الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(205) دعاء قنوت الوتر .. من قوله "اللهم اهدني فيمن هديت" إلى قوله "وبارك لي فيما أعطيت"
تاريخ النشر: ١٨ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 2135
مرات الإستماع: 1747

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: كان آخر ما مضى الكلامُ عليه هو ما يفعل مَن رأى الرؤيا أو الحلم، وما ذكرتُه في الكلام على هذه الأحاديث إنما هي جُمل مما يُناسب في هذا المقام، ومَن أراد التَّوسع فليُراجع الشُّروح والمطوّلات، فسيجد كلامًا كثيرًا، لا سيّما في المحامل، والرِّوايات التي جاءت في قوله ﷺ بأنَّ الرؤيا الصَّالحة جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة، كما في الصَّحيح[1]، أو أنها جزءٌ من خمسةٍ وأربعين جزءًا من النبوة، كما عند مسلم[2]، أو أنها جزءٌ من سبعين جزءًا من النبوة، كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-[3]، وما بين ذلك من المرويات الصَّحيح والضَّعيف شيءٌ كثيرٌ يبلغ خمسة عشر نوعًا، يعني: في الأعداد.

وتوجيهات أهل العلم في هذا كثيرة، والمحامل التي ذكروها متنوعة، ومنهم مَن أنكر ذلك جميعًا وتوقّف فيه، وقال: إنَّ ذلك من علم الغيب.

وبعد ذلك ذكر المؤلفُ بابًا جديدًا، وهو: "دعاء قنوت الوتر"، وذكر فيه حديثَ الحسن بن عليٍّ -رضي الله عنه وعن أبيه- قال: علَّمني رسولُ الله ﷺ كلمات أقولهنَّ في الوتر في القنوت: اللهم اهدني فيمَن هديتَ، وعافني فيمَن عافيتَ، وتولَّني فيمَن تولَّيتَ، وبارك لي فيما أعطيتَ، وقني شرَّ ما قضيتَ، إنَّك تقضي ولا يُقضى عليك، إنَّه لا يذلّ مَن واليتَ، تباركتَ ربنا وتعاليتَ، وفي زيادةٍ بعد قوله: إنَّه لا يذلّ مَن واليتَ، ولا يعزّ مَن عاديتَ، تباركتَ ربنا وتعاليتَ.

هذا الحديث أخرجه أصحابُ السُّنن، وأحمد[4]، وغيرهم، وسكت عنه أبو داود، وما سكت عنه أبو داود فإنَّه صالحٌ للاحتجاج عنده.

وقال البيهقي -رحمه الله-: "تفرَّد به أبو بكر ابن أبي شيبة"[5]، وقال الحافظُ ابن حجر: "حسنٌ صحيحٌ"[6]، والحافظ ابن عساكر قال: "محفوظٌ من حديث بُريدة"[7]، وأمَّا الشَّوكاني[8]فقال: "أقلّ أحواله إذا لم يكن صحيحًا أن يكون حسنًا"، وصححه الشيخُ ناصر الدين الألباني[9]-رحم الله الجميع.

قوله: "علَّمني رسولُ الله ﷺ كلمات أقولهنَّ في الوتر في القنوت"، المقصود هنا بالكلمات: الجُمَل: اللهم اهدني فيمَن هديتَ، هذه جُملة، ويُقال لها: كلمة، والكلمة -كما هو معروفٌ- تُقال للفظة المفردة، وتُقال أيضًا للجملة كما هنا، وتُقال للخطبة، ونحو ذلك كالمقالة، كما قال ابنُ مالكٍ:

................. وكلمة بها كلامٌ قد يُؤمّ

يعني: يُقصد، يُقال: فلانٌ ألقى كلمةً، المقصود أنَّه ألقى خطبةً، أو نحو ذلك.

وهنا علَّمه كلمات، أي: علَّمه هذه الجُمل من هذا الثَّناء، أو من هذا الدعاء.

"أقولهنَّ في الوتر"، يعني: أدعو بهنَّ في قنوت الوتر، وهذا يدلّ على أنَّ القنوتَ مشروعٌ في الوتر، ولكن ذلك لا يقتضي المداومة عليه؛ فالنبي ﷺ تارةً يقنت، وتارةً يدع القنوت، وهذا في رمضان، وفي غير رمضان، بل جاء عن ابن مسعودٍ أنَّه في رمضان لا يقنت إلا بعد نصفه الأول[10]، يعني: ابن مسعودٍ كان لا يرى القنوت، وأقلّ ما يُقال في ذلك: أنَّه يترك القنوت أحيانًا؛ ليعلم الناسُ أنَّ ذلك لا يجب.

وهنا أيضًا هذا الذكر يُشرع أن يُقال في القنوت، وما ورد في ذلك غير هذا الحديث فهو قليلٌ، كما سيأتي إن شاء الله، لكن هذا التَّطويل في الدُّعاء لا أعلم له أصلاً، وكذلك أن يتحوّل القنوتُ إلى موعظةٍ يستجلب بها بكاء الناس، وتُستثار كوامن العواطف، وما إلى ذلك؛ فإنَّ هذا لا أصلَ له.

وهكذا ما يفعله بعضُهم من تسجيع الكلام، والتَّكلف في ذلك، فإنَّ هذا خلاف المشروع، إضافةً إلى رفع الأصوات رفعًا زائدًا، سواء كان ذلك في نفس الدُّعاء، أو كان في التَّأمين، أو كان في البُكاء؛ فإنَّ هذا خلاف الأدب، وإنما المشروع أن يدعو الإنسانُ ربَّه تضرُّعًا وخفيةً، لكنَّه بالنسبة للإمام هو بحاجةٍ إلى أن يُسمع مَن وراءه، فيُسمعهم بأداءٍ يُشعر بالأدب مع الله -تبارك وتعالى-، هذا بالإضافة إلى الخشوع، واختيار جوامع الكلم مما جاء من الدعاء في القرآن، وفي سنة رسول الله ﷺ، دون تلفيق أدعيةٍ يُنشئها من عند نفسه يطول بها الكلام، وقد يكون ذلك مُوجزًا في كلام النبي ﷺ بعبارةٍ قصيرةٍ، هذا بالإضافة إلى ما يتكلّفه آخرون من ذكر الأسماء الحسنى؛ يذكرون جملةً من الأسماء: كأن يذكر بعضُهم تسعةً وتسعين اسمًا، مع أنَّ الأسماء الحسنى أكثر من هذا كما هو معلومٌ.

ثم يتكلّف لكل اسمٍ دعاءً، ولربما كان الدُّعاء في القنوت أطول من الصَّلاة، كما هو معلومٌ في بعض النَّواحي للأسف، وهذا خلاف المشروع، بل ربما خرج الناسُ من المساجد وذهبوا يتجمهرون عند ذلك المسجد الذي يتفنن في هذه التَّكلُّفات في دعاء القنوت، يستمعون من خارج المسجد، وربما ظنَّ كثيرٌ من العامَّة أنَّ الإمام إذا لم يُطوّل في القنوت فإنَّه يكون مُقصِّرًا، وأنَّه قد فوَّت عليهم حظَّهم وحقَّهم من الدعاء، وهذا الكلام غير صحيحٍ.

ولا شكَّ أنَّ الدعاء في السُّجود أبلغ وأفضل وأقرب للإجابة من الدعاء في القنوت؛ ولذلك يغفل كثيرٌ من الناس في ليالي الوتر من العشر الأواخر مثلاً فيما يُتحرّى في ليلة القدر، قد يغفلون عن الدُّعاء في السُّجود، وينتظرون دعاء الإمام، ويرون أنَّ عليه المعول، وأنَّه جدّ واجتهد لهم في الدُّعاء، فلعلهم يكونوا قد أدركوا، وإلا فإنَّه ربما يرجع الإنسانُ وهو كسيف البال، وهذا غير صحيحٍ؛ ولذلك كان الإمامُ أحمد -رحمه الله- سُئِلَ عمَّن يُطوِّل ويزيد، على حديث الحسن: اللهم اهدني فيمَن هديتَ فقال للسَّائل: "اقطع صلاتَك"[11]، إلى هذا الحدِّ، فمثل هذا التَّطويل، ومثل هذه التَّكلفات؛ هذا لا يُشرع.

فهنا قال: "في قنوت الوتر"، وفي روايةٍ: "في الوتر"، والمقصود به في القنوت، وهذا يكون في سائر العام، ولا يختصّ برمضان، لكنَّه يفعل ذلك أحيانًا، ويترك أحيانًا، في رمضان، وفي غيره.

وابن مسعودٍ كان يرى أنَّ ذلك يكون بعد النصف من رمضان، يعني: لا يقنت في النصف الأول، وهذا مذهب الشَّافعية[12].

قوله: اللهم اهدني فيمَن هديتَ، كما نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، نسأل الهداية، فهذا السؤال كثيرٌ من أهل العلم يُفسِّرونه كما يُفسِّرون آيةَ الفاتحة، يقولون: ثبِّتني. وهذا تفسيرٌ صحيحٌ، لكنَّه ناقصٌ؛ فإنَّ الهدايةَ أبوابٌ وأنواعٌ، وهذا سؤالٌ للهداية مُطلقًا: اهدني، فيدخل في الهداية: الهداية إلى الإسلام، فكثيرٌ من الناس يقول: اللهم اهدنا للإسلام.

إذن لماذا نسأل الهداية؟

يُقال: هذه الشَّريعة -كما قال شيخُ الإسلام[13]- بمنزلة الشَّرائع المتعددة؛ لسعتها، وكثرة تفاصيلها، وأبواب الخير فيها، ولو أراد المكلَّفُ أن يشتغل ببابٍ من أبواب البرِّ بعد الفرائض فإنَّه يستغرق العمر في بابٍ من هذه الأبواب، سواء: باب الذكر، أو أنواع التَّطوعات في الصَّلاة، أو كان ذلك في أبواب الصَّدقات، أو أبوابٍ أخرى من أبواب الخير، فهذه كلّها تحتاج إلى علمٍ بالعمل المشروع؛ لأنَّ الله لا يُعبد إلا بما شرع، ومن ثم فإنَّ هذا الدُّعاء: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، اهدني فيمَن هديتَ يدخل فيه الهداية إلى العلم الصَّحيح: أن يعرف الحقَّ، ثم إذا هُدِيَ إلى هذا فهو بحاجةٍ إلى هدايةٍ أخرى؛ وهي الهداية إلى العمل بهذا العلم، الناس يعرفون ويعلمون أنَّ الصلاةَ واجبةٌ، ومع ذلك كثيرٌ منهم لا يُصلِّي، يعلم أنَّ صلاةَ الجماعة واجبةٌ، ومع ذلك كثيرٌ منهم يُصلِّي في بيته.

فالعلم غير العمل، فيحتاج إلى هدايةٍ أخرى؛ الأولى أن يُوفّق للعمل الصَّحيح، فبعض الناس لا يُوفّق إليه، وقد يبحث المسألة، ويقول: قتلتُها بحثًا، ويدرسها من جميع جوانبها، ويأتي بنتائج مقلوبة، يقول: ليتك ثم ليتك ما عرفتَ، ولا درستَ، ولا بحثتَ، هذه نتيجة البحث.

وكذلك أيضًا حينما يعرف الحقَّ هو بحاجةٍ إلى هدايةٍ للعمل، فهذه هداية توفيقٍ، يُعان على ذلك كثيرٌ من الناس، لا يُوفّق طالب العلم؛ تجده ربما درس أشياء كثيرة جدًّا، وحال كثيرٍ من العامَّة أفضل منه؛ لا في إقباله على الطَّاعة والاشتغال بها، ولا في انكفافه وتركه للمعاصي والمخالفات أو الشُّبهات، ربما يكون أجرأ من العامَّة على هذه الأمور.

ومن ثم فنحن بحاجةٍ إلى هدايةٍ للعمل بما علمنا، ثم أيضًا إذا عمل الإنسانُ، فهذه الأعمال تتفاضل، والعمر قصير، فيحتاج إلى هدايةٍ أخرى، وهي أن يُهدى للأفضل والأكمل.

فهذه تجارةٌ مع الله -تبارك وتعالى-، ثم إذا هُدِيَ فالمسألة ليست طفرةً في أسابيع، ثم يُدير ظهرَه للعمل الصَّالح والطَّاعة والعبادة، يحتاج أن يستمرّ إلى الممات، فيحتاج إلى تثبيتٍ، هذه التي يُفسِّرون بها، يقولون: "اهدنا" بمعنى: ثبِّتنا في واحدةٍ من هذه الهدايات، فيحتاج إلى تثبيتٍ، ثم بعد ذلك هو بحاجةٍ إلى أن يموت على ذلك، فكما أخبر النبيُّ ﷺ بأنَّ الرجلَ: يعمل بعمل أهل الجنَّة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتابُ –قدر- فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل الجنَّة فيدخلها، وإنما الأعمال بالخواتيم.

وحينما نقول: ثبِّتنا، ثبِّتنا أيضًا عند الممات، هذا بالإضافة إلى هداياتٍ أخرى ليست في هذه الدار، وإنما هي هدايات بعد ذلك، بعد الموت، عند سؤال الملكين، لكنَّها غير داخلةٍ في آية الفاتحة؛ لأنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] هو الذي رسمه اللهُ لعباده من أجل سلوكه، لكن هناك هدايات أخرى بعد ذلك عند سؤال الملكين، وكذلك يحتاج إلى هدايةٍ عند الحساب إذا سأله ربُّه؛ أن يُلهم الحجّة في الجواب، ثم يحتاج إلى هدايةٍ أخرى إلى الصِّراط، وهداية أخرى على الصِّراط، وهداية أخرى إلى باب الجنَّة، وهداية أخرى إلى منزله في الجنَّة، كلّ هذه هدايات، والعبد مُفتقرٌ إليها كلَّ الافتقار.

فالمقصود أن يقول هذا: اللهم اهدني فيمَن هديتَ، "فيمَن هديتَ" يعني: في جملة مَن هديتَهم، أو مَن هديتَه من الأنبياء والصُّلحاء وما إلى ذلك، كما قال سليمانُ -عليه الصَّلاة والسَّلام-: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19] يعني: في جُملتهم؛ ولهذا قال بعضُ أهل العلم: أن تجعلني ممن هديتَهم إلى الصِّراط المستقيم.

وبعضهم يُفسِّر "في" بمعنى "مع": "اهدني فيمَن هديتَ" يعني: مع مَن هديتَ: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، مع الذين أنعم اللهُ عليهم، اهدني فيمَن هديتَ، يعني: مع مَن هديتَ.

وهذان المعنيان مُتقاربان، والحافظ ابن القيم[14] -رحمه الله- يميل إلى الأول، يعني: أدخلني في هذه الزُّمرة، واجعلني رفيقًا لهم، ولكنَّه يُشير إلى المعنى الآخر، قال: "ومعهم"، فيكون المعنيان مُتقاربين، فإذا قال: اللهم اهدني فيمَن هديتَ، أي: في جُملتهم ومعهم: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وحروف الجرِّ تتناوب كما هو معلومٌ، فحينما يسأل العبدُ ربَّه يقول: "اللهم اهدني"، فمعنى "اللهم" يعني: يا الله، حُذف حرف النِّداء، فهذا سؤالٌ للهداية المطلقة التي لا يتخلَّف عنها اهتداء، كلّ أنواع الاهتداء داخلةٌ، فينبغي للعبد أن يستشعر هذا المعنى.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه الآخر "شفاء العليل"[15]، ذكر المعنى الأول في "مدارج السَّالكين"[16]، لكن في "شفاء العليل" ذكر فوائد في قوله: فيمَن هديتَ:

الأولى: أنَّه سؤالٌ له أن يُدخله في جملة المهديين وزُمرتهم ورُفقتهم.

الثانية: أنه توسّل إليه بإحسانه وإنعامه، يعني: كأن يقول: يا ربّ، قد هديتَ من عبادك بشرًا كثيرًا فضلاً منك وإحسانًا، فأحسن إليَّ كما أحسنتَ إليهم، كما يقول الرجلُ للملك أو العظيم من الناس: اجعلني من جملة مَن أعطيتَه وأوليتَه وأغنيتَه وأحسنتَ إليه. يقول: هذا شيءٌ قد عُهِدَ منك، وصدر عنك، فاجعلني في جملة هؤلاء. فيتوسّل إليه بإحسانه وإفضاله وبرِّه وجوده.

الثالثة: أنَّ ما حصل لأولئك من الهدى لم يكن منهم، ولا بأنفسهم، وإنما منك يا ربّ، فأنت الذي هديتَهم، فالله يهدي مَن يشاء، ويُضلّ مَن يشاء، فالعبد في هداية العلم، وهداية التَّوفيق، كلّ ذلك هو مُفتقرٌ إلى ربِّه -تبارك وتعالى- أن يسأل الهدايةَ، وأن يُكثر من هذا.

ومن السَّفه، ومن أعظم السَّفه: أنَّ الإنسان يأنف ويغضب إذا دُعِيَ له بالهداية، بعض السُّفهاء ضِعاف العقول إذا قيل له: هداك الله، غضب، وبادرك وقال: هداكَ أنتَ. وربما يعتقد أنَّه ليس بحاجةٍ إلى هدايةٍ، وأنَّه قد كمل نفسه من كل وجهٍ، وهذا غاية الجهل.

والجاهل كما يُقال: يضرّ نفسَه من حيث يريد أن يُحسِن إليها.

اللهم اهدني فيمَن هديتَ، وعافني فيمَن عافيتَ، "عافني" هنا مُطلق، لم يقل: عافني من كذا. فيدخل فيه المعافاة من الأدواء والأخلاق المرذولة، والأهواء والبدع والضَّلالات، ويدخل فيه عافية الدِّين، وعافية البدن، وعافية الدنيا، وعافية الآخرة.

فهنا يسأل ربَّه العافية المطلقة: العافية من الكفر، العافية من الفسوق، العافية من العصيان، العافية من الغفلة، العافية من الإعراض عن طاعة الله ، أو فعل ما لا يُحبّ، أو ترك ما يُحبّه الله -تبارك وتعالى-، هذه حقيقة العافية.

ولهذا يقول ابنُ القيم[17] -رحمه الله-: بأنَّه ما سُئِلَ الربُّ -تبارك وتعالى- أحبّ إليه من العافية؛ لأنها كلمةٌ جامعةٌ للتَّخلص من الشَّر كلِّه، وأسبابه، إذا قلت: "اللهم عافني"، نحن حينما نرفع أيدينا وندعو في القنوت: وعافني فيمَن عافيتَ، ونقول: آمين، هل نستشعر مثل هذا المعنى: عافية الدِّين والدنيا، عافية الآخرة؟

وتولَّني فيمَن تولَّيتَ، الولاية بمعنى النُّصرة: انصرني، تولَّى أمري، لا تكلني إلى نفسي، في جملة مَن تفضَّلْتَ عليهم بذلك.

فالمؤمنون هم أولياء الله -تبارك وتعالى-: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، إذا انتفت عنهم المخاوف، معنى ذلك أنَّه تنتفي عنهم الأسباب والمخاوف، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، تنتفي عنهم أسباب الحزن، ثم بيَّن هؤلاء وفسَّرهم فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فهؤلاء هم أولياء الله -تبارك وتعالى-، هؤلاء هم الذين أحبَّهم؛ فتولَّاهم، وحفظهم، وكلأهم، ورعاهم.

فحينما نقول: تولَّني فيمَن تولَّيتَ فنحن نسأله -تبارك وتعالى- التَّولي؛ أن يتولَّانا، التَّولي، أو الولاية الكاملة، وليس المقصود بذلك أن يدلّ الإنسان على الهدى مثلاً، ويُرشد إليه دلالة إرشادٍ، وهداية إرشادٍ، أو أن يخلق اللهُ الإنسانَ في حالٍ من العافية والقُدرة والإرادة، وما إلى ذلك، دون أن يكون له من ولاية الله -تبارك وتعالى- شيئًا، فهذا خلاف المقصود.

وقال: تولَّني فيمَن تولَّيتَ، وبارك لي فيما أعطيتَ، "بارك لي فيما أعطيتَ" عرفنا في مناسباتٍ سابقةٍ أنَّ البركة تدلّ على الكثرة والنَّماء، "بارك لي" يعني: أكثر لي الخير: "بارك لي فيما أعطيتَ"، فهذا الذي أعطاه من العمر، المال، الولد، العلم، العمل، كلّ هذه الأمور، فإذا تحققت فيها البركة فإنَّ ذلك يحصل بسببه الخير الكثير، ليست العبرةُ بكثرة المال؛ كثيرٌ من الناس يدخل عليه من المال الشيء الكثير، ولكنَّه لا يكاد يبقى عنده شيء، ولا يدري أين ذهب، وليست العبرةُ بطول العمر؛ فمن الناس مَن يعمّر، قد يبلغ إلى المئة، وآخر يموت في العشرين، وهو خيرٌ منه في علمه، وعمله، ونفعه، وبرِّه، وصلاحه، وإصلاحه، في عشرين سنةً يكون له من الأعمال والفضائل والعلوم ما يربو به على ذاك الذي عاش مئة سنة، ليست العبرةُ بطول البقاء في هذه الحياة.

وهنا أيضًا: "بارك لي فيما أعطيتَ"، "في" هذه "فيما أعطيتَ" ليست كالسَّابق، يعني: "مع"، بمعنى "مع"، أو أنها تحتمل ذلك كما قال بعضُ أهل العلم، وإنما المعنى: أوقع البركةَ فيما أعطيتني من خير الدنيا، يعني: اجعل لي نصيبًا وافرًا من الاهتداء، معدودًا في زُمرة المهتدين، هذا في السَّابق، وهنا "بارك لي فيما أعطيتَ" فيما أعطيتني.

وقني يعني: احفظني شرَّ ما قضيتَ، يعني: ما قدّرتَ لي من قضاءٍ وقدرٍ، فهذا سؤالٌ لدفع الشُّرور عنه.

الوقت انتهى وزاد، أتوقف هنا، وأُكمل -إن شاء الله تعالى- في الليلة الآتية.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب التعبير، باب رؤيا الصَّالحين، برقم (6983)، وكتاب التعبير، باب الرؤيا الصَّالحة جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة، برقم (6987)، ومسلم: كتاب الرؤيا، برقم (2264).
  2. أخرجه مسلم: كتاب الرؤيا، برقم (2263).
  3. أخرجه مسلم: كتاب الرؤيا، برقم (2265).
  4. أخرجه أبو داود: تفريع أبواب الوتر، باب القنوت في الوتر، برقم (1425)، والترمذي: أبواب الوتر، باب ما جاء في القنوت في الوتر، برقم (464)، والنَّسائي: كتاب قيام الليل وتطوع النَّهار، باب الدُّعاء في الوتر، برقم (1745)، وأحمد في "المسند"، برقم (1718)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله كلّهم ثقات"، والزيادة في رواية أبي داود، والبيهقي في "السنن الكبرى"، برقم (3181).
  5. انظر: "السنن الكبرى" (3/56)، برقم (4895).
  6. انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (3/951).
  7. "معجم ابن عساكر" (2/795)، برقم (998).
  8. "تحفة الذاكرين بعدّة الحصن الحصين" (ص198).
  9. في "صحيح أبي داود"، برقم (1281).
  10. أخرجه ابنُ أبي شيبة في "مصنفه" (2/98)، برقم (6932)، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، وقال الترمذي بعد حديث رقم (464): "وقد رُوِيَ عن علي بن أبي طالبٍ أنَّه كان لا يقنت إلا في النِّصف الآخر من رمضان، وكان يقنت بعد الركوع. وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى هذا، وبه يقول الشَّافعي، وأحمد". انظر: "سنن الترمذي" ت: شاكر (2/329).
  11. لم أقف عليه.
  12. انظر: "الأم" للشافعي (1/156)، و"الحاوي الكبير" (2/151)، و"المجموع شرح المهذب" (3/517).
  13. انظر: "مجموع الفتاوى" (19/310-311).
  14. انظر: "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/46).
  15. "شفاء العليل" (ص111).
  16. انظر: "مدارج السالكين" (1/46).
  17. "شفاء العليل" (ص111).

مواد ذات صلة