الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(080) قوله تعالى: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا...} الآية 72
تاريخ النشر: ١٥ / صفر / ١٤٣٨
التحميل: 554
مرات الإستماع: 1133

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- ما انطوت عليه نفوس أهل الكتاب، من محبة إضلال أهل الإيمان، في قوله تعالى: وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون [آل عمران:69] ثم وجّه إليهم الخطاب في آيتين مضى الحديث عنهما، موبخًا لهم على كفرهم بآيات الله -تبارك وتعالى-، وتلبيس الحق بالباطل، وكتم الحق، ذكر بعد ذلك أمرًا آخر، مما تمالؤوا عليه لإضلال أهل الإيمان، والتلبيس عليهم، وتشكيكهم في دينهم، وصد غيرهم عن الدخول فيه، فقال: وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون [آل عمران:72].

وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أي: جماعة من أهل الكتاب، وهذا الذي وقع إنما وقع في ذلك الحين من اليهود، فهم الذين كانوا يُجاورون النبي ﷺ في المدينة، وصدر عنهم مثل هذا، حيث تمالؤوا واتفقوا على أن يُعلنوا الدخول في الإيمان وجه النهار، يعني: في أوله، ثم يكفرون في آخره، فقال: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون يعني: لعل أهل الإيمان يرجعون عن دينهم؛ بهذه الحيلة التي كشفها الله -تبارك وتعالى-، وهتك أستارهم، أردوا أن يُلبسوا على الناس، ويُشككوا لصدهم عن إيمانهم؛ وذلك حينما يدخلون ظاهرًا في الإيمان في أول النهار، ثم يرجعون عنه، فسيقول الناس عندها: إن هؤلاء أهل كتاب، وأهل علم وبصر بالوحي، وشرائع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وما عليه رُسل الله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، فما رجعوا وتركوه إلا وقد عرفوا ما يدعو إلى تركه، وأنه ليس بدين صحيح، وأن هذا الرسول لم يكن على سنن الرُسل قبله، وإنما هو دعي، ادعى الرسالة، وليس من ذلك في شيء، فالناس إذا رأوهم بهذه الصفة حصل عندهم مثل هذا الشك.

فقوله: وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يدل على ما يحمله هؤلاء على أهل الإيمان من الكيد والكراهية، والتشكيك والتلبيس، كما جاء عن عثمان أنه قال: "ودت الزانية أن النساء كلهن زنين"[1]، فهؤلاء من أهل الباطل لا يقر لهم قرار، ويبقون في حالهم بعيدًا عن أهل الإيمان، بل لا يزال الواحد منهم تأكله نفسه، ويحمله الحسد على أمور وأعمال ومزاولات لا تجر له نفعًا، لكنها ربما تُنفس عما في قلبه من الحسد والغِل؛ وذلك بجر الآخرين جميعًا إلى الضلالة، فيستوي معهم في ضلالتهم، فهذا مثال ذكره الله -تبارك وتعالى- مما وقع من بعض أهل الكتاب.

وفيه أيضًا إعلام بغيب، فإنهم قد كتموا ذلك، ولم يُظهروه، وتآمروا عليه فيما بينهم، من أجل تحقيق هذه المكيدة، فكشفها علاّم الغيوب.

وفيه رحمة الله بهذه الأمة، حيث أيدها بالوحي، وكشف لها عن ألاعيب هؤلاء ومكرهم ومكايدهم من أجل أن يثبت أهل الإيمان على إيمانهم، فالله لطيف بعباده.

وفيه أيضًا: الحذر من مثل هذه المزاولات، سواء صدرت من أهل الكتاب، أو صدرت من المنافقين، أو صدرت من طوائف الكفار، فإن الواجب هو الحذر، وما ذكر الله -تبارك وتعالى- هذا إلا ليُعتبر، وأن يحذر المؤمن من مثل هذه المكايد التي تُشكك الناس فيما هم عليه من الدين الصحيح، والثوابت ودعائم الإسلام وأصوله العِظام، هذا قد يفعله بعض من ينتسب إلى الإسلام، وهو يكيد له، وينخر فيه من الداخل، سواء كان ذلك عبر مدونة، يكتب فيها، فيُضلل الناس، ويُلبس عليهم دينهم، وقد يبدأ بأمور يتدرج معها، حتى يوصلهم إلى الإلحاد، وقد يبدأ بالطعن في الصحيحين، ويطعن في بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كمعاوية ، ثم بعد ذلك يُلبس على الناس في قضايا كهذه، فيُفيق بعض من قلّ بصره، وضعُف علمه، ويقول: إذا كانت هذه هكذا، ويوجد أحاديث في البخاري غير صحيحة، خلافًا لما كنا نتلقنه ونسمعه العُمر كله، إذًا فما دونه من باب أولى، فيتلقفه شيطان آخر، قد أُرصد لذلك، ويقول: إذا كان الأمر هكذا، فالسنة لا يوثق فيها، إذًا فعلى أي شيء يكون التعويل؟ يقول: التعويل على القرآن، وهم مكذبون بالقرآن، ولكنهم يريدون إضلال الناس؛ لأن الإنسان إذا ترك السنة تلاعبت به الشياطين، وحمل نصوص القرآن على هواه، أو هوى من يقوده ويُضلله، وهؤلاء يقولون لبعض من أخذوا بقيادهم وأضلوهم عن الصراط المستقيم حينما يسألهم في حيرة: فماذا أصنع؟ فيقول: لا تتلقى من الأحاديث ولو كان في الصحيحين، ولو من المتفق عليه، فينبغي عليك أن تفحص، وكيف يفحص وهو لا يعرف ولا يُحسن يقرأ نصف حديث؟! فيُطالبونه أن يقوم هو بدور الإمام البخاري، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، والإمام أحمد، وهو ربما ما قرأ تغريدة واحدة في علم المصطلح، أو في علم الجرح والتعديل، فهو موغل في الجهالة، ويتكلم بمثل هذا الكلام، أو يُلقى إليه مثل هذا الكلام، والآيات لم تسلم منهم، فيُطالبونه بأن يعرض الآيات والنصوص جميعًا على عقله، فما قبله عقله قبله، فإذا كان الأمر بهذه المثابة، السُنة والصحابة، إذًا فما الذي بقي؟ بقي أصل دين الإسلام، وإثبات النبوة والوحي، فما يزالون به حتى يمرق من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية، فيقع في الإلحاد، فيبدأ من هذه الخطوة، أحاديث منتقدة في صحيح البخاري، وفلان وفلان من العلماء هو لا يعترف بهم، ويلعنهم في قلبه صباح مساء، ويقول: العالم الفلاني، والعالم الفلاني، والعالم الفلاني انتقدوا بعض الأحاديث في صحيح البخاري ومسلم، مع أن هؤلاء لو علموا به لداسوه بأقدامهم، هؤلاء لا يمكن أن يقولوا بأن صحيح البخاري لا يُعتبر، ولا يُعتد به، وأنه موضع للتشكيك، إنما غاية ما هنالك أن هذا العالم انتقد حديثًا، أو حديثين وحددها، أما هذا المُضل فهو لا يُحدد لهم شيئًا، يُبقيهم في حيرة، يقول هناك أحاديث منتقدة، طيب ما العمل؟ قال: أي حديث يُقال لك رواه البخاري عليك أن تفحص وتبحث وتدرس في الحديث، وهو لا يعرف دراسة الحديث والإسناد، أو يُحسنه أو يُقارب، ولا ذاك الذي يقوده وألقاه في مهواة، فيتركه في حيرة.

وإذا رمى بهذا السهم في أصح كتاب بعد كتاب الله ، فمعنى ذلك أن غيره من باب أولى، فتأتي هذه النفوس الحيرى تتساءل هذا إذا سألوا، وإلا فإن ذلك يقودهم إلى ما بعده، ويتلقفهم آخرون من الشياطين، الدعاة على أبواب جهنم، فيُشككونهم في أصل دين الإسلام، فهذا باب من هذا التضليل والتلبيس على أهل الإيمان، وتشكيكهم في ثوابتهم، وقد يكون ذلك عبر مشاهد ساخرة من الثوابت، وأصول الإسلام، وقد يكون ذلك عبر لقاءات مع بعض المُضلين عبر وسائل إعلامية، ونحو ذلك من قنوات ونحوها، فيُشاهده الملايين، وقد يكون ذلك بتدوين كُتب، أو حسابات عبر وسائل التواصل، ينشر فيها هذا السُم الزُعاف، الذي يُضلل به من شاء الله فتنته، فيؤدي ذلك إلى الردة عن الإسلام، كان في البداية مسكين يريد أن يتعرف على بعض الأشياء، أو يطلع، أو يتصور من باب حب الاستطلاع والفضول، ثم تحولت القضية إلى ردة عن الإسلام، وقد يُفعل هذا بطُرق أخرى عن طريق الشهوات، والصور الإباحية، وما إلى ذلك، وقد ذُكر لي أشياء من هذا القبيل يُطالب بها من يُتابع بعض هؤلاء بالكفر صراحة، بأن يُعلن عبوديته لشيء لا يمكن أن يُذكر في مجلس كهذا، تُنزه عنه الأسماع، وأنه اتخذه ربًّا، لا شريك له، يقصد ذلك من المرأة العارية من أجل أن تُضيفه، وأن تقبله، عبارات قُرئ عليّ جملة منها، وما كنت أظن أن الناس قد بلغ بهم الأمر إلى هذا الحد، وهو الكفر الصريح بإعلان العبودية، وأنه رضي بذلك الموضع من المرأة ربًّا، لا شريك له، وإن شئتم فاسألوا المختصين بهذه الأمور في الهيئات ونحوها، عندهم من ذلك كثير، فهؤلاء شياطين على أبواب جهنم، يدعون الناس إليها.

فينبغي للإنسان أن يحذر من مثل هذه الدعوات، ومن مثل هؤلاء المُضلين الذين يُلبسون، وقد يتمالأ مجموعة من الناس ويكون لهم مراكز أو نحو ذلك، تُدعى زورًا أنها مراكز للبحث، وهي مراكز للتشكيك، وكان للمستشرقين من ذلك نصيب وافر، وهم أساتذة في مثل هذه التشكيكات والتضليلات، فكانوا يجردون كتب الإسلام، ويستخرجون الشُبهات بالمناقيش، ثم بعد ذلك يجمعونها وينشرونها، وصار بعض من يتلقف ذلك من تلامذتهم ممن يتنسب إلى الإسلام يروجها ويُدرسها لتلامذته، هذا وجد في القرنين الماضيين، والله المستعان.

فهنا يحتاج المؤمن أن يكون حذرًا من كل هؤلاء على اختلاف ألوانهم وصورهم ولغاتهم ومواقعهم، يحذر على إيمانه فهو أغلى ما يملك؛ لأنه إذا فقده فقد كل شيء، فقد سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة، فأصبح في شقاء، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون [البقرة:38]، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى [طه:123]، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ۝ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124-125] فبعض هؤلاء الذين تابعوا بعض هؤلاء المُضلين نسمع من ذويهم أنه يدخل عليه شهر رمضان وهو لم يصم، شاب يُقارب العشرين من عمره لا يصوم رمضان؛ لماذا لا يصوم؟ قالوا: لا يعترف بالصيام، ولا يُصلي؛ لأنه لا يعترف بالصلاة، وماذا بعد؟ ولا يعترف بالإسلام، ولا يعترف بالنبي ﷺ، بل لا يعترف بوجود رب العالمين، فضلاً عن وحدانيته وإلهيته ، كيف وصلوا إلى هذا؟ عبر هذه الشبكة والأجهزة التي صارت في أيدي الصغير والكبير.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: أن الله -تبارك وتعالى- قطع عليهم الطريق في ذلك، وباتت هذه الحيلة مكشوفة، لكن هل انتهوا من الكيد للإسلام؟ لا، إذا سُد طريق اتجهوا إلى طريق آخر، ولاحظ هنا آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ وجه النهار وهو الوقت الذي يُخالطون فيه أهل الإيمان، واكفروا آخره، يعني في الوقت الذي يخلون فيه بشياطينهم، وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُون [البقرة:14] حتى إن بعض أهل العلم قال: إنهم أكدوا لشياطينهم بـ(إنّ) إننا معكم، وجاءوا بثاني أقوى صيغة من صيغ الحصر إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُون فجاءوا بهذه المؤكدات، لماذا؟ قال بعض أهل العلم: لأنهم صاروا في حالة من الحذق في تمثيل هذا الدور، حتى ربما شك شياطينهم أنهم فعلاً قد دخلوا في الإيمان، فلما رجعوا إليهم يُطمئنونهم، فيقولون: إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُون يعني: قاموا بالدور حتى التبس ذلك، أو دخل الشك على الشياطين الذين بعثوهم، فظنوا أنهم ربما تأثروا حقيقة بالإيمان، وسماع آيات الله والذكر، وما يرون من وجه رسول الله ﷺ، فيؤكدون لهم بهذه المؤكدات أن ذلك لم يحصل إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُون، اللّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون [البقرة:15] فيمدهم ويُعطيهم ليستمروا على هذا الحال، من أجل أن تتعاظم جرائرهم وجرائمهم، فيقدمون على الله ، وقد صار لهم رصيد هائل من الأوزار؛ ولذلك استحقوا الدرك الأسفل من النار، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] يعني: تحت الكفار، فهؤلاء الذين ذكرهم الله  هنا هم من منافقي أهل الكتاب، وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ، والله المستعان.

هذا؛ والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. المغني لابن قدامة (10/177).

مواد ذات صلة