الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(155) قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ...} الآية 145
تاريخ النشر: ٢٨ / جمادى الأولى / ١٤٣٨
التحميل: 545
مرات الإستماع: 929

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى- في بيان حقيقة ثابتة لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِين [آل عمران:145]، قال هذا بعد قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين [آل عمران:144]، وهذا كله في سياق وقعة أُحد، وذلك ما جرى من إشاعة مقتل رسول الله ﷺ، وما حصل من جراء ذلك من وقوع الوهن في نفوس أصحابه، ثم بين الله -تبارك وتعالى- أن الموت قضية مقدرة لا تتقدم ولا تتأخر، وأن أولئك أيضًا الذين كانوا يتساءلون عما جرى لهم في وقعة أُحد حينما قُتل من قُتل من أصحاب النبي ﷺ، وتكلم المنافقون لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ [آل عمران:156]، فهذا كله خلاف الإيمان بقدر الله -تبارك وتعالى-.

فهنا وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ، هذا يفيد الامتناع أن ذلك لا يكون بحال من الأحوال، ولا يقع إلا بإذن الله، يعني: الإذن الكوني، إلا بقضائه وقدره، كِتَابًا مُّؤَجَّلاً لا بد أن يستوفي المدة التي قدرها الله له كِتَابًا مُّؤَجَّلاً.

ثم قال: وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا يطلب هذا الحُطام، ويريد بعمله الدنيا، فمن أجلها يعمل، ومن أجلها يسعى، ومن أجلها يكدح، ومن أجلها يغدوا ويروح نُؤْتِهِ مِنْهَا نعطيه ما قسمناه له من الرزق، ولا حظ له في الآخرة، ومن يطلب بعمله الجزاء من الله الدار الآخرة وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا، يُعطى من ذلك الأجر والثواب، والمنازل العالية في الجنة، وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِين الذين وحدوا الله وأطاعوه، وأرادوا ما عنده من الأجر والثواب والمنازل العالية في الجنة.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً، هذه الصيغة تفيد العموم فـ"نفس" نكرة في سياق النفي وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أي نفس، لا يمكن أن يقع خطأ، أو أن يستطيع أحد كائنًا من كان سوى الله -تبارك وتعالى- أن يُقدم أجل أحد من الناس لحظة، ولا يستطيع أحد، ولو اجتمع من بأقطارها من الأولين والآخرين من أمهر الأطباء على أن يؤخروا أجل إنسان لحظة واحدة لم يستطيعوا، فهذه قضية ينبغي أن نتيقنها، فعش يومك، ودع الغد لله -تبارك وتعالى- فهو غيب لا تدري ما الذي يُقضى فيه، فقد تحمل هم أمر بعد سنة، وما تدري هل تُدرك ليلتك أم لا؟

كذلك أيضًا ما يقع في نفوس الناس من الحسرات لو فلان لم يفعل كذا لنجى من هذا المكروه لربما تصوروا أن سفره بالوسيلة الفلانية هو الذي أودى به، أو أن المرض الفلاني هو الذي أودى به فيتحسرون، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: فإن لو تفتح عمل الشيطان[1]، تفتح له الباب ليُدخل الخواطر السيئة والوساوس والحزن والقلق والضيق أن الإنسان قد فاته شيء من نصيبه مما قُدر له، والواقع أنه لم يفته شيء، سافر بمركبة أو سيارة، سافر على جمل، سافر على قدميه، سافر بالطائرة، سافر بالقطار، سافر بالمراكب البحرية، أجله هو أجله، وسيسقط في اللحظة، والمكان الذي قُدر له أن يقع فيه، لا يمكن، هو يُساق إلى أجله.

تجد الإنسان لربما يستعجل، وآخر يتباطأ كل ذلك من أجل أن يقع له هذا المقدور في اللحظة التي قدرها الله له قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا [التوبة:51]، فهذه عقيدة المؤمن التي تبعث على الانشراح والراحة وطيب النفس وطيب العيش، وأما من لا يؤمن ويستيقن بهذه الحقيقة، فهو دائمًا يتآكل، فإن أصابه شيء فهو دائمًا لو أني لم أفعل كذا لم يحصل، وحتى لو لم يفعل لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154].

وهكذا، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ [الجمعة:8]، ولم يقل مُدرككم أو مُلاحقكم، وإنما فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ، وجهًا لوجه أمامك هذا الذي تفر منه سيُقابلك، قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ [الأحزاب:16] لن ينفع، وهنا نفى بأقوى صيغة من صيغ النفي "لن" لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ، ولهذا قيل: "لا يُنجي حذر من قدر"، وليس معنى ذلك أن يترك الإنسان الأسباب والتوقي فالنبي ﷺ قال: أعقلها وتوكل[2]، ولكن لا يكون اعتماده على هذه الأسباب، ولا يتعلق قلبه بها، يبذل السبب فيتوقى في سيره وسفره وإقامته.

وكذلك يتوقى العِلل والأوصاب، وإن نزل به شيء من ذلك يتداوى، وهذا التداوي مشروع قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا، وقد يكون مُباحًا، وقد يكون محرمًا إذا كان بمحرم، فهنا وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ، أي: أي نفس، أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً.

فهؤلاء الذين يقولون مثلاً رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77]، لن ينفعهم هذا التأخير الذي طلبوه، ولن يؤخر آجالهم، فهذا الذي يخوض غمار المعارك، والآخر الذي يجبُن، ولا يستطيع المواجهة إطلاقًا أجلهما واحد، هذا الذي أقدم لم يتقدم أجله، وذاك الذي أحجم لم يتأخر أجله، ولهذا قال الشاعر:

لو أن عبدًا مُدرك الفلاح "يعني البقاء" لناله مُلاعب الرماحِ[3]

يعني: لناله الشجاع المقدام، كما قال خالد بن الوليد -رضي الله عنه وأرضاه-: "ما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجُبناء"[4]، كم خاض المعارك وتكسر في يده من السيوف في ضرب الأعداء والأبطال، ومع ذلك لم يكن ذلك سببًا لهلاكه، وإنما هذه أمور مُقدرة.

وقد ضرب الله في سورة البقرة مثلاً بأولئك الألوف أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]، وها نحن نُشاهد أُناسًا يفرون من مواطن الحرب، ويُدركهم الموت بحادث في طريقهم أو بانقلاب أو بإصابات غير مقصودة، ونحو ذلك فيكون هلاكهم فيها، وترى الرجلين والعشرة والأُسرة كاملة في سيارة من كُتب عليه الموت يموت، ومن لم يكتب عليه الموت لم يمت، ولن يموت بسبب هذا.

وتجد الرجل يدخل في غرفة العمليات يُجرى له عمليات كبيرة، قل من ينجو منها، ويخرج سالمًا، وآخر يُجرى له عملية تافهة لا تُذكر، ويكون موته بسببها، وهذا مُشاهد.

بل أكثر من هذا أن الرجل يكون في سيارته، لم يتحرك من بيته، ويموت في سيارته، وقد يموت على فراشه، فهذه آجال، وترى الرجل الذي فيه أنواع العِلل، ولسنين متطاولة، ولا يعرف من حوله في حال من الغيبوبة عن الناس على كِبر السن، وتنوع الأمراض، وينتظر الأجل سنوات، وهو على فراشه لا يتحرك، ولا يعرف أحدًا، وتجد الإنسان الآخر لأدنى عارض، لربما مات، فكم مات في مدة بقاء هذا على فراشه؟ خلق.

وهذا الإنسان الذي قد يمرض، ثم يبقى سنوات، وهو في هذا المرض تجد كثير من الأصحاء ماتوا في هذه المدة، فكل ذلك عند الله، ولو قيل لهذا المريض ليس بك علة النتيجة واحدة، الأجل هو الأجل، لم يتغير، لكنه شيء في النفس يفرح الإنسان، ويُسر، ويظن أنه طال به العمر، وتمتد به الآمال، والواقع أنه لم يتغير شيء، هو الأجل، ولو قيل لأصح الناس بأنه عليل، وهو لا يشعر بعِلة لقرب الموت، وتقاصرت آماله، هذا أمر مُشاهد، وكل ذلك من ضعف اليقين، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم اليقين الكامل.

فلن تموت نفس حتى تستوفي الأجل كما قال النبي ﷺ: لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها[5].

وكما ذكرت في بعض المناسبات أن هاتين القضيتين هما أكثر ما يقلق عليه الناس: الزرق والأجل، فجاء بهذه الطريقة بأقوى صيغة من صيغ النفي لن تموت نفس، نكرة في سياق النفي أي نفس، فالخوف والهلع أو الحرص كل ذلك لا يُغير من قدر الله -تبارك وتعالى-، وهكذا البذل والإقدام، ونحو ذلك أيضًا لا يُقصر عُمرًا، وهذا أيضًا يدل على أن الموت مخلوق، وما يُصيب الإنسان كل ذلك من خلق الله -تبارك وتعالى-.

فالله يقول: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله، فما كان صادرًا عن إذنه فهو مخلوق، يعني: إلا بقدر الله -تبارك وتعالى-، وكما قال الله : الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك:2]، فالموت مخلوق، وهو يُصور يوم القيام في صورة كبش أملح ثم يُذبح بين الجنة والنار.

كذلك أيضًا كما قال الله -تبارك وتعالى-: كِتَابًا مُّؤَجَّلاً، وذلك كما في قوله: فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون [يونس:49]، والساعة هي المدة من الزمان لا يستأخرون ساعة إذا جاء الأجل، ولا يستقدمون وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا [المنافقون:11].

ولاحظ "لن" وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا أي نفس نكرة في سياق النفي، إِذَا جَاء أَجَلُهَا، لن تتأخر.

وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع[6]

وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاق ۝ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاق [القيامة:29-30]، فعند ذلك لا بد من الرحيل لا ينفعه طبيب ولا دواء ولا رُقية إذا كان الله -تبارك وتعالى- قد قضى بانقضاء أجله.

هذا ما يتعلق بهذا الجزء من الآية، والوقت أدركنا، نتوقف عند هذا.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، برقم (2664).
  2. أخرجه الترمذي في سننه، برقم (2517)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1064).
  3. انظر: الأساليب، والإطلاقات العربية، للمنياوي، (61).
  4. أخرجه ابن كثير في تفسيره، (1/369)، والدينوري، في المجالسة، وجواهر العلم، (179)، وقال: إسناده ضعيف جداً، وهو حسن من طريق آخر.
  5. أخرجه ابن الأثير. انظر: جامع الأصول في أحاديث الرسول، (20/117)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب، برقم، (1702).
  6. انظر: قواعد الشعر، لثعلب، (55).

مواد ذات صلة