الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
(022) قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ} الآية
تاريخ النشر: ٢٧ / شوّال / ١٤٣٧
التحميل: 739
مرات الإستماع: 1249

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- ما زُين للناس من متاع الحياة الدنيا من تلك الشهوات التي ذكر رؤوسها السبع، وهي: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] عقّب ذلك ببيان انحطاط مرتبتها، فقال: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثم ذكر ما عنده من حُسن المرجع والمصير، فقال: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14] وذلك فيه ما فيه من تغليب رحمته على عقوبته، فذكر حُسن المآب، ولم يذكر سوء المآب للكافرين، كما قال: إن رحمتي سبقت غضبي[1].

بعد ذلك ذكر من حُسن المآب ما أعد الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين المتقين، مما هو خير من ذلك المتاع الزائل، فقال: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15] أي: قل لهم يا محمد: أَؤُنَبِّئُكُمْ أأُعلمكم وأُخبركم بخير من ذلك المتاع الزائل، الذي زُين للناس من تلك الشهوات التي ذكر رؤوسها، وهي سبع، كما سبق؛ مما يكون للذين اتقوا الذين جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية، بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر.

جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ بساتين كثيفة الأشجار، تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار السارحة، مع ما لهم فيها من الأزواج المُطهرة من كل دنس، سواء الأدناس الحسية أو الأدناس المعنوية، كما سيأتي.

وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وفوق ذلك كله أن الله -تبارك وتعالى- يكتب لهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدًا، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ نافذ البصر، مُطلع على السرائر والضمائر والظواهر، لا يخفى عليه منهم خافية، وسيُجازيهم على أعمالهم.

فنتعلم من قوله: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ طريقة من طرائق الخطاب والتشويق باستخدام هذا الاستفهام: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ فلم يقل: فخير من ذلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، وإنما قال: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ أأخبركم، فهذا يجعل السامع يتطلع إلى ما سيُقال، ويجد في نفسه ما لا مدفع له، فيقول: نعم، ما الذي يكون أفضل من هذه اللذات وهذه المذكورات السبع: النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث؟! فماذا بقي؟! فهذه التي يتنافس فيها الناس، ويتهافتون عليها، فما هو خير منها؟

ولما كان الخطاب موجهًا لجميع الناس، جاء هنا الضمير بصيغة الجمع قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ يا معشر الناس بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ فالمخاطب هو مجموع الناس بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ وهذه الصيغة ذَلِكُمْ للبعيد، والميم تدل على الجمع، وقد يُفهم منها معنى التعظيم قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ وهو ما سيذكره من هذه الألوان من النعيم الذي لا يُقادر قدره، فجاء بهذه الصيغة، واختصر الكلام في هذه المذكورات، فلما يُعِدْها، واكتفى بالإشارة إليها بقوله: ذَلِكُمْ ليزهد الناس فيها، ويرغبوا فيما يذكره الله -تبارك وتعالى- لهم.

ثم أمر النبي ﷺ بهذا قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ يدل على الاهتمام بشأن ما يُذكر بعده، وأيضًا همزة الاستفهام تدل على التقرير والعرض؛ وذلك كما سبق يتضمن التشويق، وشد الانتباه، ولفت الأنظار، وهذا يدل على أن ما سيُذكر بعده في غاية الأهمية، سيذكر المستقبل الحقيقي الذي ينبغي أن تتوجه النفوس والقلوب إليه، وتوجه إليه الاهتمامات.

ثم قال: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ ولم يقل: قل أأُعلمكم وأُخبركم، فالنبأ يُقال لما له خطب وشأن، فكل خبر له خطب وشأن فهو نبأ، فالنبأ أخص من الخبر وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ[ص:21]، تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ [هود:49] أنباء يعني أخبار مهمة، فحينما يذكر الله أخبار الرسل والأمم يذكر ذلك بهذه الصيغة، فالعرب تقول: جاءنا نبأ الحرب، وجاءنا نبأ الأمير، ولا يقولون: جاءنا نبأ حمار الحجام؛ لأن حمار الحجام لا شأن له، لكن الشيء المهم الذي له مكانة وأهمية يُقال له: نبأ، فحينما يقال لك: هل بلغك النبأ؟ فتعرف أنه له شأن وخطب، لكن الخبر يُقال لما لا قيمة له، ولا شأن، فهنا قال: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ يدل على أن ما سيُذكر له أهمية بالغة، فينبغي أن يُعتنى به.

ثم أيضًا التنكير في قوله: بِخَيْرٍ يدل على التعظيم، وهو بهذه المثابة من قبيل المُبهم بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ فتتطلع النفوس إلى ما هو هذا الخير؟ وخير هنا أفعل التفضيل، يعني أخير، مع أنه لا مجال للمقارنة بين نعيم الآخرة وما في الدنيا من اللذات، وقد لا يكون مرادًا بها معنى أفعل التفضيل، وإنما الخيرية مطلق الاتصاف، وكأن هذا أقرب -والله تعالى أعلم-؛ لأنه كما قال:

أما ترى أن السيف ينقص قدره إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا[2].

وهذا له نظائر كثيرة في القرآن ذكرتها في بعض المناسبات آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59] ما فيه وجه هنا للتفضيل، أفعل التفضيل تكون بين اثنين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62] الجنة أو شجرة الزقوم؟! لا مجال للمقارنة والمفاضلة بينهما، أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً [الفرقان:24] فهذا يُراد به مُطلق الاتصاف، والله تعالى أعلم، وليس معنى أفعل التفضيل.

ثم أيضًا ذكر بعد ذلك تفاصيل هذا النعيم المذكور الذي شوقهم إليه، ورغبهم فيه لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، ففي قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14] للغائب، ثم قال: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ هذا للمُخاطب، وهذا يسمونه الالتفات، فهنا جاء إلى أمر مهم في غاية الأهمية فغير الخطاب ونوّعه، وجه إليهم الخطاب مباشرة، قل أؤنبئكم أيها الناس الذين زُين لهم حب الشهوات فهذا خير منها.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا حُذف المعمول هنا وهو المُتعلق، اتقوا ماذا؟ اتقوا كل ما يجب أن يُتقى؛ لأن الأصل في حذف المُقدر أنه يُحمل على العموم المناسب له، فلم يقل: اتقوا الكبائر، أو اتقوا الشرك، وإنما قال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا فاتقوا الشرك، والكبائر، واتقوا الذنوب، والمعاصي.

ثم أيضًا قوله -تبارك وتعالى-: عِنْدَ رَبِّهِمْ يؤخذ منه أن ذلك في غاية الفخامة والعِظم، بحيث لا يُقادر قدره لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ فلما يكون هذا الجزاء عنده، فلا تسأل عن هذا الجزاء في جزالته وكثرته وفخامته، فذلك النعيم في غاية اللذة والإكرام، أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر[3]، فهو عِنْدَ رَبِّهِمْ وليس عند أحد من أهل الدنيا، حتى تذهب الأذهان هنا وهناك، أنه فواكه وربما أشياء مما يتعاطاه الناس، ويأكلونه في هذه الدنيا، لا، هذا عند الله، والنبي ﷺ أخبر عن شجرة واحدة من شجر الجنة، يسير الراكب الجواد المُضمر السريع، يعني فيه هذه الأوصاف الثلاثة مائة عام لا يقطعها[4]، وقد تحدثت عن هذا المعنى بشيء من التفصيل في مقاييس أهل الدنيا يعني سرعة الجواد المُضمر السريع كما يقع في الساعة واليوم والشهر والسنة، فتوقفت بعض آلات الحساب التي استعملتها، لكن النبي ﷺ ذكر لهم شيئًا يُدركونه، فالراكب الذي يركب على الجواد السريع المُضمر، والمُضمر الذي ذهب زهمه، وبقي مُكتنز القوة، فهو مُضمر ومُعد للسباق، فهو أسرع ما يكون، وهذا سرعته تتجاوز المائة كيلو في الساعة، فقدرته بأقل التقديرات فتوقفت بعض الآلات الحاسبة، فلم تستطع أن تأتي بالأرقام مائة سنة، وهي أكثر من مائة عام، ولا يقطعها، وهذه شجرة واحدة، ولا يتصور هذا في الدنيا هذه التي عليها الناس ومعايشهم وأموالهم ويتهافتون عليها، ويُضيع من يُضيع آخرته من أجل بعض ما في جناح البعوضة، أو أقل من جناح البعوضة، فهذه الدنيا لا تساوي ولا حبة من الحمص بجوار هذه الشجرة، فكيف بالجنة وما فيها من الأشجار؟! وقد صح في الحديث: ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب[5]، وأخبر النبي ﷺ أن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن[6]، فعرضها ستون ميلاً فيكف بطولها؟!

وعِنْدَ رَبِّهِمْ فهذا يدل على القرب من الله -تبارك وتعالى-، ويدل على كثرة الجزاء، وما أعد الله لهم من النعيم، إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف:206] هؤلاء المقربون من الملائكة -عليهم السلام-، فهذا كما قال الله : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ۝ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55] وقد تحدثنا في بعض المناسبات عن مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ومقعد الصدق، ولسان الصدق، فهذا مقعد صدق بما تحمل هذه الكلمة من المعاني، أبعد ما يكون عن الزور والباطل والزيف والبهرج الذي لا حقيقة له، مما يتشبع به كثير من الناس، وسرعان ما يتلاشى، فهذا مقعد صدق عِنْدَ رَبِّهِمْ فأضاف هذا الاسم الكريم (الرب) وإلى ضمير المتقين، والرب عرفنا أنه يدل على التربيب والتربية، فهو يدل على عناية بهؤلاء المتقين، ويدل على ألطاف نازلة عليهم؛ لأنه من عند الرب، ويدل على تشريف لهم، فأضافهم إليه -تبارك وتعالى-.

انتهى الوقت، نتوقف عند هذا، ونُكمل -إن شاء الله تعالى- في الليلة الآتية، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7]، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129] برقم (7422).
  2. البيت للكميت بن زيد في الدر الفريد وبيت القصيد (4/ 157).
  3. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة برقم (3244) ومسلم في أوائل كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم (2824).
  4. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة برقم (3251) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها برقم (2828).
  5. أخرجه الترمذي في أبواب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة شجر الجنة برقم (2525) وصححه الألباني.
  6. أخرجه البخاري كتاب تفسير القرآن باب حور مقصورات في الخيام [الرحمن: 72] برقم (4879) ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين برقم (2838).

مواد ذات صلة