الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
(279) الدعاء إذا تعس المركوب
تاريخ النشر: ٢٢ / ربيع الأوّل / ١٤٣٦
التحميل: 1627
مرات الإستماع: 1696

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

في هذه الليلة يكون الكلامُ -إن شاء الله- عن باب "الدعاء إذا تعس المركوب"، وقد جاء في ذلك ما رواه أبو المليح، عن رجلٍ قال: كنتُ رديفَ النبي ﷺ، فعَثَرتْ دابَّةٌ، فقلتُ: تعس الشيطان. فقال: لا تقل: تعس الشيطان؛ فإنَّك إذا قلتَ ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت، ويقول: بقوتي. ولكن قل: بسم الله؛ فإنَّك إذا قلتَ ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذُّباب.

هذا الحديث أخرجه أبو داود[1]، وسكت عنه، وما سكت عنه عرفنا أنَّه صالحٌ للاحتجاج عنده.

وجوَّد إسناده جماعةٌ من أهل العلم: كالمنذري[2]، وابن مُفلح[3]، والحافظ ابن كثير[4]، والشَّوكاني[5].

كما صحح إسناده آخرون: كالدّمياطي[6]، والهيثمي[7]، والعيني[8]، والشيخ ناصر الدين الألباني[9]-رحم الله الجميع-.

هنا الرَّاوي عن النبي ﷺ رجلٌ مُبهمٌ، ومثل هذا لا يضرّ في الصَّحابي؛ لأنَّ الصحابةَ -رضي الله تعالى عنهم- كلّهم عدول، فإذا سُمِّي أو أُبهم فإنَّ ذلك لا يُؤثر في صحة الحديث، فهذا المبهم صحابي قطعًا؛ لأنَّه يقول: "كنتُ رديفَ النبي ﷺ"، يعني: قد ركب مع النبي على دابَّةٍ واحدةٍ، فهذا من أصحابه، وهم عدولٌ -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-.

يقول:"فعثرتْ دابَّةٌ" ظاهره أنَّها دابَّة غير التي كانوا يركبونها، وعرفنا أنَّ الدابة تُقال لذوات الأربع في العُرف الاستعمالي، وإلا فهي في أصل اللغة لكل مادبَّ على الأرض، وقد تُخصّ بنوعٍ منها: كالمركوبات من الإبل والخيل والحمير والبِغال، وقد تُخصّ بنوعٍ منها: كالحمار.

يقول: "عثرت دابَّةٌ، فقلتُ: تعس الشَّيطانُ"، لما عثرت هذه الدَّابّة دعا بهذا الدُّعاء، بهذه الصِّيغة التي هي صيغة خبرية مُضمّنة معنى الدُّعاء،ومعنى "تعس الشيطان": عثر وانكبَّ لوجهه، فهذا دعا عليه بالهلاك، يعني: هلك الشيطانُ؛ لأنَّ التّعس يُقال للهلاك والسُّقوط والبُعْد والانحطاط والشَّر، وما إلى ذلك، فهذا دعاءٌ عليه.

فالنبي ﷺ نهاه عن ذلك، قال: لا تقل: تعس الشَّيطان، ما العِلَّة؟ قال: فإنَّك إذا قلتَ ذلك، الفاء هنا تدلّ على التَّعليل، تعاظم حتى يكون مثل البيت يعني: ينتفخ ويعظم؛ لماذا؟ لأنَّه ينتشي بذلك، فأنت بذلك تُشعره أنَّه قد حقق مُراده منك، فيقول: بقوتي يعني: وقع هذا التَّعثر بقوتي، فيكون قد نال منك، ومن مركوبك، وحصل له مطلوبُه ومقصودُه من الأذى وإلحاق الضَّرر، فإنَّه عدو، لا يفتأ من فعل كلِّ ما يُمكنه من أجل الضَّرر والإساءة إليك، ولو في حال النّوم بالرؤى المزعجة.

والله يقول: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6]، تعاملوا معه معاملةَ العدو، فهو يرصدكم في كل طريقٍ: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ[النساء:119]، يرصد بني آدم، ويقعد لهم في كل طريقٍ.

لا تقل: تعس الشيطانُ؛ فإنَّك إذا قلتَ ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت، ويقول: بقوتي. ولكن قل: بسم الله؛ فإنَّك إذا قلتَ ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذُّباب، المعنى: أنَّه إذا سمع ذكرَ الله -تبارك وتعالى- حصل له مثل هذا التَّصاغر، فينخزل ويتضاءل، ويكون بهذه المثابة؛ مثل الذّباب.

والذّباب يُمثّل به من الجهتين: الصِّغر والحقارة، يُمثّل لمن صار في حالٍ من الخزي، يُقال: تصاغر وتضاءل وذهب وجهه حتى صار كالذُّباب، من الذّل الذي لحقه.

ويحتمل أن يكون التَّصاغر المذكور هنا في الحديث: أنَّه من الصَّغار، الذي هو بمعنى الذّل والهوان.

ويحتمل أن يكون تصاغر حسًّا حقيقةً، ينكمش حتى يصير مثل الذّباب، فهذا يصلح له هذا وهذا؛ لأنَّ الذبابَ يُقال للشَّيء الحقير،ويُمثّل بالذباب، وكذلك أيضًا من جهة الصِّغَر.

ويمكن أن يكون هذا وهذا -والله تعالى أعلم-؛ لأنَّه حينما ذكر تعاظمه مثَّله بالبيت، إذًا هو يتعاظم حقيقةً، وهذا التَّعاظم الحسيّ إنما يكون مُستنده على تعاظمٍ معنويٍّ: يقول: بقوتي، كما يدلّ عليه هذا اللَّفظ، فإذا ذكر اسم الله -تبارك وتعالى- حصل له التَّضاؤل والصّغار بنوعيه: الصّغار حسًّا، والصّغار معنًى، فيكون صغيرًا حقيرًا، وينخزل حتى يتضاءل، فيكون بهذه المثابة.

فهذا ما يتعلق بهذه القضية التي تقع للناس كثيرًا، سواء كان ذلك في تعثر الدَّابة، أو في غير ذلك، فالإنسان قد يتعثر وهو يمشي، وقد ينقطع شسع نعله، وقد يحصل له تعطّل في دابَّته ومركوبه وسيارته، وقد يحصل له شيءٌ من المكروه؛ بأن يقع له شيءٌ مما يُشاهده، ومما يكره، أو نحو ذلك، أو ربما حصل له حادثٌ، أو نحو ذلك، فيقول: "تعس الشيطانُ"، أو يُعبّر بعبارات مماثلة، كما يُعبّر العامَّة، يقولون: الله يقطع الشيطان، الله يقلع الشيطان. فهذه مثل: "تعس الشيطان"، فإذا قال ذلك انتفخ الشيطانُ وتعاظم، وقال: بقوتي. يعني: أنا الذي فعلتُ به ذلك.

إذًا ما الذي يجعل الشيطان ينخزل ويتضاءل؟

هو ذكر الله -تبارك وتعالى-، فيقول الإنسانُ: بسم الله، فإن كان المقامُ يقتضي استعاذةً، كأن يكون ذلك له تعلّق بالشيطان، فإنَّه يقول:"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، كأن يكون ذلك مُستفزًّا له، أو كان من نتائج الغضب، أو من نتائج العجلة، فإنَّ العجلةَ من الشيطان، أو نحو ذلك مما يقع للإنسان مما يكون الجالبُ له إنما هو تزيين الشيطان، فيقول:"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، لكن إن كان ذلك من جهة عثرةٍ، أو تعطُّلٍ في مركبةٍ،أو وقع الإنسانُ في مطبٍّ، في حُفرةٍ، أو نحو ذلك،فيقول: بسم الله، ولا يقل: تعس الشيطان، الله يقطع الشيطان، أو نحو هذا؛ فإنَّك لا تبلغ مُرادك منه بهذا، بل يتعاظم، وإنما تقول:بسم الله.

وهكذا ربما يُفاجأ الإنسانُ بأشياء: كأن يفتح الباب، وإذا بإنسانٍ يدخل مُسرعًا، فبعض الناس يقول: الله يقلع الشيطان، أخفتني، أو أفزعتني، أو نحو هذا.

ولذلك من الحسَن تعليم الصِّغار إذا سقط الواحدُ منهم أو نحو ذلك أن يقول: "بسم الله"، فإنَّ الشيطان يتضاءل ويتصاغر، فينشغل بنفسه، ولا يكون له سبيلٌ على هذا الإنسان، وإن كان الدَّاعي -كما سبق- هو من فعل الشَّيطان وتزيينه، فيقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".

المقصود أنَّ الشيطان يتضاءل عند ذكر الله -تبارك وتعالى-؛ ولهذا أمرنا ربُّنا -تبارك وتعالى- بالاستعاذة منه، من نزغاته: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ[الأعراف:200] مُباشرةً، فإنَّ هذا هو الدَّواء لهذه النزغات، ولا حلَّ غير هذا.

وهذا يُؤخذ منه أيضًا كما يقول الحافظُ ابن كثير-رحمه الله-: "وفيه دلالة على أنَّ القلبَ متى ذكر الله تصاغر الشَّيطان وغُلِبَ، وإن لم يذكر الله تعاظم وغلب"[10]، وهذه تقع للناس كثيرًا، ويُعانون منها، ومن جرائرها، وآثارها.

والإنسان كم يجني على نفسه، وقد يكون المحلُّ قابلًا، فيبقى قلبُه مفتوحًا للشَّيطان، خاصَّةً في حال الفراغ، وربما يقع له هذا الفراغ من غير اختيارٍ منه، مثل: كون الإنسان يمرض، ويتمادى به المرضُ الأيام والليالي، وربما الشُّهور، فيبقى فارغًا، فتأتيه خواطرُ الشيطان، فإذا فتح قلبَه لها تعاظمت عليه عِلَّته، وأخذه ما قَرُب وما بَعُد؛ فيستوحش من نفسه، ويستوحش ممن حوله، ويستوحش من الناس، ويشعر أنَّ الدنيا قد ضاقت، وأنَّ الشرَّ فيها قد تعاظم وتقارب حتى صار قاب قوسين منه أو أدنى، ويشعر أنَّالشرَّ والمكروه أقربُ إليه من اليد للفم.

لذلك الفراغ لا يُحْمَد، لا يجلس الإنسانُ فارغًا، وبخاصّة في أيام الإجازات، ونحن مُقبلون على إجازةٍ، فهذا الفراغ قد يُولّد أمراضًا وعِللًا، فإن حصل معه ما يُقوّيه: كأن يكون الإنسانُ يُفكّر تفكيرًا سلبيًّا، أو ربما يذهب ويقرأ في مواقع في الإنترنت أو نحو ذلك عن أشياء يتوهمها، يعني: ربما يتوهم أنَّه تُؤلمه هذه الناحية، أو يجد ألـمًا في هذه الناحية، أو ربما يجد نوعَ ورمٍ أو انتفاخٍ لا حقيقةَ له، هذه طبيعة الجسم أصلًا؛ فيبدأ يبحث ويقرأ، فيقرأ أنَّ هذه أعراض للمرض الفلاني، وأنَّ هذا يدل على كذا، وأنَّه يحتاج إلى كذا، ويذهب إلى الطَّبيب، وأنَّ الوضعَ لا يمكن أن يُؤخّر؛ فترتفع حرارته، ويبدأ يشعر أنَّه في حالٍ من الاعتلال والمرض والخطر، وربما لم يجد طعمًا للطعام، وربما لم يهنأ بنومٍ، ويبقى الأيام والليالي وليس به عِلَّة.

فمن الناس مَن يكون هذا شأنه مع الفراغ، ليس له عملٌ، وما قُبِلَ في جامعةٍ، أو تخرّج من جامعةٍ، ولم يعمل في مكانٍ، فيبدأ يتلمس جسدَه وينظر، ثم بعد ذلك يبدأ يقرأ عن هذه الأشياء، وليس به بأسٌ، فيشعر أنَّه قد أصابته أمراض خطيرة، وهكذا ما يراه في نومه من أشياء مُزعجة يُلقيها له الشَّيطان، والنبي ﷺ أخبرنا أنَّ الرؤيا السَّيئة من الشيطان، وأنها لا تضرّه[11]، وأنه يحتاج إلى الاستعاذة ونحو ذلك، فيبدأ يسأل هنا وهناك، ويبحث عن تعبير لهذه الرُّؤيا، فيُقال له: أنت كذا، وأنت مسحورٌ، وقد عَمِل لك عملًا أحدُ قرابتك، والعمل موجودٌ عندكم، أو الذي عمله واحدٌ ممن يُوجدون معكم في البيت، أنت تسكن مع مَن؟ ويبدأ يُفكّر بأبيه وأمّه وأقرب الناس إليه -نسأل الله العافية-، ويلعب به الشيطان!

فالصَّحيح أنَّ الإنسان يُعْرِض عن هذا كلِّه، ويُعْرِض عن خواطر الشيطان، ووساوس الشيطان، ويُكثر من ذكر الله -تبارك وتعالى-؛ فالشَّيطان ينخزل ويضعف، أمَّا أن يفتح قلبَه، ويغفل عن ذكر ربِّه-تبارك وتعالى-؛ فإنَّ هذا القلب يكون محلًّا قابلًا للخواطر والوساوس السَّيئة، فيمرض ويعتلّ، ويُصيبه من الأوهام ما اللهُ به عليم.

فالمقصود أنَّ النبي ﷺ أخبرنا عن هذا العلاج، وعمَّا ينبغي أن يُقال، وذلك من علم الغيب، وإلا ما الذي يُطلعنا ويُعلمنا بذلك؟

والحافظ ابن القيم-رحمه الله- في "زاد المعاد" ذكر عبارات نظيرة لهذه العبارة التي جاءت في الحديث: تعس الشيطانُ، يقول:"كقول القائل: أخزى اللهُ الشيطانَ -كما نقول نحن: الله يُخزي الشيطان، قبَّح اللهُ الشيطان-؛ فإنَّ ذلك كلّه يُفرحه، ويقول: علم ابنُ آدم أني قد نلتُه بقوتي"[12]. هذا كلام ابن القيم، وذلك مما يُعينه على إغوائه،ولا يستفيد القائلُ من هذا الكلام.

فأرشد النبيُّ ﷺ مَن مسَّه شيءٌ من الشيطان أن يذكر الله تعالى، ويذكر اسمَه، ويستعيذ بالله منه؛ فإنَّ ذلك أنفع له، وأغيظ للشَّيطان، هذا هو الطَّريق، هذا هو الحلّ، ونحمد الله على هذه الشَّريعة الكاملة، وعلى بعث هذا الرسول الكريم -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وما أنزل عليه من العلم والهدى والحكمة، فعلمنا ما لم نكن نعلم.

وانظروا إلى أولئك الذين حُرموا هذه النِّعمة الكبرى، كيف تكون حالهم؟ وكيف تتلاعب بهم شياطين الإنس وشياطين الجنّ؟!

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.

 

 

  1. أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، باب لا يُقال: خبثت نفسي، برقم (4982)، وصححه الألباني.
  2. "الترغيب والترهيب" للمنذري، ت: عمارة (4/81).
  3. "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/425).
  4. "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (8/539).
  5. "تحفة الذاكرين بعدّة الحصن الحصين" (ص237).
  6. "المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح" (ص477).
  7. "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/132).
  8. "العلم الهيب" (ص544).
  9. "تخريج الكلم الطيب" (ص174)، برقم (238).
  10. "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (8/539).
  11. أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3292).
  12. "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/324).

مواد ذات صلة