الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
(179) تتمة قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ...} الآية 159
تاريخ النشر: ١٣ / رجب / ١٤٣٨
التحميل: 461
مرات الإستماع: 934

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لم يزل الحديث متصلاً في الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين [آل عمران:159]، تحدثنا عن صدر هذه الآية، وما يُستخرج من المعاني والهدايات.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى-: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ، هذا آخر ما تحدثنا عنه، وأن خلاف اللين من الغِلظة والجفاء وقسوة القلب توجب نُفرة من حوله لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فينفض الأتباع، وقل مثل ذلك أيضًا في انفضاض من حول الفظ الغليظ من العاملين، والمشتركين معه في عمل، بل والزوجة والأولاد والتلاميذ، وما إلى ذلك.

إذًا: هذه قاعدة راسخة، ثابتة -أيها الأحبة-! وهي أن الغِلظة والجفاء والقسوة والشدة توجب النُفرة كائنًا من كان، ممن اتصف بهذه الأوصاف، ولو كان يملك ذكاء، ولو كان يملك علمًا كثيرًا، ولو كان يملك خبرات ودُربة وشهادات ورُتب ومراتب فإن هذه الغِلظة تكفي للنُفرة، تكفي لوقوع نُفرة الناس من حوله، إذًا: لا تُستجمع قلوب الناس بمثل اللين، ولا يتوصل إلى هذه القلوب إلا بمثل الصدق والرفق واللين، ومن كلام العامة أن الكلام اللين يغلب الحق البين، لهذا يغلب الحق البين بالكلام اللين، فكيف بذي الحق أصلاً إذا كان كلامه لينًا؟!

ثم قال الله بعد ذلك موجهًا للنبي ﷺ بعدما بين له سوء هذه الخلة، الغِلظة والقسوة فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ، إذًا ماذا يفعل؟ قال: فَاعْفُ عَنْهُمْ، وهذه الفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وتدل على التفريق فَاعْفُ عَنْهُمْ، إذا كانت الغِلظة والجفاء توجب النُفرة إذًا ما العمل؟ ما الطريق لاستجماع هذه القلوب؟ هو أولاً العفو فَاعْفُ عَنْهُمْ.

وهذا الخطاب للنبي ﷺ يتوجه أيضًا إلى أمته، فهذا يُقال في حق الرئيس والكبير والمُطاع والمُقدم والأمير والقائد والمُدير والأب والمُعلم، إلى غير هؤلاء، فَاعْفُ عَنْهُمْ تجاوز، وقد تكلمت في مجلس مستقل بكلام مُفصل عن قوله -تبارك وتعالى- في الآية الأجمع في الأخلاق خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين [الأعراف:199]، وذكرت هناك أن قوله: خُذِ الْعَفْوَ أنه ما تسمحت به نفوس الناس بحيث يؤدونه إليك من غير تكلف.

خُذِ الْعَفْوَ ما جاء عفوًا من غير تكلف من أداء الحقوق، الزيارة، الاتصال، التعاهد، الإحسان، ونحو ذلك، بين الزوجين، مع الأولاد، مع الجيران، مع القرابات، مع الأصدقاء، مع العاملين معك، خُذِ الْعَفْوَ لا تستقصي، لا تقف عند كل كلمة، ثم تحول ذلك إلى معركة لا، ونعم، وإيه، لا لا، فوت تجاوزها، وتنتهي، لا تحفر في هذا المكان، كل من تكلم بكلمة، كل من صدر منه تصرف وقفت معها، وأردت أن تُلقنه درسًا لا ينساه في كل مقام، في كل موضع، تجاوز، غُض الطرف، وإلا الحياة لا تستقيم، ولا تستقر.

الزوج الذي يُنقر عن كل شيء في الطعام، وفي ترتيب الأثاث، وفي اللباس، والنوم واليقظة، وفي كل كلمة ولفظة؛ هذا زوج لا يمكن العيش معه، صعب، وشر الناس من أحسن الناس إليه اتقاء شره، وإذا كان أقرب الناس إليه يتقون شره بالإحسان إليه، فهذه مصيبة -أيها الأحبة-!

تجاوز هناك أشياء كأنك ما رأيتها، وهناك أشياء كأنك ما سمعتها، هناك هفوات، هناك تقصير، هناك ضعف بشري، تجاوز هذه الأمور، هذا هو المعنى لهذه الآية، وهناك معنى ذكره، وهو الشاهد بعض أهل العلم، وهو معنى لا يُخالف ما سبق، ولا يُعارضه أن خُذِ الْعَفْوَ اعفُ وتجاوز، هو يرتبط بالمعنى السابق لكن فيه نوع مُغايرة عنه.

خُذِ الْعَفْوَ يعني تجاوز سامح لا تُعاقب، وتُحاسب على كل خطأ ونقص وتقصير، ولاحظ أن بين المعنيين مُلازمة، خذ ما تسمحت به نفوسهم، معنى ذلك: أنك تعفو عنهم، وهنا هذا المعنى يعني اعفُ سامح المُسيء، سامح المُقصر، سامح المُذنب، خُذِ الْعَفْوَ فهو شاهد لهذا الموضع فَاعْفُ عَنْهُمْ.

وهذا العفو له أثر بليغ -أيها الأحبة-! على نفوس الناس، لاسيما إذا كان الإنسان يُدرك إساءته وخطأه، ولهذا قال النبي ﷺ: وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا[1]، فهذا العفو يورثه العِز، لكن المعاقبة والمحاسبة على كل شيء هذه تهبط به، إذًا نحن بحاجة إلى أن نعفو؛ لأن الناس -ونحن منهم- قد جُبلوا على النقص، والكمال لله ، ولا بد أن يقع التقصير، فأنا أُذنب وأُخطأ، وأنت تُذنب وتُخطأ، أنا أُقصر، وأنت تُقصر، إذًا لا بد أن يكون العفو خُلقًا يتحلى به أفراد المجتمع.

خُذِ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ أمر من الله لنبيه ﷺ كيف يتألف هؤلاء فَاعْفُ عَنْهُمْ، فهكذا الداعية إلى الله يعفو عن المقصرين، عن المسيئين إليه، ونحو ذلك، قصروا في حقه، وأولى الناس بالعفو أقرب الناس إليه، من أصعب ما يكون -أيها الأحبة!- البيوت التي جعلها الله سكنًا للأزواج لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم:21]، فالبيت هو الموضع الذي يسكن فيه الإنسان ويستريح ويُخلد إلى الراحة، ولربما تخفف في لباسه، ولربما استرخى، وكان منه من التصرفات والمزاولات ما لا يفعله أمام الناس، ولو كان يترقب في كل لحظة أن يدخل عليه داخل لجلس مستوفزًا لابسًا أحسن ثيابه، والنفس لا تسكن بهذا، تبقى مشدودة، لكن البيت موضع السكن، فإذا تحول البيت إلى موضع القلق لربما يطمئن، ويستريح في الخارج، يبحث، يخرج؛ ليستريح؛ ليتخلص من نار تلظى في داخل هذا البيت، هذه مصيبة، مشكلة، فهذا خلاف مقصود الشارع.

فهذه البيوت ينبغي أن تكون موضع الراحة، موضع الطمأنينة، موضع سكون النفس، إذا دخل الإنسان بيته سكن واستراح واطمئن، لكن حينما نختلق المشكلات، ونفتعل ذلك بسوء إدارتنا لبيوتنا، وبوقوفنا مع كل تصرف، ومع كل خطأ، وإساءة فنحن نجني على هذه البيوت، ونجني على من بداخلها، فتبقى هذه البيوت متوترة، تملأها المشكلات والقلق، والله المستعان.

ثم فوق ذلك: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ عفا عن حقه، بقي حق الله الحق المتعلق بالله، فالحق الذي للنبي ﷺ فيه شائبة من حق الله ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فهذا لا شك أنه أبلغ، وإذا كان هؤلاء قد أساءوا في حقه، أو انهزموا من بين يديه في أرض المعركة، وتفرقوا عنه، فهنا لا يكون ذلك آخر العهد بهم، لا، وإنما العفو والاستغفار، فكان هذا هو خلقه -عليه الصلاة والسلام-.

والله يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا [النساء:64]، وذلك أنهم يأتون إليه ﷺ، ولا شك أن ذلك في حياته، وليس بعد موته، ولا أدل على هذا من أن النبي ﷺ بعد وفاته ما كانوا أصحابه يأتونه قط؛ ليستغفر لهم، بل حتى في الاستسقاء كما ثبت عن عمر أنه قال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا"، يعني: بدعائه ﷺ، "وإنا نستسقي بعم نبيك فاسقنا"[2]، فقدم العباس ليُصلي صلاة الاستسقاء، ويدعوا، فلو كان النبي ﷺ بعد موته يُستسقى به، أو يُدعى أن يستغفر لأحد لفعل عمر ، وأصحاب النبي ﷺ لكنهم لم يفعلوا، فهذا معنى معلوم، ومُقرر في اعتقاد أهل السنة والجماعة، بخلاف أهل البدع الذين يتوسلون به -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد موته، ولربما دعوه، أو طلبوا منه نصرهم، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال.

ثم ذكر أمرًا فوق ذلك العفو والاستغفار، المشاورة وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159]، وهذا اللفظ شاور مشاورة تدل على مفاعلة بين طرفين، المشاورة، وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، شاورهم بمعنى أنه يعرض عليهم ما هم به؛ ليتعرف رأيهم، وذلك فيما لم يكن منصوصًا ما جاء فيه الوحي عن الله فلا مجال للمشاورة، وأخذ الرأي؛ لأنه لا بد من تنفيذه، لكن فيما لم يرد فيه ذلك فإن النبي ﷺ يشاور أصحابه، شاورهم في الخروج إلى أُحد، أو البقاء في المدينة، وشاورهم -عليه الصلاة والسلام- في بدر قبل ذلك، وهكذا كان دأبه، وديدنه -عليه الصلاة والسلام-.

فهذا أمر من الله لنبيه ﷺ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] فدل على أن المشاورة طاعة وقُربة وعباده، الله أمر بها.

ثم إن ذلك من حُسن السياسة، فالرئيس المُطاع ينبغي ألا ينفرد برأيه، وإنما يعرض ذلك على من حوله، يعرض ذلك على أولي الحل والعقد، وليس على كل أحد؛ لأنه لا يُستشار من هب ودب ودرج، وإنما تكون لأهل الحل والعقد لمن لهم شأن من أهل العلم والعقل الراجح والخبرة في الأمور، وكلٌ بحسبه، هناك مشاورة في الحرب، وهناك مشاورة في السِلم إلى غير ذلك.

فقوله -تبارك وتعالى-: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159]، فيه من المعاني والمنافع الشيء الكثير، من ذلك ألا يستبد أحد برأيه، كذلك فيه تربية للأمة كيف ينظرون في شؤونهم؟ وكيف تكون الشورى بينهم؟، وهذا على كل الطبقات، بمعنى أن الإنسان يشاور في بيته، الإنسان يشاور فيما أراد وعزم عليه أو همّ به، يشاور قبل أن يُقدم، يشاور أهل المعرفة في هذا الأمر ممن يثق بهم، ويستخير في ذلك، فإذا استشار واستخار بعد ذلك يُقدم، ولا يندم كما سيأتي، وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.

كذلك هذا الذي يستشير لا شك أن هذا التصرف يدل على تواضعه، فيه تربية على التواضع، كذلك أيضًا فيه إشراك هؤلاء في القرار، وفي هذا الأمر، يعني: إذا أردت أن الناس يتبنون هذا معك اجعل ذلك شورى بينهم لا تستبد به، ثم يعطونك آراءهم، ويبدون لك، وتُبدي، ثم بعد ذلك يكون قرارًا، ورأيًا عن شورى، فيكون هؤلاء معك دون أن يتحولوا إلى مخالفين ومناكفين ومعارضين.

وكذلك أيضًا أن هذه الشورى توجب المحبة والتقارب بين النفوس واجتماع الكلمة، فأمرهم يصدر عن شورى، لا يوجد استبداد بالرأي، وإذا كان الإنسان لربما يشترك مع الآخرين في عمل، في سفر، في مشروع، في برنامج لا يفجأهم بأمور دون أن يرجع إليهم، فيكون ذلك تكديرًا عليهم، وتنغيصًا في سفرهم أو في حضرهم وإقامتهم، وإنما يعرض عليهم، ما رأيكم بكذا؟ ما رأيكم تكون الوجهة إلى كذا؟ ما رأيكم أن يأتي فلان، وفلان، وفلان؟؛ لأن هؤلاء يشتركون معه، فلا يفجأهم بما يريد، ويستبد، يُريد أن يُغير الوقت في هذا السفر، يشاورهم دون أن ينفرد بذلك.

وهكذا إذا كان في المزاولات، والمِهن التي تحتاج إلى مشاورة، هناك مشاورة مع الأطباء، هناك مشاورة مع الإدارة، هناك مشاورة مع المريض، أو مع ذوي المريض؛ ليتعرف رأيهم، ونظرهم في ذلك كله، فإذا اجتمع هذا، وهذا، اجتمعت الآراء مع حُسن القصد، فإن ذلك غالبًا يكون سبيلاً إلى توفيقهم إلى الصواب والحق الذي ينشدونه.

كذلك أن الناس يُكمل بعضهم بعضًا، فقد تنظر إلى جانب من الجوانب من زاوية، تنظر إلى بعض الجوانب، تنظر إلى جوانب إيجابية، وهذا ينظر إلى جوانب أخرى إلى مفاسد، فيجتمع هذا، وهذا يُبصرك بأمور غابت عنك، ولكن قد يفوت الأمر، ثم يقول لو فطنني أحد إلى هذا، فهذا لا ينفع، ولكن الشورى تُقرب له ذلك، فتجتمع الآراء بدلاً من رأي واحد، وينظر إلى هذه القضية من جوانبها المختلفة، بعقول متعددة، وإلا فإن الإنسان قد يُخفق، وقد يُخطأ، ومهما يكن من أمر فإن عقل الإنسان، ونظره يكون محدودًا، وقد لا يرى الإنسان أقرب الأشياء إليه، ويغفل عنها، ويغفل عن أمور لربما كانت حاضرة في ذهنه، ويعجب كيف غفل عنها، فبالشورى يُقرب ذلك جميعًا، ويتخلص الإنسان من نوازع الهوى، قد يكون له ميل إلى أمر من الأمور.

ولذلك فإنه قد تكون المصلحة في الشورى ألا يُبدي الرئيس المُطاع رأيه، أو الكبير، أو رئيس هذه الدائرة، أو القسم، أو الشركة، أو المجلس؛ لأنه إذا أبدى رأيه قد يُجاملونه، وقد يؤثر على بعضهم، لكن يستمع منهم، ثم يُبدي رأيه بعدهم، هذا أكمل.

من الناس من يعمد إلى المشاورة لبيان شدة أثرها البالغ، وقد تستميل به أحيانًا الإنسان المُبطل، قد يستميل آراء الآخرين، ويقفون معه بطريق المشاورة، يعني: لو كانت قضية خصومة بين امرأة وزوجها، فجاءت، وقالت هذا الزوج ظلمني، وهذا الزوج فعل وفعل لربما أنكروا عليها، وقالوا: اتقي الله، وقالوا: لم نسمع من الزوج، أو نحو ذلك، لكن ممكن أن تتسلل إلى نفوسهم بطريق المشاورة، كيف أتصرف أمام زوج يفعل كذا، وكذا، وكذا، فقد يغفل الذي سئل، واستُشير، ويتحول دون أن يشعر إلى عضيد، ونصير، ومُشير على هذه ضد زوجها، وهو لا يعلم أصل القضية، وإنما صورت له أمرًا قد لا يكون صحيحًا، ثم يتحول، يبدأ يُعطيها حلولاً، وآراء، بل لربما يُعطيها بعض المخارج، وبعض الجوانب القانونية، التي تتقوى بها، ولربما يُكلم فلانًا وفلانًا أن هذه المرأة لا بد من مناصرتها، ونحو ذلك؛ لأنها جعلته بهذه المثابة.

هذا يحصل، ويحصل بين الخصوم، يعني -على سبيل المثال-: هذا إنسان غصب أرضًا، أو اختلس، أو نحو ذلك، فيمكن أن يستشير، يا فلان ما رأيك بالأرض الفلانية، فيقول: هذه الأرض جيدة -ما شاء الله-، موقعها ممتاز، ثم يأتيه بعد أشهر، ويقول عُرضت عليّ بكذا ما رأيك بهذا المبلغ؟ الأرض التي حدثتك عنها قبل ستة أشهر، فيقول: هذا السعر مناسب، ثم بعد مدة يقول له: هذه الأرض ما رأيك هل أُنشأ عليها مشروعًا تجاريًّا، أو ابني عليها دارًا أسكنها؟ هل أجعلها شقق مفروشة، أو أجعلها فندقًا، أو أجعلها مكاتب، أو أجعلها مدرسة، أو ماذا أفعل بها؟

فيقول: لا، اجعلها كذا وكذا، بعد مدة بعد سنة، أو ثلاث سنوات، أو عشر تظهر خصومة بينه، وبين آخر صاحب الأرض الأصلي الذي لم يبع، ولم يؤجر، ولم يهب، ثم يجد ذاك نفسه، ويقول ألم تذكر أنها الأرض الفلانية كانت أرضي، ونحو ذلك، يقول: بلى، أنت اشتريتها، وكنت تريد تبني عليها مشروعًا، ونحو ذلك، وقد يكون هذا من القضاة، هذا المُستشار قد يكون من المحاميين، قد يكون من ذوي الجاه، ودون أن يشعر، صار شاهدًا، أي: شاهد زور، لكنه لم يتفطن.

 فأحيانًا بطريق المشاورة يستطيع الإنسان أن يتوصل إلى بعض الباطل، بهذا الطريق يجعل الآخرين يقفون معه، ويبنون قضيته، أدخله معه في هذه القضية من باب المشاورة، إذا كانت المشاورة تفعل هذا بالنفوس، فما بالك إذا كان الإنسان صاحب حق، لا شك أن ذلك أبلغ.

على كل يقول الحسن البصري: "أمر الله نبيه بالتشاور، فوالله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم"[3].

ثم أيضًا هذه المشاورة لاشك أنها تورث تأليف القلوب كما سبق، وكذلك أيضًا هي إشعار بمنزلة الصحابة أنهم أهل للمشاورة، وإذا كان النبي ﷺ أكمل الناس عقلاً يؤمر بها؛ فغيره من باب أولى، مهما كان عقل الإنسان، فهو لا يستغني عن ذلك، فشاور في بيتك، شاور في عملك، شاور من حولك، من يعملون معك، خذ آرائهم، ولا تنفرد برأيك، فإن رأيك قد يُخفق ويُخطأ ويزل، وقد تتوقف العقول عند بعض المظاهر والظواهر، ولكن بالمشاورة، فإن ذلك يكون أعمق في التفكير والنظر وإيجاد الحلول، وما إلى ذلك.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

بقي الجزء الأخير من الآية أتحدث عنه -إن شاء الله تعالى- في ليلة آتية، ونسأل الله  أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يتقبل منا ومنكم أجمعين، وأن يرحم والدينا وإخواننا المسلمين، وأن يرحمنا برحمته إنه سميع مجيب، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، برقم (2588).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، برقم (1010).
  3. أخرجه البخاري في الأدب المفرد، كتاب حسن الخلق، باب المشورة، برقم (258)، وقال الألباني: صحيح.

مواد ذات صلة