الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
07- المعارج، زيارة القبور، رفع الملام. (القواعد 106-118)
تاريخ النشر: ٠٣ / ذو الحجة / ١٤٣٢
التحميل: 5479
مرات الإستماع: 3399

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فاللهم اغفر لشيخنا، ولنا، وللحاضرين.

قال -رحمه الله-: ولابد من العلم بما أخبر به الرسول، والنظر في الأدلة التي دل بها الرسول وهي آيات الله، ولا بد مع ذلك من إرادة عبادة الله وحده بما أمر، ومَن طلبَ علمًا بلا إرادة، أو إرادة بلا علم فهو ضال، ومن طلب هذا بدون اتباع الرسول فيهما فهو ضال.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: "ولابد من العلم بما أخبر به الرسول ﷺ والنظر في الأدلة التي دل بها الرسول ﷺ ولا بد مع ذلك من إرادة عبادة الله وحده بما أمر، ومَن طلبَ علمًا بلا إرادة، أو إرادة بلا علم فهو ضال"، في الأصل: "ومن طلب هذا وهذا بدون اتباع الرسول فيهما فهو ضال".

هذا كله يرجع إلى ما تنازعت به الأمة -مع الأسف، وصارت شيعاً من جهة أن كل طائفة من هذه الطوائف تأخذ بعض ما جاء به الرسول ﷺ أو أنها تأخذ بعض الحق، وتترك بعضه، ولربما خالط بعضَ الحق الذي معهم شيءٌ من الباطل، فهؤلاء يُعنون بجانب، وهؤلاء يُعنون بجانب، وهؤلاء يُعنون بجانب، وهذا في كل وقت وحين، بعد زمان الصحابة  فإذا حصل معه شيء من البغي بين طوائف الأمة؛ فإن ذلك لا شك أنه أشد وأعظم جُرماً وجناية.

فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يبين أن العلم لابد منه، وأن النظر لا بد منه، الذين يُعنون بهذا الجانب هم طوائف من أهل الكلام، يقولون: لا بد من العلم، ولا بد من النظر، ولكنهم في الوقت نفسه قد يخطئون -وكثيراً ما يخطئون- فيكون نظرهم واشتغالهم وعلومهم بغير ما جاء به الرسول ﷺ من القواعد الكلامية، والأصول المنطقية، وما إلى ذلك من كلام أهل الفلسفة، فسبب ذلك ضرراً كبيراً، وحصل بسببه كثير من التبديل والتحريف، الذي سموه تأويلاً، واجترءوا على الله ، واشتغلوا بما لم يكن لهم، ولا يحل لهم الاشتغال به، فأوجبوا على الله أشياء، ومنعوا أشياء، ونفوا أشياء، وأثبتوا أشياء، بما أملته عليهم عقولهم، وقواعدهم الفاسدة.

يقول: "لا بد من العلم بما أخبر به الرسول، والنظر في الأدلة التي دل بها، ولابد مع ذلك من إرادة عبادة الله وحده بما أمر"، الإرادة: الذين يُعنون بها ويشتغلون بها عادة واشتهروا جدًّا في ذلك، دون اشتغال بالعلم هم الصوفية من جهة المقاصد والنيات، فهم يتكلمون على الإخلاص والتجرد، ومدافعة الخطرات، وما إلى ذلك، ويُغفلون الجانب العلمي، فيقعون في بدع وجهالات، والفقهاء يُعنون بالجوانب العملية -الأحكام الفرعية- كما أنهم يعنون بالجوانب العلمية؛ ولذلك لما تنظر مثلاً فيما يذكره الفقهاء من شروط للعبادات، وأركان تجد أنهم لا يكاد الواحد منهم يتحدث عن قضية الإخلاص، وإنما يتكلمون عن النية واستقبال القبلة، يعني نية العبادة، نية فرض أو نفل، صلاة عصر، أو صلاة ظهر، واستقبال القبلة، والطهارة، والشروط المعروفة، لكن قد يكون مرائياً، لا يتحدثون عن هذا، يقولون: هذا لأهل السلوك، محله كتب السلوك، فهؤلاء أخذوا جانبًا وهؤلاء أخذوا جانباً؛ ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لمّا ذكر هذا الكلام ذكر قبله أن الصوفية بنوا أمرهم على الإرادة، وقال: لا بد منها، لا بد من العناية بهذا الجانب حتى لا يكون العمل باطلاً، لكن لا بد أن تكون إرادة عبادة المعبود وحده لا شريك له بما أمر، يعني: أن يكون العمل على الجادّة -على السنة- لا يكون بدعاً وضلالات ومختلقات، كما أن المتكلمين بنوا أمرهم على النظر المقتضي للعلم، ولا بد منه، لكن يقول: "لا بد أن يكون علمًا بما جاء به، وأخبر به الرسول ﷺ، والنظر في الأدلة التي دل بها النبي ﷺ، ثم ذكر هذا الكلام الذي بين أيدينا، ثم قال: "وأهل الفقه في الأعمال الظاهرة يتكلمون، وأهل التصوف والزهد يتكلمون"، أهل الفقه يتكلمون في الأعمال الظاهرة -أعمال الجوارح- وأهل الزهد والتصوف يتكلمون في قصد الإنسان وإرادته، وأهل النظر والكلام وأهل العقائد من أهل الحديث وغيرهم يتكلمون في العلم والمعرفة، والتصديق الذي هو أصل الإرادة، ويقولون: العبادة لا بد فيها من القصد، والقصد لا يصح إلا بعد العلم بالمقصود، يقول: هذا صحيح، فلا بد من معرفة المعبود، وما يُعبد به، ويقول: وإنما القصد والإرادة النافعة هو إرادة عبادة الله وحده، وهو إنما يُعبد بما شرع لا بالبدع، وعلى هذين الأصلين يدور دين الإسلام.

خلاصة هذا الكلام وهو مهم جدًّا: يقول: إن هؤلاء قد أخذت كل طائفة منهم شقًّا، وهو حق لا شك فيه، إلا أنه وحده لا يكفي، فهذا الجزء هو حق قد أخذوا به واشتغلوا به، وصار ذلك هو غاية هذا الاشتغال، والطائفة الأخرى أخذت جانبًا آخر، والطائفة الثالثة أخذت جانبًا آخر، وصار اشتغالهم فيه، وعظموه، مع ما خالط ذلك أحيانًا -لاسيما مع أهل الكلام والتصوف- من المخالفات والبدع والضلالات، فأهل الكلام اشتغلوا بغير الأدلة الشرعية -الأدلة التي جاء بها الرسول- يقول: لابد من النظر في الأدلة، هذا صحيح، لكن أي أدلة؟

الأدلة التي يتوصل بها إلى اليقين هي قال الله وقال رسوله ﷺ ولكنهم اشتغلوا بغير ذلك، مع ما في تلك الأدلة من المغالطات والأخطاء، والتطويل، والغموض، والاحتمال، يعني: تحتمل حقًّا وباطلا أحيانًا في مصطلحاتها وعباراتها كما هو معلوم.

وأهل التصوف اعتنوا بجوانب الإرادة والقصد وما إلى ذلك، وضخموا هذا، وصاروا من الناحية العملية يقعون في أخطاء وبدع ومخالفات وضلالات، جاءوا بها من جهة أذواقهم، الذوق صار عندهم متبوعاً لا تابعاً، واستحسنوا أشياء زعموا أنه يحصل بها تهذيب النفوس وتزكيتها، وإنما تكون التزكية بالوحيين، ومَن طلب التزكية بغير ذلك ضل ولا محالة.

وحاصل المطلوب: أنه لابد من علم، ولا بد من عمل، ولا بد من سلوك وعناية بالمقاصد والنيات والإرادات، وجماع ذلك هو ما جاء به الرسول ﷺ، لكن ينبغي أن يكون العلم صحيحاً، وأن يكون العمل صحيحاً، وأن يكون الاشتغال بالسلوك والمقاصد على الصراط المستقيم، على الجادة الصحيحة، هذا هو المراد، فهذا كلام مهم، واذا نظرت إلى طوائف الأمة اليوم تجد هذه المشكلة تعود وتتكرر لكن بصور أخرى، قد تكون بنفس هذه الصورة عند أهل التصوف، وأهل الكلام، والذين يُعنون بالجوانب الفرعية والعملية، وقد تجد ذلك في صور أخرى من جهة إعزاز الدين، هذا يُعنى بجانب، وذاك يُعنى بجانب، وذاك يُعني بجانب، لا بأس أن يكون هذا من قبيل اختلاف التنوع، ويقول: أنا أُحسن هذا الجانب، وغيري يحسن ذاك الجانب، لكن حينما تقع التخطئة، والتنابذ، والتفرق المذموم الذي نهى الله عنه ورسوله فهذا هو المحرم، فإذا حصل معه البغي فهذا أشد، ومن فتش في نفسه، ونظر فيمن حوله وجد أنه قد لا يخلو من الوقوع في أشياء من هذا القبيل.

هذا يضخم جانب العلم، وهذا يضخم جانب الأخلاق، وهذا يضخم جانب الدعوة، وهذا يضخم جانب الجهاد، وهذا كله حق، والدين يشمل هذا جميعاً، وما ذاك إلا بسبب قصور العلم، أو التعصب، إذا قل علم الإنسان ضاق عَطَنه، فظن أن الدين هو فقط هذا الذي يراه من ثقب الإبرة، ولا ينظر إلى الجوانب الأخرى، أو التعصب لرأي شيخ، أو متبوع، أو غير ذلك.

قال -رحمه الله-: والعلم والمعرفة مدارها على أن يُعرف ما جاء به الرسول، ويُعرف أن ما أخبر به حق إما لعلمنا أنه لا يقول إلا حقًّا، وهذا تصديق عام، وإما لعلمنا أن ذلك الخبر حق بما أظهر الله من آيات صدقه؛ فإنه أنزل الكتاب والميزان، وأرى الناسَ آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، وأن القرآن حق.

هذه تابعة للتي قبلها، لما قرر أنه لا بد من العلم، ولا بد من القصد والإرادة والعناية بهذا، ولا بد من العمل، يقول: "هذا العلم والمعرفة مدارها على أن يُعرف ما جاء به النبي ﷺ ويُعرف أن ما أخبر به حق، إما لعلمنا أنه لا يقول إلا حقًّا"، هذا إجمالاً، "وإما لعلمنا أن ذلك الخبر حق بما أظهر الله من آيات صدقه"، يعني: أن علوم المتكلمين هذه التي يدندنون حولها ويزعمون أنهم أهل علم حتى إنهم جهّلوا أصحاب النبي ﷺ، وقال عمرو بن عُبيد عن عبد الله بن عمر بن الخطاب : إنه حشوي، إزراءً بأصحاب النبي ﷺ وقالوا غير ذلك من عباراتهم؛ ولهذا يسمون من ليس منهم يقولون لهم: العامة، الجمهور، ويسمون أهل السنة بالحشوية، ويسمونهم بألقاب قبيحة تجهيلاً لهم وازدراء لهم، فشيخ الإسلام يقول: إن العلم لا بد منه، لكن ما هو العلم؟

العلم بما جاء به الرسول ﷺ العلم بالوحي، العلم بالأدلة من الكتاب والسنة، وأما هذه الجهالات فإنها ليست من العلم، هذه القوالب والقواعد التي ركبوها، والأصول التي أصّلوها، وأخذو ذلك من علوم اليونان وغيرهم، فإن الفلاسفة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هم أضل الناس في الإلهيات، والفلاسفة معلوم أن علومهم منها ما يتصل بالإلهيات، ومنها ما يتصل بالطبيعيات، ومنها ما هو علوم رياضية، وهذه كلها من علوم الفلاسفة، ويدخل في علومهم الطب، والرياضيات والهندسة، وما إلى ذلك، وهذه أصح علومهم.

أما كلامهم في الإلهيات فهو في غاية الجهل؛ لأنهم يتكلمون بعيداً عن الوحي، وأما تلك العلوم فإنها ترجع إلى التجارب، أو إلى العقول، أو إلى الأمرين معاً، فعلوم الطب مثلاً منها ما يرجع إلى التجربة، وهذا كثير بل عامة الطب يرجع إلى هذا، ولكن لا يُنكر أن منها ما يرجع إلى العقل، أمور عقلية.

فهنا يبين حقيقة هذا العلم، فالإنسان يُعنى بهذا، ويعرف أن ما أخبر به النبي ﷺ هو الحق، إما لعلمنا أنه لا يقول: إلا حقًّا،  هذا إجمالاً، قد لا تعلم أن هذه الجملة التي قالها من خلال الاختبار والتجربة، وما إلى ذلك، ثبت عندك مثلاً: غمس الذباب في الشراب إذا سقط فرفع أحد جناحيه، وغمس الآخر، فيُغمس ثم يشرب، نحن نعلم أن النبي ﷺ لا يقول إلا حقًّا، فنعلم أن هذه القضية حق، ولكن قد يعلم المكلف ذلك تفصيلاً فيكون قد نتج له، وعرف بالدراسة أن أحد الجناحين يحمل جراثيم، وأن الآخر يحمل ما يضاد ذلك مثلاً، فعرف ذلك بالدراسة والاختبار، فيكون قد عرفه تفصيلاً، لما يقول النبي ﷺ: من تصبح بسبع تمرات لا يضره في ذلك اليوم سحر ولا سم[1]، فهو يؤمن أن ما قاله النبي ﷺ حق لا شك فيه لكن قد يعرف ذلك تفصيلاً بالدراسة، والتحليل، والاختبار، فيجربون ذلك على فئام من الناس ثم يكتشفون أن الذين تصبحوا وُجِد في أجسامهم ما يقاوم ويدفع السموم، ووجدوا الآخرين لا يحصل لهم ذلك.

ويسأل بعض الناس عن المكتشفات العصرية، هل يمكن أن يكون ذلك مرجحاً لقول على قول؟

أقول: نعم في بعض الأحوال، وهذا مثال لها، وكنت أعتقد أن قوله ﷺ: من تصبح بسبع تمرات لا يضره سم ولا سحر، أن ذلك مطلق محمول على المقيد، والمقيد جاء فيه التقييد بالعجوة[2]، وجاء فيه التقييد بالمدينة، وجاء في تقييد آخر وهو: مما بين لابتيْها[3]، بين الحَرّتين، يعني: لا يكون خارجًا عنها، في ضواحيها مثلا، لا بد أن يكون مما بين لابتيْها وأن مقتضى الصناعة الأصولية أن المطلق يحمل على المقيد، ولكني قرأت تقريراً ودراسة -إن ثبتت- أنهم جربوا التصبح على تمر ليس بتمر المدينة، ولا من العجوة وأعطوا مجموعة من الناس، ومجموعة أخرى لم يعطوها، وأعطوا هؤلاء قدرًا من السموم، وأعطوا بنفس القدر لهؤلاء، فوجدوا أن هؤلاء عندهم من المناعة ومدافعة السموم ما لا يوجد عند أولئك، إن كان كذلك، فيكون هذا مما يرجح قول طائفة من أهل العلم أن ذلك مطلق، من تصبح بسبعٍ أيًّا كانت.

قال -رحمه الله-: الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين، وأمّا الإجماع فهو في نفسه حق، لا تجتمع الأمة على ضلالة، وكذلك القياس حق، فإنه بعث رسوله بالعدل، وأنزل الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل وما به يعرف العدل.

هنا يتكلم عن الأدلة الصحيحة ووفائها بجميع مطالب المكلفين، الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين، يعني: كل ما يحتاج إليه المكلف في تحقيق النجاة؛ فإنه مضمن في الكتاب والسنة إما مطابقة، أو تضمنًا، أو التزامًا، أو بطريق الايماء والتنبيه، أو بطريق الإشارة -الإشارة الأصولية- أو كان ذلك بطريق المفهوم بنوعيه: مفهوم الموافقة، أو مفهوم المخالفة، وتحت كل واحد منها أنواع، فهذه أنواع الدلالة يمكن أن يستنبط منها الأحكام، وما يرجع إلى ذلك، كالإجماع وهو اتفاق علماء الأمة على حكم من الأحكام ولابد أن يكون له مستند، إذا اتفقوا في عصر من العصور على أمر ديني، أمر شرعي، هذا لا بد له من مستند، بمعنى دليل من الكتاب أو من السنة في أي نوع من أنواع الاستدلال وإن خفي علينا، والقياس يرجع إلى ذلك: إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة مشتركة، جاء مع علة مشتركة، فيلحق هذا بهذا، فهذه كلها أدلة صحيحة.

وقوله: "وأمّا الإجماع فهو في نفسه حق، لا تجتمع الأمة على ضلالة، وكذلك القياس"، هنا في أصل الكتاب يقول: "وكذلك القياس الصحيح حق"، ليس أي قياس؛ لأن هناك أنواعًا من القياس غير صحيحة، وإنما المقصود القياس الصحيح، وإلا فأول من قاس قياساً باطلاً فاسداً إبليس، القياس المصادم للنص هذا قياس فاسد الاعتبار، القياس الذي يكون مع الفارق هو قياس فاسد، وهكذا.  

قال: فإن الله -كذا في النسخة الخطية- بعث رسوله بالعدل، وأنزل الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل، وما به يعرف العدل، والقياس من هذا القبيل؛ لأن الشارع لا يفرق بين المتماثلين، فحكمهما واحد وهذا من العدل، فالشيء يعرف بنظيره، وأشباهه؛ ولذلك الله -تبارك وتعالى- أمر بالاعتبار فقال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2]، فلما قص الله خبر الأولين وما جرى لهم أرشد إلى الاعتبار بذلك، فهذا فيه نوع من المقايسة، رجوع المتأخر إلى المتقدم في حال مشتركة؛ ليحصل له الاتعاظ والاعتبار، أنكم إن فعلتم فعلهم وقع لكم ما وقع لهم.

قال -رحمه الله-: ودين الأنبياء كلهم الإسلام،كما أخبر به في غير موضع، وهو الاستسلام لله وحده، وذلك إنما يكون بطاعته في ما أمر به في ذلك الوقت، فطاعة كل نبي هي من دين الإسلام إذ ذاك.

دين الأنبياء كلهم الاسلام كما قال الله شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13].

ويعقوب ﷺ قال: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 132]، والله تعالى يقول: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19]، وقال: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52] ، ويوسف ﷺ قال: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا [يوسف: 101]، فهذا دين الأنبياء.

وقال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران: 67]، إلى غير ذلك من الأدلة، لما تنازعته الطوائف الثلاث حكم الله  بهذا أنه لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وإنما كان على الإسلام، وهذه قضية واضحة، وإنما اخترع هؤلاء اليهودية وأولئك النصرانية وابتدعوا ما لم يأذن به الله.

قال -رحمه الله-: واليهود والنصارى خرجوا عن دين الإسلام، فإنهم تركوا طاعة الله وتصديق رسوله، واعتاضوا عن ذلك بمبدَّل، أو منسوخ، وهكذا كل مبتدعٍ دينًا خالف به سنة الرسول لا يتبع إلا دينًا مبدلاً أو منسوخاً.

وفي المخطوط: إلا ديناً مبدلاً ومنسوخاً، و"أو" أحسن، ويدل عليه العبارة التي قبلها، "بمبدَّل أو منسوخ"، هو يقول: إن اليهود أو النصارى لما كان الدين عند الله هو الاسلام فهذه تابعة لما قبلها في أصل الكتاب، الدين عند الله هو الإسلام، فاليهود والنصارى عندما خرجوا عنه واعتاضوا عن ذلك بمبدَّل أو منسوخ صاروا يدورون بين الغضب والضلال، فمن خرج عنه عن جهل فهو ضال، ومن خرج عن علم فهو من أهل الغضب، ولكن الجميع يشتركون في أمر واحد وهو الكفر والإعراض عن الدين الحق، الذي هو دين الإسلام، فهؤلاء الذين تركوه اعتاضوا بمبدَّل أو منسوخ، يعني من كان منهم متمسكاً بما بقي، أو بما لم يحرف من دين الأنبياء قبل النبي ﷺ فهو متمسك بمنسو، ومن كان متمسكًا بمبدل ومحرف كما هو الحال التي هم عليها فهذا هو أسوأ حالاً، فهم يدورون بين اتباع دين منسوخ، أو محرف مبدل، والنصارى لما كانت العداوة بينهم وبين اليهود حتى بلغ بهم الأمر أنهم تركوا العمل بالتوراة، فبقي في أيديهم الإنجيل ولم يكن فيه شريعة كاملة؛ لأنهم متعبَّدون بالعمل بالتوراة، فاضطروا إلى اختلاق قانون يضبط حياتهم، فاستحدثوا ما عُرف عندهم بالأمانة الكبيرة، وكما يقول ابن كثير: "ووضْعُهم الأمانة الكبيرة، وإنما هي الخيانة الصغيرة الحقيرة، والرهبانية"[4]، اختلقوا قانوناً ابتدعوه، ولفقوه وصار يحكم حياتهم، وتركوا العمل بالتوراة التي كانوا متعبَّدين بها.

قال: والشرك كله من المبدَّل، لم يشرع الله الشرك قط، وكذلك ما كان أهل الجاهلية يحرمونه مما ذكره الله في القرآن كالسائبة والوصيلة والحام، وغير ذلك من الدين المبدل.

هذا كله من التبديل، والذي له أصل مثل: الحج عندهم، حصل فيه أيضا تبديل، فالحُمس مثلاً وهم قريش ومن ولدت ما كانوا يخرجون إلى عرفة، يعني: لا حج لهم أصلاً، ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نفارقه، فيقفون على أطرافه مما يلي مزدلفة، والناس يخرجون إلى عرفة، فهذا بدلوا فيه وحرفوا، إلى غير ذلك من الأمور التي تجدونها في جهالات أهل الشرك في الكتب المصنفة في هذا، ومن أوسعها كتاب: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" في نحو عشرة مجلدات، هذا الكتاب فيه أحوال العرب في الجاهلية، إن أردت التلبية، إن أردت المناسك، إن أردت الذبائح، أماكن الذبح، الأسواق، وما يصنعونه قبل الحج وبعده، محظورات الإحرام، كل هذا موجود في هذا الكتاب بتوسع، فضلا عن المعبودات، الآلهة، الطواغيت التي كانوا يعبدونها.

قال -رحمه الله-: من صدق محمداً ﷺ فقد صدق كل نبي، ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي، ومن كذبه فقد كذب كل نبي، ومن عصاه فقد عصى كل نبي. 

وهذا ظاهر؛ ولهذا قال الله كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] من كذب نبيًّا فقد كذب جميع الرسل، مع أنه لم يسبق أن بعث الله رسولا قبل نوح  ، آدم كان نبيًّا ولكنه لم يكن رسولا، فأول رسول هو نوح ﷺ ومع ذلك الله  يقول: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ.

وقال: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ [الفرقان: 37]، مع أنهم كذبوا رسولاً واحداً، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ۝ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء: 150، 151]، ولهذا علّمنا الله أن نقول: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285]، فيجب الإيمان بجميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- والأدلة على هذا كثيرة.

فهؤلاء الذين لم يؤمنوا بمحمد ﷺ مع إيمانهم بموسى أو عيسى -عليهم الصلاة والسلام- هم كفار، قد كفروا بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- وفرقوا بين الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- ولا يجوز لأحد بحال من الأحوال أن يعتقد فيهم الإيمان، فيقول: هؤلاء مؤمنون، أو أن يقول: هؤلاء نشترك معهم في الإيمان، أو أن يقول: هؤلاء مصيرهم إلى الجنة، فإن هؤلاء كفار، وهم مخلدون في النار، كل من مات على شيء من هذه الملل ولم يؤمن بالنبي ﷺ بعد أن بعثه الله  فهو من أهل النار، والنبي ﷺ يقول: ما من يهودي ولا نصراني يسمع بي من أهل هذه الأمة، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[5]، وقد ظهر في هذا الزمان زعانف، وأهل جهالات يزعم بعضهم أن هؤلاء جميعًا يشتركون معنا في الإيمان، وأنهم مؤمنون، ويغضب لربما بعض هؤلاء إذا قيل عن أولئك بأنهم كفار، وهذا -نسأل الله العافية-تكذيب للقرآن، ولما جاء عن رسول الله ﷺ ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال -رحمه الله-: وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها مالم يُرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286].

هذا أصل مهم، العمل في نفسه قد يكون بدعة، وقد يكون كفراً، وقد يكون نفاقاً، ولكن لا يقتضي ذلك أن فاعله ومن صدر منه بهذه المثابة، فلا ملازمة بين الفعل والفاعل، وإلا فإنه لن يسْلم لك أحد، إلا إذا كانت القضية انتقائية، أن يُنزَّل ذلك بالهوى على بعض دون بعض، فهذا اتباع للهوى مع الجهل، لكن لو أراد أحد أن يُجري هذا الأصل فإنه أول من يبدأ به هو نفسه، فلا بد أن عنده أشياء يعتقد فيها، إن كان يعتقد أن الحديث حسن، أو أن الحديث صحيح لغيره أو صحيح والواقع أن الحديث ضعيف، فعمل بمقتضى هذا فيكون قد عمل بما يكون في نظر غيره ممن يضعف الحديث عمل بدعة، ظن أن هذا الدليل يدل على كذا فعمل بمقتضى ما فهم، وعند غيره أن هذا من قبيل الخطأ، أو أمر محدث في الدين بدعة، فهل يكون ذلك القائل الذي اجتهد واستفرغ وسعه يكون مبتدعًا؟

الجواب: لا، هذا كلام شيخ الاسلام ابن تيمية، وهو يقرر قبله أن كل بدعة ضلالة، لكن إذا كان صاحبها قاصداً للحق فقد يعفى عنه، فيبقى عمله ضائعاً لا فائدة فيه، وهذا هو الضلال الذي يعذر صاحبه فلا يعاقب ولا يثاب، هذا كلام شيخ الاسلام، ولهذا قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] فإن المغضوب عليهم يعاقبون بنفس الغضب، والضال فاته المقصود وهو الرحمة والثواب، ولكن قد لا يعاقب كما عوقب ذلك، بل يكون ملعوناً مطروداً. إلى أن قال: بل يضل عن الحق من قصد الحق، وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب، وقد يفعل بعض ما أُمر به فيكون له أجر على اجتهاده، وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له.

ثم ذكر هذا الكلام: بأن كثيرًا من مجتهدي السلف والخلف قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة؛ لأنه يعتقد صحة هذا الحديث، هكذا فهم من الحديث، الحديث الصحيح، فهم منه فهمًا لم يقصده الشارع فاعتقد شيئاً غير صحيح، فهذا في الأمور العلمية والأمور العملية، كل من استفرغ وسعه في طلب الحق، واتباع الرسول ﷺ فأخطأ فإن الله  يعذره، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286]، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق: 7]، والشريعة لم يكلفنا الله تعالى فيها مالم نطق، والأدلة في هذا كثيرة جدًّا، الذين اجتهدوا في صلاة العصر، هؤلاء صلوا خارج الوقت لم يُؤثمهم النبي ﷺ، استفرغوا وسعهم ولم يكن ذلك من قبيل التفريط، ولا الإهمال والتضييع، فهم معذورون.

أما من أراد أن يحكم على الناس كل من اجتهد وأخطأ بدّعه فهذا غلط، فإن أجرى هذا على بعض دون بعض فهذا اتباع للهوى، فجمع بين الأمرين، والله المستعان.

قال -رحمه الله-: ومن رسالة زيارة القبور:

يكفي المؤمن أن يعلم أن ما أمر الله به فهو لمصلحة محضة، أو غالبة، و ما نهى الله عنه فهو مفسدة محضة، أو غالبة، ولا أمرهم إلا بما يصلحهم، ولا نهاهم إلا عما يضرهم.

يكفي المؤمن أن يعلم أن ما أمر الله به هو لمصلحة محضة أو غالبة. والشاطبي يقول: إنه لا يوجد في الدنيا مصلحة محضة، ولا مفسدة محضة[6]، ويقصد بهذا أنها مشوبة، قد يقول قائل: الصلاة؟ هو قد يقصد بالمصالح المنافع واللذات فيقول: الصلاة فيها مشقة قبلها، وفي أثنائها، وبعدها، فكون المكلف يجد هذه المشقة، هذا مع تلك المصلحة الكبيرة في الصلاة، الصيام فيه جوع، فيه تعب، ولكن فيه مصلحة غالبة أنه يورث التقوى والصلة بين العبد وربه، وقل مثل ذلك في الحج مصلحة راجحة، يحصل فيها أمور من الزحام والتعب والسفر البعيد، فهذه المصلحة بهذا الاعتبار مما يشوبها من أمر يعكرها يسميها الشاطبي مفسدة، ولكن لا بد أن تفهم مراده بالمفسدة.

يقول: إن اللذات الكاملة في الجنة، والمفسدة المحضة، والضرر المحض هذه نار جهنم، أما في الدنيا فالمرض الذي يحصل فيه مصالح، المصائب التي تحصل فيها مصالح، في المحن مِنح، والعبرة بما غلب، الوضوء على المكاره فيه مشقة، فيقول: هذه مفسدة تشوبها، ولكن المصلحة فيه أعظم وأغلب، فشيخ الإسلام يقول: "كل ما أمر به الله -تبارك وتعالى- فهو مصلحة إما محضة، وإما غالبة"، فالله عليم حكيم، وإن لم ندرك ذلك، وما نهى عنه فهو مفسدة محضة أو غالبة، فما أمر إلا بما يُصلح وما نهى إلا عما يفسد، هذه المعرفة الإجمالية تكفي للمؤمن، فإن عرف التفاصيل في بعض التكاليف مما أمر الله به أو نهى عنه فذلك أدعى لمزيد من اليقين، ولكن ليس لأحدٍ أن يتردد في القبول عن الله بمعارضة ما جاء به الرسول ﷺ بعقله الذي لم يدرك ما تحته من المنافع والمصالح والحكم.

هذا أصل كبير يجب على المؤمن أن يعتني به، ومن ثَمّ فإنه لا يُدخل عقله حَكمًا على نصوص الشارع، فيقول: ما قبله عقلي قبلته، ما أدركه عقلي قبلته، وهذه بضاعة تروج هذه الأيام عبر تويتر، عبر فيسبوك، عبر مواقع في النت، وتعليقات،  وما إلى ذلك، ويروجها من يروجها من الضُّلال، وبعضهم أجهل من حمار أهله، لا يعرف كوعه من بوعه من كرسوعه، نعرفهم بأسمائهم، من أجهل الجاهلين، ويتكلم في مثل هذه المسائل الكبار، ومرة جاء ثلاثة في نفس اليوم يسألون عن زملاء لهم في المرحلة الثانوية، ورابع يتحدث عن زميل له في المرحلة الجامعية يكتب في هذه المواقع، ويقول: أنا لي عقل، أنت لك عقل لا تسلم نفسك لهؤلاء ولا تذهب لمجالس هؤلاء العلماء والشيوخ فيقودونك، وإنما الله أعطاك عقلا تفكر به. 

فقلت: كيف يحكم؟ وكيف يفكر؟ وهو لا يعرف الدين، ولا يعرف الشرع، ولا يعرف بما جاء به الرسول ﷺ فمن أين يأخذ هذا؟ فقال: يقول: عقلي يكفي.

قلت: إذا كان يقول عقلي يكفي إذن لا داعي للرسل من أولهم إلى آخرهم، ولا داعي للشريعة، وإنزال الكتب، فإذا وصلنا إلى هذا القدر لا داعي للرسل، ولا داعي للكتب، إذن العقول كافية لتحقيق النجاة، وما نفعت الفلاسفة، وهم أصحاب عقول، ومن أذكياء العالم، أرسطو وأفلاطون وأمثال هؤلاء من فلاسفة الهند، والشرق والغرب، ما نفعتهم عقولهم، أُعطوا عقولاً ولم يعطوا فهومًا، أُعطوا ذكاء ولم يعطوا زكاء -نسأل الله العافية- فضرتهم عقولهم وكانت جانية عليهم، فحصل لهم الضلال والردى، نسأل الله العافية.

وهؤلاء من طوائف الأمة من طوائف المتكلمين الذين تركوا الوحي واشتغلوا بالعقول، وجعلوا عقولهم حاكمة على النصوص، أدى بهم ذلك إلى الحيرة، ثم يأتي من يقول: العقل لا يعول عليه؛ لأن أهل العقول اختلفوا وتفاوتوا، والعبرة بالحس.

وجاء من يقول: الحس لا يعول عليه، فهو يرى العصا في الماء منكسرة، والنجم من بعيد صغيرًا، والرجل من بعيد كهيئة الشجرة، فجاءت طائفة أهل سفسطة، جاء قوم من اللاأدريّة وطوائف صم بكم لا يعقلون -نسأل الله العافية- لا نقل، ولا عقل، ولا حس، كل هذا لا يفيد عندهم العلم واليقين، فضلوا هذا الضلال الذي نسأل الله منه العافية.

فالذي يقول مثل هذا الكلام، ويُعرض عما جاء به الرسول ﷺ ويقول: عقلي يحكم على هذه الأشياء، وما الذي بلغه عقلك من العلم والمعرفة؟ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة: 140] تستدرك على الله ؟ تجعل عقلك حاكمًا على ما قاله الله ؟ ا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك: 14].

فهؤلاء لم يعرفوا الله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، وقد أدى ببعض هؤلاء أنهم صاروا يكذبون الرسل، ولا يؤمنون بالإسلام ولا بغيره، وهم من أبناء جلدتنا، وقد يجد من شياطين الإنس والجن من يعينه ويشجعه ويحثه على مزيد من الضلال في هذا الطريق -نسأل الله العافية-.

فكل ما أمر به النبي ﷺ فهو لمصلحة، وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- قبله أن الأمور التي حرمها الله ورسوله قد يكون للنفس فيها حظ مما تعده منفعة أو دفع مضرة، ولولا ذلك ما أقدمت النفوس على المحرمات التي لا خير فيها بحال، فما الذي يجعله يقدم على الزنا والله يقول: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء: 22] يكفي فقط أن يُدرَك هذا القدر في الزنا، ما الذي يجعل كثيرًا من الناس يقبل عليه؟  للنفس فيه شهوة.

وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول في موضع آخر: إن الباطل يشوبه بعض الحق أحيانًا[7]، هنا يقول: يشوبه حظ للنفس، شهوة لها، فيتبعه الإنسان مع أنه باطل، وهناك يقول: قد يوجد معه شيء من الحق فينظر إليه بعض الناس فيغتر، وإلا لو كان باطلاً من كل وجه لما قبله أحد؛ ولهذا نُهي عن عرض الشبه وإثارة الشبهات؛ فقد تعلق بالقلوب.

فشيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: وإنما يوقع النفوس في المحرمات الجهل[8]، لا يدرك أن هذا مما يضره، "أو الحاجة" فلنفسه فيها رغبة وشهوة وحاجة، كما قال المعلمي -رحمه الله- في أئمة الضلال الذين لا يرجعون عنه يقول: وقد يكون لبعضهم في الباطل شهرة ومعيشة[9].

قد يكون له شهرة ومعيشة، قد يكون هذا الإنسان سادنًا لقبر، قد يكون شيخ طريقة له أتباع بالملايين، أو مئات الألوف ويعطونه إتاوات، ويعملون له بالسخرة، ويقبلون يديه ورجليه، ويتزوج من بناتهم ما شاء مثنى وثلاث ورباع على الجمع بطريق أهل الجهالة، ثم إذا دُعي إلى الحق وعُرِّف به رده؛ لأنه له في الباطل شهرة ومعيشة، فلو ترك ذلك لانقطع ذلك عنه، واضمحل فصار في حال من الإفلاس؛ولذلك تجد الرجل أحيانًا عنده علم، ولكنه في الوقت نفسه يعمل أعمالا لا يقبلها أصحاب العقول فضلاً عن أهل العلم، قد يُعطَى هذا الرجل الخمس، قد يُغرَى بأشياء، فيتبعه هؤلاء الهمج، فإذا ترك هذا انقطع الخمس، وانقطع غيره مما له فيه شهوة.   

فشيخ الإسلام يقول: "فأما العالم بقبح الشيء والنهي عنه فكيف يفعله؟ والذين يفعلون هذه الأمور قد يكون عندهم جهل بما فيها من الفساد، وقد تكون بهم حاجة إليها مثل الشهوة إليها، وقد يكون فيها من الضرر أعظم مما فيها من اللذة، ولا يعلمون ذلك لجهلهم، أو تغلبهم أهواؤهم حتى يفعلوها، والهوى غالبًا يجعل صاحبه كأنه لا يعلم من الحق شيئًا، فحبك للشيء يُعمي ويُصم؛ ولهذا كان العالم يخشى الله إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]، فقالوا: العلم الخشية.

فالذي لا يخشى الله وتعميه الشهوة هذا لا يكون عالمًا؛ لأن هذا العلم قد غشته شهوته وغطته فاستوى مع الجاهل الذي لا يعلم أن هذا ضرر وفساد ومعرة في الدنيا والآخرة، فيغشاه -نسأل الله العافية- وهذا من انطماس البصيرة، والله المستعان.

قال -رحمه الله-: وقد بين الله في كتابه حقوقه التي لا تصلح إلا له كوحدانيته وعبادته وحده لا شريك له، وحقوق رسله، وحقوق المؤمنين بعضهم لبعض.

الأصل الذي قبله هذا ينبغي العناية به، نحتاج إليه جدًّا، وإن لم نعرف التفاصيل، الزم هذا الأصل تسلم بإذن الله من كثير من الغوائل والضلالات، وتتخلص من كثير من الشبه، والتلبيس، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: أن الله لا يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم بخلًا به عليهم، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم؛ ولهذا وصف نبيه ﷺ بأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فنسلم لله وننقاد، ما أمر به فهو خير ومصلحة لا لحاجة به -تبارك وتعالى- فهو الغني من كل وجه، وما نهى عنه بخلًا على المكلفين وإنما لأنه يضرهم، ويصيبهم بسبب ذلك العنت.

يقول: "وقد بين الله في كتابه حقوقه التي لا تصلح إلا له كوحدانيته، وعبادته وحده لا شريك له، وحقوق الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وحقوق المؤمنين بعضهم لبعض"، بيّن هذا وفصله، فينبغي ألا يتداخل.

فالله له العبادة والتعظيم الذي لا يصلح إلا له، والخوف الذي لا يصلح إلا له، والخشية التي لا تصلح إلا له، والتوكل الذي لا يكون إلا عليه، والرغبة والرهبة وما إلى ذلك، وأما المخلوق فإن له ما يليق به من الأوصاف، فالنبي ﷺ مبلغ عن الله، يجب على المكلف أن يحبه، وأن يوقره ﷺ وأن يجله، وألا يتقدم بين يدي قوله وكلامه برأي أو اعتراض أو اقتراح، أو ما إلى ذلك، والله تعالى يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ [النور: 52] الطاعة لله وللرسول، والخشية هي خوف مع علم، وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فالتقوى تكون لله، والخشية لله -تبارك وتعالى-.

ومن اعتقد في أحد من الناس أنه يطلع على مكنونه وسره، فخافه بالغيب فذاك نوع من الإشراك، يقال له: خوف السر، يعتقد أن فلانًا من الناس الولي الفلاني يعلم خواطره، وما يحدث به نفسه، وهو بعيد عنه، وهو في بيته يتجمل ولا يصدر منه إلا ما يليق؛ لأنه يعتقد أن فلانًا يعلم مكنونات نفسه، فهذا نوع من الشرك، والله يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [التوبة: 59] فالإيتاء يكون من الله، ومن الرسول ﷺ، إعطاء من الغنائم، ونحو ذلك، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ هل قال: حسبنا الله ورسوله؟ لا، فالكفاية من الله وحده، رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ ثم الرغبة إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ فالله بيّن هذه الأمور، وفصلها، حق الرسول ﷺ وحق الله  وحقوق المؤمنين، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] فلا يصح أن تختلط هذه الأمور. 

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال: 64] أي: كافيك الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] هل المعنى حسبك الله وحسبك من اتبعك، يعني: أنهم يكفونك؟ لا، ليس هذا هو المعنى، حسبك الله: أي كافيك وحده وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [لأنفال: 64] فإن حسبهم هو الله هو الذي يكفيهم.

وقال: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 62] فالتأييد يكون بهذا وهذا، فالله له حقوق، والرسول ﷺ له حقوق، وأهل الإيمان لهم حقوق، فمن الخطأ أن يُعطَى أحد من البشر شيئًا من خصائص الله وحقوقه التي ينفرد بها، فيُرفع فوق مرتبته، وكثير من الضلال إنما نشأ من هذا الطرف الذي هو الغلو.

قال -رحمه الله-: ومن رسالة رفع الملام

هذه الرسالة نافعة جدًّا، وهي موجودة ضمن مجموع الفتاوى، وطبعت أيضًا عدة طبعات، رسالة عظيمة النفع، حاصلها: أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يذكر فيها أعذار العلماء، حينما يقع الواحد منهم بمخالفة، "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" بحيث إنه لا يوجه إلى الواحد منهم ملامة؛ لكونه قال قولا أخطأ فيه بعدما اجتهد، وخالف فيه، وقد تكون مخالفته لدليل من الكتاب أو من السنة، أو خالف فيه إجماعاً ما بلغه، وقد تكون مخالفته لدليل من القياس، فهؤلاء ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أعذارهم، فهذا يفيدنا في أمرين رئيسين في غاية الأهمية:   

الأمر الأول: هو من أجل ألا يَضيق عَطَن الإنسان، بعض الناس لجهله يضيق عطنه، فيقول: أليس القرآن هو كلام الله وكتابه وهو كتاب واحد؟ ما عندنا إلا قرآن واحد؟ أليس الرسول ﷺ جاء بالحق فبينه ووضحه غاية البيان والإيضاح، وهو نبي واحد لهذه الأمة، فكيف يختلف العلماء، والقرآن موجود والسنة موجودة؟

لماذا هذا يقول كذا وهذا يقول كذا؟ فيضيق صدره، ولا يحتمل، ولذلك اليوم في وقت الفضائيات، وصار العامة يسمعون من هذا، وهذا فأدى هذا إلى كثير من الإشكال والضيق والحيرة لدى كثير من الناس بعد أن كان الواحد منهم لا يسمع إلا قولاً واحداً، فيقول: لماذا يختلفون؟ 

يختلفون لأسباب كثيرة جدًّا، فشيخ الإسلام يشرح هذه الأسباب، ويقيم أعذار العلماء في هذا الباب.

الأمر الثاني: هو التماس الأعذار للعلماء قديماً وحديثاً، فلا يجوز لأحد أن يتنقصهم، أو أن يقع في أعراضهم، وأن يستحل ذلك بسبب مخالفة وقع الواحد منهم فيها بعد أن استفرغ وسعه وبذل مجهوده، وهذا أمر مهم جدًّا في هذه الأيام، أنا أسمع كثيراً من يأتي ويلبس على بعض الشباب الصغار، ويقول: هؤلاء العلماء لا يستحقون أن تسمع منهم، ولا أن يُوثق بهم، انظر إليه كيف يقول كذا، كيف خالف الدليل الفلاني، كيف أفتى في المسألة الفلانية بخلاف كذا؟ أو يقول: انظر إليه كان يقول قبل سنوات كذا، والآن يقول كذا.

نقول: العالم قد يغير اجتهاده، والصحابة غيروا اجتهاداتهم، وكذلك أيضاً العلماء لا زالوا يختلفون، فقد يخفى عليه الدليل، ولولا خشية الاطالة لذكرت لكم من هذا أشياء تحيركم، أذكر لكم أقوالاً تظنون لأول وهلة أنها في غاية البُعد، فإذا ذكرت وجه الاستدلال لربما تقولون: هذا هو الراجح، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كان يفعل هذا في المناظرة أحياناً، لكنه يفعله مع من يعتقد أنه يسأل للتلبيس، فكان يجيبه بإجابات يجعله يتحير ثم يتركه.

فهؤلاء الذين يأتون ويلبسون على الناس، ويقولون لهم مثل هذا الكلام، يريدون ماذا في النهاية؟ إسقاط هؤلاء العلماء، قد يكون ذلك بسبب جناية واحدٍ منهم توهموها، فهل يجري هذا على الجميع؟ وإن كان ذلك يجري على الجميع، فإذا كان أولئك يستحقون هذه الأوصاف الشنيعة التي يطلقها عليهم هذا، فإن أوْلى من يتوجه إليه هذا الكلام، والوصف القبيح هو هذا النكرة، إذا كان هؤلاء الأعلام وهم عُرفوا بالعلم والدين والورع يقال عنهم مثل هذا، فهذا الذي لا علم، ولا دين، ولا ورع أولى الناس بهذه الأوصاف القبيحة، إذا لم يسلم منها هؤلاء، فكيف يسلم هو وأمثاله؟ ثم تريد ماذا في النهاية؟ إسقاط هؤلاء؟ فإذا أسقطتهم يذهب الناس إلى من؟ ويسألون من؟ من هم العلماء؟.

فبعض هؤلاء الجهال يقولون: نرجع إلى عقولنا، وبعض هؤلاء أنكر السنة، فنقول له: كيف تصلي العصر والظهر؟ وماذا تقرأ في الركعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والركوع والسجود والقيام والقعود؟ هات من القرآن صفة الصلاة، وكيف تحج؟ وما هي أصناف الأموال التي تجب فيها الزكاة؟

إذن أنت لا تزكي، ولا تصلي، ولا تحج، إلا أن يكون كالبهيمة يقوم ويقعد، فهذه أعذار ذكرها شيخ الإسلام في غاية الأهمية، تهمنا في هذه الأمرين، "رفع الملام عن الأئمة الأعلام".

قال -رحمه الله-: يجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين عموماً كما نطق به القرآن، خصوصاً العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يُهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم.

شيخ الإسلام له كلام طويل في هذا، فعلماء الأمة لا يعرفون بالضلال والزيغ، وتعمد المخالفة، يعني بذلك المهتدين من العلماء، فالموالاة عند أهل السنة والجماعة تكون متفاوتة، فالولاء المطلق الكامل لأهل الإيمان الكامل، وينقص من هذه الموالاة بحسب ما يكون عند المكلف من الإيمان والتقوى، فالعلماء هم خيار الأمة، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].

فمحبتهم تكون أرفع من محبة آحاد الأمة، فكانت الأمم السابقة -أعني بني إسرائيل- تسوسهم الأنبياء، أما هذه الأمة فيسوسها العلماء، ويبعث الله لها من يجدد دينها، وهؤلاء الذين يجددون إما أن يكونوا من العلماء، وإما أن يكون معهم العلماء.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إذ كل أمة قبل مبعث نبينا محمد ﷺ فعلماؤها شرارها.."[10]. والله يقول: إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 34]، وقال: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة: 63].

فيقول: "فعلماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم؛ فإنهم خلفاء الرسول ﷺ في أمته، والمُحيون لما مات من سنته"، هذه منزلة العلماء، وهكذا يجب أن يعتقد فيهم، ومن ساء ظنه بأحد منهم لسبب أو لآخر، وكان ذلك واقعاً منه لا محالة فلا يجوز له بحال من الأحوال أن يُجري ذلك على الجميع، ولا يمكن أن تعدم الأمة قائماً لله بحجة في عصر من العصور، لابد أن يوجد في الأمة من يُبين عن الحق ويكون الحق معه، والنبي ﷺ يقول: لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين[11]، وهذا لا يمكن أن يكون بلا علم.

قال -رحمه الله-: وليُعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا يتعمد مخالفة رسول الله في شيء من سنته دقيق ولا جليل؛ فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًّا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، ولكن إذا وُجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف.

ذكر الأعذار إجمالاً، ثم بعد ذلك ذكر التفاصيل.

قال: وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:

أحدها: عدم اعتقاده أن الرسول ﷺ قاله.

عدم اعتقاده أن النبي ﷺ قاله أصلاً، يعني هذا إجمالاً ويدخل تحته أشياء، هو لا يعتقد أن النبي ﷺ قال ذلك، إما لأنه لم يبلغه الدليل أصلاً، وإما أنه بلغه ولكنه لم يثبت عنده، هو يعتقد أن الحديث لا يصح، فيه علة، فما عمل به، فهو معذور، ومسائل التصحيح والتضعيف والحكم على الروايات، قضية اجتهادية؛ ولهذا فإن من أهل العلم من يصحح، ومنهم من يحسن، ومنهم من يضعف بناء على اعتبارات معينة.

وبعضهم قد يكون الدليل بلغه، ولكنه نسيه، وهذا حصل من أصحاب النبي ﷺ فكيف بغيرهم؟، قصة عمر وعمار رضي الله عنهما في مسألة الاغتسال من الجنابة، بلغ ذلك عمر ولكنه نسيه، أنه يغني عن الاغتسال التيمم إذا لم يجد الماء، أو خاف الضرر، وعمر نسي، وذكره عمار بهذا فلم يتذكر[12]، فقد ينسى، وقد لا يبلغه أصلاً.

وعمرو بن العاص صلى بأصحابه وهو جنب في غزوة، فلما سأله النبي ﷺ قال: قال الله: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] برد، فصلى وهو جنب ولم يتيمم[13]، ما بلغه التيمم أصلاً، فضلاً عن أن يكون قد نسيه.

فهؤلاء أصحاب النبي ﷺ ولو نظرت إلى أمثلة كثيرة من هذا ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الكتاب أو غيره، وذكر آخرون مثل الشوكاني -رحمه الله- في "نيل الأوطار" في بعض المواضع أمثلة من هذا القبيل.

وكذلك عمر خفيت عنه سنة الاستئذان في الحديث المشهور مع أبي موسى الأشعري لما استأذن ثلاثاً ثم انصرف، فعمر طالبه بالدليل، وتوعده حتى أتى مجلساً من مجالس الأنصار وسألهم، فقالوا: "لا يقوم معك إلا أصغرنا"[14]، فخفي هذا على عمر .

وهكذا في قصة الطاعون لما ذهب الى الشام، اختلفوا عليه، وهم جمع كبير من أهل بدر، ومن غيرهم، سأل أهل بدر، وسأل أهل بيعة الرضوان، وسأل مسلمة الفتح، ولم يختلف منهم أحد، لا لدليل، ولكن لرأي رأوه حتى جاء عبد الرحمن بن عوف فذكر لهم الحديث، لكن هذا الجمع الكبير ما كان عندهم هذا الحديث: إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها[15]، خفيت على الصحابة ، إلى غير ذلك.

فشيخ الاسلام ذكر أشياء خفيت على أبي بكر، وأشياء خفيت على عمر، وعلى عثمان، وأشياء خفيت على عليٍّ  ثم ذكر جماعة من الصحابة خفيت عليهم أشياء، فهذا عذر، قال: "عدم اعتقاد أن النبي ﷺ قاله، إما لأنه لم يبلغه، أو بلغه لكنه نسي، أو لأنه اعتقد عدم ثبوته".

الثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.

عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة، هو بلغه الحديث لكن ماذا فهم منه؟ مثل مسألة فهم بعض الألفاظ، النبيذ بعضهم يرى أنه لا يدخل في الخمر الذي جاء تحريمه، إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ [المائدة: 90]، وقول أهل الكوفة في النبيذ معروف، هؤلاء بلغتهم الآية، وحديث النبي ﷺ صريح في تحريم الخمر أيضاً، لكن يقولون: هذا ليس هو الخمر، لا يصدق عليه اسم الخمر، ففهم منه فهماً آخر، أو أنه بلغه الدليل وهو يرى أن الدليل هذا أصلاً لا دلالة فيه البتة على هذا الموضوع، لا تعلق له بهذه المسألة التي خالف فيها، لا من قريب ولا من بعيد، الحديث تكلم عن شيء آخر، هذا يحصل وتوجد له أمثلة، ولو أردنا أن نقرر التفريع والأمثلة على كلٍّ لشرحنا كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" برمته، لكن يكفي هذا القدر.

وقد يكون بلغه الدليل، لكن وُجد عنده معارض، نهى النبي ﷺ عن استقبال القبلة حال قضاء الحاجة[16]، بلغه الدليل، ولكنه عنده معارض، فالنبي ﷺ استقبل سُباطة قوم، وبال قائماً مستقبلا القبلة[17].

وجلس ﷺ على حجرين على حاجته وهو مستدبرًا القبلة مستقبلاً الشام[18]، فبلغه الدليل، لكن وُجد عنده معارض، فاجتهد فإما أن يقول: هذا للتنزيه ليس للتحريم، وهذا صارف، وإما أن يقول: إن ذلك يجوز في البنيان، أو إذا وُجد حاجز بينك وبين القبلة، وإما أن يكون بلغه أحد الدليلين، فمن بلغه الاستقبال قال: يجوز الاستقبال دون الاستدبار، ومن بلغه الاستدبار قال: يجوز الاستدبار دون الاستقبال، وهكذا.

الصحابة  الذين قال لهم النبي ﷺ: لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة[19]، بلغهم الدليل، لكن الذين فهموا منه الاسراع قالوا: الحديث لا يدل على تأخير الصلاة عن وقتها اطلاقاً، وأولئك خطؤوهم وقالوا: على ظاهره، وهكذا في أشياء أحياناً عجيبة، هذا على الأقل يحتمل احتمالاً متساويًا لا يصلين أحدكم، لكن النبي ﷺ ما خطّأ ولا لام، ولا طالب بتبعة لذلك في أمور كهذه.

عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم على اسمه عاشوراء، في صحيح مسلم عن ابن عباس: إذا رأيتَ هلال المحرم فاعدد، وأصبِحْ يوم التاسع صائماً[20]، اليوم التاسع، ولهذا قال ابن حزم: إن يوم عاشوراء اليوم التاسع، عاشوراء تسعة من محرم، وإذا قلت له: ما الدليل يا ابن حزم؟ أتى بحديث ابن عباس -حبر الأمة- في صحيح مسلم.

أفضل أيام العشر من ذي الحجة أن يصام يوم عرفة، ويوجد من الأئمة من قال: إنه يوم ثمانية؛ لأنه يوم التروية، وإن صومه أفضل أيام العشر.

ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وفي ليالي الوتر، ومن أهل العلم من يقول: في سائر الشهر، ومنهم من يقول: في العام كله ليست تختص برمضان، كل السنة، قال بهذا ابن مسعود، أول ما تسمع هذا القول أحياناً يقف شعر رأسك، في أحد يقول هذا؟ طول السنة ليلة القدر، تدور في السنة كلها، لا تختص برمضان، أحد يقول بهذا؟  لكن عندما تنظر من الذي يقول به، ابن مسعود .

صوم الست من شوال سنة، الإمام مالك المشهور عنه على تفصيل يذكره بعضهم، المشهور عنه أنه لا يشرع صومها، وأنه لم يعهد الناس يصومون من التابعين الذين أدركهم من أهل المدينة، يقولون: لم ينقل عن الصحابة ولم يعرف أنهم كانوا يصومون الست.

حديث: من بكر وابتكر[21]، التبكير في صلاة الجمعة من أول ساعة من النهار، من طلوع الشمس تبدأ الساعة الأولى، الإمام مالك يقول: هذا لا أصل له، تبدأ الساعة الأولى من بعد زوال الشمس، يعني وقت أذان الظهر، هذه الساعة الأولى عند الإمام مالك، والدليل قال: النبي ﷺ قال: من راح وقال: الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، ولا يكون الرواح في أول النهار، من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ...[22]، قال: الرواح لا يقال في البكور، بعد الزوال، فهذا الفهم يبدو لنا في أول وهلة بعيدًا جدًّا، لكن إذا سمعت الدليل تقول: الدليل يحتاج إلى جواب.

فينبغي أن يحفظ الإنسان لسانه، فلا يتكلم في أهل العلم، عندهم من الأعذار والأدلة ما لا يخطر لنا على بال، فيأتي إنسان لم يثنِ ركبه في يوم من الأيام في مجالس العلم، ويجترئ جرأة عظيمة، ويتكلم عند بعض الشباب الصغار بكلام، أو يكتب في صفحته الشريفة في الفيس بوك، أو في التويتر تقول: يا لطيف، يا الله ما أحلم الله! كيف هذه الكتابات؟ ومن يستطيع أن يقرأ هذه الكتابة في هذه الركاكة، ركاكة في كل شيء، ركاكة في اللفظ والقالب، وركاكة في المعنى، والكتابة، التاء المربوطة مفتوحة، وشيء هائل، تقول: ما أحلم الله! ثم يُشجَّع ويهتفون: موضوع رائع، وفكرة رائعة، وكتابة موفقة، أي توفيق؟

لا لفظ، ولا معنى، ولا عبارة تسعف، ولا إملاء، هذا يُكتب؟ فنسأل الله العافية، وعند نفسه هو كاتب، الإنسان يتكلم أحياناً يجد ألمًا لمّا يرى جرأة على الله، جرأة على دينه، جرأة على أهل العلم، وكل يكتب، كل أحد يكتب، ويجد من يصفق له، يهتف، والله المستعان.

قال: الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.

ثبت عنده أن النبي ﷺ قاله، لكن قال: هذا منسوخ، وهذا أمثلته كثيرة جدًّا، وتجد العلماء والأئمة من الصحابة فمن بعدهم يختلفون فيه، هل هو منسوخ أو لا؟ وما الذي نسخه؟.

قال: ثم فصّل هذه الأصناف إلى عشرة أنواع، ثم قال: فهذه الأسباب العشرة ظاهرة، وفي كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة في ترك العمل بالحديث لم نطلع نحن عليها،فإن مدارك العلم واسعة، ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء، والعالم قد يبدي حجته، وقد لا يبديها، وإذا أبداها فقد تبلغنا وقد لا تبلغ، وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه، وقد لا ندركه، سواء كانت الحجة صواباً في نفس الأمر أم لا، لكن نحن وإن جوزنا هذا فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجج، وإن كان أعلم.

"ما يدفع به هذه الحجة" في النسخة الخطية، لا بأس.

 قال: إذْ تطرُّق الخطأ الى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية، فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده بخلاف رأي العالم، والدليل الشرعي يمتنع أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر، ورأي العالم ليس كذلك، ولو كان العمل بهذا التجويز جائزًا لما بقي شيء من الأدلة التي يجوز فيها.

في النسخة الخطية "لما بقي في أيدينا شيء من الأدلة التي يجوز فيها مثل هذا".

قال: ولو كان العمل بهذا التجويز جائزًا لما بقي شيء من الأدلة التي يجوز فيها مثل هذا، لكن الغرض أنه في نفسه قد يكون معذورًا في تركه، ونحن معذورون في تركنا لهذا الترك . 

في تركنا لهذا الترك: يعني: في تركنا لترك هذا العالم له، أن لا نقلد هذا العالم في تركه لهذا الدليل، تركه لاعتبار أو لآخر، لكن نحن لا نتبعه على ذلك إذا تبين لنا أمر خفي عليه.

فنحن نعتذر لهذا العالم، ولا يكون هذا الخطأ الذي نعتقد أنه وقع فيه مسوغاً لانتقاصه، ولكننا لا نتابعه على هذا الخطأ فحسب، هذا هو القدر الذي نقف عنده.

قال -رحمه الله-: وإذا كان الترك يكون لبعض هذه الأسباب فإذا جاء حديث صحيح فيه تحليل أو تحريم، أو حكم فلا يجوز أن يُعتقد أن التارك له من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم يعاقب لكونه حلل الحرام، أو حرم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله.

لأنه جاء بشيء يخالف ما جاء به الشارع، فيقول لك: هذا حكم بغير ما أنزل الله، وهذه قضية خطيرة إذا تكلم بها من لا بصر له، وقد سمعت أن من الناس من وقع في ما هو أعظم من هذا، يعني يأتي للعالم الذي خالف دليلا في نظره صريحاً، فيقول: هذا خالف الكتاب والسنة، وبذلك يكون قد حكم بغير ما أنزل الله، والله يقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44].

وأعظم من هذا -وقد حدثني به من سمعه- مَن يقول: إن النبي ﷺ حينما حكم بأسارى بدر حكم فيهم بغير حكم الله  وقال كلاماً لا أستطيع أن أنقله الآن، إلى هذا الحد؟ ويقول: لكنه تاب، يعني لم يسلم أحد من أحكامه الجائرة حتى النبي ﷺ فهذا العالم حينما يجتهد فإنه يكون معذوراً، ولا يلام، ولا يقال: إنه قد حكم بغير ما أنزل الله، بل هو بين الأجر والأجرين.

قال -رحمه الله-: وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعلٍ من لعنة أو غضب أو عذاب ونحو ذلك فلا يجوز أن يقال: إن ذلك العالم الذي أباح هذا، أو فعله داخل في هذا الوعيد، وهذا مما لا نعلم بين الأمة فيه خلافاً إلا شيئاً يحكى عن بعض معتزلة بغداد، مثل: المريسي، وأضرابه، أنهم زعموا أن المخطئ من المجتهدين يعاقب على خطئه؛ وهذا لأن لحوق الوعيد لمن فعل المحرم مشروط بعلمه بالتحريم، أو بتمكنه من العلم بالتحريم.

هذا مجتهد، بل حتى عموم المكلفين من غير العلماء حينما يفعل ما جاء فيه لعن مثلاً فإنه يكون بذلك متوعَّداً، ولكن لا يعني هذا تنزيل الحكم على المعين، يعني: لعن الله النامصات[23]، هل يحق لنا إن رأينا امرأة نامصة أن نقول: هذه ملعونة بعينها؟

الجواب: لا؛ لأن هذا متوقف على وجود الشروط، وانتفاء الموانع، ثم أيضاً قد يكون هناك ما يدفع وقوع ذلك بالنسبة للمكلف، قد يغفر الله له، وقد يكون له حسنات عظيمة ماحية، أو مصائب عظيمة، ينغمس معها هذا الجرم، وقد يوفق لتوبة فلا يقع عليه مثل هذا الوعيد.

قال -رحمه الله-: وهذا الشرط في لحوق الوعيد لا يحتاج أن يذكر في كل خطاب؛ لاستقرار العلم به في القلوب.

الشرط في لحوق الوعيد هو أنه لا بد من تحقق الشروط، وانتفاء الموانع، يقول: هذا مشروط بعلمه بالتحريم، أو بتمكنه من العلم بالتحريم، يقول: "لا يحتاج أن يذكر في كل خطاب؛ لاستقرار العلم به في القلوب"، فإذا قيل مثلاً: لعن الله النامصات والمتنمصات، بعض العلماء قد يبيح بعض الصور التي  يعتقد غيره أنها من قبيل النمص، فحقيقة النمص في كلام العرب اختلف فيها أهل اللغة، بعضهم يقول: حف الحاجب على اختلافٍ في توصيف ذلك، يعني: هل هو نتف أو حلق، وهل يُلحق به القص مثلاً.

وبعضهم يقول: إزالة شعر الوجه من أي موضع كان؛ ولهذا لما كان النمص ليس للشارع فيه عرف خاص، ولا عند المكلفين معنى عرفي، فيُرجع فيه إلى اللغة، فرجع الفقهاء إلى اللغة فوجدوا أن بعض أهل اللغة يقول: إن النمص يختص بالحاجب، وبعضهم يقول: بالوجه.

فبعض الفقهاء قال: إن ذلك يشمل الوجه كله، فمن أزالت من شعر وجهها فهي نامصة، وعالم يقول: هذا لا إشكال فيه، ويجوز إزالة شعر الوجه عدا الحاجب، وأنه يختص بالحاجب، هل يقال الآن: لعن الله النامصة إلى آخره مَن حلل لها قد استحل ما حرم الله، وأنه أولى بذلك ممن فعله تقليدًا له؟ نقول: لا، هذا مجتهد، وهذا الذي سأل هذا العالم الذي تبرأ الذمة بسؤاله غير متجارٍ مع الهوى، ومتتبع لرخص الفقهاء، فإنه يكون معذوراً، وليس عليه شيء حتى في الأمور التي يترتب عليها الجزاء.

عملٌ من أعمال الحج، قال له عالم: افعل ولا حرج، وعند آخر أن هذا فيه فدية، فإنه يكون معذوراً، ولا يلزمه شيء، والله قال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43].

قال: كما أن الوعد على العمل مشروط بإخلاص العمل لله، وبعدم حبوط العمل في الردة، ثم إن هذا الشرط لا يذكر في كل حديث فيه وعد.

هذا تحصيل حاصل، أمر معروف، كل قضية يجب أن يقول: بشرط الإخلاص، بشرط المتابعة، أصبح ذلك مقرراً في الشرع، يكفي أن يبينه الشارع مرة واحدة في موضع وانتهينا.  

قال -رحمه الله-: ثم حيث قُدر قيام الموجِب للوعيد، فإن الحكم يتخلف عنه لمانع، وموانع لحوق الوعيد متنوعة، منها: التوبة، ومنها: الاستغفار.

هذه مهمة أشرت إليها قبل قليل، موانع لحوق الوعيد، هذا الوعيد، هذا اللعن، هذا الوعيد بالنار لمن فعل كذا، قد لا ينطبق على زيد من الناس؛ لموانع منها الحسنات الماحية، فالله قال لأهل بدر: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ[24]، وقال النبي ﷺ: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم[25]، ومنها بلاء الدنيا ومصائبها.

ومنها: شفاعة شفيع مطاع، ومنها: رحمة أرحم الراحمين، فإذا عدمت هذه الأسباب كلها ولن تعدم إلا في حق من تمرد، فهنالك يلحق الوعيد به.

فشيخ الإسلام يقول بعد هذا الكلام: وذلك أن حقيقة الوعيد بيان أن هذا العمل سبب في هذا العذاب، فيستفاد من ذلك تحريم الفعل، وأنه محرم وقبيح، أمّا أن كل شخص قام به ذلك السبب يجب وقوع ذلك المسبب به فهذا باطل قطعاً؛ لوقف ذلك المسبب على وجود الشرط وزوال جميع الموانع.

فهذا أصل كبير، فقد يقع الإنسان في شيء من الكفر، قد يقع في شيء من النفاق، قد يقع في عمل جاء فيه الوعيد، ولكن ذلك لا يعني أنه يتنزل عليه بالضرورة؛ لأنه لا بد من وجود الشرط وانتفاء المانع، والذي يستطيع أن يطبق هذا هم العلماء، فلابد من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، وهذا الذي يسمونه تحقيق المناط، يعني كما يقول الشاطبي: "الاجتهاد نوعان: اجتهاد في استنباط الحكم من الأدلة، وهناك نوع من الاجتهاد في تطبيقه على المعين، فهذا يحتاج إلى معرفة حال المعين، وقد يكون هذا الاجتهاد متوجهاً إلى المكلف، يعني: حينما نقول مثلاً: في الكدرة والصفرة إن كانت متصلة في دم الحيض فهي منه، وإن لم تكن متصلة فليست منه، فهذه المرأة تسأل ونحن لا ندري هل هي متصلة أو غير متصلة فنحن نعطيها الحكم، ثم عليها هي أن تنظر.  

والمرأة التي تستحاض وليس لها عادة منضبطة، نقول لها: ارجعي إلى التمييز فإذا كان الدم بأحد صفاته الأربع المشهورة، رائحة، أو لون، أو يكون متجلطاً غليظاً يخرج متجلطاً، فهذا دم حيض، هذا الحكم، بقي عليها هي اجتهاد، وأن تنظر إلى الدم الذي يخرج منها أثناء الشهر، فما وجدته بشيء بهذه الأوصاف تحكم بأنه حيض فلا تصلي، فإذا انقطع عنها ما كان موصوفاً بهذا أو ببعضه اغتسلت وصلت، هذا اجتهاد من المكلف، وهكذا في مسألة القبلة، والله أعلم.

 
  1. لم أقف عليه بهذا اللفظ.
  2. أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب الدواء بالعجوة للسحر، برقم (5769)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب فضل تمر المدينة، برقم (2047).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب فضل تمر المدينة، برقم (2047).
  4. انظر: البداية والنهاية (3/ 84).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، برقم (153).
  6. انظر: الموافقات (3/ 74).
  7. انظر: مجموع الفتاوى (27/ 172).
  8. انظر: زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور (ص:52)، ومجموع الفتاوى (27/ 90).
  9. انظر: القائد إلى تصحيح العقائد، للمعلمي (ص:13).
  10.  رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص:8).
  11. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد ﷺ، برقم (156).
  12. أخرجه البخاري، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت، أو خاف العطش تيمم، برقم (346)، ومسلم، كتاب الحيض، باب التيمم، برقم (368).
  13. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟، برقم (334)، وأحمد في المسند، برقم (17812)، والبخاري معلقاً في صحيحه (1/ 77)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (361).
  14. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب الخروج في التجارة، برقم (2062)، ومسلم، كتاب الآداب، باب الاستئذان، برقم (2153).
  15. أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، برقم (5728)، ومسلم، كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، برقم (2218).
  16. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب قبلة أهل المدينة وأهل الشأم والمشرق، برقم (394)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، برقم (264).
  17. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب الوقوف والبول عند سباطة قوم، برقم (2471)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم (273).
  18. أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب التبرز في البيوت، برقم (148)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الاستطابة، برقم (266).
  19. أخرجه البخاري، أبواب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء، برقم (946)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو، وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، برقم (1770).
  20. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء، برقم (1133).
  21. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، برقم (345)، والترمذي، أبواب الجمعة، باب ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة، برقم (496)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة، برقم (1087)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (373)، وفي صحيح الجامع، برقم (6405).
  22. أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، برقم (881)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، برقم (850).
  23. أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، برقم (2125).
  24. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، برقم (3007)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة، برقم (2494).
  25. أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب في مناقب عثمان بن عفان ، وله كنيتان، يقال: أبو عمرو، وأبو عبد الله، برقم (3701)، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (6073).

مواد ذات صلة