الخميس 16 / شوّال / 1445 - 25 / أبريل 2024
(194) قوله تعالى: {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ...} الآية 174
تاريخ النشر: ٣٠ / رجب / ١٤٣٨
التحميل: 359
مرات الإستماع: 872

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما بيّن الله تعالى ما وقع من الصحابة من الثبات في قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل [آل عمران:173] قال بعد ذلك: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم [آل عمران:174] لما ذهبوا إلى حمراء الأسد، ولم يجدوا أبا سفيان، ومن معه، رجعوا إلى المدينة بنعمة من الله -تبارك وتعالى-، وبالثواب العظيم، والأجر الجزيل، وبفضل منه -تبارك وتعالى-، وهذا الفضل بنعمة من الله وفضل، بعضهم يقول: اتجروا في الموسم في سوق هناك، وحصل لهم الأرباح بهذه التجارات، فرجعوا بها مع الأجر، وبعضهم يقول: هذا الفضل هو المنازل والدرجات العالية عند الله، وما إلى ذلك.

لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أي: لم ينلهم أذى أو ضرر، من القتل أو القتال، أو نحو ذلك.

وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:174] بطاعته وطاعة رسوله ﷺ.

وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم أي: ذو إحسان وعطاء جزيل لعباده المؤمنين.

فيُؤخذ من هذه الآية الكريمة: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ أن الفاء هذه تدل على تعليل وترتيب ما بعدها على ما قبلها، ما الذي كان قبلها؟ أنهم خُوفوا بالناس، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وذلك أن الله -تبارك وتعالى- يكفي من توكل عليه، وفوض أمره إليه، واعتمد على ربه -تبارك وتعالى-، فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ فهذا يدل على أهمية التوكل، وتفويض الأمور إلى الله ، والارتباط به، والاتصال، فيكون عليه المعول والمعتمد، فيكون ذلك سببًا لكفاية العبد، وتحصيل الأجور والأرباح، والعوائد العظيمة في الدنيا والآخرة، فيكون له حُسن العاقبة، كما هو وعد الله للمتوكلين عليه، فهؤلاء لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه، أعطاهم من الجزاء أربعة أمور: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ هذا الأول.

والثاني: الفضل.

والثالث: صرف السوء عنهم، لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ.

والرابع: وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّه فرضي -تبارك وتعالى- عنهم، ورضوا عنه، وهذا أيضًا يدل على أثر إحسان الظن بالله .

فهؤلاء خُوفوا بالمخلوقين أن يستأصلوهم إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل [آل عمران:173] لكنهم يثقون بالله ثقة تامة، ويُحسنون الظن به، والله عند حسن ظن عبده به، في هذه الأوقات العصيبة، وبعد الهزيمة، ومع ذلك انقلبوا بهذه العاقبة، ورجعوا بها.

وفي قوله: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ اخُتصر الكلام، وإلا فالأصل أنهم ذهبوا للقاء العدو، ولم يلقوه، ثم رجعوا إلى المدينة، وهذا من بلاغة القرآن.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى-: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ تنكير النعمة هنا يدل على عِظمها، فهي نعمة عظيمة، وكذلك الفضل، هذا بالإضافة إلى إضافة النعمة إلى العظيم الأعظم، بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وكما سبق في بعض المناسبات القريبة أن النعمة والعطية، ونحو هذا، إذا أُضيفت إلى الله -تبارك وتعالى-، فهذا يدل على أنها عظيمة جدًّا؛ لأن عطاء العظيم وإنعامه يكون عظيمًا، وهذا نعمة من الله، فهذا يؤكد هذا المعنى، ويدل على عِظمها، وفخامتها.

كذلك في قوله -تبارك وتعالى-: لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ نفى السوء بهذا الصيغة (سوء) نكرة في سياق النفي، لم يمسسهم سوء إطلاقًا، فهذا جزاء التوكل، فالمتوكل يكفيه الله الكفاية التامة الكاملة، لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لا من قِبل هذا العدو، ولا من غيره، فالمؤمن بحاجة إلى مثل هذا، وأن يتوكل على الله، لا سيما في مثل هذه الأوقات التي يجلب فيها أعداء الإسلام على المسلمين، ويخوفونهم، فهذا هو الرد الصحيح حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فإذا أجلب الأعداء وصيحوا وأرجفوا، كان الجواب كهذا الجواب: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في النونية:

وإذا اجتمعت الخصوم وصيحوا فاثبت فصيحتهم كمثل دُخانِ
يرقى إلى الأوج الرفيع وبعده يهوي إلى قعر الحضيض الداني[1]

يُرجفون ويُرجف أوليائهم بأهل الإيمان والعلم والصلاح، ونحو ذلك، لكن في النهاية العاقبة لمن؟ العاقبة لأهل الإيمان والدين، هل رأيتهم أرجفوا بأحد من أهل الحق، ثم بعد ذلك سقط وانكسر، وأثر ذلك الإرجاف فيه؟ الواقع أنه يزداد رفعة، وهذا لا شك أنه آية وعبرة للمعتبرين.

ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم هذا وصف لهم فيه ثناء وإطراء ومدح، وكذلك أيضًا في ضمنه وعد لهم بالثواب؛ لأنهم اتبعوا رضوانه، وفي ضمنه أيضًا تحسير للمتخلفين؛ لأنهم لم يفعلوا فعلهم، فلم يتبعوا رضوان الله -تبارك وتعالى-.

فلاحظ أيضًا هذا الإظهار لاسم الجلالة، في موضع يصح فيه الإضمار: وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم ليس بينهما شيء إلا حرف العطف، فهذا يمكن أن يُقال: بأن الضمير يُجزئ عنه في الجملة، واتبعوا رضوان الله، وهو ذو فضل عظيم، لكنه قال: وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم وذلك لبيان عِظم هذا الثواب والأجر، حيث يُضاف إلى الله -تبارك وتعالى-؛ وذلك أدعى للتفخيم.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم هؤلاء ذهبوا إلى غزو، لكنهم لم يلقوا عدوًّا، ولم تحصل مواجهة، العدو لم يلقهم، ولم يثبت، وانسل ومضى، فهذا يدل كما استنبط بعض أهل العلم أن من عمل عملاً صالحًا، وسعى فيه، لكن لم يتم لأمر خارج عن إرادته، فإن الله يُكمل أجره، وذكرنا هذا المعنى في الكلام على تفسير ابن جُزي، في قوله -تبارك وتعالى- في سورة النساء: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ [النساء:100] فهو لم يصل إلى مُهاجره، ولكن الله يُكمل له أجره وثوابه، وهذا من فضل الله على عباده.

كذلك أيضًا: فيه إثبات صفة الرضا وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وهي صفة من الصفات الثابتة لله ، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يكتب لنا رضوانه إلى أن نلقاه.

كذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ بعضهم يقول: إن النعمة هنا هي سلامة أجسام، فهؤلاء لم يقتلوا، والفضل: الربح في التجارة، بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ يعني فرجعوا بسلامة بالأجسام، وربح في التجارة، هذا يسمونه: لف ونشر مرتب، لكنه هنا حُذف منه الملفوف والمنشور، يعني السلامة بالأجسام، وربح التجارة لم يُذكر، وإنما قال: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ سلموا في أجسامهم، وحصلوا الأرباح في التجارة، فكان ذلك نعمة من الله وفضلاً، بهذه الطريقة، هذا نوع من أنواع اللف والنشر، وهو من البلاغة.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم يدل على أن عطاياه ومواهبه لا تُحد، ولا تُحصر، ومن هنا فإن العبد لا ييأس أبدًا، كما لا تتقاصر همته عند السؤال والطلب والدعاء، فيطلب شيئًا كأن خزائن الله تنفد، ويقول: أنا لا أريد إلا القليل؛ ولذلك قال النبي ﷺ: فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس [2]، فتكون الهمة عالية في الدعاء؛ ولذلك نُهي أن يُقال: اللهم اغفر لي إن شئت؛ لأن الله لا مُكره له، فهذا من آداب الدعاء، وبعض العامة يقول: اللهم أدخلني الجنة، ولو خلف الباب، لا، الفردوس الأعلى، فالله أعظم وأجل، وعطاياه أوسع، وخزائنه لا تنقضي، ولا تنفد، وجنته عرضها السماوات والأرض، ومثل هذا السؤال بهذه الطريقة إنما يوجه لمن يبخل، أو ليس عنده ما يكفي، وأما الله -تبارك وتعالى- فهو العظيم الأعظم الكريم، وكذلك خزائنه مَلْأَى.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يفتح لنا ولكم من خزائنه وجوده، وبره وألطافه، ما يُصلح به قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا وأحوال المسلمين، وأن ينصر دينه، ويُعلي كلمته، ويُعز أولياءه، إنه سميع مجيب، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية نونية ابن القيم (1/128).
  2. أخرجه البخاري رقم كتاب الجهاد والسير باب درجات المجاهدين في سبيل الله، يقال: هذه سبيلي وهذا سبيلي برقم (2790).

مواد ذات صلة