الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(222) دعاء من أصابته وسوسة في الإيمان " يستعيذ بالله " ينتهي عما وسوس فيه "
تاريخ النشر: ٢١ / ذو الحجة / ١٤٣٥
التحميل: 2063
مرات الإستماع: 1689

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

هذا باب (دعاء مَن أصابته وسوسةٌ في الإيمان)، وذكر فيه المؤلفُ أربعة أذكارٍ: ذكر الاستعاذة، والانتهاء عمَّا وسوس فيه، وأن يقول: (آمنتُ بالله ورسله)، ويقرأ الآية: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3].

الوسوسة معروفة، وبناء هذه اللَّفظة يدلّ على ترددٍ وتكرارٍ؛ فإنَّ التكرار في الحروف يدلّ على مثله في المعنى، أو نحوه: الزلزلة؛ ترددٌ في الحركة واضطرابٌ، والصَّلصلة في الصوت، والجلجلة، والوسوسة تُقال لأصوات الحُلِي، ووسواس الحُلي: الأصوات التي تصدر من حُلي المرأة، ويحصل بها ترددٌ باضطرابها وحركتها.

وكذلك هذه الخواطر التي يُلقيها الشيطانُ في قلب العبد، فإنَّه لا يُلقي ذلك مرةً واحدةً ثم ينتهي، وإنما يُردد ذلك على قلبه، فهذا قيل له: الوسوسة، وهذه الوسوسة تكون من الشياطين: شياطين الجنّ، وشياطين الإنس.

وقد مضى الكلامُ على قوله -تبارك وتعالى- في سورة الناس: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:4-6]، وذكرنا القولين في قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ: هل هذا يرجع إلى الوسواس؛ وهو أنَّ الموسوس يكون من الجنِّ ومن الإنس، أي: من شياطين الإنس، وشياطين الجنِّ: مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، هذا الوسواس تارةً يكون من الجنِّ، وتارةً يكون من الإنس، أو أنَّ ذلك يرجع إلى الناس في قوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ يعني: يقع هذا الوسواس في صدور الجنِّ وصدور الإنس؟

وذكرنا الإيراد على هذا: هل يُقال للجنِّ: ناسٌ أو لا؟ أو أنَّ ذلك يُقال بقيدٍ، يُقال: ناس من الجنِّ، وإذا أطلق فهو من الإنس؟ ذكرنا كلام أهل العلم في هذا.

على كل حالٍ، هذه الأمور الأربعة التي ذكرها المؤلفُ، أوَّلها: ما جاء في حديث أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: مَن خلق كذا؟ مَن خلق كذا؟ حتى يقول: مَن خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينتهِ.

لاحظ هنا ذكر أمرين: الاستعاذة، والانتهاء. ذكر له قولاً يقوله، وأمره أيضًا بأمرٍ، وهو أن يقطع هذا الوسواس بالانتهاء والإعراض عن ذلك، فهذا الحديث -وهو حديث أبي هريرة - مُخرَّج في "الصحيحين"[1].

وقوله: يأتي الشَّيطان يحتمل أنَّه إبليس، ويحتمل أنَّه من جنود إبليس وأعوانه وحزبه.

وبعض أهل العلم يقول: قد يكون ذلك من الإنس، أو من الجنِّ؛ فالإنس يأتيه ليُثير الشُّبهات والشُّكوك عنده، فيقول له: مَن كذا؟ مَن كذا؟ وقد يكون هذا في موقع إلكتروني، يُلبِّس على الناس، ويُشككهم، وقد يكون في مُدونةٍ، وقد يكون ذلك في حسابٍ في تويتر، أو غيره، فيُوقع الشُّكوك في نفوس الناس.

وكذلك شياطين الجنِّ؛ يأتيه فيقول: مَن خلق كذا؟ كما سيأتي في الحديث الآخر: مَن خلق السَّماء مثلاً؟ مَن خلق الأرض مثلاً؟ فإذا استرسل مع هذه السُّؤالات يصل إلى هذا السؤال الذي يُوقعه في الإشكال، حتى يقول له بعد ذلك: مَن خلق ربُّك؟، فهنا يجب عليه أن يقطع ذلك وينتهي.

قال: فليستعذ بالله فهذه الاستعاذة تطرد شيطانَ الجنِّ، فإنَّ شياطين الجنِّ كما ذكرنا في بعض المناسبات كلامًا للحافظ ابن كثير -رحمه الله-، حيث قال: "وهو أنَّ الله يأمر بمُصانعة العدو الإنسي، والإحسان إليه؛ ليردّه عنه طبعه الطَّيب الأصل إلى الموادّة، والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشَّيطاني لا محالةَ؛ إذ لا يقبل مُصانعةً، ولا إحسانًا، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم؛ لشدّة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل"[2].

فالاستعاذة هي السَّبيل الوحيد إلى طرد هذا الشيطان: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200].

أمَّا العدو من الإنس: فإنَّ الله -تبارك وتعالى- أرشدنا إلى الدَّفع بالتي هي أحسن، فقال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وهذا لطيب عنصر الآدمي؛ فإنَّ المصانعة معه، والكلام الطَّيب، والإحسان، كلّ ذلك يكبت عداوته، وقد يتحوّل إلى وليٍّ حميمٍ.

أمَّا شيطان الجنِّ فلا سبيلَ إلى دفعه إلا بالاستعاذة، وهنا يتخلص الإنسانُ من شرِّه وخواطره ووسواسه، وما يُلقيه في قلبه؛ أن تلتجئ إلى الله، تقول: أعوذ بالله، أعتصم وألتجئ بالله -تبارك وتعالى.

وقد استثنى حينما توعّد بإغواء ذُرية آدم -عليه الصَّلاة والسَّلام- قال: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40]، فهؤلاء المخلصين لا سبيلَ له إلى إغوائهم، وأضافهم إلى الله -تبارك وتعالى- لاختصاصهم به؛ فالإخلاص سبيلٌ للخلاص، فإذا قال العبدُ: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فإنَّه يكون قد اعتصم بالله -تبارك وتعالى-، والتجأ إليه، ويكون الشيطانُ بذلك قد ضعف وخنس، فكيده ضعيفٌ كما قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، يُدْفَع بالاستعاذة، لكنَّه يقوى حينما يسترسل العبدُ مع هذه الأفكار والخواطر؛ فيُلقي عليه من هذه الوساوس، فإن وجد محلاً قابلاً ألقى عليه الآخر، ثم الثالث، ثم تابع ذلك عليه، فيتعاظم.

وهذا يكون في الوساوس في باب الإيمان، وفي باب الطَّهارة، وسيأتي في الصَّلاة، وفي العبادات، وما إلى ذلك.

ويكون أيضًا في الوساوس في الأمور الأخرى؛ فيما يتَّصل بمعاشه ومعاده، وفي أموره الحياتيَّة العاديَّة: في صحَّته وسقمه، وفيما يتعلق بعلاقته بالآخرين، يُلقي الشيطانُ في قلبه شيئًا: يُوهمه بالمرض، ويُوهمه بأنَّ هناك مخاوف تنتظره، فإذا وجد المحلَّ القابل تعاظم ذلك في نفسه، وقوي الشيطانُ عليه، فألقى عليه، ثم ألقى، ثم صار يُصور له كلَّ ما يُشاهد ويرى بصورة المكروه الذي يتخوّفه، حتى يصير هذا الإنسانُ في حالٍ من الوحشة والكآبة والضِّيق والقلق والخوف الذي يُساوره في ليله ونهاره، لا ينفكّ عنه بحالٍ من الأحوال، وقد يمرض، وليس به عِلَّة، وقد يصير في حالٍ ينتظر الموت، وليس به بأسٌ.

وقد رأيتُ من هذا أشياء، وتحدَّث أناسٌ بما يُعانون ويُكابدون، وليس بهم بأسٌ، وما بقي على أحدهم إلا خروج الروح؛ لشدّة ما يتلاعب به الشيطانُ، وقد يُوهمه أنَّه مسحورٌ، فيجد جميع أعراض السِّحر، وقد يُوهمه أنَّه مُصابٌ بمسٍّ، وتسلّط الشَّياطين، أو لربما أوهمه أنَّه مُصابٌ بشيءٍ من الأدواء، أو العين، أو غير ذلك؛ فيجد نفس الأعراض في ساعته.

وكلَّما وجد المحلَّ القابل قوي الشيطانُ عليه، وصار يُلقي؛ فلذلك السَّبيل هو الاستعاذة، ولا يسترسل الإنسانُ مع هذه الخواطر والوساوس؛ فيترقّب الشُّرور والمخاوف والآفات والعِلل والأوصاب والأمراض، فيبقى في قلقٍ دائمٍ، وإنما الواجب أن يُعرض عن الفكر في ذلك، ويعلم أنَّ هذا الخاطر من وسوسة الشَّيطان، فهو الذي يسعَ بالفساد والإغواء، فلا يُصْغِ إليه، ويُبادر بقطعه، هذا هو الواجب، والسَّبيل إلى قطع ذلك، وهو بالاستعاذة، فبها يقطع هذه المادة.

والأمر الثاني: الانتهاء والإعراض عن ذلك بالكُلية، فالشَّيطان يُؤذيه بهذه الأمور، كما قال شيخُ الإسلام: "فأمره بالاستعاذة منه ليقطع عنه اللهُ الوساوس الفاسدة التي يُلقيها الشيطانُ بغير اختياره، ويُؤذيه بها، حتى قد يتمنَّى الموت، أو حتى يختار أن يحترق"[3].

والذي يُصاب بهذا -نسأل الله العافية- يتمنَّى أن يموت، وربما يختار أن يحترق ولا يتكلم بمثل هذه القضايا، أو أنَّه يسلم منها -نسأل الله العافية-.

فإذا قرأ القرآنَ بدأ يُصوِّر له أشياء عن الذَّات الإلهية، ويُصوِّر له أشياء عن النبوة والوحي والرسالة والقرآن، وأمور في غاية القُبْح، لا يستطيع أن يتكلّم بها، فإذا قرأ آيةً تراءت له المعاني الباطلة والفاسدة، والتَّصورات التي يُلقيها الشيطانُ؛ فيقلق من قراءته ويحزن، وينزعج أثناء القراءة، فصارت القراءةُ بالنسبة إليه سببًا للهمِّ والقلق والضِّيق لما يجد.

وهكذا إذا سمع القرآن، أو سمع ذكر الله ، أو قام يُصلِّي، فكلّ ذلك يجده في نفسه؛ لأنَّ الشيطان صار يتلاعب به، وقوي عليه.

وتقول لهذا الإنسان: قم فصلِّ ركعتين، واقرأ القرآنَ بتدبُّرٍ، ونحو ذلك، فيقول: المشكلة أني أقرأ، وإذا قرأتُ زادت هذه الأمور، وصارت القراءةُ سببًا لمزيدٍ من المعاناة.

فعليه أن يستعيذ أولاً قبل أن يقرأ؛ ولذلك نحن أُمِرْنَا قبل القراءة أن نستعيذ؛ لئلا يأتي الشيطانُ ويتلاعب به أثناء قراءته؛ فيشغل قلبَه: إمَّا بالانصراف، وإمَّا بما يُلقيه في قلبه من الأفكار والوساوس السَّيئة.

فهنا لما شكوا للنبي ﷺ: "إنَّ أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممةً -أي: فحمةً، يتفحَّم- أو يخرّ من السَّماء إلى الأرض؛ خيرٌ له من أن يتكلّم بما به"[4]، وفي الرِّواية الأخرى: "ما يتعاظم -أي: أحدنا- أن يتكلّم فيه"، فقال: ذاك صريح الإيمان[5]، فقال: الحمد الله الذي ردَّ كيده إلى  الوسوسة[6].

وشيخ الإسلام -رحمه الله- فسَّر: ذاك صريحُ الإيمان بقوله: "أي: حصول هذا الوسواس، مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب، هو من صريح الإيمان"[7].

الشيطان يقول: أنت منافق، أنت كذا، أنت كذا، كيف تقرأ القرآن؟ كيف تذكر الله ؟ كيف تُصلِّي؟ كيف تجلس مع الأخير؟

هذه الكراهة التي تجدها في قلبك قال عنها النبيُّ ﷺ: ذاك صريحُ الإيمان، شيخ الإسلام فسَّره بالكراهة التي يجدها المسلمُ في نفسه، فإنَّ المنافقَ لا يجد هذه الكراهة، بل يعتقد ذلك، ولا يقلق منه، أمَّا المؤمن فهو الذي ينزعج، فدلّ على أنَّه صريح الإيمان.

وبعض أهل العلم قال: ذاك صريح الإيمان يعني: هذه الوسوسة؛ لأنَّ الشيطان ما يفعل بالبيت الخرب؟! فهذا الإنسان الكافر الذي لا يعرف الله لا يُوسوس إليه الشيطانُ، وإنما يقوده كما تُقاد البهيمة، لكن إذا عجز عن العبد، ولم يستطع أن يُغويه، فإنَّه ماذا يفعل معه؟ يبدأ بالقلق، وهذا له أحوال وصور كثيرة، وانظر إلى الإنسان الذي به سحرٌ، أو مسٌّ قديمٌ، ربما يكون على حالةٍ من الاستقرار والسُّكون لا يعرض له إلا في حالات قليلة، ولكن لو أنَّ هذا الإنسان رُقِيَ رُقيةً صحيحةً تبدأ هنا أمور تتزلزل في داخله، وتبدأ مُعاناة جديدة وقوية وشديدة.

وكثيرٌ من هؤلاء الناس يسأل فيقول: هل أستمرّ؟ أنا أعيش الآن في حالٍ من الكرب والشدّة، وتضاعفت عليَّ العِلَّة! لما بدأ بالرقية ما الذي حصل؟ الذي حصل انزعاجٌ لهذا الشيطان الذي قد كمن في داخله، فأزعجته هذه الرقية؛ فتحرَّك، فيكون هذا مثل المخاض الذي يسبق الولادة، فعليه أن يثبت ويصبر ويستمرّ حتى تنجلي هذه العِلَّة، ويخنس هذا الشَّيطان ويخرج، لكن قبل أن يُحرّك ربما كان قد استكنَّ في هذا الجسد، ولا يجد هذا الإنسان ربما كثيرًا من المعاناة.

فهنا النبي ﷺ قال: ذاك صريحُ الإيمان، إذًا لماذا تقلق؟ لماذا تنزعج؟ لماذا تصدِّق هذا في وساوسه وخواطره حينما يقول لك: أنت مُنافق، أنت كذا، أنت كذا؟! ويقول لك: أنت تعصي الله سرًّا، وتُظهر الصَّلاحَ والخير؟! هذا ليس هو النِّفاق، النِّفاق أن يُبطن الإنسانُ الكفرَ، ويُظهر الإيمان، أمَّا المعصية فلا يخلو أحدٌ من معصيةٍ، والذي يعصي سرًّا أفضل من الذي يعصي جهرًا، والنبي ﷺ يقول: كل أُمَّتي مُعافًى إلا المجاهرين[8]، فهذه المجاهرة تكون سببًا لعدم المعافاة، فيأتي الشيطانُ ويتلاعب بمثل هؤلاء.

فالشَّاهد: أنَّ النبي ﷺ في هذا الحديث قال: وليَنْتَهِ يعني: يترك التَّفكر في هذا الخاطر، وليشتغل بأمرٍ آخر؛ لئلا يستحوذ عليه الشيطانُ، فإنَّه إنما أوقعه في رجاء أن يقف معه.

هذا مثل الكلب -أعزكم الله- تمامًا إذا نبح، فإن وقفتَ تنظر إليه، وتحاول أن تدفعه، فإنَّه لن ينتهي، ولن يقف عند حدٍّ، وسيضيع عليك الزمان، وتنقطع عن أشغالك ومصالحك، وأنت تنظر إلى هذا الكلب، كلَّما تحركتَ نبح، وكلما التفتَّ إليه نبح، لكن لو ذهبتَ في طريقك وسبيلك، وجعلتَه ينبح حتى ينقطع صوتُه؛ فإنَّك لا تتأذَّى، ولا تتضرر من صنيعه هذا إذا نبح، وأنت تكون قد ذهبتَ في مصالحك، ووفرتَ الزمان والجهد.

فالشَّيطان كذلك: تستعيذ وتمضي، وأصحاب النفوس الضَّعيفة الذين تتسلط عليهم الخواطرُ والوساوسُ السَّيئة ننصحهم دائمًا: ألا يخلو بنفسه، وأن ينشغل دائمًا بأمورٍ عمليةٍ، ويذهب يشتغل مع جمعيةٍ، وإن كانت بنتًا تذهب للتَّحفيظ، وتشتغل في البيت بأعمال المنزل في المطبخ، وما إلى ذلك، تشغل نفسَها، ولا تذهب إلى فراشها إلا إذا كانت تُغالب النوم، أمَّا إذا كان الإنسانُ يجلس وحده فتغلبه الوساوس.

ولذلك ينبغي أن ينتبه لكبار السنِّ مثلاً، إذا وصل أحدُهم إلى حالٍ من تقدم العمر وتقاعد، ثم بعد ذلك همَّشه أولاده؛ لسوء تدبيرهم، ولم يجعلوا هذا الوالد يُزاول أيَّ عملٍ من الأعمال، بزعمهم أنَّهم يكفونه، فيبقى في حالٍ من الفراغ الشَّديد القاتل، ولربما ماتت امرأتُه فيبقى وحيدًا، وكثيرٌ من هؤلاء لربما تتسلط عليهم الوساوس، ويبدأ يتوهم الأمراض والعِلل، ويضعف، وينكمش، وتظهر عليه آثارُ ذلك سريعًا في شهورٍ، وليس في سنوات، وإذا رأيتَه أنكرتَ صورته وهيئته وحاله وقلبه ونفسه، من الضَّعف والعجز والمسكنة، وقد ظهرت عليه أمارات الاعتلال، هذا بسبب الانفراد والاسترسال والاستسلام لهذه الخواطر الشَّيطانية، فعليه أن ينتهي، وأن يشغل نفسَه.

ولذلك من المهم أن يُشْغَل مثل هذا: بأن يجعلوا له ضيعةً، أو مزرعةً، أو غير ذلك، ولو صغيرة يشتغل فيها، ويذهب ويُشرف على العمَّال، ويحرث معهم، ويشتغل ويزرع، وما إلى ذلك، فتنجلي عنه هذه الخواطر والوساوس والهموم، ويعود له نشاطُه وعافيتُه، ويرجع وهو في حالٍ من التَّوقد والحيوية.

وقد رأيتُ بعضَ هؤلاء من كبار السنِّ طريح الفراش، وكنتُ أظنّه في غاية المرض، فلمَّا سألتُ، قيل: ليس به بأسٌ، لكن ما عنده شيءٌ، هكذا على فراشه صباح مساء، كأنَّه مريضٌ.

فهذا لا شكَّ أنَّه يُوقعه في مثل هذه الأمور، وأحيانًا القضية تصل إلى حال المرض الذي يحتاج ربما بعض العلاجات والعقاقير، لكن الاستعاذة والترك والإعراض تدفعه، فلا يلتفت إليه، وإلا فإنَّه قد يُزعجه إزعاجًا شديدًا؛ فيستيقظ في وسط الليل ويبكي، ويضطرب ويرتعش لشدّة ما يجد، وربما ملأ قلبَه من الخواطر بأيِّ لونٍ كان، من هذا النوع، أو من غيره، أو الشعور بالمرض، أو نحو ذلك، أو تسلط الشياطين بالصَّرع، أو السّحر، أو المسّ، أو غير ذلك، وربما كتم ذلك عن غيره، وأخفاه؛ فيتعاظم ذلك في نفسه، فيظهر في حالةٍ غير عاديةٍ، يظنّ أنَّ الرجل قد فقد عقله أحيانًا، وليس به بأسٌ، وإنما جمع هذه الأشياء مدةً؛ فتعاظمت في نفسه، ثم وصل إلى حالٍ فقد معها -كما يُقال- السيطرة على تصرُّفاته، فصار إمَّا يصيح، أو لا يستطيع أن يتنفس، أو صار بحالٍ من التَّخليط، أو غير ذلك من الصُّور التي تتجلَّى في مُزاولات يظنّ مَن حوله أحيانًا أنَّه قد أُصيب في عقله، أو أنَّه قد حصل له شيءٌ من العوارض: من مسٍّ، أو تلبس الشَّياطين.

فيحتاج العبدُ إلى أن ينشغل ويبتعد، وإلا فالشَّيطان لن يترك سبيلاً من أجل أن يشغله ويُقلقه ويُزعجه في أوقات راحته، وفي أوقات نومه يُريه الرُّؤى المزعجة، وفي أوقات النُّزهة التي يطلب فيها الناسُ الملاذَّ والمسارَّ، وما إلى ذلك، يُلاحقه فيُزعجه، وتتنغَّص عليه تلك المسارُّ.

مع أنَّ هذه الأسئلة كما يقول شيخُ الإسلام في كتابه "بيان تلبيس الجهمية": "فهذه السُّؤالات من شياطين الإنس والجنِّ أسولة معلومة الفساد في العقل؛ ولهذا أمر النبيُّ ﷺ العبدَ إذا جاءته هذه المسائل أن يستعيذ بالله منها، وينتهي؛ فإنَّ الشيطان يُلقي إليه هذه المسائل ليُشكِّكه في الحقِّ"[9].

ولهذا أمر النبيُّ ﷺ بدفعها بهذه الطَّريقة مُباشرةً: وهو أن يستعيذ بالله، ويترك ما يحتاج إلى إقناعٍ، وما يحتاج إلى إجابةٍ بإجابات عقليَّةٍ؛ لماذا؟ لأنَّه حينما وقع ذلك في قلبه لم يكن عن شُبهةٍ؛ ولهذا نُفرِّق بين المقامين: فالناس الذين عندهم شُبهات قرأوها في مواقع، أو سمعوها من أناسٍ، هذا يحتاج إلى معالجةٍ وإقناعٍ وجوابٍ، ولا تكفي الاستعاذة.

لكن نحن نتكلم عن الخواطر التي تقع عارضةً؛ ولذلك يلتبس على بعض الناس: كمَن يخشى أنَّه مُنافق، أو كافر، بل سمعتُ بعضَهم يقول: بأنَّه قد تكلّم ونطق بالكفر صراحةً مما كان يدور في قلبه، يقول: من أجل أن أستريح، ويقول: ثم أذهب وأغتسل وأنطق بالشَّهادتين، وأُصلِّي ركعتين.

نقول: كلّ هذا لا حاجةَ إليه، أنت على إيمانك الأول، ولم تخرج من الإسلام، يقول: نطقتُ؟! نقول: حتى لو نطقتَ، بعضُهم يقول: بأنَّه يأكل عقاقير وأدوية، ثم يأتيه الشيطانُ يقول: حينما سألتَ فلانًا واستفتيتَ هذا من أهل العلم لم تذكر له أنَّك في الحال التي نطقتَ فيها، أو تكلَّمتَ فيها كنتَ في حالٍ من الاستقرار بسبب أنَّك تتناول هذه العقاقير.

أنا أقول لهؤلاء عادةً: اكتب جوابي، وبعضهم يقول: اكتب لي، إلى هذا الحدِّ، فأقف معه، وأجلس أكتب له عند سيارته، وإلا كذا، ليس عليك في ذلك بأسٌ، هذا لا يضرّك، وأقول له: علِّقها عند فراشك، واقرأها صباح مساء، وكل سؤالٍ تُريد أن تسألني اجعلها خلفيةً في جهازك الجوال، وقبل ما تتَّصل اقرأها، هذا جوابي، ما عندي جوابٌ آخر، يقول: لا يمكن، ما فهمتُ، أنا كنتُ آكل الدَّواء، وكان الوضعُ عندي مُستقرًّا، يمكن أُؤاخذ بهذا الكلام؟ نقول: لا تُؤاخذ.

وبعضهم يُوسوس بأنَّه نطق بالطَّلاق، وبعضهم يقول: اضطررتُ أني أنطق من أجل أن أستريح، نقول له: ابحث عن أكبر مُكبّر صوتٍ في البلاد، وأعلنها صريحةً، وانطق بالطَّلاق، ولا يضرُّك، ولا يقع طلاقُك؛ لأنَّ هذا الإنسان مسكينٌ، مريضٌ، هذه حالة غير طبيعيَّة، لا يقع منه طلاقٌ.

وهذا الذي يقول: بأنَّ الحدثَ مُستمرٌّ. نقول: عندك وسوسة؟ يقول: نعم، لكن أنا مُتأكّد. مُتأكّد من ماذا؟!

وبعض النِّساء تقول: إنها تُنزل كلَّما مرت برجلٍ، أو رأت رجلاً، وعند الحرم تمرّ بآلاف الرِّجال، وكلَّما مرت برجلٍ أنزلت. هذا لا يمكن، ولا يتأتَّى في طبائع البشر، ولا تُطيقه الأبدانُ، وهذا محالٌ من المحالات، كيف تُصدقين هذا الكلام؟! فأقول لها: لو أنزلتِ ألف مرةٍ ليس عليك غسلٌ، وليس عليك شيءٌ.

هذا الذي يقول: أنا كلما صليتُ انتقض وضوئي. وهذا يقول: أنا ما أعرف أنطق تكبيرة الإحرام: الله أكبر. نقول: صلِّ بلا تكبيرة إحرامٍ، وليس عليك بأسٌ، ولا تعد شيئًا، وهكذا حتى تقطع على هذا الإنسان الوسوسة.

والمقصود أنَّ هناك فرقًا بين مَن كان ذلك بسبب شُبهةٍ عنده بالإيمان، فيحتاج إلى مُعالجةٍ وجوابٍ، وإلا فإنَّه تكفيه هذه الاستعاذة؛ لأنَّ الشيطان يُريد أن يشغله، ويُضيع زمانه، ويُكدّر عيشَه، فإذا استرسل معه غلبَه.

حتى هذه الأسئلة وهذه المناقشات هي تجذيرٌ -كما يُقال- وتعميقٌ للمشكلة، يعني: أنا أقول لهؤلاء الذين يتساءلون عادةً: هذا السُّؤال بحد ذاته هو تجذيرٌ للمشكلة، خلاص، هذا الجواب الوحيد، فلا تسأل بعده أحدًا، هذا لا يضرّك، وإيمانك صحيحٌ، وليس عندك مشكلة، ولم تخرج من الإسلام.

فهذا يسأل عن نفسه، ويسأل عن زوجته، ويسأل عن أخيه، ويسأل عن أبيه، قال كذا، هل خرج من الإسلام؟ وهل هذه الزوجة عقدها صحيحٌ؟ ثم يقول: طيب، أنا قلتُ كذا، هل العقد باقٍ على حاله، أو نحتاج إلى تجديدٍ؟

هذا كما قال الله : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200].

وقد ذكر بعضُ أهل العلم أنَّ هذا غالبُ ما يقع لدى أصحاب النفوس التي لا تشتغل بالمهمّات؛ فمَن عنده فراغٌ وبطالةٌ يشغله الشيطانُ بهذه الأفكار السَّيئة، وقد يتسلط عليه في لحظاتٍ عارضةٍ، وهذا ينبغي التَّنبه له، فبعض الناس يأتيه في حال الانتقال إلى الهداية أو التوبة والاستقامة، فيقول: قبلُ ما كانت عندي هذه المشكلة، يوم تبتُ إلى الله، واستقمتُ، وحافظتُ على الصَّلاة؛ تسلَّطَتْ عليَّ هذه الخواطر، وكنتُ في راحةٍ.

نقول له: الحالة التي كنتَ فيها كان الشيطانُ قد جثم على صدرك، واطمأنَّ أنه تمكَّن منك، فلمَّا وثبتَ أصبح يقلق، فصار مثل الكلب الذي ينبح خلفك، وأنت تمضي في طريقك؛ فيُقلقك ويُزعجك بصوته، وقبلُ ما كان يحتاج إلى هذا، كان قد أخذ بجرَّانك وحنَّكك، وجثم على صدرك، وما يحتاج إلى هذا النّباح الكثير، لكن لما انطلقتَ من أسره، صار بهذه المثابة؛ ليُقلقك ويُزعجك، فإذا تجاوزتَ هذه المرحلة انخنس وانتهى وتلاشى ذلك كلّه، حيث ييأس وينتهي تمامًا، فلا تقلق، فهي مرحلة محدودة، قصيرة وتزول.

وقد يتسلَّط على بعض الناس في مراحل يحصل فيها شيءٌ من الضَّعف، أو مراحل انتقاليَّة في حياتهم، مثلاً: قد يكون هذا الإنسانُ مشغولاً في برامج وحلقة ... إلى آخره، ويحفظ القرآنَ، فإذا حفظ وانتهى وترك وتخرَّج أصبح وحيدًا؛ لينتقل إلى مرحلةٍ أخرى، أو ينتقل إلى الجامعة، أو ينتقل من الجامعة إلى العمل، وكان في بيئةٍ مع زُملائه يتعاونون على الخير، فانتقل وذهب من هنا إلى مكانٍ آخر، ففترة الانتقال هذه، مرحلة الانتقال تكون مرحلةَ ضعفٍ عند بعض الناس؛ فيتسلَّط عليه فيها، فإذا استجاب قوي عليه، وأزعجه غايةَ الإزعاج: إمَّا بأوهامٍ في الاعتقاد، وإمَّا في قضايا أخرى تتَّصل بالعِلل والأمراض، أو بأمورٍ أخرى مما يتخوّفه الإنسانُ في علاقاته مع الآخرين، أو من الناس، أو نحو ذلك بأمورٍ يتوهمها، ومخاوف يتوقعها، فينكمش وينقبض وينزوي بعيدًا عن الناس، ويستوحش منهم، وربما يتصور أنَّهم يُؤذونه، وأنهم يتربصون به شرًّا، وما إلى ذلك من الخواطر -نسأل الله العافية-.

وهكذا -أيّها الأحبّة- يتسلط في أحوالٍ متنوعةٍ كثيرةٍ، فهو عدوٌّ لا يترك فرصةً إلا وثب، فينبغي أن نتعامل معه بهذا الاعتبار: أنَّه عدوٌّ لا يُريد بنا خيرًا، ولا يريد أن ترتاح، ولا يريد أن تبتسم، ولا تضحك، ولا تنبسط، ولا تستقيم على طاعة الله ، ولا يحصل لك خيرٌ دنيوي ولا أُخروي، يريد دائمًا أن تتعثر، وكلٌّ بحسبه، فيأتي كلَّ إنسانٍ بحسب الباب الذي يصلح لمثله، فينبغي الحذر.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

 

  1. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3276)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الوسوسة في الإيمان وما يقوله مَن وجدها، برقم (134).
  2. "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (1/110).
  3. "درء تعارض العقل والنقل" (2/15).
  4. أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، بابٌ في ردِّ الوسوسة، برقم (5112)، وصححه الألباني.
  5. أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، بابُ بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله مَن وجدها، برقم (132).
  6. أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، بابٌ في ردِّ الوسوسة، برقم (5112)، وصححه الألباني.
  7. "مجموع الفتاوى" (7/282).
  8. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه، برقم (6069)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب النَّهي عن هتك الإنسان سترَ نفسه، برقم (2990).
  9. "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" (5/277).([4]) أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، بابٌ في ردِّ الوسوسة، برقم (5112)، وصححه الألباني.

مواد ذات صلة