الثلاثاء 14 / شوّال / 1445 - 23 / أبريل 2024
(222) قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم...} الآية 195
تاريخ النشر: ١٨ / شوّال / ١٤٣٨
التحميل: 363
مرات الإستماع: 801

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- دعاء هؤلاء الذين وصفهم بأولي الألباب قال الله : فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَاب [آل عمران:195].

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أجاب دعاءهم وسؤالهم، أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى، يعني: لا يضيع عنده شيء من أعمال عباده فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، فالسعي لا يضيع عند الله -تبارك وتعالى-، ولو كان قليلاً فإنه يُنميه ويُضاعفه، ويجده صاحبه يوم القيامة مذخورًا، ولو كان الإنسان قد نسيه، ولو لم يحسب له حسابًا لقلته أو لذهوله، أو نحو ذلك أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى يعني أنهم على حد سواء من هذه الحيثية، بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ في أجور الأعمال، فهم سواء، ليس المرأة على النصف من ثواب الرجل وأجره، وإنما هم سواء في ذلك، بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ.

كذلك في أخوة الدين، بعضهم من بعض، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، كما أن المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض.

وكذلك أيضًا في قبول الأعمال، فالله يقبل من الرجال والنساء على حد سواء، فليست الذكورة بمجردها مُقربة عنده، وليست الأنوثة بمُجردها مُباعدة عنه، وإنما يكون ذلك بحسب حال العبد من الإيمان والتقوى والعمل الصالح.

بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ "هاجروا"، يعني: أنهم انتقلوا من بلادهم إلى حيث يأمنون، قد يكون هذا الانتقال إلى بلد الإسلام من بلاد الشرك، وقد يكون إلى بلاد أخرى يأمنون فيها، كما انتقل المسلمون أولاً من مكة إلى الحبشة، والحبشة لم تكن بأرض إسلام، فكان ذلك هجرة صحيحة، الهجرة الأولى، والهجرة الثانية إلى الحبشة، ثم بعد ذلك هاجروا إلى المدينة.

فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ أضاف ذلك إليهم باعتبار أنهم من قام به، وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ، وذلك أن المشركين تسببوا في إخراجهم، وإلا فالمشركون ما كانوا يُريدون خروجهم؛ لئلا ينتشر الإسلام، فكانوا يخرجون سرًّا، ولكن لما كان هؤلاء هم الذين تسببوا بذلك بالتضييق عليهم، أُضيف ذلك إليهم، وهنا بُني للمجهول لمَا لمْ يُسمَ فاعله "أخرجوا" كما قال الله : يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة:1]، يعني: المشركين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]، في قصة حاطب لما كتب لأهل مكة، فأضاف الإخراج إليهم باعتبار أنهم تسببوا به.

فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي هذا عام، فيدخل فيه الإخراج من الديار، وهو أذى، وقد قرنه الله بالقتل في اليهود ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ، يعني: يقتل بعضكم بعضًا، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [البقرة:85]، فذكر ذلك مع القتل، وهنا: وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي فيدخل فيه الأذى بالقول، والأذى بالفعل، يدخل فيه أيضًا الإخراج من الديار.

وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ -إضافة إلى ذلك الأذى، والهجرة والإخراج من الديار، كل ذلك، وفوقه- قاتلوا، وقتلوا، يعني: كما ذكر أهل العلم: بأن أعلى مراتب البراءة من المشركين: جهادهم وقتالهم، ويلي ذلك الهجرة المُفارقة بالأبدان، هناك هجرة بالقلوب، وهناك هجرة بالأبدان، فالصور الداخلة تحت البراء من الكفار مُتعددة وكثيرة جدًا؛ لكن أعلاها المُجاهدة لهؤلاء الكفار بالقتال، ويلي ذلك الهجرة في سبيل الله -تبارك وتعالى-، فذكر لهم هذا وهذا.

وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي، يعني: في طاعة الله ، لأنهم آمنوا، لم يؤذوا لعداوة شخصية، ولا لمصالح دنيوية، وإنما في سبيل الله -تبارك وتعالى-.

وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ فهذا تكفير السيئات، عرفنا أنه بمعنى الستر، وذلك بغفرها، والتجاوز عنها، كما سترها عليهم في الدنيا، وعرفنا أن السيئات هي المعاصي والذنوب، قيل: لها سيئة باعتبار أنها تسوء صاحبها حينما يجد ذلك في صحيفة عمله.

وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذكر تكفير السيئات، وذكر أيضًا إدخال الجنات التي تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار.

ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ جزاء من عنده -تبارك وتعالى-، وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَاب، عنده الثواب الحسن، الجزيل لأهل طاعته.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والمعاني والفوائد: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ "فاستجاب" لاحظ هنا بعد هذه الدعوات الخمس كما يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "ما زالوا يقولون "ربنا، ربنا، ربنا، ربنا، ربنا" خمس مرات حتى استجاب لهم"[1]، فهذه الفاء هنا تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها "فاستجاب"، دعوه فاستجاب، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، فينبغي على العبد أن يُلح على الله في السؤال والدعاء والطلب، وأن يُكثر من ذلك، ولا يمل، فإن الله -تبارك وتعالى- يُحب المُلحين بالدعاء "فاستجاب" فذكر استجابته بعد ذلك، ومن ثَم فإن من يُقصر في الدعاء، أو يستطيل وقت الإجابة، فيترك حيث لا يرى ثمرته، هذا يكون قد خسر، وفاته خير عظيم، فهذا الدعاء عباده في نفسه، يُحبها الله -تبارك وتعالى-، وهو أيضًا سبب لجلب الخيرات، ودفع الشرور والمكاره.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى-: فَاسْتَجَابَ قد يُشعر بسرعة الاستجابة، أن ذلك لم يتأخر أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم، والصيغة هنا جاءت بالماضي "فاستجاب" تدل على تحقق هذه الاستجابة، وأنها وقعت، ولم تتخلف.

وقوله: فَاسْتَجَابَ هو بمعنى أجاب، والسين والتاء هذه ليست للطلب؛ لأن ذلك من الله -تبارك وتعالى-، وإنما هنا للتأكيد، حينما نقول: استعاذ بالله، هذه السين والتاء للطلب، طلب الاستعاذة، استجار بالله، يعني: طلب الإجارة، لكن حينما يقول الله عن نفسه "فاستجاب" فهنا ليس معناها طلب الإجابة، وإنما ذلك للتأكيد، وبعضهم يقول بأن استجاب هذه أخص من أجاب؛ لأن استجاب تُقال لمن دُعي فأجاب، تقول: دعاني فاستجبت له، ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، أما أجاب فهذه أعم يمكن أن تُقال لمن أجاب بالقبول، أو بالرد.

ولاحظ هنا فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ هذه بصيغة الماضي فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ، ولاحظ تحول الخطاب إلى المُتكلم أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ ما قال: أنه لا يُضيع عمل عامل منكم، وإنما قال: أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم، فلما جاء إلى الأهم جاء ذلك بصيغة المُتكلم أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم، فهذا يدل على كمال الاعتناء بذلك، وأيضًا فيه تشريف لهؤلاء السائلين، والداعي حيث وجه الخطاب إليهم مُباشرة بضمير المُتكلم أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم، وهذا يؤكد أيضًا استجابته.

أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم لاحظ "لا أُضيع" هذا التركيب النفي "لا" النافية مع الفعل المُضارع لاَ أُضِيعُ يدل على العموم، وكذلك هذه النكرة في سياق النفي "عمل" هذا بالنسبة للأعمال، و"عامل" أيضًا هذا نكرة، فهذا صار ينتظم الأعمال والعاملين، يعني: أن ذلك يشمل جميع العاملين بشرط الإيمان، وما ينضاف إلى ذلك من الإخلاص والمتابعة التي هي شروط قبول العمل الثلاثة المعروفة.

أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ أي عمل صغير أو كبير، كثير أو قليل، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يضيع عنده شيء، والنبي ﷺ يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة[2]، وقال: تبسُمك في وجه أخيك لك صدقة[3]، وقال: لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلْق[4]، فمثل هذه قد لا يعبأ بها الإنسان، ولكنها عند الله بمكان، وقد يدخل الجنة بسببها.

وتعرفون حديث المرأة التي شقت التمرة بين ابنتيها بعد أن رفعتها إلى فيها، فكان ذلك سببًا لدخولها الجنة، أو لمغفرة الله ، وكذلك البغي من بني إسرائيل لما سقت الكلب، قد لا يكون هذا الإنسان قد استحضر النية عندها بالتقرب إلى الله كما ذكرنا بأن ذلك ليس بشرط على الأرجح، ولكن الشرط أن لا توجد النية والقصد الفاسدان، يعني: هذا الذي يقول النبي ﷺ: تبسمُك في وجه أخيك صدقة، قد لا يقوم بقلبه قصد التقرب إلى الله، كل معروف صدقة[5] قد لا يقوم بقلبه قصد، لكن لا يُرائي، ولا يفعل ذلك للتسميع، أو يكون هذا الإنسان لربما يبتغي من ذلك أمرًا باطلاً، يبتسم بوجه من يُريد به الشر، كالذي يتبسم مثلاً بوجه: نظرة، فابتسامة، فموعد، فلقاء، فهنا لا يُقال: إنه يؤجر على هذه الابتسامة، بل يكون ذلك وزرًا عليه، فهذا معلوم أنه ما كان معروفًا، ما كان من قبيل المعروف، ولو لم يستحضر النية، لكن بشرط أن لا توجد النية والقصد الفاسد، وإلا فلو أن هذا الإنسان أشفق على طائر أو حيوان أو إنسان في شدة الحر، فسقاه، أو أحسن إليه، أو تبسم في وجه من لقيه، أو نحو هذا، فإنه يؤجر، ولو لم يستحضر عندها القصد والنية، الكلمة الطيبة صدقة، وكل ذلك كما هو معلوم، نعم إذا وجدت نية التقرب فهذا أكمل.

على كل حال فهنا فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم إذًا هناك عمل، هناك أعمال قدموها، وبذلوها، واشتغلوا بها، فالذي لا يعمل، ويتكل على عفو الله -تبارك وتعالى-، ومغفرته ما حاله مع مثل هذه الآيات، وغيرها كثير، فهذا يحتاج -أيها الأحبة!- إلى عمل، ولاحظوا هذه الصفات التي ذكرها بعد ذلك، وهي من جُملة أعمالهم، وهي من أجل الأعمال، وأعظم الأعمال، فهؤلاء، وعدهم بتكفير السيئات وإدخال الجنات، فالجنة تحتاج إلى عمل، مغفرة الرب -تبارك وتعالى- تحتاج إلى عمل أما أن يبقى الإنسان في حال من الإخلاد إلى الراحة والكسل، ثم بعد ذلك يُرجي الثواب والأجور والمنازل العالية، فهذا غير صحيح، فإن الجنة لا بد لها من عمل بعد رحمة الله -تبارك وتعالى-، والنصوص في القرآن كثير، وهذا أمر معلوم لا يخفى ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون [النحل:32]، في الآيات التي سمعتم في الصلاة، "بما"، والباء للسببية، فالعمل سبب، لكنه لا يستقل وحده، لابد معه فوقه من رحمة الله -تبارك وتعالى-، لابد من هذا.

ثم أيضًا أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم، يعني: أي عامل، كما سيأتي في قوله: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، يعني: سواء كان ذكرًا أم أُنثى، حُرًا أم عبدًا، غنيًا أم فقيرًا، صحيحًا أم عليلاً، كبيرًا أم صغيرًا، حتى الصغير الذي لم يبلغ فإن الله -تبارك وتعالى- يقبل عمله، حتى غير المُميز إذا حج به أو اعتمر وليه؛ فإن ذلك يكون نافلة في حقه، ويجد ذلك في صحيفة عمله، لربما له أيام منذ ولد، أو شهر، أو نحو ذلك، لا يضيع عند الله -تبارك وتعالى- شيء من هذا، وبهذا مثل ذلك يبعث الطمأنينة في نفس الإنسان أن أعماله لن تذهب.

لكن في التعامل مع الناس، الإنسان لربما يُفكر كثيرًا، هل هؤلاء سيحفظون له هذا الجهد، وهذا العمل، وهذا البذل، أو أن ذلك سيضيع عندهم، هل سيحتاج إلى مُطالبات، هل سيحتاج إلى إثباتات، هل سيحتاج إلى شهود، هذا بالنسبة للدنيا مع الناس فيها، لكن بالنسبة لله -تبارك وتعالى- الله مُطلع على كل شيء، ولا يضيع عنده شيء، ولو كان الإنسان لا يعبأ بهذا العمل، أو لا يحسب له حسابًا، يعني: ما كان يظن كما جاء في الحديث: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه[6]، وفي الرواية الأخرى: لا يُلقي لها بالاً[7] كلمة ما كان يُلقي لها بالاً قالها لكنها وقعت عند الله بمنزلة، فكانت سببًا لرضوان دائم، منذ صدرت هذه الكلمة إلى أن يلقى الله، إذا كان هذا قد لا يعبأ به الإنسان، أو لا يُلقي له بالاً، فكيف بالأعمال الكبار، التي يحتسبها الإنسان، ويدخرها عند ربه -تبارك وتعالى-؟

لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، حينما يُجاهد نفسه على أن يُخرج أشياء يُحبها، أن يُخرج من أفضل ماله، من أفضل مُقتنياته، أن تُخرج المرأة من أفضل حُليها وأغلاه عندها، تُخرج من أفضل لباسها، الشيء الذي تُحبه، وتتعلق نفسها به، وتهواه، فهذا يبقى في النفس شيء من التعلق، لكن كيف يكون عند الله -تبارك وتعالى-؟

الكريم الذي يجزي على الحسنات أضعافًا مُضاعفة، ولكن لا يضيع عنده عمل.

أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم فهذا يشمل جميع الأعمال، لا أُضيع بأي نوع من أنواع الإضاعة، وكذلك بالنسبة للعاملين، وكذلك بالنسبة للعمل لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم.

ولاحظ هنا وجه الخطاب إليهم أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم، وقبل ذلك كان بالغائب إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ، يعني: هم فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190-191]، فهنا فَاسْتَجَابَ لَهُمْ، لاحظ هذا كله بالغائب، ثم قال: أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم فهذا لا شك أنه أيضًا تشريف لهم، حيث وجه الخطاب إليهم، وفي موضع هو غاية مطلوبهم ومقصودهم، فجاء الخطاب بهذه الطريقة، وهذا أيضًا يُفيد تأكيد هذا الوعد من الله -تبارك وتعالى-.

أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى لاحظ "من ذكر، أو أنثى" هذا يُبين العامل لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم، يعني: سواء إذا كان ذكرًا أو أنثى، فهذا يدفع التوهم، هل النساء مثل الرجال في الجزاء والثواب، أو أنهن دون ذلك؟

فبين أن هذا يستوي فيه الرجل والمرأة، فالمرأة إذا تصدقت وتصدق الرجل؛ فهم سواء في الأجر، إلا فيما يتفاوت فيه العمل، مما يقوم في قلب الإنسان من الإخلاص والإخبات، ونحو ذلك، ووقت هذه الصدقة، والمكان الذي بُذلت فيه، في الوقت الشريف، والمكان الشريف، والحال حيث شدة الحاجة مثلاً، هذا الذي يتفاوت فيه العمل، أما الذكورة والأنوثة فإن ذلك لا يؤثر عند الله -تبارك وتعالى-.

مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى، وهي جملة تُعد من الجُمل المُعترضة، وكما ذكرنا في بعض المناسبات أن المُحترزات في القرآن تكون في كل موضع بحسبه، بحسب الحاجة إليه.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة من قوله: مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى نحن ذكرنا مرارًا بأن "من" هذه التي تدخل على النكرة التي في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، يعني: تجعلها نصًا صريحًا في العموم، العموم تتفاوت أفراده قوة وضعفًا في الدخول تحت اللفظ العام، لكن إذا دخلت "من" هذه فإنها تجعل ذلك نصًا صريحًا في العموم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى فهي تؤكد النفي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى قلنا: هو تفسير لعامل، وعامل نكرة في سياق النفي، فله حكمه.

أتوقف عند هذا.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: تفسير القرطبي، (4/318).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، برقم (1417)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم (1016).
  3. أخرجه الترمذي في سننه، برقم (1956)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (2903).
  4. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، برقم (2626).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب كل معروف صدقة، برقم (6021)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، برقم (1005).
  6. أخرجه الترمذي، في سننه، برقم، (2319)، وأحمد في مسنده، برقم (15852)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1617).
  7. أخرجه البخاري، كتاب، الرقاق باب حفظ اللسان، برقم (6478).

مواد ذات صلة