الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(190) أذكار النوم - مواصلة الكلام لشرح حديث" باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها... "
تاريخ النشر: ١٠ / شوّال / ١٤٣٥
التحميل: 2333
مرات الإستماع: 2324

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

أُواصل الحديث عن هذا الذكر الذي يُقال قبل النوم، وذلك بعد أن ينفض فراشَه بداخلة إزاره ثلاثًا، ثم يقول إذا وضع جنبَه: باسمك ربي[1]، وفي لفظٍ: بسم الله[2]، فهذه الباء قد تكون بمعنى: الاستعانة، أنَّه يستعين باسم الله -تبارك وتعالى- على مطلوبه، وهو وضع الجنب والنوم الذي هو مقصوده، ويمكن أن تكون الباء هذه للمُصاحبة، يعني: أنه ينام ويضع جنبَه مُستصحبًا أو مُصاحبًا لاسم الله -تبارك وتعالى-.

باسمك ربي وضعتُ جنبي، وبك أرفعه يعني: وباسمك، أو بمعونتك، أو بحولك، وقوَّتك، وإرادتك، وقُدرتك أرفعه، فالعبدُ لا يستغني عن ربِّه -تبارك وتعالى- طرفةَ عينٍ، فلا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، لا تحوّل من حالٍ إلى حالٍ إلا بإعانة الله وقوَّته وتوفيقه.

ثم يقول: إن أمسكتَ نفسي[3] يعني: قبضتها في حال النوم، تُفسّره الرِّواية الأخرى: إن أمتَّها[4]، فالله -تبارك وتعالى-: يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، وفي لفظٍ: احتبست نفسي، بمعنى: أنَّه قبضها، فلم ترجع إلى الجسد ثانيةً، فإنَّ الروحَ تُفارق الجسد في حال النوم مُفارقةً جزئيَّةً، يرتفع معها الإدراكُ، وتُفارقه حال الوفاة مُفارقةً كُليَّةً، ترتفع معها الحياةُ.

فالإمساك هنا على كل حالٍ هو كناية عن الموت؛ ولهذا قال: فارحمها، يعني: إن قبضتَها إليك وتوفَّيتَها، والرَّحمة تُناسِب ذلك، وفي لفظٍ: فاغفر لها[5]، وهذا عند الترمذي، فهو يسأل ربَّه -تبارك وتعالى- أنَّه إن قُبِضَ في هذه النّومة أن يرحمه ربُّه -تبارك وتعالى-، وأن يغفر له.

وإن أرسلتَها يعني: إلى الجسد، إلى الحياة، وفي لفظٍ: رددتَها[6]، فهنا بمعنى: البقاء، والحياة، وذكر بعده ما يُناسِبه، وهو قوله: فاحفظها، فالرحمة حال قبضها، والحفظ حال إرسالها، تُحفظ من ماذا؟ تُحفظ من كلِّ ما يُسخط الله -تبارك وتعالى- من معاصٍ، وما إلى ذلك.

وكذلك أيضًا يشمل الحفظ من شياطين الإنس والجنِّ، ومن كلِّ ما يُحاذره: بما تحفظ به عبادك الصَّالحين، ليس البقاءُ في هذه الحياة الدنيا هو الهدف، هو المطلوب، وإنما البقاء على حالٍ مرضيَّةٍ: بما تحفظ به عبادك الصَّالحين، بماذا يحفظهم؟ بالتَّوفيق، بالهداية، أن يحفظهم من مُواقعة الموبقات، وما إلى ذلك.

فيكون الإنسانُ بعيدًا عن الأوصاف التي يُسخطها الله -تبارك وتعالى-، فالله يحفظ عباده الصَّالحين بالاحتراز من مساخطه، والقيام بوظائف العبودية، فهؤلاء يكون الله -تبارك وتعالى- قد حماهم، وحصل لهم من الرِّعاية الربانية والألطاف ما جعلهم مُهتدين، وهؤلاء أهل الصَّلاح، هم القائمون بحقوق الله -تبارك وتعالى-، وبحقوق عباده.

فهنا يسأل العبدُ ربَّه -تبارك وتعالى- ذلك: بما تحفظ به عبادك الصَّالحين، لو كنا نقول هذا، ونستشعر هذا المعنى: يا ربّ، إذا قبضتَ هذه النَّفس فارحمها. إذًا هذا ينام نومَ مُودِّعٍ، يستحضر أنَّه في هذه النَّومة قد لا يقوم إلا للبعث والنُّشور.

وكذلك أيضًا إن رُدَّت روحه فإنما تُردّ بهذه الصِّفة: محفوفة بحفظ الله -تبارك وتعالى-: بما يحفظ به عباده الصَّالحين، الإنسان المضيع المفرّط الذي لا يرعى حُرمات الله -تبارك وتعالى-، وحقوقه، وشرائعه، لا يرعى لها حُرمة، ولا يرفع لذلك رأسًا، مثل هذا حينما يقول: فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصَّالحين، وهو لا يُصلي، ولا يعرف الله ، ويفعل الموبقات والفواحش، فأيّ عبادٍ صالحين؟! يُريد أن تُحفظ نفسُه، وهو ربما يكرههم، يمقتهم، يستهزئ بهم، يسخر منهم، مثل هذا يكون كاذبًا بمثل هذا القول إن قاله.

لو كنا نستشعر هذه المعاني التي نُرددها ونقولها؛ لكانت أحوالُنا على استقامةٍ وصلاحٍ، فيكون العبدُ مُستعدًّا دائمًا للرحيل، وأنَّه إن أُعطي المهلة فإنَّه يكون مُحافظًا على طاعة الله -تبارك وتعالى-، مُجتنبًا مساخطه، والله المستعان.

فهذا أيضًا فيه معنى التَّفويض والتَّسليم لله -تبارك وتعالى-: إن أمسكتَ نفسي فاغفر لها وارحمها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصَّالحين.

بعد ذلك يأتي الكلامُ على بعض الفوائد المتعلقة بهذا الذكر، وهنا جاء ذكرُ الإزار: أنَّه ينفض فراشَه بداخلة إزاره، عرفنا داخلة الإزار، لماذا ذكر الإزار؟

يمكن أن يُقال: لأنَّه هو الغالب في اللباس في ذلك الوقت، فيلبسون الإزار والرِّداء، مع أنَّ بعض أهل العلم يقول: إنَّه ذكر الإزار، ولم يذكر الرِّداء؛ باعتبار أنَّ بعضَهم ليس له رداءٌ.

ثم إنَّ بعضَهم يقول: إنما ذكر داخلة الإزار من أجل النَّظافة، يعني: يستعمل داخلة الإزار للتَّنظيف، فلا يظهر عليه شيءٌ من أثر غبارٍ، أو أذًى، أو نحو ذلك مما قد يعلق بالفراش، فيكون الظاهرُ نظيفًا. هكذا علله بعضُ أهل العلم، وذكرنا في الليلة الماضية غير هذا.

وعلى كل حالٍ، كان من عادتهم أنَّهم يتركون الفراشَ ليلاً ونهارًا في موضعه، هذا هو الغالب، ولا زالت عادةُ الناس على هذا إلى اليوم، وحتى لو طُوي فإنَّه إذا وُضع يفعل به ذلك.

وأيضًا ذكر الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- أنَّه لا يزال يذكر ربَّه -تبارك وتعالى-، يعني: إذا قال هذا لا يكون نهاية الذكر، وإنما يذكر ربَّه -تبارك وتعالى- على فراشه حتى يغلبه النوم، يستمرّ في الذكر، لو قال أذكار النوم جميعًا فإنَّه يذكر الله بالتَّهليل، والتَّكبير، والتَّسبيح، ونحو ذلك.

يقول ابنُ القيم: فهذا نومه عبادة وزيادة له في قُربه من الله -تبارك وتعالى-[7]، فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى، ومع هذا فهو قائمٌ بحقوق العباد من: عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإجابة الدَّعوة، والمعاونة لهم بالجاه، والبدن، والنفس، والمال، والزيارة، والتَّفقد، وهو قائمٌ بحقوق أهله وعياله، فهو مُتنقّل في منازل العبوديَّة، كيف نقله فيها الأمر؟ فإذا وقع منه تفريطٌ في حقٍّ من حقوق الله بادر إلى الاعتذار، والتوبة، والاستغفار، أيضًا يُتبع ذلك بالأعمال الصَّالحة التي يُزيل أثره بها.

يقول: هذه وظيفته دائمًا، يكون العبدُ على هذه الحال؛ فيكون في صلاحٍ دائمٍ، مُستمرٍّ، مُتتابعٍ، فمثل هذا لا تشكو منه زوجةٌ، ولا يشكو منه جارٌ، ولا يشكو منه والدٌ، ولا ولدٌ، ولا يشكو منه أحدٌ ممن صاحبه، أو خالطه، أو عاشره، أو عامله وبايعه، أو شاركه، أو غير ذلك؛ لأنَّه يُراقب ربَّه -تبارك وتعالى-، ويستحضر نظرَ الله -تبارك وتعالى- إليه، وهو مستعدٌّ للرحيل في أي لحظةٍ، ويستغلّ هذه الأنفاس في طاعة الله ، ويتَّجر مع ربِّه -تبارك وتعالى- بهذه الأعمال، من: الأذكار، وغيرها من سائر التَّعبدات.

هذا ما يتعلّق بهذا الحديث.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2714).
  2. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الأدب، باب ما يُقال عند النوم، برقم (5054)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (4646).
  3. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب التَّعوذ والقراءة عند المنام، برقم (6320)، ومسلم: كتاب الذكر والدُّعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2714).
  4. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2712).
  5. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، برقم (7393)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2712).
  6. أخرجه ابنُ السُّني في "عمل اليوم والليلة": باب ما يقول إذا قام عن فراشه من الليل ثم عاد إليه، (ص689)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رواه البزارُ عن عمر بن إسماعيل بن مجالد، وهو كذَّاب، برقم (17043).
  7. انظر: "طريق الهجرتين وباب السَّعادتين" لابن القيم (ص205).

مواد ذات صلة