الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
(105) قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ...} الآية 98
تاريخ النشر: ٢٠ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 537
مرات الإستماع: 1115

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما بين الله -تبارك وتعالى- في هذا السياق الطويل هذا البيان الواضح الذي لا يترك في الحق لبسًا، أن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا، وأنه ما كان من المشركين، كذلك أيضًا ذكر أولى الناس بإبراهيم وهم أتباعه على ملته، ومن هؤلاء هذا النبي أعني محمدًا ﷺ ومن آمن به واتبعه، وبين أيضًا أول بيت وضع للناس، ومكانة هذا البيت، وما فيه من الآيات الواضحات الدالة على أن بانيه إبراهيم وأنه ذو منزلة وشأن عظيم، فينبغي أن يكون هو القبلة التي يتوجه إليها، إلى غير ذلك من البيان.

ثم وجه الخطاب إلى أهل الكتاب مباشرة بأمر النبي ﷺ أن يُخاطبهم بقوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون [آل عمران:98]، قل أيها النبي لهؤلاء من أهل الكتاب، وأهل الكتاب -كما هو معلوم- هم اليهود والنصارى، ويدخل فيهم دخولاً أوليًّا في هذه الآيات النصارى؛ لأن هذا السياق الطويل كما ذكرنا في بضع وثمانين آية في صدر هذه السورة في غالبه، ومُجمله يُخاطب النصارى، ويُجادلهم، ويحتج عليهم، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ويدخل في ذلك اليهود أيضًا؛ لأنهم من جملة أهل الكتاب.

وفي بعض الخطاب السابق ما هو مختص باليهود كما ذكرنا في مواضعه، قل لهم لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لماذا تكذبون بها وتجحدون هذه الآيات، وأنها مُنزلة من الله -تبارك وتعالى- موحى بها، ويدخل في هذه الآيات المتلوة، ويدخل فيه نوع آخر من الآيات، وهي الدلائل الدالة على صدق النبي ﷺ من دلائل نبوته، فهي من جملة آيات الله المعجزات، لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ فهذه كلها آياته، وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون.

هذا بالإضافة إلى كفرهم بآيات الله التي أنزل عليهم مما يشهد بصحة نبوته ﷺ ويذكر صفته ومبعثه ومُهاجره، إلى غير ذلك مما قد علموه في كتبهم، فهم حينما لا يؤمنون بالنبي ﷺ فذلك يقتضي أنهم كافرون بما قد نزل في ذلك في الكتب المُنزلة عليهم، لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون شهيد على ما يصدر عنكم من الأعمال، وهذه الأعمال يدخل فيها جميع ما يكون من قبيل العمل كما سيأتي، شهيد مُطلع، وحافظ، ورقيب، وعليم، وخبير؛ لا يفوته من ذلك شيء، ولا يخفى عليه خافية، وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هذا كما ذكرنا في بعض المناسبات مما يُبين أن النبي ﷺ مُبلغ عن الله هذه مهمته، فهو رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ [الشورى:48]، "إنْ" هذه نافية يعني ما عليك إلا البلاغ، بأقوى صيغة من صيغ الحصر؛ النفي والاستثناء التي جاءت بها كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" إِنْ عَلَيْكَ يعني: ما عليك إلا البلاغ، هذه مهمتك تؤديها، وأما إيمان هؤلاء؛ القبول والاستجابة، الحساب فذلك إلى الله -تبارك وتعالى- وإذا كانت هذه مهمته -عليه الصلاة والسلام- فكذلك الدعاة إلى الله من بعده هم مُبلغون لهذا الهدى والنور للعالمين قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فأتباعه دعاة إلى الله من بعده، وقد كان بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء، وأما هذه الأمة فلا نبي بعد النبي ﷺ وإنما العلماء هم الذين يقومون بالبيان والبلاغ، فهم ورثة الأنبياء.

وهنا أيضًا: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هذا فيه بيان الاهتمام بهذا المقول، ماذا سيُقال؟ الله يأمر نبيه ﷺ أشرف نبي، ويُخاطبه بأشرف كتاب أن يقول لهم، فهذا الذي سيُقال لا شك أنه في غاية الأهمية، الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون هنا لِمَ تَكْفُرُونَ خاطبهم بحقيقة لربما كانوا يُنكرونها، أو يُدارونها، أو لا يُظهرونها، فجابههم بهذه الحقيقة، لِمَ تَكْفُرُونَ لأن فعلهم هذا بجحد نبوته ﷺ والتكذيب بالبراهين الدالة على صدقه والآيات المُنزلة عليه، وما جاء في كتبهم من وحي الله في صفته، هذا كله كفر مُضاعف، يتلون بهذه الألوان، ومن كفر ببعض آيات الله فكأنما كفر بآيات الله كلها، لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [البقرة:285]، فمن فرق بين الرسل، أو بين الآيات، أو فرق بين الله ورسله؛ فقال: يؤمن بالله ولا يؤمن برسوله؛ فهو كافر بالله، كافر بجميع الرُسل، ولو كان مُكذبًا لرسول واحد، هذه حقيقة دل عليها القرآن، لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون فهذا يُبين حقيقة حال هؤلاء أهل الكتاب الذين لم يتبعوا النبي ﷺ وأنهم كفار بنص القرآن.

وهذا جاء في أكثر من موضع، وسواء كان ذلك في كفرهم بهذه الآيات، أو في إشراكهم بالله لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ [المائدة:73]، وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ وجعل ذلك الكفر مُضاهاة يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ [التوبة:30]، وهم يحاكونه، ويُشابهونه.

فهنا الله -تبارك وتعالى- ذكر هذه الحقيقة التي يجب أن تُعرف، ولا يجوز لأحد أن يُنكرها أو أن يُكابر في ذلك أو أن يشك فيه، أو أن يدافع عن هؤلاء الكفار، أو يتحرج من وصفهم بالكفر، فدين الله الإسلام واحد، لا يجوز لأحد أن يؤمن مُتخيرًا، يؤمن بما شاء، ويكفر بما شاء، ولا شك أن مثل هذه الآيات التي تدمغهم بالكفر الصريح لا تُبقي ريبة بعد ذلك لمستريب بكفرهم، وحقيقة حالهم.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ هنا خصص أهل الكتاب، وذلك أيضًا يتوجه إلى الجميع لكنه ذكر الكتاب يَا أَهْلَ الْكِتَابِ أضافهم إلى الكتاب، ما قال: يا بني إسرائيل، وإنما يَا أَهْلَ الْكِتَابِ فهذه قضية تُسجل عليهم العلم، وأنهم أصحاب معرفة واطلاع، وأن ذلك الكفر لم يكن بسبب الجهل وخفاء الأمور كما قد يقع لبعض الجاهلين، ممن لا عهد له بكتاب، أما هؤلاء فيعرفون ذلك حق المعرفة، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، حتى قال بعض أهل العلم: "إنه قال كما يعرفون أبناءهم، ولم يقل كما يعرفون أنفسهم؛ لأن الإنسان إذا ولد لم يعرف نفسه إلا بعد مدة حتى يشب ويُدرك، لكن الرجل يعرف ولده منذ ولادته، لا يلتبس عليه[1].

فهذا بذكر نسبتهم إلى "الكتاب"، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ يدل أيضًا على أن كفرهم أشد، وأنه أقبح؛ لأنه كفر مرة ثانية مع العلم بالآيات الدالة على صحة دين الإسلام، وحقيقة ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- فهذا يوجب أن يكونوا أول الناس إيمانًا وقبولاً، ومسارعة إلى التصديق به، والإقرار بما جاء به عن ربه -تبارك وتعالى- لا أن يكون هؤلاء هم أكفر الناس، وأشد الناس عداوة له، لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ [المائدة:82]، وهم بالطبقة الأولى في العلم بالنسبة لغيرهم، قال: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]، فهؤلاء الجاهلون.

ثم ذكر النصارى، ومن آمن منهم، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ثم ذكر الصفة التي تدل على أن المقصود هو من آمن من النصارى بالنبي ﷺ فهذا كله يدل على هذه المعاني أن كفر من كان عالمًا ليس ككفر من كان جاهلاً؛ ولهذا فإن جهنم لها سبعة أبواب -كما قال بعض أهل العلم- بأنها دركات هذه الأبواب بعضها تحت بعض، لكل دركة من النار باب، لكل باب منهم جزء مقسوم، فيدخلون بحسب كفرهم، وبحسب حالهم[2] فهؤلاء اليهود هم أعلم الناس بما جاء به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهم أكفر الناس، وقلّ من يُسلم من اليهود، ولم يُسلم منهم في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا بعض الأفراد، لكن أسلم من المشركين كثير كانوا على جهالة، فانجلت هذه الجهالة، ورأوا من الآيات، والدلائل الدالة على صدق النبي ﷺ ما حفزهم على الإيمان به وتصديقه.

كذلك أيضًا كما ترون في هذه الآية، والتي بعدها يَا أَهْلَ الْكِتَابِ في الآية التي بعدها قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون [آل عمران:99]، كما سيأتي في الكلام عليها إن شاء الله.

فهنا يوبخهم، يُكرر عليهم هذا الخطاب قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ثم إنه يُخاطبهم بما ينبغي أن يكون سببًا لاستجابتهم، وجذب قلوبهم، قال لهم: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ يُخاطبهم بالعلم، فيكون ذلك سببًا للإذعان والإقرار والاعتراف، ونحو ذلك، وهذا من لطفه -تبارك وتعالى- أن يُخاطب عباده هؤلاء الكفرة بمثل هذه الخطابات اللطيفة، التي تستدعي القبول والإيمان، مما يدل على سعة رحمته -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، مما يُفيد الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- في مخاطبة الناس سواء كان هؤلاء من الكفار، أو كانوا من المسلمين بالخطاب الذي من شأنه أن يُلين القلوب، ويستدعي الإيمان.

فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، فهذا أعتى أهل الأرض وأكفر أهل الأرض يأمر الله كليمه موسى مع أخيه هارون أن يُخاطباه بمثل هذه المخاطبة قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون هنا وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون شهيد هذه صيغة مبالغة على وزن فعيل، فالشهيد أبلغ من العليم، فهو علم مع حضور، وشهادة، فيدل على الرقيب، والعليم، والخبير الذي يعلم بواطن الأشياء، وخفاياها، وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون وهذا يدل على أن الله -تبارك وتعالى- إنما يُحاسب عباده على ما يصدر عنهم من أعمال لا بمجرد علمه بحالهم، وما يمكن أن يكون عليه مآلهم ومستقبلهم، وإنما من لطفه ورحمته أن لا يُحاسبهم إلا على ما عملوا.

وهذه الأعمال شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون يدخل فيها الأنواع الأربعة للعمل: يدخل فيها عمل القلب من الإيمان، والنفاق، والكفر، والحسد، والغِل، وما أشبه ذلك، شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون فهذه أعمال القلوب يُحاسب الإنسان عليها، وهو ما استقر بها من العقائد والأعمال القلبية، وما إلى ذلك، بخلاف الخواطر، والوسوسة، والهم بالمعصية، ونحو ذلك، فهذا لا يُحاسب الإنسان عليه إن الله تجاوز عن أمتي عن ما حدثت به أنفسها، لكن بقيد ما لم تعمل، أو تتكلم به[3]، فإذا صدر عن الإنسان شيء يتفوه به مما يجول في خاطره من المنكر، والكفر، ونحو ذلك، أو عمل بمقتضاه فإن ذلك يُحاسب عليه، أما مجرد الخواطر، والوساوس، فهذه من رحمته أنه لا يُحاسب عليها؛ لأن الإنسان لا يقصدها، ولم تستقر في نفسه، ولا يستطيع الخلاص منها، فهي تقع بغير تطلبه ولا إرادته، فمن رحمته أن عفى وتجاوز عنها.

ويدخل في الأعمال غير النوع الأولى: أعمال القلوب، يدخل فيه: أعمال اللسان من النطق بالشهادتين، وأعمال اللسان من الذكر، وقراءة القرآن، ونحو ذلك، ويدخل فيه: النطق بالكفر، والنطق بالمنكر في جميع أنواعه وصوره وأشكاله، ما يتفوه به الإنسان من أنواع القول المُنكر، ويدخل فيه النوع الثالث: وهو أعمال الجوارح، وهذا معروف لا يخفى، بقي النوع الرابع: وهو الترك، فالترك فعل كما قال صاحب المراقي:

والترك فعل في صحيح المذهب له فروع ذكرت في المنهجِ[4]

كتاب المنهج.

وذكرها من بعد ذا البيت يجي.

ثم ذكر أمثلة عليها، بمعنى أن الأصوليين والفقهاء يقولون بأن الإنسان قد يكون بالترك مؤاخذًا، فمثلاً لو وجد إنسانًا يكاد يموت من العطش، أو يموت من العطش، وعنده فضل ماء، فيجب عليه أن يسقيه، فإن لم يفعل كان متسببًا بموته، يقول: لو أنه كان عنده رهن، أو نحو ذلك، أو وديعة بهائم وتركها ما أساء إليها، لكنه لم يُطعمها، ولم يسقها حتى ماتت، فهو متُسبب في ذلك، يقول: أنا ما فعلت لها شيئًا! نقول: تركت السقي والإطعام.

وكذلك أيضًا لو أنه وجد أحدًا قد جُرح، وقد صار ينزف دمًا، وعنده ما يمكن أن يرقع به هذه الجراحة، فتركه حتى مات، فإنه يكون مؤاخذًا، وجد إنسانًا من إصابة يمكن أن يُسعفه، فلم يفعل حتى مات، فإنه يكون مؤاخذًا، والترك فعل في صحيح المذهب.

وهكذا الله -تبارك وتعالى- قال عن اليهود: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُون [المائدة:79]، وقال عن الأحبار: لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُون [المائدة:63]، والصُنع أبلغ من الفعل؛ لأنه فعل بحذق، فأضاف ترك النهي من قِبل هؤلاء العلماء أنه من قبيل الصُنع لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُون أما عامة الناس لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62]، وهكذا.

فهنا في قوله -تبارك وتعالى-: وَاللّهُ شَهِيدٌ في إثبات صفة الشهيد، وهو اسم من أسماء الله ومبناه على المُبالغة فعيل، فذلك فيه تخويف يبعث على مراقبة الله فيما يأتي الإنسان ويذر؛ أعمال وأفعال، يُراقب الإنسان نفسه ويُحاسبها؛ لأن الله مُطلع عليه، وهكذا أيضًا فإن ذلك يُفيد الزجر لهؤلاء، فهم يكفرون، والله شهيد على ما يفعلون، وفي إظهار لفظ الجلالة لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون أظهره، كان يمكن أن يكون بالضمير، وهو شهيد فإذا كان ذلك في جملتين منفصلتين، فإن إظهاره يكون لمعنى بلاغي، وذلك لإظهار وإبراز المهابة؛ ليكون ذلك أوقع في النفوس وَاللّهُ أبلغ مما لو قال، وهو شهيد على ما تفعلون، وهذا مقام تخويف وزجر وتعظيم وتهويل للخطب.

وكذلك أيضًا في قوله: وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون فإن "ما" هذه تفيد العموم، جميع الأعمال كل ما يصدر عنكم الله شهيد، سواء فعل الإنسان في السر، فعله في الظلام، فعله في الخفاء، فعله في مكان بعيد عن الناس، في بلد غير بلده، الله مُطلع عليه، شهيد عليه، إذًا: أين المفر؟! فما على الإنسان إلا أن يُصلح نيته، وقصده، ويُخلص لله عمله، وأن يكون عمله على استقامة.

هذا، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: تفسير الراغب الأصفهاني (1/338).
  2. انظر تفسير البغوي، برقم (4/382-383).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره، والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط، والنسيان في الطلاق، والشرك، وغيره، برقم (5269)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر، برقم (127).
  4. انظر: الأصل الجامع لإيضاح الدرر المنظومة في سلك جمع الجوامع (1/42).

مواد ذات صلة