، تحمد الله على العافية.

هؤلاء أصحاب العقول الآن، والمقاييس العقلية التي تنسخ النص، تركوا الوحي، واشتغلوا ببعضهم، وتخالفت عقولهم وتفاوتت غاية التفاوت.

أبو هاشم هذا الابن خالف أباه في تسع وعشرين مسألة، تسع وعشرين مسألة كافية لرميه بالزندقة عندهم، هم يختلفون في مسألة واحدة، ومباشرة التكفير، فكيف في تسع وعشرين مسألة؟!.

أبوه كان يخالف أبا الهذيل العلاف في تسع عشرة مسألة، هؤلاء يكفرون هؤلاء، وهؤلاء يكفرون هؤلاء.

معتزلة بغداد، ومعتزلة البصرة بينهم خلاف مشهور وكثير وفاحش، يكفر بعضهم بعضًا، معتزلة بغداد ومعتزلة البصرة، ذكر بعضهم أن الاختلاف بين الفئتين كان في أكثر من ألف مسألة.

الآن هؤلاء أصحاب قواعد عقلية، كيف اختلفوا في ألف مسألة؟!

وهكذا تكون الضلالة، في البداية شرارة، ثم بعد ذلك حريق يلتهمهم.

بِشر المرِّيسي هذا من شيوخ المعتزلة وهو رجل صاحب لغط وشغب، وذكرت لكم خبره مع الشافعي -رحمه الله- وكيف كان يشغب في مجالس أهل العلم، وكان مُرجئًا أيضًا، كان يقول: "إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر، ولكنه علامة على الكفر"[7].

هؤلاء في عصر جبال، هذا معاصر للشافعي، ويجلس مع الشافعي، ويناظر الشافعي، وليس بكفء، ولكن الشافعي كان يداريه من أجل أمه، كانت تتوسل إلى الشافعي لعل الله أن يهدي ابنها.

فالسجود للشمس والقمر عنده ليس بكفر لكنه علامة على الكفر، لماذا؟ لأنه أوغل في الإرجاء،لا يكفر أحداً، لاحظ الذين يبالغون في التكفير هؤلاء على انحراف وضلال، وهؤلاء يقابلونهم، فصار الأمر عندهم إلى حال أنه لو سجد للشمس والقمر لا يكفر بذلك، هذا يقال له: الإرجاء،يقابل مذهب المعتزلة والخوارج.   

المعتزلة والخوارج يقال لهم وعيدية؛ لأنهم يقولون بأنه خالد في النار، هذه مسائل الأحكام يسمونها.

وفي مسائل الأسماء: المعتزلة يقولون هو بمنزلة -يعني فاعل الكبيرة- بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، والخوارج يقولون: كافر، والمرجئة يقولون: كامل الإيمان؛ لأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة،انظر التناقض، الضلال المبين أين وصل بهؤلاء الناس؟.

المريسي هذا يقولون: كان أبوه يهوديًّا، الإمام أحمد -رحمه الله- لما سُئل عنه قال: ما تراه يكون؟ أبوه يهودي، فماذا عسى أن يكون؟ كان يحضر مجلس أبي يوسف، صاحب أبي حنيفة ويصيح، ويرفع صوته، ويستغيث، ويشغب، يقولون: ما كان صاحب حجج، بل كان صاحب خطب كما يقول الإمام أحمد -رحمه الله.

وهكذا استمرت الحال، بلغت البجاحة بالزمخشري صاحب "الكشاف" الملقب بجار الله؛ لأنه جاور في الحرم وألف الكشاف في نحو سنتين في مكة، ثم حينما أتم تفسير الكشاف وضعه في الكعبة في مدة الحج.

من أجل ماذا؟ أن يطالعه العلماء الذين يحضرون الموسم، وقال: "من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل"[8]، الكشاف يوضع في الكعبة!.

كان أمير مكة معجباً بالزمخشري، معظما له، وهو الذي طلب منه أن يؤلف الكشاف، فأقام عنده هذه المدة وألف الكشاف ووضع في داخل الكعبة.

الشر قديم، والبلاء قديم، والانحراف قديم، لكن ينبغي للإنسان أن يطلب النجاة لنفسه، ويسأل الله العافية.

يقول هارون الرشيد: "طلبت أربعة فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام فوجدته مع المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته مع الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث"[9]والله المستعان.

أبو علي بن عبدالوهاب، هذا من المعتزلة، يقولون: وضع كتبًا كثيرة تبلغ أكثر من أربعين ألف ورقة في نصرة مذهب المعتزلة والرد على المخالفين.

أعمار تقضى في الضلالة.

وغير المعتزلة من طوائف المتكلمين، وماذا كانت نهاياتهم؟

الجويني من كبار علماء الأشاعرة من أئمة أهل الكلام يقول: "قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا" يعني: من الكتب، خمسين ألفًا في خمسين ألفًا، كم تبلغ؟ كم كتابًا قرأ؟ هذا ما قرأ خمسين تغريدة، ولا خمس مطويات، ولا كتيبًا مترجمًا.

هذا يقول: "قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد".

لاحظ قالوا له: لا تؤجِّر عقلك لهؤلاء، انتبه.

"كنت أهرب من التقليد، والآن فقد رجعت لكلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، وتختم عاقبتي عند الرحيل على كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، وإلا فالويل فالويل لابن الجويني"[10].

الشهرستاني من كبار أئمة المتكلمين، أقر على نفسه بالحيرة بعدما درس العلوم الكلامية، وأوغل فيها، وتقلب وتلون، تارة مع الباطنية، اقرءوا في ترجمته، ويشك البعض أنه كان من الباطنية، وتارة مع الأشاعرة، والذين يحسنون الظن يقولون: لم يكن من الباطنية، لكن لمصالح دنيوية لربما صانع بعض الأمراء من الباطنية، الذين يحسنون الظن ويدافعون عنه.

الشاهد أنه من أئمة المتكلمين، كان يستشهد بالأبيات المعروفة:

لقد طفتُ في تلك المعاهدِ كلها وسيّرتُ طرفي بين تلك المعالمِ
فلم أرَ إلا واضــــعًا كف حائر عـــــلى ذَقَنٍ أو قارعاً سن نادمِ[11].

وكلامهم في هذا كثير.

 والآخر الذي يقول:

نهايةُ إقدام العـــقول عقالُ وغايـةُ سعيِ العالمينَ ضلالُ
ولم نستفد من بحثنا طولَ عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من جبالٍ عـلت شُرفـاتِها رجالٌ فزالوا والجبالُ جبالُ[12].

الآخر يقول:أضع الملحفة على وجهي حتى أصابح الصبح، وأقارن بين أقوال هؤلاء، وأقوال هؤلاء فلا أخرج بشيء[13].

وآخر في مرض الموت دخل عليه أحد أصحابه يعوده، فقال له هذا المحتضر من كبار علماء هؤلاء المتكلمين: يا فلان، ما تعتقد؟ فذكر له عقيدته، فقال له: وأنت مطمئن بهذا؟ قال: نعم، فبكى هذا المحتضر وقال: والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد.

هؤلاء ابتلعوا كتب الفلسفة، كما يقول ابن العربي نفسه الذي كان معجبًا بأبي حامد الغزالي، يقول: إنه ابتلع الفلسفة وما استطاع أن يخرجها[14]، نسأل الله العافية.

هذا مثال لهؤلاء من أهل الكلام من المعتزلة، وغيرهم كالأشاعرة.

بداية التشيع:

التشيع كان في بدايته يعني الميل إلى علي ، تفضيل علي على عثمان، وليس على أبي بكر وعمر، من غير انتقاص، ولا سب لعثمان فضلاً عن الشيخين، هذه في بداية التشيع.  

حتى ظهر عبدالله بن سبأ اليهودي، وادعى الإسلام، وانتحل محبة آل البيت، وغالى في علي فادّعى في البداية أنه الوصي، أن النبي ﷺ جعله وصيًّا في الخلافة، وهذا يقتضي أن أبا بكر وعمر وعثمان قد اغتصبوا الخلافة.

ثم غالى لما وجد قبولًا وإذعانًا وآذانًا صاغية،  فادعى الألوهية لعلي وذكرت لكم في الليلة الماضية، ماذا حدث حينما حفر علي الخندق، وقال:

لما رأيتُ الأمرَ أمرًا منكرًا أجّجتُ ناري ودعوتُ قَنبرًا

وهو مولى لهم يقال له: قَنبر، فكانوا يتهافتون في النار، ويقولون: وعجلت إليك ربي لترضى، أنت هو، يقول لهم: من هو؟ يقولون: لا يعذب بالنار إلا رب النار، أنت ربنا[15].  

في ذلك الوقت في زمن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب والصحابة متوافرون، ويخرج مثل هؤلاء!.

الخوارج كيف كانت البدايات؟

في البداية كان هؤلاء الخوارج بجيش علي ، ثم دعا أهل الشام إلى التحكيم في القصة المعروفة، أبى ذلك عليٌّ فألح عليه الخوارج بقبول التحكيم والتحاكم إلى كتاب الله ، ثم بعد ذلك لما حصل التحكيم انقلبوا على عليٍّ ونابذوه وكفروه، وكفروا أهل الشام وكفروا أنفسهم، وقالوا: رجعنا إلى الإسلام، فإن أردت أن نتابعك فلابد أن تقر على نفسك بالكفر، ثم ترجع إلى الإسلام.

رفض عليٌّ كيف يُضيّع سعيه وجهاده مع النبي ﷺ وهجرته من أجل هؤلاء، فنابذوه فاجتمعوا في منزل عبدالله بن وهب الراسبي، فخطبهم خطبة بليغة، زهدهم في الدنيا، ورغبهم  في الآخرة رغبهم في الجنة، حثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا إخوانَنا من هذه القرية الظالم أهلها، هجرة، هجرة من ماذا؟ من دار الإسلام.

كفّروهم، قالوا إلى جانب هذا السواد، إلى بعض كور الجبال، أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه الأحكام الجائرة[16].

اجتمعوا أيضًا في بيت رجل منهم، يقال له: زيد بن حسين الطائي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم الآيات من القرآن، كقوله تعالى: يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... [ص:26] الآية، وهكذاوَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا -يقصد من؟، يقصد المسلمين- من أهل قبلتنا أنهم اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال -يعني ظلموا- وأن جهادهم حق على المؤمنين، لاحظ الآن البداية: أن جهادهم حق على المؤمنين.  

كفروهم والآن يريدون أن يقاتلوهم.

فبكى رجل منهم يقال له عبدالله السلمي، ثم حرض أولئك على الخروج على الناس، وقال في كلامه: "... اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف، حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم، وأطيع الله كما أردتم أثابكم الله ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قتلتم فأي شيء أفضل من الصبر والمصير إلى الله ورضوانه وجنته"[17].

لاحظ هؤلاء يعتقدون هذا، ما كانوا يمثلون، ولكنه عمى الأبصار -نسأل الله العافية.

وهنا يقول ابن كثير - رحمه الله- بعدما ذكر هذا يقول: "وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره ذلك، وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ۝ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:103-105][18].

هذا كلام ابن كثير، يقول ابن كثير: "والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال والأشقياء في الأقوال والأفعال اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطئوا على المسير إلى المدائن ليملكوها ويتحصنوا بها، ثم يبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم ممن هم على ما هم عليه من أهل البصرة وغيرها فيوافوهم إليها، ويكون اجتماعهم عليها، فقال لهم زيد بن الحصين: إن المدائن لا تقدرون عليها؛ لأن بها جيشًا لا تطيقونه، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخا، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات -يقول اخرجوا متسللين فرادى؛ من أجل أن لا يشعر بكم أحد.

فكتبوا كتابًا عامًّا إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها، وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدًا واحدة على الناس.

يقول: ثم خرجوا يتسللون وحدانًا؛ لئلا يعلم أحد بهم فيمنعهم من الخروج، فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأعمام والعمات، وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر والذنوب الموبقات والعظائم والخطيئات وأنه مما يزيّنه لهم إبليس وأنفسُهم التي هي بالسوء أمّارات" تركوا الأهل والقرابات.

يقول: "وقد تدارك جماعةٌ منهم -يعني: من أهل البصرة أو الكوفة- بعضَ أولادهم وقراباتهم وإخوانهم، فردوهم ووبخوهم، فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنهم من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج، فخسر إلى يوم القيامة".

يعني: ما قبل نصح الناصحين، ولا وعظ الواعظين، ولا زجر الزاجرين، فأول ما وجد فرصة خرج إليهم.

فذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كاتبوه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة، ولهم صبر وثبات" إلى غير ذلك مما ذكر.

يقول: "وعندهم أنهم متقربون بذلك إلى الله ، فهم قوم لا يُصطلى لهم بنار، ولا يطمع أحد في أن يأخذ منهم بثأر، في غاية الاستماتة على مبادئهم[19].

مقتل عبدالله بن خباب:  

لما أقبل هؤلاء من البصرة ودنوا من النهروان رأى جماعة منهم رجلاً يسوق بامرأة على حمار، وفي بعض الروايات أنهم رأوا رجلاً ينحاز عنهم، ويفر منهم، فأقبلوا عليه ودعوه وانتهروه، فأفزعوه، وقالوا: من أنت؟ قال: أنا عبدالله بن خباب صاحب رسول الله ﷺ، فقالوا له: أفزعناك؟، قال: نعم، قالوا: لا روع عليك. طبعًا فَهِم الآن أن هذا أمان.  

لا روع عليك حدثنا حديثًا سمعتَه عن أبيك سمعه من الرسول ﷺ تنفعنا به.

فقال: حدثني أبي عن رسول الله ﷺ أنه قال: ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، قال: "فإن أدركت ذاك، فكن عبد الله المقتول[20].

قالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ الآن هذا الرجل ما عمل شيئًا، ما بدا منه شيء، ولا قاتلهم، رجل مع امرأته وحماره، مع أم ولده وحماره، ما عمل شيئًا، ما تعرض لهم، لكن لابد من البحث عن شيء، فقالوا له: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرًا.  

قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته، وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقًّا في أولها وآخرها، قالوا: ما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟، قال: إنه أعلم بالله منكم وأشد توقيًا على دينه، وأنفذ بصيرة.

قالوا: إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها، لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدًا.

ماذا عمل؟، فأخذوه وكتفوه، ربطوا يديه إلى الخلف، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى مُتِم -يعني: في التاسع، حتى نزلوا تحت نخلٍ مواقير، يعني: على رءوسها التمر، فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فتركها في فيه.

فقال آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها، ورع من تمرة سقطت مصيرها إلى التلف!.

ثم مر بهم خنزير لأهل الذمّة فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير فأرضاه، اعتذر منه أو أعطاه ثمن الخنزير.  

فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى -يعني: ليست تمثيلية- فما عليّ منكم بأس. يقول: أنا مطمئن، خنزير وتمرة لرجل من أهل الكتاب!  

إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثًا، ولقد أمّنتموني قلتم: لا روع عليك.

فأضجعوه على النهر فذبحوه كما تُذبح الشاة، فسال دمه في الماء، فأقبلوا إلى امرأته، فقالت: اتقوا الله إني امرأة، فبقروا بطنها، حامل في التاسع، ماذا فعلت؟ ما ذنبها؟! بقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيّئ، وقتلوا أم سنان الصيداوية[21].

موقف أمير المؤمنين علي منهم:

فلما بلغ عليًّا قتْلُهم عبدالله بن خباب واعتراضهم الناس، يعني: بدأوا يعترضون الطرق والمارّة، فبعث إليهم الحارث بن مُرّة العَبدي ليأتيَهم وينظر ما بلغه عنهم ويكتب به إليهم.

الآن هذا رسول جاء ليستفهِم، والرسل لا تُقتل، فقتلوه، هذا المبعوث الآن للتفاهم والتثبت أخذوه وقتلوه، فجاء عليًّا الخبرُ والناس معه.

فقالوا: يا أمير المؤمنين، علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا في الشام.

كان علي  يتجهز للمسير إلى الشام، فقالوا له: إن سرنا إلى الشام، فهؤلاء معول هدم، سيخلفوننا في أهلينا، فلماذا نتركهم؟.

نبدأ بهؤلاء ثم نذهب إلى الشام، فأرسل علي إلى هؤلاء الذين اجتمعوا عند النهر أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم، أقتلهم بهم، ثم أنا تارككم وكافٌّ عنكم حتى ألقى أهل المغرب -يعني:  أهل الشام، فلعل الله يُقبل بقلوبكم ويردكم إلى خيرٍ مما أنتم عليه من أمركم.  

يقول: أنا لا شأن لي بقتالكم، هاتوا الذين قتلوا، فقالوا: كلنا قَتَلهم، وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم.

فخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة فقال لهم: عباد الله، أخرِجوا إلينا طِلبتنا منكم -يعني: هؤلاء الذين طلبناهم، وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فإنكم ركبتم من الأمر عظيمًا، تشهدون علينا بالشرك، وتسفكون دماء المسلمين.  

فقال لهم عبدالله السُّلمي -هذا الخارجي: إن الحق قد أضاء لنا فلسنا متابعيكم أو تأتونا بمثل عمر.

فقال: ما نعلمه فينا غير صاحبنا -يعني عليًّا ، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها؛ فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم.

ثم خطبهم أبو أيوب الأنصاري وقال: عباد الله، إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها، أليست بيننا وبينكم فرقة؟ فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إنا لو تابعناكم اليوم حكّمتم غدًا.

تعودون إلى التحكيم، فقال: فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل.

يقول: أنتم تفترضون الآن أمورًا ما وقعت، وتقاتلون بناء على افتراضات واحتمالات.

فأتاهم عليٌّ فقال: أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المِراء واللَّجاجة، وصدها عن الحق الهوى، وطمع بها النَّزَق، وأصبحت في الخطب العظيم، إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدًا صرعى بأثناء هذا الوادي... إلى آخر ما ذكر.

وقال لهم: من أين أوتيتم؟ فقالوا: إنا حَكَّمنا فلما حَكّمنا أثمنا وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا، فإن تبت فنحن معك ومنك، وإن أبيت فإنا منابذوك على سواء.

وكان مما قاله علي : بينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا، والخروج عن جماعتنا، وتضعون أسيافكم على عواتقكم، ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟، إن هذا لهو الخسران المبين، والله لو قتلتم على هذا دجاجةً لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟!.

هؤلاء حينما تورد عليهم النصوص تقول لهم: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا... [النساء:93].

والأحاديث الواردة في الباب وما إلى ذلك كما سترون في أصولهم التي يذكرها بعضهم -بعض الخوارج- هم عندهم أن ذلك محل القبول أنه وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ... ويكفرونه، لكن يقولون: نحن نقتل الكفار، نحن ما قتلنا المسلمين، نحن لا نقتل المسلمين، هؤلاء كفار، هؤلاء الذين يخالفونهم كفار.  

ولذلك إيراد هذه الآيات وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا... والأحاديث الواردة في الباب لا يُجدي مع هؤلاء؛ لأنهم يقولون: نعم، نحن نقر بهذا، لكن ما قتلنا المسلمين، نحن نقتل الكفار -نسأل الله العافية.

الشاهد لما قال لهم عليٌّ ذلك تنادوا: لا تخاطبوهم، ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الله، ثم صاروا بصوت واحد: الرواح الرواح إلى الجنة -نسأل الله العافية.

انظر، أُشربوا في قلوبهم العجل، أشربوا الضلالة والبدعة والهوى، و يموتون دونها -كما سترون-  فأمر عليٌّ أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج، ويقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن، إني لا حاجة لي في دمائكم إلا فيمن قتل إخواننا، انصرف منهم طوائف كثير، كانوا في أربعة آلاف، يقولون: لم يبقَ منهم إلا ألف، أو أقل مع عبدالله بن وهب الراسبي.  

فزحفوا على عليٍّ، فقدّم عليٌّ بين يديه الخيل، وقدم منهم الرماة وصفّ الرَّجّالة -يعني: الذين على الأقدام، ورأى الخيّالة، وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدءوكم، وأقبلت الخوارج وهم يقولون: لا حكم إلا لله، الرواح الرواح إلى الجنة.

ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فأناموا الخوارج، فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول وقُتل أمراؤهم: عبدالله بن وهب، حُرقوص بن زهير، شريح بن أبي أوفى، عبدالله السُّلمي، يقول المؤرخون كما يقول ابن كثير: قبحهم الله.

ما قُتل من أصحاب علي إلا نفر قليل نحو سبعة، وهؤلاء ما نجا منهم إلا نحو أيضًا تسعة، وقد تفرقوا ذهب اثنان إلى اليمن، وذهب بعضهم إلى ناحية عمان، تفرقوا.

ثم بعد ذلك بدأوا ينشطون من جديد، وأعادوها جَذعة، الجلد والصبر على الباطل، وسيأتي من هذا أشياء في الجلد، جلد أهل الباطل في باطلهم.

جعل عليٌّ يمشي بين القتلى من هؤلاء، ويقول: بؤسًا لكم، لقد ضركم من غركم، فقال من معه: يا أمير المؤمنين، ومن غرهم؟ قال: الشيطان، وأنفسٌ بالسوء أمارة، غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون، ثم أمر بالجرحى من بينهم فإذا هم أربعمائة، فسلمهم إلى قبائلهم ليداووهم.. إلى آخر ما ذكر.  

وكما قلت: إن بعضهم قال: لم يبقَ منهم إلا أقل من عشرة، والباقي قُتل، وكان علي قال لأصحابه: لا يُقتل منكم عشرة، ولا يبقى منهم عشرة[22].

مناظرة ابن عباس -ا- للخوارج قبل النهروان:

ابن عباس -ا- كان قد ناظرهم لما اجتمعوا على عليٍّ ليخرجوا عليه.

فدخل عليهم ابن عباس في معسكرهم، يقول: وهم قائلون، فإذا هم مُسهَمة وجوههم من السهر-قيام الليل- قد أثر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثَفِن الإبل، عليهم قمص مُرحَّضة، فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟ وما هذه الحلة التي عليك؟ -حلة جميلة، فرد عليهم: أنه رأى على رسول الله ﷺ أحسن ما يكون من الثياب اليمنية إلى آخر ما قال لهم.

الشاهد أن بعضهم قال: لا تُكلّموه، الله يقول -يعني عن قريش: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58]، فقال بعضهم: بلى، فلنكلمنّه.  

الخوارج إذا سبرت أحوالهم هي مجموعات فوضوية، ولذلك من الخطأ أن يُظن أنهم كانوا على سنن واحد، يعني بعض الناس يقول: الخوارج في السابق ما كانوا يغدرون، ولا يقتلون غيلة، هذا غير صحيح، فكما ترون أنهم أمّنوا عبدالله بن خباب، ثم قتلوه.

عليٌّ قتلوه غيلة.

لكن بعضهم لا يرى ذلك، ولذلك سيأتي أن بعضهم يتبرأ من عبدالرحمن بن ملجم الذي قتل عليًّا يقولون: لأنه قتله غيلة.

هي مجموعة فوضوية ما لاح لهم فعلوه، لا عقول، ولا بصائر يبصرون بها الحق، مجموعة فوضوية -وسيأتي مزيد إيضاح لهذا- الشاهد هؤلاء الذين قالوا: لنكلمنّه.

يقول: كلمني منهم رجلان أو ثلاثة، قلت: ماذا تنقمون عليه -أي على عليٍّ ؟، قالوا: ثلاثًا، قلت: ما هن؟ قال: حكَّم الرجال في أمر الله، والله يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57].

قال: وماذا أيضًا؟ قالوا: قاتل فلم يسبِ ولم يغنم، فإن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم، وإن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم، قال: ماذا أيضًا؟

قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين -يعني أثناء التحكيم- فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.

الفهم والعقول والفقه، ما أنت أمير المؤمنين إذًا أمير الكافرين! فقال لهم ابن عباس -ا: أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ ما ينقض قولكم هذا، أترجعون؟

قالوا: وما لنا لا نرجع؟

يقول: قلت: وأمّا قولكم حكّم الرجال فإن الله قال في  كتابهيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95].

وقال في المرأة وزوجها: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35]، فصير الله تعالى ذلك إلى حكم الرجال.

فنشدتكم الله أتعلمون حكمَ الرجال في دماء المسلمين، وفي إصلاح ذات بينهم أفضل أو في دم أرنب -يعني الصيد- ثمن ربع درهم وفي بُضع امرأة؟، قالوا: بلى هذا أفضل، يعني: في دماء  المسلمين.

قال: أخرجتُ من هذا؟ يعني: اقتنعتم؟

قالوا: نعم، قال: وأما قولكم: قاتل فلم يسبِ ولم يغنم، أفتسْبون أمكم عائشة؟ -لأنها كانت مع أهل الشام في وقعة الجمل- فإن قلتم نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، يعني: يستحلون منها ما يستحلون من الجواري والإماء.

وإن قلتم: ليست بأمنا فقد كفرتم، فأنتم تترددون بين ضلالتين، أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم.

فقال: أما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين فأنا آتيكم بمن ترضون.

إن نبي الله ﷺ يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو، قال رسول الله ﷺ: اكتب يا علي، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، قال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، و لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. قال رسول الله ﷺ: اللهم إنّك تعلم أني رسولك، امحُ يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو.

قال: فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم، فخرجوا فقُتلوا أجمعون[23]

هذه مناظرة مع ابن عباس قبل النهروان، لاحظ الطرح، والفهم، والفقه، ولاحظ القضايا التي يتشبثون بها ويكفرون بناء عليها، يكفرون من؟ يكفرون هؤلاء كبار الصحابة، وبالمناسبة ما معهم صحابي واحد، وما معهم عالم واحد، لأنهم أنهوا الصحابة، وأنهوا العلماء، فبقي يقودهم مثل هؤلاء ابن حُرقوص، وأمثال ابن حرقوص، عليٌّ عندهم ضال وكافر ورأس في الكفر، ابن عباس كذلك، وهكذا بقية الصحابة إذًا من هو الإمام المتبع؟ ابن حرقوص وأمثاله.

إذا كان هذا الأعمى يقودهم فما ظنكم؟ وهذه مشكلة كبيرة جدًّا حينما يسقط العلماء.

ظاهرة إسقاط العلماء:

يا إخواني، إسقاط هؤلاء العلماء قد لا يكون مقصودًا لدى المتكلم، لكن قد يتكلم بدافع الغيرة، قد نتكلم نرسل رسالة فيها مقطع غير مناسب، عبارة أخطأ فيها عالم، في مقام، في مجلس، في غير ذلك، أو نقول: أين العالم الفلاني أو العلماء من القضية الفلانية، أو المنكر الفلاني؟، ونتداول هذا، فما الذي يحصل؟ 

يحصل تغير في الصدور، فهذه رمية بسهم، ثم تأتي أخرى مثلها من دافع الغيرة على الدين، انظر فلان ماذا يقول، مقطع بصوته وصورة، انظر ماذا يقول، خطأ، أخطأ، ثم ماذا؟ أين العلماء من كذا وكذا وكذا؟ أين العلماء من كذا وكذا؟.  

يا أخي أين أنت الآن إذا سألناك حينما ترى منكرًا على مائدتك، أحد الضيوف يأكل بيده الشمال، سألت الكثيرين هل تنكرون عليه، وتقولون: لو سمحت كل بيدك اليمين؟ كل هؤلاء الذين سألتهم فيما يحضرني الآن ما أحد منهم قال: نعم، يجبن من أن يتكلم بكلمة مثل هذه أمام إنسان في بيته لا يملك له نفعًا وضرًا.

رأيت إنساناً على مائدة في زواج، أو في غيره وهو يشرب بالشمال، يأكل باليمين ويشرب العصير، أو البيبسي أو غير ذلك بالشمال.

تقول له: لو سمحت بارك الله فيك، اشرب باليمين، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله[24]، من منكم رأى أحدًا يأكل بالشمال، ويشرب بالشمال في زواج، في مناسبة فليقل له: لو سمحت انتبه.

يأكل وهو متكئ، تقول: ارفع يدك لو سمحت بارك الله فيك لا تتكئ، يجبن عن هذا، يدخل إلى أي مكان يرى منكرات يرى امرأة متبرجة أو غير ذلك، ينزل رأسه ويمشي، يجبن.

طيب العالِم بشر، لو حقناك علمًا حتى خرج العلم من تحت أظافرك لن تتغير الخصائص الإنسانية الطبيعية التي فيك من الشجاعة والجبن، ما تتغير، هي تبقى، هذه الخصائص باقية.  

فلماذا تطالب الآخرين بأمور لو نظرت إلى نفسك أمام من لا يملك شيئًا، تدخل عند الحلاق وهو يحلق لحية إنسان لا تقول له: لو سمحت هذا ما يجوز، يجبن ويجلس على الكرسي الآخر، ويحلق رأسه، ولا يتكلم.

طيب هذا منكر الآن، انصح بالتي هي أحسن، يجبن، تجبن من ماذا؟! هذا لا يملك لك نفعًا ولا ضرًّا هذا الحلاق، ولا هذا المحلوق أصلاً هو مشغول يحلق لا يستطيع أن يقوم من كرسيه، ومع ذلك يجبن، طيب كيف تطالب الآخرين، وتلمز الآخرين، وتنتقص الآخرين، وتؤذيهم وتنسب إليهم أمورًا عظيمة؟، ثم بعد ذلك تكون النهاية ما هي؟

أن هؤلاء لا يُقبل منهم شيء، فلا يبقى عند الناس كبير، فتصير الأمور فيما بعد إلى فوضى يقودهم الجهال، هي هكذا تنتهي القضية.

ولذلك ينبغي أن الإنسان يلتفت لنفسه، وينظر في ذنوبه وأخطائه وتقصيره قبلما يتكلم على الآخرين، أحيانًا نتكلم بألسنة حداد وبأقلام من نار، نكتب فيها، لكن هذه الكتابات تؤدي في النتيجة وفي النهاية إلى ماذا؟

هل تبصرت؟، فكرت فيها؟ ماهي آثارها؟ ما هي سلبياتها؟ إلى أي حال سنصير؟، ما عاد يُقبل من أحد ولا يُحترم أحد ولا يُتأدب مع أحد، الكل يُشتم، والكل يُسخر منه، ومن كلامه، ومن قوله.  

هذا الذي يرضي الله ؟ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقل خيرًا أو ليصمت[25]، إذا رأيت من أحد تقصيرًا تنصح هذا الإنسان إذا كنت تستطيع، ما تستطيع فكفُّ الأذى صدقة.

لكن تداول هذا في واتس آب، وفي الغرف، وفي البيوت، هل غيّرنا؟ أبدًا إنما الصدور تضطرم، و تمتلئ بالغل على أهل الفضل والعلم والدين والخير والصلاح، ثم بعد ذلك الذي يقود الناسغراب .

مناظرة عمر بن العزيز للخوارج:

عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- ناظرهم أيضًا في زمانه، وكانوا يخرجون طول تلك المدة، وخرجوا في زمن عمر بن عبد العزيز، فأرسل إليهم من يكلمهم ويعرض عليهم المناظرة مع عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- فجاء إليه رجلان منهم.

فقال لهم: ما أخرجكما هذا المخرج؟ وما الذي نقمتم؟ قالوا: ما نقمنا سيرتك، إنك لتتحرى العدل والإحسان، لكن هنا لابد من الامتحان.

هذا أمامكم نموذج فذ، لا، ما يكفي، أخبرنا عن قيامك بهذا الأمر أعن رضا من الناس ومشورة أم ابتزاز لأمرهم؟ وقالوا له أيضًا: بيننا وبينك أمر واحد، قال: ما هو؟ قال: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك -يعني الخلفاء قبلك من بني أمية- وسميتها مظالم فإن كنت على هدى وهم على الضلال، فالعنهم وابرأ منهم.

فقال عمر: قد علمت أنكم لم تخرجوا طلبًا للدنيا.

يقول: أنا عارف أن نيتكم والمقصد من خروجكم هو الآخرة.

يقول: أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها، إن الله لم يبعث رسوله ﷺ لعانًا،وقال إبراهيم فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36].

وقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] يقول: أنا أقتدي بالنبي ﷺ وبإبراهيم .

يقول: وقد سميت أعمالهم ظلمًا، وكفى بذلك ذمًّا ونقصًا، وليس لعن أهل الذنوب فريضة لابد منها، فإن قلتم: إنها فريضة، فأخبرني أنت متى لعنت فرعون؟

فقال: هاه، ما أذكر متى لعنته، قال: أفيسعك أن لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم، ولا يسعني أن لا ألعن أهل بيتي وهم مصلون صائمون؟

قال: أمَا هم كفار بظلمهم؟،قال: لا؛ لأن رسول الله ﷺ دعا الناس إلى الإيمان فكان من أقر به وبشرائعه قبل منه، فإن أحدث حدثًا أقيم عليه الحد.

فقال الخارجي: إنّ رسول الله ﷺ دعا الناس إلى توحيد الله والإقرار بما نزل من عنده.

قال عمر: فليس أحد منهم يقول -يعني من أهل بيتي من بني أمية: لا أعمل بسنة رسول الله، ولكن القوم أسرفوا على أنفسهم على علم منهم أنه محرم عليهم، ولكن غلب عليهم الشقاء.

فقال هذا الرجل: فابرأ مما خالف عملك، ورد أحكامهم.

فقال لهم عمر بن عبد العزيز: أخبراني عن أبي بكر وعمر أليسا على الحق؟ قالا: بلى.

قال: أتعلمان أن أبا بكر حين قاتل أهل الردة سفك دماءهم وسبى الذراري، وأخذ الأموال؟

قالوا: نعم.

قال: أتعلمان أن عمر رد السبايا بعد أبي بكر إلى عشائرهم بفدية -يعني خالف أبا بكر-؟.

قالوا: نعم.

فقال: فهل عمر من أبي بكر؟

قالوا: لا.

قال: أفتبرءون أنتم من واحد منهما؟

قالوا: لا.

قال: فأخبراني عن أهل النهروان وهم أسلافكم، هل تعلمان أن أهل الكوفة خرجوا فلم يسفكوا دمًا ولم يأخذوا مالًا وأن من خرج إليهم من أهل البصرة قتلوا عبدالله بن خباب وجاريته وهي حامل؟، قالوا: نعم، قال: فهل برئ من لم يقتل ممن قتل واستعرض؟ -يعني يقول: الخوارج من أهل البصرة والآخرين هؤلاء قتلوا وهؤلاء لم يقتلوا فهل تبرأ أحد منهم؟

قالوا: لا، قال: فتبرءون أنتم من إحدى الطائفتين؟

قالوا: لا.

قال : أفيسعكم أن تتولوا أبا بكر وعمر، وأهل البصرة وأهل الكوفة، وقد علمتم اختلاف أعمالهم، ولا يسعني إلا البراءة من أهل بيتي والدين واحد؟!.  

فاتقوا الله، فإنكم جهال تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله ﷺ، وتردون عليهم ما قبل، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده.  

يأمن عندكم من خاف عند النبي ﷺ يعني: الكافر والمنافق، ويخاف عندكم من أمن عنده يعني: أهل الإيمان، يخافون عندكم.

فإنه يخاف عندكم من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وكان من فعل ذلك عند رسول الله ﷺ آمنًا وحقن دمه وماله، وأنتم تقتلونه، ويأمن عندكم سائر أهل الأديان، فتحرمون دماءهم وأموالهم[26]، هذه مناظرة مع عمر بن عبدالعزيز.

  1. انظر: مجموع الفتاوى (8/ 425).
  2. انظر: ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (4/ 31).
  3. انظر: وفيات الأعيان (1/ 113)، ومعجم الأدباء (1/ 295)، وسير أعلام النبلاء (18/ 23).
  4. البرهان في أصول الفقه للجويني (2/ 13).
  5. انظر: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة (ص:66).
  6. انظر: الوافي بالوفيات (6/ 12).
  7. انظر: نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله من التوحيد، لأبي سعيد الدارمي السجستاني (1/ 59)، ووفيات الأعيان (1/ 277).
  8. انظر: التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور (2/ 235).
  9. أخرجه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث (ص:55).
  10. انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (5/ 185)، وسير أعلام النبلاء (18/ 471).
  11. انظر: وفيات الأعيان (4/ 274)، والملل والنحل (1/ 173).
  12. انظر: شرح الطحاوية، لابن أبي العز (1/ 244).
  13. انظر: المصدر السابق (1/ 247).
  14. انظر: مجموع الفتاوى (4/ 164).
  15. انظر: المخلصيات، لمحمد بن عبد الرحمن بن العباس بن عبد الرحمن بن زكريا البغدادي المخَلِّص، (1/ 335)، رقم: (180)، وفتح الباري لابن حجر (12/ 270).
  16. انظر: تاريخ الطبري (5/ 74)، والبداية والنهاية (7/ 316).
  17. انظر: البداية والنهاية (7/ 316).
  18. المصدر السابق.
  19. انظر: المصدر السابق (7/ 317).
  20. أخرجه أحمد، رقم: (21064).
  21. تاريخ الطبري (5/ 81-82).
  22. انظر: سنن الدارقطني (4/ 151)، رقم: (3250).
  23. أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، كتاب قتال أهل البغي وهو آخر الجهاد (2/ 164)، رقم: (2656)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 309)، رقم: (16740)، والنسائي في السنن الكبرى (7/ 480)، رقم: (8522).
  24. أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (3/ 1598)، رقم: (2020).
  25. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان (8/ 100)، رقم: (6475)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف، ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان (1/ 68)، رقم: (47).
  26. انظر:الكامل في التاريخ (4/ 103).  

مواد ذات صلة