الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
(123) تتمة قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...} الآية 110
تاريخ النشر: ١٣ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 507
مرات الإستماع: 1092

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لم يزل الحديث متصلاً بما يُستخرج من الهدايات من قوله -تبارك وتعالى-: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون [آل عمران:110].

فقوله -تبارك وتعالى-: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ عرفنا أن خير أفعل تفضيل، فأُضيفت إلى النكرة هنا، وذلك للعموم، وقد مضى الكلام على أن هذه الأمة أفضل أمة أُخرجت للناس منذ خلق الله الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكانت مزيتها التي تميزت بها هي هذه الخصلة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.

تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ الأمر هنا، والنهي أوسع، وأعم من تخصيص معناه، أو تحديده بالأمر الذي يكون لازمًا، أو النهي الذي يكون لازمًا، وجازمًا، بمعنى أن الأصوليين يقولون بأن الواجب ما أمر به الشارع أمرًا جازمًا، والمندوب ما أمر به الشارع أمر غير جازم، والحرام ما نهى عنه نهيًا جازمًا، والمكروه ما نهى عنه نهيًا غير جازم، فهنا تأمرون بالمعروف يدخل فيه الأمر بالواجبات، والأمر بالمستحبات، والمندوبات، بالحث عليها، والتذكير بها، والترغيب في ذلك، وكذلك أيضًا النهي عن المحرمات، وكذلك النهي عن المكروهات، والمُشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه، وعرضه[1].

كذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ عُبر هنا بالفعل المضارع يمكن أن يكون ذلك باعتبار أن شرائع الإيمان متنوعة، ومتعددة، وكانت تنزل على النبي ﷺ فيؤمنون بكل ما نزل، وذلك إيمان، كذلك في أعمال الإنسان في كل نفس، وفي كل لحظة مما يتصل بالقلب، وما يتصل بالجوارح، فالإيمان: قول وعمل، قول باللسان، وعمل بالقلب والجوارح، ويمكن أن يُقال: قول اللسان والقلب، وعمل القلب واللسان والجوارح، فهو قول وعمل، ويمكن أن يُقال: هو قول، واعتقاد، وعمل، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح، والأركان، قال: وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ عُبر بالمضارع، يمكن أن يكون بهذا الاعتبار، فالصلاة إيمان، والصوم إيمان، والذكر إيمان، وقراءة القرآن إيمان، ونحو ذلك، هذا كله من الإيمان، وكل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به فالتصديق به لازم، وذلك إيمان، وهكذا فيما فرضه الله، وشرعه، فذلك يوجب اعتقاد صحته كما يوجب أيضًا العمل به، والانقياد له، والتسليم، كل هذا إيمان.

 وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ثم لم يذكر الإيمان بالملائكة، ونحو ذلك، يمكن أن يكون من باب الاكتفاء، حيث ذكر الإيمان بالله باعتبار أن الأصل الأعظم الذي لا يصح إيمان إلا به، وكذلك يمكن أن يُقال بأن الإيمان بالله يقتضي ويستلزم الإيمان بكل ما أخبر به، ومن ذلك الملائكة، والكتب، والرسل، والقدر، وكذلك أيضًا اليوم الآخر، وما يجب الإيمان به، فهذا كله من مقتضياته، أو هو منه هو من الإيمان لكن ذُكر الإيمان بالله؛ لأن ذلك يمكن أن يكون من مقتضياته، ولوازمه، ونحو ذلك، حينما ذُكر وحده.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ فذكر الإيمان بالله -تبارك وتعالى- باعتبار أنه الأصل، والأساس فلا يصح أمر بمعروف، ولا نهي عن المنكر من غير إيمان، لكن قلنا: إنه أُخر هنا بعد الأمر والنهي عن المنكر إما لإبراز أهمية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو باعتبار أن هذه الأمة قد تميزت بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان قضية مشتركة بين الأمم، أو أن ذلك للتعريض بأهل الكتاب الذين أضاعوه، فاستحقوا اللعن على ذلك، لكن ذكر الإيمان بالله هنا هو الذي يكون أساسًا لسائر الأعمال، فإن شروط قبول العمل كما ذكرنا في عدد من المناسبات ثلاثة:

أولها: الإيمان الصحيح.

والثاني: الإخلاص.

والثالث: الموافقة للشرع.

فذكر الإيمان، ثم إن هذا الإيمان بالله هو الذي يتقوم به المعايير والموازين الصحيحة في معرفة المعروف والمنكر، أما إذا تُرك ذلك لأهواء الناس وأذواقهم ومواجيدهم؛ فإن ذلك يكون في غاية الاختلال والاضطراب كما هو مشاهد، فالعالم الذين لا يؤمنون بالله يستحسنون المنكر، ويرونه من المعروف، وقد يرون المعروف منكرًا.

فهؤلاء الكفار قد يرون أن الزنا من المعروف، وأن العفاف من المنكر، وقد يرون أن أكل ما حرم الله -تبارك وتعالى- من الربا ونحو ذلك أنه من المعروف، وأن التورع من ذلك والتحرز منه أن ذلك من المنكر عند هؤلاء، كما قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275]، فجعلوا الربا كالأصل الذي يُقاس عليه البيع المُباح لشدة مكابرتهم، بل الإيمان والتوحيد نفسه عند هؤلاء الكفار من أعظم المنكرات أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب [ص:5].

وكذلك الإيمان باليوم الآخر، فقد استنكروا ذلك غاية الاستنكار أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَة ۝ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَة [سورة النازعات:11-12]، فهذا كله في معاييرهم الفاسدة، ومقاييسهم المنحرفة، حيث اختلت الموازين والمعايير، فصاروا يستحسنون الشر والمنكر، ويرفضون الحق والمعروف، وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ.

يؤخذ من هذه أيضًا الآية كما جاء عن عمر : "من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤدي شرط الله فيها كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [سورة آل عمران:110]، فمن سره أن يكون منها، فليقم بهذه الأوصاف، ويتحقق بها من أجل أن يتحقق فيه ما ذُكر.

كذلك أيضًا قوله -تبارك وتعالى-: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم هذا فيه تعريض بأهل الكتاب أنهم لم يؤمنوا، وكذلك أيضًا فإن ذلك يدل على كمال الإنصاف والعدل؛ لأن الله قال: مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون كما يدل على لطفه -تبارك وتعالى- وسعة رحمته.

انظر إلى هذا الرب الرحيم الملك العظيم الذي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة:255] هذا بالنظر إلى كُرسيه، فكيف بالعرش، فكيف برب العرش ، فالأرض ومن عليها بالنسبة إلى هذه المخلوقات العِظام في هذا الكون لا تساوي قدر حبة من رمل بمن عليها، ومع ذلك يتلطف هذا التلطف وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ومن أهل الكتاب حتى يتلطف بهم، ومن العباد، ومن الخلق أمام عظمته ؟! لا شيء، ومع ذلك وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ولاحظ إطلاق الخيرية لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ما قال في الآخرة، أو في القبر، أو في الدنيا، فدل ذلك على أنه محمول على الإطلاق، حذف المتعلق يفيد العموم النسبي، يعني: لكان خيرًا لهم مطلقًا في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة؛ لأن النجاة والسعادة لا تتحقق إلا بتحقيق الإيمان.

كذلك يؤخذ من هذه الآية مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يعني: الذين تابعوا النبي ﷺ وقدم هؤلاء مع قلتهم يمكن أن يكون للتنويه بهم، ولشرفهم، فقدموا على غيرهم، وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون ودخول أل يدل على أنهم استحقوا الوصف الكامل من الفسق، والفسق أصله يُقال للخروج، فالخروج من الإيمان فسق، وهو الفسق الأكبر، والخروج من طاعة الله يُقال له فسق فأصل ذلك يُقال للخروج كما يُقال في كلام العرب فسقت الفأرة من جُحرها إذا خرجت للإفساد، ويُقال فسقت أيضًا النواة من التمرة، أو نحو ذلك بمعنى خرجت، فهكذا كل من كفر بالله كفر برسله، أو بكتبه، أو نحو ذلك فهو فاسق بنص القرآن.

 مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ما قال: منهم مؤمنون، وإنما قال: مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يعني الإيمان المعهود عندكم، آمنوا بالرسل جميعًا منهم محمد ﷺ، وهكذا آمنوا بالكتب، ومنها القرآن مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون وهذا يدل على أن هؤلاء من أهل الكتاب سيبقى أكثرهم على الكفر - والله أعلم - وأن الذي يؤمن منهم قلة، وأهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى.

هذا ما يتعلق بهذه الآية.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الخوارزمي في جامع المسانيد، (1/114)، وهو عند ابن ماجه بلفظ: ((فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)) كتاب البيوع وغيرها، باب الترغيب في الاكتساب بالبيع وغيره، برقم، (1731)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم (3219).

مواد ذات صلة