الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
(118) قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ...} الآية 108
تاريخ النشر: ٠٨ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 456
مرات الإستماع: 1072

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما نهى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين عن مشابهة أهل الكتاب في التفرق والاختلاف، وتوعدهم بالعذاب العظيم في ذلك اليوم الذي تبيض فيه وجوه وتسود وجوه، تسود وجوه أهل الكفر والضلال، وتبيض وجوه أهل الإيمان، قال الله -تبارك وتعالى- إشارة إلى ما ذُكر من الآيات قبله والبيان الواضح الذي لا يدع في الحق لبسًا: تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِين [آل عمران:108] فبيّن لهم المصير الذي يصير إليه الناس من أهل السعادة، وأهل الشقاوة، وبيّن لهم ما يُسبب للإنسان دخول النار، وما يتسبب عنه دخول الجنة من الأعمال، وأمرهم ونهاهم، ووعظهم بهذا القرآن، تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ فهذه آياته وبراهينه الواضحة الساطعة، نتلوها ونقصها عليك أيها النبي بالحق والصدق واليقين، فليس ذلك من الأمور التي يدخلها الخطأ والخطل، وتكون موجبة للريب، وإنما يتلوها بالحق، فهو حق واضح، يفصل الحقوق، ويُبينها ويُبين حدود الله -تبارك وتعالى-، ومفاصل ذلك.

وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِين لا يظلم أحدًا من خلقه، ولا يريد ذلك؛ لأنه حكم عدل، لا يظلم ولا يجور، فهؤلاء الذين اسودت وجوههم من أهل النار، وهؤلاء الذين ابيضت وجوههم من أهل الجنة كل ذلك كان عدلاً منه -جل جلاله، وتقدست أسماؤه-، من غير أن يظلم أحدًا شيئًا، أو أن يُحمل أحدًا أوزارًا لم يعملها.

فيؤخذ من قوله: تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ الإشارة إلى البعيد (تلك) لعلو مرتبتها ومنزلتها، فهي كلام الله -تبارك وتعالى- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكلام الفصل الجزل الذي أُنيطت به السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، فهذه الآيات تحتاج إلى تعظيم، وتحتاج إلى قلوب نظيفة، وإلى المحل القابل، فيتدبر العبد وينتفع، ويُقبل على هذه الآيات بقلب حاضر، فيكون ذلك سببًا لهدايته.

نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ التلاوة المراد بها القراءة، وهذا يدل على أن القرآن كلام الله بلفظه ومعناه، فالمُشار إليه هذه الآيات التي نزلت على النبي ﷺ، لكن هذه التلاوة لم تكن من الله مُباشرة لنبيه محمد -عليه الصلاة والسلام-، وإنما كانت بواسطة الملك جبريل ، وجبريل تلقاها من الله مُباشرة، ولم يأخذ ذلك من بيت العزة، ولا من اللوح المحفوظ، ولا غير ذلك، ويدل على هذا الحديث المشهور: إذا أراد الله أن يوحي بأمر تكلم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة من خوف الله ، فإذا سمع ذلك أهل السماوات، صعقوا وخروا سجدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلم الله من وحيه بما أراد[1]، فجبريل يتلقى عن الله مُباشرة، وقد جاء عن جماعة من السلف كسعيد بن المسيب: "أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين"[2]، فأحدث القرآن بالعرش ماذا يعني؟ فلم يقل: أحدث القرآن ببيت العزة، أو أحدث باللوح المحفوظ، وإنما قال: "أحدث القرآن بالعرش" فهذا يدل على أن اعتقاد السلف أن القرآن كلام الله، وأن جبريل سمعه من الله مُباشرة، هو الاعتقاد الصحيح.

ثم أيضًا لما كان هذا القرآن موحًا به إلى النبي ﷺ بواسطة جبريل ، والله يقول: تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ وهذه التلاوة كانت بواسطة الملك، يؤخذ من ذلك أن من كان وكيلاً عن الغير فإنه يقوم مقامه؛ ولهذا لاحظ العبارة: تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا والذي يتلوها على النبي ﷺ هو جبريل .

وقول الله -تبارك وتعالى- أيضًا: تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ فأضافها إليه؛ لأنه هو الذي تكلم بها، وليست الآيات بأعيان قائمة بنفسها، كبيت الله، وناقة الله، وعباد الله، ونحو ذلك.

فالمُضافات إلى الله نوعان: نوع لا يقوم بنفسه، فيكون ذلك من قبيل إضافة الصفة، ككلام الله، وسمع الله، وآيات الله المتلوة، أما الآيات المشاهدة فهي قائمة بنفسها، كالشمس والقمر والسماوات... إلى آخره، متشخصة، فهي أعيان في الخارج، فهذه إضافة خلق، أو إضافة مخلوق إلى خالقه، بيت الله، ناقة الله، ونحو ذلك، هذا هو ضابط هذه المسألة، والقاعدة في المضافات إلى الله أنها نوعان، وبهذا تعرف الفرق بين إضافة صفة، وإضافة المخلوق.

وقوله -تبارك وتعالى-: تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ هذه الإشارة للآيات التي قبلها مباشرة، وهي ما يكون للأبرار وما يكون للفجار، من أعداء الله -تبارك وتعالى- من الكافرين، فكل ذلك أشار إليه بهذه الإشارة: تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ولاحظ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا هذا خطاب وَمَا اللّهُ يُرِيدُ هذا للغائب، فلم يقل: وما نريد ظلمًا للعالمين، وإنما قال: وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِين فهذا يُقال له: التفات من المُتكلم إلى الغائب، وهذا الالتفات فيه ما فيه من تنشيط السامع، وهو من ضروب البلاغة والتفنن بالكلام.

وللالتفات أيضًا في كل موضع من المناسبة ما يليق به، يعني: مثلاً هنا: تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ باعتبار أنه كلامه، فجاء بهذه الصيغة، ثم قال: وَمَا اللّهُ فهذا أفخم مما لو قال: وما نُريد ظلمًا للعالمين، فإظهار اسم الجلالة في مقام يصح فيه الإضمار لا شك أنه أفخم وأعظم، وفيه ما فيه من المهابة والإجلال.

ونحن قد لا نتذوق مثل هذه كثيرًا، والسبب هو أن الحس البلاغي عندنا فيه ضعف، فإذا ضعُف ذلك كان تذوق الإعجاز القرآني، والبلاغة القرآنية ضعيفًا، وإلا فقارن بين هذا وبين الأعرابي الذي سمع قارئ يقرأ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94] فسجد، فسئل: لما سجدت؟ قال: سجدت لفصاحته، فقط سمع هذا: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94] هل هذه تُحرك فينا شعرة واحدة؟! فإذا كان الحس البلاغي ميتًا لم يتذوق الإنسان مثل هذا اللون من الخطاب، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94] لكن هذا أعرابي كان له الحس اللغوي الحي، فيعرف ضروب الكلام والفصاحة، فسجد لما سمع مثل هذا الكلام.

وقال -تبارك وتعالى-: نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ مع أن التالي كما سبق هو جبريل، فهو الذي تلاها على النبي ﷺ، فهذا يدل على عناية الله -تبارك وتعالى- بهذه التلاوة، فأضافها مُباشرة إلى نفسه.

وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِين فظلمًا هنا نكرة في سياق النفي، فيصدق على الظلم الكثير والقليل، فكل ذلك مُنتفٍ بحق الله ، فالله لا يظلم الناس شيئًا، كما في الآية الأخرى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا [يونس:44] فشيئًا نكرة في سياق النفي، فتعم أي شيء؛ ولهذا جاء أيضًا بصيغة المُبالغة: بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] فبعض العلماء يقولون: قال: بظلام إما باعتبار أن القليل لو صدر من أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين لكان كثيرًا، فقال: ظلام، أو باعتبار كثرة الخلق، فلو وقعت مظلمة لكل واحد منهم لكان ذلك كثيرًا.

وكذلك أيضًا توجه النفي هنا إلى الإرادة وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِين بصيغة المُضارع (يُريد) وما أضاف ذلك إلى نفسه، فلم يقل: والله لا يظلم العالمين، فجاء بأبلغ عبارة: وَمَا اللّهُ يُرِيدُ فنفى إرادة الظلم من أصلها، والنفي المتوجه في الله يقتضي ثبوت كمال ضده؛ لأن النفي المحض لا مدح فيه، فكل نفي فيما يتصل بصفات الله ، أو أوصاف الرسول ﷺ، أو أوصاف القرآن، أو أوصاف الملائكة، يقتضي ثبوت كمال ضده، وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِين ما هو ضده؟ العدل، فيدل على ثبوت كمال عدله -تبارك وتعالى-، وأن الله متصف بالعدل الكامل.

وهذه الآية أيضًا تدل على تنزيهه -تبارك وتعالى- من الظلم، وأن ما وقع للعباد إنما هو بسبب جناياتهم كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة [المدثر:38] وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ يعني: عمله فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13].

فالإنسان يخطو -كما ذكرنا في الليلة الماضية- إما إلى الجنة وإما إلى النار باختصار، فيحتاج العبد أن ينظر في خطوته، إلى أين الوجهة في هذه الأعمال التي يعملها؟ وإلى أين توصله؟ وإلى أين المصير؟ فالجنة لها أعمال، والنار لها أعمال.

وكذلك أيضًا في هذه الآية الكريمة: إشارة إلى أن هؤلاء الكفرة الذين اسودت وجوههم ظالمون لأنفسهم، حيث وضعوا العبادة في غير موضعها، وعرّضوا أنفسهم للعذاب إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون [يونس:44] فالله إذا علم العبد أنه لا يظلم، ولا يريد الظلم أصلاً، فإن ذلك يدعو العبد إلى الاطمئنان الكامل لعدل الله ، فكل أحد يوفى عمله طيبًا أو سيئًا من غير نقص، لا يضيع منه شيء، ولا يتحمل أوزار الآخرين، إلا إذا كان متسببًا بها، كالذين يُضلون غيرهم، فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25] وقال ﷺ: ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء[3].

وهذا أيضًا يدعو العبد إلى محبة هذا الرب -تبارك وتعالى- المُتصف بكمال العدل، الناس في الدنيا يتظالمون، وحتى من يريد العدل قد لا يتمكن من إصابة عين الحق في علم الله في الفصل بين الناس، فالنبي ﷺ يقول: إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار[4]، فذكر أن الإنسان قد يكون ألحن بحجته من الآخر، فيقضي له بنحو مما يسمع، وليس ثمة إلا البينات والأيمان، فقد يحلف وهو كاذب، وقد يأتي بالشهود، وهم كذبة، ويأخذ حق أخيه، وقد لا يكون لأخيه بينة على الحق، فيضيع هذا في الدنيا، أما في الآخرة فشأن آخر، الأرض تتحدث، والجوارح تتحدث، ثم بعد ذلك يأتي الإقرار والنُطق منه بعد أن كان ينفي ويُنكر، ثم أيضًا الملك قد كتب ذلك جميعًا، والله فوق ذلك قد شهد عليه، ومن أسمائه الشهيد والرقيب والعليم والخبير واللطيف والرقيب، فكل هذه الأسماء، وما في معناها تدل على إحاطة علمه، وشهوده لأعمال خلقه، فأين المفر؟ وأين يذهب الإنسان من نظر الله ، ومن شهادة الأرض التي يمشي عليها، وشهادة جلده ورجله ويده وفرجه وسمعه وبصره؟ وما إلى ذلك، أين يذهب؟ فلا يحتاج إلى شهود آخرين؛ ولذلك فإن المنافقين يحلفون يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ يظنون أن الدنيا مثل الآخرة، الدنيا يُقبل فيها اليمين، لكن يعتقدون أن الآخرة كذلك أن الأيمان تروج، فيحلفون مجرد ما يقوم من قبره يبدأ يحلف "فيحلفون" فالفاء تدل على التعقيب المباشر، وهذا لغبائهم يحلفون أنهم ما قالوا، وما فعلوا، إلى آخره، لكن تنطق جوارحهم، وتنطق الأرض التي كانوا يمشون عليها، وكل ذلك في سجل لا يضيع منه شيء، ولا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، كما قال بعض السلف: ضجوا من الصغائر قبل الكبائر[5].

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. هذا الحديث في السنة لابن أبي عاصم برقم (515) وتعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي برقم (216) والتوحيد لابن خزيمة (1/348)
    والشريعة للآجري برقم (668) والأسماء والصفات للبيهقي برقم (435) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/152).
  2. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (6/41).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار برقم (1017).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الحيل، باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت، فقضي بقيمة الجارية الميتة، ثم وجدها صاحبها فهي له، ويرد القيمة ولا تكون القيمة ثمناً برقم (6967) ومسلم في كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر، واللحن بالحجة برقم (1713).
  5. ذكره الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (21/470) لبعض العلماء، ونسبه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/289) للفضيل بن عياض.

مواد ذات صلة