الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(157) قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ...} الآية 146
تاريخ النشر: ٠٥ / جمادى الآخرة / ١٤٣٨
التحميل: 511
مرات الإستماع: 984

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

في هذا السياق سياق الحديث عن غزوة أُحد، وما عزى الله -تبارك وتعالى- به أهل الإيمان لمُصابهم في تلك الوقعة، وما حصل به من تعزيز النفوس، وتخفيف البلاء، وكان مما ذكر الله -تبارك وتعالى- في ذلك ما يتصل بالاتساء بالسابقين، وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين ۝ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين [آل عمران:146-147]، الآيات.

فقوله -تبارك وتعالى-: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، أنبياء كُثر قاتل معهم جماعات، وأتباع كثير، فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ، هذه الأوصاف الثلاثة متقاربة في المعنى، فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ، وقد اختلفت عبارات المفسرين في التفريق بينها، ولكن الوهن يمكن أن يُفسر بضعف العزائم، وما يحصل من الفتور فتنتقض عزائمهم بحسب ما ألم بهم من الهزيمة، والقتل، فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ، من الجراح أو قتل النبي كما سيأتي على إحدى القراءتين، وَمَا ضَعُفُواْ، الضعف خلاف القوة، أي: أنه لم يصدر عنهم فعل الضعيف وعمل الضُعفاء، وإنما كانوا في غاية القوة، قوة الأبدان، والوهن ضعف العزائم، وذلك بضعف النفوس، وما يحصل فيها من الضعف الذي يكون بسبب المصيبة والألم والهزيمة، وَمَا اسْتَكَانُواْ، فالاستكانة تكون ظاهرة على صاحبها فبعد خور العزائم، والأداء الضعيف يكون الاستسلام للعدو، والترك لمجاهدته ومقاومته ومدافعته، فكأن الإحباط يكون مسيطرًا على نفوس هؤلاء فتستكين جوارحهم، وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين الذين يصبرون على أقدار الله المؤلمة، وعلى أوامره الشاقة، وعن مخالفة أمره، وعن ارتكاب معصيته.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، "كأي" هذه يقولون بأنها مركبة من كاف التشبيه وأي؛ فصارت بهذا التركيب دالة على التكثير، {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، وعلى القراءة الأخرى المتواترة أيضًا، وهي قراءة نافع وحمزة وأبي عمرو البصري (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)، والقراءة التي نقرأ بها وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، هذه قرأ بها باقي السبعة، هي قراءة الجمهور، (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتلَ) الوقف هنا يختلف فيختلف المعنى على كل قراءة من هاتين القراءتين.

فإذا قرأت: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِلَ)، ووقفت هنا؛ يكون القتل وقع على النبي، أنبياء كُثر قتلوا، فَمَا وَهَنُواْ، أي: الأتباع معه ربيون كثير، معه جماعات كثيرة، فما وهنوا لقتل مقدمهم ونبيهم وقائدهم وقدوتهم، فكيف يحصل لكم الوهن؟

حينما أُشيع أن رسول الله ﷺ قد قُتل، وقد مضى في الآيات قبلها وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، فهنا يذكر لهم أولئك الذين وقع لهم مثل ذلك، بقتل نبيهم، فما كان ذلك سببًا لفت الأعضاد، والضعف، والاستكانة، والهوان أمام العدو، بل جاهدوه، وصاروا على الطريق نفسه، ومضوا على ذلك؛ لأنهم يتصلون بالله -تبارك وتعالى-، ويرجون ما عنده، وذلك لا يتوقف على وجود النبي بين ظهرانيهم.

وعلى الوصل في هذه القراءة (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ) [آل عمران:146] يكون القتل وقع على الربيين، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ كثير من الأنبياء قتل معهم أتباع كثُر، فمن بقي معه على قيد الحياة لم يضعُف، ولم يستكن، ولم يتضعضع أمام عدوه لما أصاب إخوانه من القتل الكثير، حتى استحر ذلك فيهم، وإنما مضوا على نفس الطريق، فهذان معنيان صحيحان.

والقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى، فهما بمنزلة الآيتين، فهذه قراءة لها معنى، وهذه قراءة لها معنى، وكذلك مواضع الوقف الصحيحة، المبنية على أصل صحيح، وليس على ما قد يستحسنه بعض من لا يفهم المعنى، ولا الإعراب، إنما يفعل ذلك تطريبًا للناس، للسامعين، أو لمن يُصلي خلفه، فيأتون بالإغراب في مواضع في الوقف تُفسد المعنى، بينما هنا هذه وجوه صحيحة.

وعلى القراءة الأخرى وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ إذا وقفت هنا تقول: مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ، ويمكن الوصل وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ، يعني: من الجراح والأذى والألم، وما إلى ذلك، هذا ما يتصل بمعنى هذه الآية الكريمة.

يؤخذ منها من الفوائد، والهدايات: أهمية القدوة والأسوة، فالقرآن يذكر ذلك في هذا الموضع، ويذكره في مواضع أخرى، في التأسي برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وفي إبراهيم ، والذين آمنوا معه.

وهكذا في قصص الأنبياء، في سياقات طويلة في القرآن، إنما يُذكر ذلك من أجل التأسي والعِظة والعبرة، ولذلك يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد: الاعتبار والاتعاظ بما جرى لمن قبلنا، وكذلك أيضًا التخفيف على النفوس، وذلك أثر لهذه القصص، والأخبار، والأمثال المضروبة، فيحصل للنفس سلوه.

هذا الطريق الشاق الذي يلحقكم فيه العناء والعنت والأذى والألم والجراح والقتل سلكه سالكون قبلكم، أنبياء ومعهم أتباع كثير، فلم يحصل لهم تراجع ولا تضعضع ولا استكانة، بل كانوا في غاية الثبات؛ لأنهم يتوجهون إلى معبودهم بذلك كله، ويتقربون إليه، فما كان ذلك سببًا لانكسار النفوس، وترك مجاهدة العدو بذهاب كبيرهم ومقدمهم، أو بسبب كثرة وقوع القتل فيهم، فإذا كان ذلك في القتل لإمامهم، وهو نبي، أو القتل الذي يقع عليهم، فما كان دون القتل فهو أسهل، فينبغي ألا يكون ذلك سببًا للتراجع والاسترخاء والترك لنصرة دين الله .

وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، وهذا يدل على كثرة الأنبياء الذين أمروا بقتال عدوهم بالجهاد في سبيل الله، فالجهاد شُرع لهذه الأمة، ولكن لم يُشرع ذلك لكل الأُمم، وكثير من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كان نصرهم بمدد من السماء بغير قتال، كما وقع لنوح فلم يحصل بينه وبين قومه قتال، وكذلك وقع لهود وصالح وشُعيب ولوط -عليهم السلام-، فنصرهم الله بنصر من عنده من غير تسبب منهم.

فالله -تبارك وتعالى- ينصر من يشاء، كيف شاء، تارة بإدالة المؤمنين على أعدائهم، وتارة بما يُرسله على الأعداء من العقوبات المستأصلة، وقد تكون دون ذلك.

وهذا فرعون أغرقه الله من غير عمل من بني إسرائيل، بل كانوا في غاية الخوف، وهم في حال فرار، فالله -تبارك وتعالى- شفا صدورهم، فأغرقه في اليم، وهم أيضًا ينظرون ليكون ذلك أشفى لنفوسهم.

فهنا قوله -تبارك وتعالى-: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، هذا يدل أيضًا على كثرة أتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين تحملوا المشاق في سبيل الله، ويدل على كثرة من قُتل من أتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.

وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- له كلمة في هذا المقام حاصلها: "أن قوله -تبارك وتعالى-: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، أو على القراءة الأخرى (قُتل مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) على كل حال هو لا يجعل ذلك منحصرًا في من كان معه، وهو حاضر المعركة، بل يجعل ذلك فيهم، وفي أتباعهم، قَاتَلَ مَعَهُ يقول: فكل من قاتل في سبيل الله، وهو على شريعة نبي فهو ممن قاتل معه، يقول: وهذه الأمة الذين شهدوا مع رسول الله ﷺ مغازيه قاتلوا معه، والذين جاءوا من بعدهم يُقاتلون في سبيل الله هؤلاء هم ممن قاتل معه، يقول: ويمكن أن تكون الكثرة بهذا الاعتبار على آماد متصلة، أو متفرقة متطاولة"[1].

وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ، هذا يدل على شدة إيمانهم، وثقتهم بالله، وتوكلهم عليه، وقوة العزائم مع صلابة هذه العزائم، وقوة اليقين بالله -تبارك وتعالى-؛ لأن من شأن هذه الأمور العظيمة، من قتل نبيهم، أو من قتل كثير منهم أن يكون ذلك سببًا للضعف والوهن الاستكانة إلا أن ذلك نفاه الله -تبارك وتعالى-، فجاء بهذه الصيغة فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ، فهذه الصيغة تفيد معنى العموم، بمعنى أن ذلك التركيب من النفي، والفعل بعده فَمَا وَهَنُواْ، لم يقع لهم أدنى وهن، أدنى ما يصدق عليه أنه وهن، لم يقع لهم، إذًا: كانوا في غاية القوة والثبات والصبر والإيمان واليقين، وكذلك في قوله: وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ.

ولاحظ أنه جاء بهذه الثلاث، وجاء بكل واحدة مسبوقة بالنفي "وما، وما، وما"؛ ليدل على نفي ذلك جميعًا، فلم يظهر عليهم ضعف لا في الباطن ولا في الظاهر، ولم يحصل ترك وتخلي، كل هذه الثلاث بأي تفسير فسرت هذه الأوصاف الثلاث، على اختلاف عبارات المفسرين إلا أن ذلك يشمل هذه الأمور التي ذكرتها.

لم يحصل لهم ضعف في الباطن، ولم يحصل لهم ضعف في الظاهر، ولم يحصل لهم تخلي وترك، هذا حاصله، وإذا كان هذه الأمور منفية على أكمل الوجوه، وأعم ما يكون فإن ذلك يدل على غاية الثبات والصبر والتحمل.

ولا شك أن هذه الأمة أفضل من الأمم السابقة وأكمل، فينبغي أن تكون أعظم صبرًا، وأكمل ثباتًا ممن قبلها، وهذا يدل أيضًا على أنه مهما يكن الإنسان من جهة إيمانه ويقينه وثباته كأصحاب رسول الله ﷺ فإنه يحتاج إلى التذكير، ويحتاج إلى ذكر من يأتسي به.

وكذلك أيضًا بأن الإنسان في حال الشدة، والمصيبة يحتاج إلى تسلية بما جرى لغيره، فيُقال هذا الذي وقع لك وقع لغيرك من الكبار والأخيار وأهل الفضل والصلاح والتُقى، فيخف عليه ذلك، ويعلم أنه لم ينفرد بمصيبته، وإنما هو واحد من هؤلاء الكثير الذين سلكوا هذا الطريق إلى الله والدار الآخرة، لاسيما أنه بين لهم قبله: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً [آل عمران:145]، لن تموت نفس إلا بأجلها، فلما الضعف؟ ولماذا الوهن؟ ولماذا الخور؟ والأمة مثل هذه الأوقات في تكالب الأعداء عليها تعيش في حالة من الإحباط، وهذا إنما يكون لضعف الثقة بالله والتوكل واليقين، ولو أن الإنسان تدبر القرآن، ونظر في مثل هذه الآيات؛ لكان ذلك أعظم تسلية للنفوس، وشدًا للعزائم، وتثبيتًا للقلوب.

أتوقف عند هذا، ونُكمل -إن شاء الله تعالى- في الليلة الآتية، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. راجع: الحسنة والسيئة، (124-125).

مواد ذات صلة