الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(082) تتمة قوله تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ...} الآية 73
تاريخ النشر: ١٧ / صفر / ١٤٣٨
التحميل: 481
مرات الإستماع: 970

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما زال الحديث متصلاً في الكلام على قوله -تبارك وتعالى- عن قيل اليهود: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم [آل عمران:73] وقد ابتدأنا الحديث عن هذه الآية بذكر المعنى العام، ثم ذكرت شيئًا من الفوائد التي تُستخرج من هذه الآية الكريمة، فقولهم هذا: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ فهذا -كما سبق- يدل على حسد وكبر وتعالٍ وتعاظمٍ حمل أصحابه على رد الحق والوحي، وتكذيب الرسول ﷺ الذي عرفوا صفته معرفة دقيقة، فهكذا يفعل الحسد بالإنسان، وهكذا تفعل هذه الأدواء من الكبِر والعُجب، ورؤية النفس، حيث يشعر الإنسان بأنه يحتكر الصواب والحق، وأن الناس لا يبلغون مبلغًا يمكن أن ينتفع بما معهم، أو أن يقتدي بأحد منهم، أو أن يكون تابعًا له، فتحمله تلك الأوصاف على ركوب المراكب الصعبة التي تقوده إلى النار، وهو يعلم، ومع ذلك يُصر على هذا.

وقد رد الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة بقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ فهو ملكه، والخلق خلقه، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68] يختار مِن مَن؟ يختار ممن خلق، من هذا الخلق، فيصطفي من شاء للهداية، ويصطفي من شاء للنبوة، فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا اختيار للخلق مع اختياره ، كما قال الله -تبارك وتعالى-: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء:54] فهذا كله بيده -تبارك وتعالى-، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير [آل عمران:26].

فهنا رد عليهم بقوله: إِنَّ الْهُدَى بهذه الجملة المؤكدة بـ(إنّ) وكما ذكرنا أن ذلك بمنزلة إعادة الجملة مرتين للتأكيد، إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ ودخول (أل) على الهدى يفيد العموم، الهدى كله هو هدى الله -تبارك وتعالى-، لا يملك أحد من ذلك قليلاً ولا كثيرًا، غاية ما هنالك أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأتباعهم، يُبلغون عن الله، فهم يُرشدون الناس، وهذه هداية الإرشاد، أما هداية التوفيق فذلك إلى الله -تبارك وتعالى-.

قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وذكرنا في الليلة الماضية أن هذا متصل بما قبله، وأن قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ جملة معترضة من كلام الله، فيكون قولهم: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ، أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ كراهة أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم، أو لئلا يؤتى أحد مثلما أوتيتم، يعني: من العلم والوحي والنبوة، ونحو ذلك، فهؤلاء يحسدون الناس على ما أعطاهم الله -تبارك وتعالى-، وأولاهم به، ولا يبدون شيئًا مما عندهم من العلم.

وكذلك أيضًا لا يتبعون أحدًا من الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، إلا أن يكون تابعًا لملتهم، فكل هذه المعاني المذكورة في هذه الآية قد تدخل فيها، يعني: لا تؤمنوا ولا تثقوا بأحد، فتُظهروا شيئًا من المعلومات عندكم، فيستوون معكم في العلم الذي اختصكم الله به، أو يحتجون بها عليكم، وأنكم عرفتم صفة هذا النبي، ومع ذلك لم تؤمنوا به، هكذا قالوا، وهكذا زعموا، وهذا جهل منهم بالله -تبارك وتعالى-.

وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ فهذا التعبير: ولا تؤمنوا إلا لــ، يقال: آمن لفلان، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] يمكن أن يكون بمعنى الإقرار والإذعان والانقياد، لكن الإيمان يأتي بمعنى الإقرار والتصديق الانقيادي والإذعاني، تقول: آمن به، وآمن له، وتعديته باللام (له) فيه معنى الثقة؛ لأن لفظ الإيمان يرتبط بمعنى الأمن؛ ولهذا قال بعض المفسرين: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ يعني: لا تثقوا ولا تطمئنوا ولا تركنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ فإياكم أن تبدوا لهؤلاء شيئًا مما في كتبكم من المعلومات، ونحو ذلك، فتعديته باللام، فيه معنى الاطمئنان، والركون إليه، والثقة به، فكأنهم يقولون: لا تثقوا بأحد، فتبدوا له شيئًا من العلوم التي عندكم إلا أن يكون من أتباع دينكم، وهذا هو المعنى الثاني الذي ذُكر في هذه الآية.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ هذا أيضًا مع قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وقد ذكرنا قاعدة: وهي أن حكاية أقوال القائلين في القرآن إذا ورد قبلها، أو في ثناياها، أو بعدها ما يدل على البطلان، فهي باطلة، وإن سكت عنها فيكون ذلك غالبًا دليلاً على صحتها، فهنا قال: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ رد عليهم بأن قولهم هذا باطل.

ويُؤخذ من قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى جواب لأهل العناد، فطول المجادلة معهم لا يُجدي؛ لأن دوافعهم الحسد، ومن كان بهذه المثابة فهو لا ينتظر الدلائل والحُجج، ولا يثنيه ذلك عن ما هو فيه من الغي والباطل، فجاء هذا الرد قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أنتم لا تملكون الهدى، فذلك بيد الله ، ولا يستطيع أحد أن يحول بين هدى الله -تبارك وتعالى-، ومن أراد هدايته من خلقه، فهذه الأمور ليست إلى الخلق، ولو جُعلت هذه الأمور: الأرزاق المعنوية، والعطايا والهبات، والمِنح الربانية، ونحو ذلك، للخلق لرأيت الظلم الكثير، إذا كان الناس يتحاسدون فيما بينهم فيما يُنزله الله من الخزائن والأرزاق على من شاء بعلم وحكمة، فكيف لو كانت في أيديهم؟!

ثم أيضًا حصول الهداية لفلان أو لعلان، فالله لا يُضيق عليهم طُرق الهداية، ولا يكون ذلك نقصًا في هدايتهم، إذا سلكوا الطريق، ولكنها النفوس التي تضعف وتنحسر، حتى تصير دافعة للحق، ومعارضة له، ومعادية لحملته من الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وأتباع الرسل، فالطريق مُشرعة، فمن أقبل على الهدى والخير، ودعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، رُجي له التوفيق والسداد والهداية والإمداد، ولكن حينما يضيق أُفق الإنسان، ويعتقد أنه يجب أن يسير على حُطام الآخرين، حيث يغرقون بالجهالة والضلالة والتعاسة من أجل أن يرتفع هو، فهذا نظر قاصر، فما يُعطيه الله ويمنحه لأحد من خلقه ليس ذلك على حساب ما يمكن أن يصل إليك، مما قدره الله -تبارك وتعالى- لك، فلا حاجة إلى مثل هذا الحسد، وإنما على الإنسان أن يغتنم ألطاف الله -تبارك وتعالى-، والهدايات إذا توجهت إليه، ولا يُدير ظهره لها، فإن ذلك يكون سببًا للحرمان، والطبع على القلب، وهذا أمر معلوم مُشاهد.

وأيضًا قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ يُشعر بأن هؤلاء الذين يريدون أن يحتكروا ما عندهم، أو أن يمتنعوا عن الإيمان إلا برسول يكون من أهل ملتهم ليسوا على هدى وحق وصواب، فجاء هذا الاعتراض بهذه الجملة: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ يعني: الذي أُعطيه النبي ﷺ، وحُرمتم منه، فهذا يُشير إلى هذا المعنى، والله تعالى أعلم.

وأيضًا هذا فيه تسلية لأهل الإيمان: أنه مهما بذل الأعداء من محاولات لطمس الحق، والتضليل والحرب المُعلنة والخفية على الإيمان وأهله، والحق وحملته، فإنهم لن يستطيعوا ذلك؛ لأن الهدى هدى الله، فمن شاء الله -تبارك وتعالى- هدايته من الأفراد، أو المجتمعات، أو نحو ذلك، فإن الله يهديه، ولو اجتمع من في الأرض على إضلاله؛ ولهذا نسأل في كل ركعة: اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم [الفاتحة:6] ونتوجه إليه بذلك؛ لأنه المانح وحده للهداية، وهو المالك لها، وأما الخلق فلا يملكون من ذلك منحًا قليلاً ولا كثيرًا، ولا يملكون منعًا للهداية؛ ولذلك فإن الأعداء عبر القرون والعصور فعلوا الأفاعيل من أجل صد الناس عن الحق، ومع ذلك هدى الله إليه من شاء من عباده، وتأمل سورة الأخدود: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُود النَّارِ ذَاتِ الْوَقُود ۝ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُود ۝ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود ۝ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد [البروج:4-9] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيق [سورة البروج:10] ثم ماذا؟ بقي الحق مع وجود هذا الإحراق، خدوا الأخاديد في أفواه السِكك، كما جاء في الحديث، ثم ألقوا المجتمع بأكمله، الرجال والنساء والأطفال، كل من لم يرجع عن دينه أُلقي في هذا الأخدود، فكان ماذا؟ انتصر الحق، وذهب أولئك إلى جهنم، وبئس المصير، مع اللعن في الدنيا، والعيب والذم، فما أغنى عنهم ذلك شيئًا، فلا أحد يستطيع أن يحجب الشمس عن الخلق، فهدى الله أعظم من الشمس؛ ولذلك قد تجد في بيئات بعيدة قد أُذيق أهلها ألوان العذاب في صدهم عن دينهم، والشيوعية حينما قامت في أرجاء واسعة من الأرض، ماذا كان؟ من شاء الله هدايته بقي على الهداية، واليوم أعداء الله يحاربون هذا الدين حربًا شعواء، أسقطوا ما كانوا يتمدحون به من شعارات وقيم، ودعاوى زائفة، كنا نعلم أنها زائفة، لكن من يستطيع إقناع الناس أنها زائفة، أما اليوم فعرف هذا الجميع، لو أنفقت ما في الأرض جميعًا من أجل أن تُبين للناس زيف هذه الدعاوى التي يدعونها من الإنسانية والحرية والحقوق التي يدعونها للإنسان، وما إلى ذلك لن تستطيع في السابق، لكن الآن يراها كل أحد، انكشفوا وظهرت سوءتهم، وسوءة تلك الحضارة المزعومة، وأنفقوا الأموال الطائلة، وجندوا ما يستطيعون من الإعلام لتشويه صورة الإسلام، ومع ذلك يأتي الإعلان من قِبلهم أن الأكثر انتشارًا في العالم هو الإسلام، وأن المسلمين هم الأكثر في العالم بالنظر إلى أتباع الأديان، يعني: أكثر من النصارى، وهذا لم يحصل قط في التاريخ إلا في هذه الأيام، هذه أمور لا يملكها الناس، ولا يستطيعون أن يحولوا بين هدى الله والحق والنور والقلوب التي يتوجه إليها، ومهما بذلوا، وحاولوا وشوهوا وسخروا، فإنهم لن يستطيعوا، لكن هم يبذلون ما يستطيعون؛ وذلك لا يُستغرب منهم، ولكن لا ينبغي لأحد من أهل الإيمان أن يكون مواطئًا لهم، أو معينًا لهم، أو آلة يستعملونها في ما يريدون؛ ليصلوا إلى إضلال المسلمين، فالرجل على ثغر، والمرأة على ثغر، فيثبت كل أحد أمام هذه العواصف التي سُرعان ما تنقشع وتزول، ويبقى الحق ثابتًا راسخًا أعظم من رسوخ الجبال، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون [الصف:8] فهذه الأفواه ماذا عسى أن تفعل؟ وإلى أي مدى يمكن أن يصل هذا النفس الضعيف حينما ينفخ الإنسان ليُطفئ نور الله -تبارك وتعالى-؟!

قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ ويؤخذ من ذلك أيضًا: أن من رام الهدى فعليه بالوحي، وليس الهدى هو هدى العقل، فالعقل وحده لا يوصل إلى المطلوب، وليس الهدى بالأذواق والمواجيد، وليس الهدى بالخرافة، وليس الهدى باتباع الفلسفات والعقول، والمنطق اليوناني، أو غير ذلك مما يتجدد بأسماء مختلفة، وليس باتباع النِحل والمذاهب والآراء، وإنما الهدى هدى الله، فمن شاء الهدى فليُقبل على كتاب الله، وسنة رسوله ﷺ، الشارحة لهذا الكتاب، على فهم السلف الصالح، فهذا الطريق الوحيد، ولا يوجد طريق سواه، ومن سلك غير هذا الطريق أوصله إلى الضلالة، وكل ضلالة في النار.

ورد عليهم أيضًا بقوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم فإذا كان الفضل بيد الله -تبارك وتعالى-، فيكون التوجه إليه في طلب الفضل، والتعلق به دون التفات إلى من سواه، فهؤلاء لا يملكون فضلاً، حتى يمنعوكم منه، ولا يملكون هداية، حتى يحجزوا ويحولوا بينكم وبينها، فالهدى هدى الله، والفضل هو فضل الله -تبارك وتعالى-، فتوجهوا إليه، يُفيض عليكم من ألوان الفضل، مما يحصل به الرِفعة في الدنيا، والعز والتمكين والقوة، ويحصل به أيضًا النجاة والفلاح في الآخرة، قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ فيتوجه إليه، أما هؤلاء فلا تكترثوا بهم، ولا تلتفوا إليهم، فهم لم يُسعفهم حالهم بالاهتداء، ومن كان فاقدًا للشيء، فإنه لا يستطيع أن يُقدمه لغيره، هم في ضلالة وعماية، والأفضال كلها والخيرات الدنيوية والأخروية بيد الله .

قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ وهذا فيه إثبات صفة اليد لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته.

وإذا كان الفضل بيد الله فلماذا الحسد؟ ولماذا ينظر الإنسان إلى ما أُعطي الآخرون، ثم بعد ذلك تتحرك دواعي الحسد في نفسه، فيحسد من حقق نجاحًا أو ربحًا في تجارة، أو حقق شيئًا من الكمالات، فالفضل بيد الله الذي أعطاه يُعطيك، فخزائنه ملئ؛ ولهذا جاء هذا التعقيب: وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم واسع العطاء، واسع الغنى، واسع الأوصاف، إلى غير ذلك من ألوان المعاني الداخلة تحت هذا الوصف الذي تضمنه هذا الاسم الكريم (السعة) فهو واسع الجود، واسع العطاء، واسع الغنى، واسع القدرة، فيتوجه إليه في طلب الكمالات والفضائل والألطاف الربانية، دون أن تتحرك النفس وتضيق بما يُعطى ويوهب للآخرين، هذا الذي يُعطى للآخرين لا يكون نقصًا فيما قُدر لك، فلو اجتمع الأولون والآخرون في صعيد واحد، فسألوا الله، فأعطى كل واحد مسألته، مهما كانت، ما نقص ذلك من ملك الله شيئًا، إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، فماذا ينقص الإبرة إذا أُدخلت البحر؟ لا شيء، هذا لا ينقص مما في يد الله وفي خزائنه شيئًا، فكون الإنسان تنقبض نفسه إذا رأى قريبه، أو جاره، أو من هو بعيد عنه، أو غير ذلك، أولاه الله من الغنى أو غير ذلك فيحسده على هذا، لماذا الحسد؟ هذا لا معنى له إلا ضيق العطن والجهل بالله -تبارك وتعالى-، والاعتراض على قدره.

وقوله -تبارك وتعالى-: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم [آل عمران:74] يختص برحمته من خلقه من يشاء بالنبوة، والهداية، والكمالات، وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم ذو إحسان وعطاء واسع، كثير عظيم، لا يُقادر قدره، فكونه يختص من يشاء برحمة معنوية، أو حسية من الأرزاق ونحوها، فهذا تدبيره وتصريفه، وهو من معاني ربوبيته -تبارك وتعالى-، والمعترض على ذلك معترض على ملكه وتقديره وتدبيره وربوبيته، يريد أن يتصرف مع الله، لماذا يُعطى هذا؟! لماذا ينزل المرض بهذا وهذا يبرأ؟ لماذا البلاء ينزل بزيد، ولا ينزل بعمرو؟ ونحو ذلك مما يقوله من ساء ظنه بالله -تبارك وتعالى-.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة