الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
13- العقل والنقل. (القواعد 170-183)
تاريخ النشر: ٢٣ / محرّم / ١٤٣٣
التحميل: 5185
مرات الإستماع: 3280

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.

كل من أثبت ما أثبته الرسول ﷺ ونفى ما نفاه كان أولى بالمعقول الصريح، كما كان أولى بالمنقول الصحيح، وكل من خالف صحيح المنقول فقد خالف أيضاً صريح المعقول، وكان أولى بمن قال الله فيهم: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]. 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الكلام في الرد على قانون التأويل الذي ذكره الرازي، وكان ما سبق من قيلهم بأن تقديم المعقول على المنقول يكون طعناً في المنقول بزعمهم أن المنقول دل عليه المعقول، فيكون طعناً بالدليل الدال على المنقول، وهذا الجواب عنه مضى طرف منه، وأن هذا الذي يسمونه عقليات أنهم متناقضون فيه، الواحد منهم يتناقض في نفسه، وهم أيضاً يتناقضون، فما يعتقده هذا من قبيل القطعيات العقلية يخالفه غيره، وأن هذه الدلالة، أي كون المعقول دل على صحة المنقول نقول: هذه دلالة إجمالية، إن كنتم تقصدون أنه توقَّف ذلك عليه، وإنما عُرف بالمعقول فهذا غير صحيح، وإن كنتم تقصدون أن ذلك من قبيل ما يُتعرف به ويُتوصل به وإلا فالمنقول ثابت في أصله، وأن الأشياء والحقائق ثابتة وإن لم يتعرف عليها أحد من الناس، فهذا صحيح.

فإذا قلنا بأن المعقول لا يقدم على المنقول شيخ الإسلام -رحمه الله- بين أن هذا التعارض أصلاً غير واقع في المعقولات الصحيحة، وكذلك في المنقولات الصحيحة الصريحة، أن هذا غير واقع أصلاً -هذا الافتراض، لكن لو فُرض فإن ذلك يدل على أن هذا الذي قالوا عنه بأنه معقول -إذا صح المنقول- فهذا المعقول ليس كما يقولون: إنه من القواطع العقلية؛ وذلك أن غاية ما هنالك أن الحقائق الشرعية، والحقائق العلمية، والحقائق الواقعية ثابتة، والمعقول دلّ وعرَّف ببعضها، فحينما نقدم عليه المنقول فنحن نقدم الحق الثابت على غيره، ولو أن أحداً دل غيره وقال له: هذا عالم، هذا مفتٍ، فجاء هذا الإنسان وسأله، ثم اعترض ذلك الدال من العامة، العقل مع النقل مثل العامي مع العالم إن صحت المقاربة، فلو أنه قال: لا، قوله غير صحيح، خذ بقولي ولا تأخذ بقوله، فهل يصح هذا ويستقيم؟ العامي الذي دل غيره على عالم، فاستفتاه ثم رجع العامي الذي هو قد دله، وقال للمستفتي: خذ بقولي؛ فإن قوله غير صحيح، فإن قوله غلط، يأخذ بقول مَن؟ يأخذ بقول العالم، ولا يلتفت إلى ذاك.     

وهكذا لو أنه دله على غيره وقال: هذا طبيب عالم بالطب، ثم بعد ذلك جاء إليه وعرض علته فأرشده إلى الدواء، فجاء هذا العامي الذي دله وقال: لا تلتفت إلى كلامه، خذ كلامي أنا، هل يقبل هذا منه؟

الجواب: لا، هذا دله على أنه عالم بالطب، أو بالشرع لكن تفاصيل ذلك لا يعرفها هذا العامي، فيؤخذ بقول هذا العالم، وهكذا العقل حينما يدل على صحة النقل مثلاً فإن هذا لا يتوقف عليه القبول فيما يتصل بكليات الشريعة، أو كليات النقل وجزئياته.

يقول: "كل من أثبت ما أثبته الرسول، ونفى ما نفاه كان أولى بالمعقول الصريح كما كان أولى بالمنقول الصحيح"، لماذا؟ نحن نعرف أن النقل معناه ما عرف عن طرق السمع، والعقل ما عرف عن طريق العقل -الأدلة العقلية- فهنا الذي يثبت كل ما أثبته النقل، وينفي ما نفاه هذا أسعد بالمعقول من ذاك الذي يتحكم بعقله فيرد المنقول بحجة أن عقله لم يستوعب ذلك، أو أنه يعارضه، وما إلى ذلك؛ لأن مثل هذه المعقولات -كما سبق- أن أصحابها في غاية الاختلاف والتناقض، وأن ما يذكرونه من المقدمات، فيسميه بعضهم بالقطعيات أنه في الواقع ليس كذلك، ومِن ثَمّ وقع بينهم هذا التفاوت والاختلاف الكثير.

إذن إذا تمسك متمسك بالنقل -ونحن نعلم قطعاً أن النقل لا يعارض العقل- فهو أسعد بالمعقول من ذاك الذي يتحكم بعقله ويخالفه غيره، وهكذا يأتي كل أحد ويقول: إن معقولي يخالف هذا، إن العقل يخالف هذا، فهؤلاء أبعد ما يكون الواحد منهم عن مقتضى الأخذ بالدلائل القطعية الصحيحة، لكن إذا اعتصمنا بالنقل فإننا نعلم أن ما خالفه باطل.

قال: "وكان أولى بمن قال الله فيهم"، يعني: أولئك الذين يأخذون بما تمليه عليهم عقولهم ويردون المنقول: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10]، يعني ما كنا في جملة أصحاب النار، فلو كنا نسمع أو نعقل لاتبعنا الرسول -عليه الصلاة والسلام- لاتبعنا ما جاء به، لاتبعنا الوحي، لاتبعنا القرآن، لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ فمقتضى العقل هو اتباع الرسول ﷺ هذا هو المراد.

قال -رحمه الله-: قد عُلم قطعًا أن الرسول ﷺ لم يدعُ الناس بطرق أهل البدع والفلسفة والكلام، وإنما دعاهم بالبراهين الصحيحة، والآيات البينة، وأدلة الهدى والحق.

هذا كله تابع لما سبق، "النبي ﷺ لم يدعُ الناس بطرق أهل البدع والفلسفة والكلام"، يعني: هذه الدلائل التي يسمونها بالدلائل العقلية -وليست كذلك في أغلبها- لم يدعُ النبي ﷺ بها، ولم يشتغل بها أصحابه  "إنما دعاهم بالبراهين الصحيحة، والآيات البينة، وأدلة الهدى والحق" سواء كان ذلك من قبيل المنقول، أو كان من قبيل المعقول، وقد عرفنا من قبل أن القرآن والسنة قد تضمنا دلائل من المعقول -دلائل عقلية- وذكرنا لهذا أمثلة، ومن ذلك الأقيسة والأمثال المضروبة فكل هذا أدلة عقلية، ويُحتج بها كما يقول الشاطبي -رحمه الله- على المُوالف والمخالف، يعني: مثل هذه الدلائل يحتج بها حتى على المخالفين: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّه لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22]، مَا اتَّخَذَ اللَّه مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَه مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [المؤمنون: 91]، هذه من الدلائل العقلية بصرف النظر عن كون هذا من دليل التمانع مثلاً في الإلهية، أو دليل التمانع في الربوبية، لكنها أدلة قطعية صحيحة.

قال -رحمه الله-: إذا علم الرجل أن محمداً رسول الله بالعقل والنقل والبراهين اليقينية، ثم وجد في عقله ما ينازعه في خبره كان عقله يوجب عليه أن يُسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه على قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم بالله و أسمائه وصفاته واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت الذي بين العامة وأهل العلم بالطب، فإذا كان عقله يوجب عليه أن ينقاد لطبيب يهودي فيما أخبر به من مقدرات من الأغذية والأشربة والأضمدة والمسهلات، واستعمالها على وجه مخصوص مع ما في ذلك من الكلفة والألم لظنه أنه أعلم منه، وأنه إذا صدّقه كان ذلك أقرب لحصول الشفاء مع علمه أن الطبيب يخطئ كثيراً، وأن كثيراً من الناس لا يُشفى بما يصفه الطبيب، بل يكون استعماله لما يصفه سبباً لهلاكه، ومع هذا يقبل قوله، ويقلده وإن كان ظنه واجتهاده يخالف وصفه، فكيف حال الخلق مع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- والرسل صادقون مصدَّقون، لا يجوز أن يكون خبرهم على خلاف ما أخبروا به قط، ومن عارضهم ففيه من الجهل والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال؟ فكيف يجوز أن يُعارَض من لم يخطئ قط بمن لم يُصب في معارضته قط؟   

يعني: أن هؤلاء من علماء الكلام يقرون أن النبي ﷺ حق، ويذكرون الأدلة المتنوعة من جهة العقل على صحة نبوته ﷺ وذلك ثابت عندهم يقيناً، لا يترددون، ولا يشكون فيما يقولونه ويقررونه بأنه رسول الله ﷺ فهم يثبتون الرسالة والنبوة، وهذه الأمور يثبتونها بالعقل، ويقولون: إن العقل قد دل عليها، فإذا كان كذلك، فهذا يقتضي أن يصدقه في تفاصيل ذلك، وأن يقبل عنه، وأن يتلقى عنه بالانقياد والتسليم؛ لأنه أعلم بالله وبدينه وشرعه منه، ولا يصح أن ينازعه بعقله؛ لأن عقله هو الذي بزعمه أقر وأثبت وأيقن بالدلائل القطعية أنه رسول الله، إذا كان رسول الله هل يمكن أن يكون هذا العقل أعلم بالله منه فينازعه في عقله، ويقبل ما شاء، ويرد ما شاء، ويجعل العقل حاكماً على ما يقوله الرسول ﷺ؟  

فهذا لا يمكن أن يكون، ولا يقبل، وهذا الكلام إنما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- جواباً، وهو الوجه السادس من الأوجه التي رد بها على القانون الكلي عند الرازي، وهو أن يقال: إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل، فالقضية ليست كما تتوهمون، فالعقل دل على وجوب تقديم النقل؛ لأن العقل مصدق للنقل في كل ما أخبر به، والنقل لا يصدق العقل في كل ما يمليه؛ لأن العقول تتفاوت، وقد يكون معقول هذا غير معقول هذا كما هو الواقع، وأن هذا المعقول غير صحيح، لكن العكس صحيح أن العقل الصحيح يصدق الرسول ﷺ في كل ما يخبر به، إذا كان يقر ويثبت أنه مرسل من عند الله، وأنه لا يكذب على الله، وأنه أعلم بالله وآياته وكتابه وشرعه منه فهذا يقتضي أن ينقاد له في كل ما يقول، ولا يوجد عنده نوع معارضة، ولا منازعة، فهو يرد عليه بعكس ما قال، الرازي يقول: نقدم العقل على النقل؛ لأن العقل هو الذي دل على صحة النقل، نقول له: لا، العكس هو الصحيح، هذا هو المراد، والله تعالى أعلم.

قال -رحمه الله-: ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع ألبتة.  

عندما يقول: الشرع فهو يقصد النقل، فهم يتساهلون في العبارة وإلا فالتعبير الدقيق أن يقال: العقل لا يعارض النقل، العقل والنقل، يقابل بين العقل والنقل، لا يقال: العقل والشرع؛ لأن العقل كما عرفنا من أدلة الشرع، كما أن الفطرة من أدلة الشرع، لكنها أدلة تابعة وليست مستقلة وأصلية وإنما كما يقال: ثانوية.

قال -رحمه الله-: ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع ألبتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يُعلم بالعقل بطلانها. 

هذا الكلام في غاية الأهمية، وهو يتكرر في هذا الكتاب كثيراً، وفي غيره من كتب شيخ الإسلام، لكن في هذا الكتاب بالذات تجد جملا تكتب بماء الذهب، أو بماء العينين -كما يقال- تُقرر هذا الأصل الكبير أن أهل الكلام بنوا هذه المعارضات ومن تبعهم في كل زمان بناء على أصل فاسد أنه يتصور وجود التناقض بين العقل والنقل، هذه المقدمة فاسدة، هذا أمر لا يمكن، ومن ثَمّ فما عارض المنقول الصحيح الصريح فهي شبهات، وإن ظن أصحابها أنها عقليات، أو دلائل من المعقول، أو قطعيات عقلية كما يسمونها، وهي ليست كذلك ولا ترقى إليه؛ ولا أدل على هذا من اختلافهم فيها؛ لهذا من كان دونهم اليوم ممن يقول: أنا أحكِّم عقلي، لا أُعِير عقلي، عندنا عقل نفكر به، هذا لا أقبله، هذا الحديث لا يدخل في العقل، ولا يمكن أن يقبله العقل، قد يكون هذا شابًّا صغيرًا، وقد يكون أستاذًا جامعيًّا لكنه ليس له بصر بما جاء به الرسول ﷺ هو متخصص في جانب آخر يحسنه كالإدارة مثلاً، أو الصيدلة، أو الحساب أو غير ذلك، فيتكلم بهذه القضايا، ويقول: عقلي لا يقبل مثل هذا، عقلي لا يمكن أن يتصور أنّ في أحد جناحي الذباب داء وفي الآخر شفاء مثلاً، أو أن المرأة ناقصة عقل ودين، نقول: أنت لا تحسن هذا، لا تعرف هذا، فينبغي لك أن تنقاد للرسول ﷺ: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3، 4]، مع أن العلم لا زال يثبت مثل هذه الأشياء، مثل: مسألة الذباب أثبتوها علميًّا، لكن تقاصرت عقول أقوام قبل ذلك، ولربما بعده بسبب أنهم ربما لم يطلعوا عليه.    

كذلك مسألة المرأة وعقل المرأة، فالعلم أثبت والطب أثبت أن دماغ الرجل أكبر من دماغ المرأة، وأن تلافيف المخ في الرجل أكثر من تلافيف المخ في المرأة، وذكروا ما يعتريها أثناء الحيض من الضمور في الدماغ، وأمور أخرى تسبب لها شيئًا من التشتت، وعدم القدرة على التركيز، وما إلى ذلك؛ ولهذا جعلت شهادة الرجل بشهادة امرأتين، هذا كلام كله يثبته الطب عند غير المسلمين، وتلقاه من تلقاه من المسلمين من أولئك، يعني: أخذوا هذه القضية، هذه المعرفة، هذه الجزئية، فعرفوا بها صدق ما جاء به الرسول ﷺ إن كانوا غير عارفين بذلك، أمّا نحن فليس عندنا شك سواء تكلم بذلك أهل هذه العلوم التجريبية، أو لم يتكلموا فيها، ليس عندنا أدنى تردد، ما قاله النبي ﷺ حق ثابت، ولا يمكن أن يُعارَض بشيء، وأمّا ما تمليه عقولنا فإن ذلك نعلم أنه قاصر، وضعيف، وغلط؛ ولذلك نختلف نحن في الأشياء فيما بيننا في الأمور الحياتية من منظور عقلي بحت، هذا يستحسن هذا، وهذا يستقبحه كما سبق، فاختلفت العقول وتفاوتت، فهذا يفهم شيئاً، وهذا يفهم شيئاً آخر، هذا يرجح هذا ويرجح هذا، ويجتمع أهل الاختصاص الواحد، في مكان واحد، ويسمعون كلاماً واحداً، وتجد هذا يفهم من جهة، وهذا يفهم من جهة، وقد رأيت هذا بنفسي، وهو من آيات الله  هذه الفهوم المتفاوتة، وهذه العقول المتفاوتة أهل اختصاص واحد وهم غالباً من أهل المَيْز فيه، يجتمعون تحت سقف واحد ويتناقشون في مسائل من هذا العلم في الاختصاص، وسمعوا جميعاً كلاماً واحداً وهو مكتوب بين أيديهم هذا يفهمه من جهة، وهذا يفهمه من جهة، فماذا يقال فيما وراء ذلك ؟

إذا تكلم غير المختصين ماذا يقال؟ انظر إلى أقوال السلف في التفسير مثلاً كيف هذا يفهم من الآية فهماً، وذاك يفهم فهماً آخر، حتى في الأمثال التي قال الله عنها: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وقد تكلمت على هذاً كثيراً في مجالس في شهر رمضان في سنوات، تجد هذا يفهم المثل من جهة وهذا يفهمه من جهة أخرى تماماً مما يكون من قبيل اختلاف التضاد قطعاً، مما لا تجتمع فيه الأقوال في بعض المواضع، فالعقول ليست عمدة، ولا يمكن أن تكون حاكمة على المنقول، ثم يقول القائل: نحن لنا عقول، ونقبل ما قبلته عقولنا، وما لا تقبله عقولنا نرفضه، هذه مقاله عظيمة جدًّا، قد تؤدي بصاحبها إلى المروق من الدين، نسأل الله العافية.

قال -رحمه الله-: بل يُعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع، وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد، وغير ذلك، ووجدت ما يُعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال: إنه يخالفه إما حديث موضوع، أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول، ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمُحالات العقول، بل بمَحارات العقول ، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته، والكلام على هذا الأصل على وجه التفصيل مذكور في موضعه، فإن أدلة النفاة للصفات والقدر ونحو ذلك إذا تدبرها العاقل الفاضل وأعطاها حقها من النظر العقلي علم بالعقل فسادها وثبوت نقيضها.

هذا الكلام كله ذكره شيخ الإسلام في معرض بيان أن تقديم المعقول على الأدلة النقلية ممتنع، متناقض، لا يمكن، بخلاف تقديم الأدلة النقلية كما سبق، وذلك لأن كون الشيء معلومًا بالعقل، أو غير معلوم به أمر نسبي، فهذا يزعم أن العقل يدل عليه، وهذا يزعم أن العقل لا يدل عليه، وعقل هذا يملي غير ما يمليه عقل الآخر، فهي مسألة نسبية، لكن الوحي على العكس من هذا، النبي ﷺ: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3، 4]، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42]، هذا القرآن فهو محفوظ ولا يمكن أن يرد عليه الباطل ولا يمكن أن يدل على خلاف الحق وسيأتي مناقشة ما يتصل بالتأويل والتفويض والتحريف والتكذيب، بحسب الطوائف التي افترقت في ذلك، فهو يقول هذا: لا يوجد في موضع واحد مخالفة صريحة بين منقول صحيح صريح ومعقول صحيح، لا يوجد لا في أبواب الصفات، ولا فيما يتصل بالمعاد -لأن العقل دل على أمور تتصل بالمعاد، ولا غير ذلك.

ويقول: ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمُحالات العقول بل بمَحارات العقول، وقد شرحت هذه الجملة في أوائل هذه المجالس، الرسل لا يأتون بشيء يقول عنه العقل: هذا محال -العقل الصحيح- لا يمكن؛ لأنه لا يوجد التعارض، لكن الرسل يأتون بمَحارات العقول يعني يأتون بأشياء العقل يتوقف عندها؛ لأنه لا يدركها؛ لأنها أمور غيبية محضة موقوفة على النقل والسماع لا مدخل للعقل فيها، يأتون بمَحارات العقول، ولا يأتون بمُحالات العقول، مَحارات يعني الأشياء التي تتوقف فيها، تقول: حار الماء، الآن السيل لما يجيء وينطلق ثم بعد ذلك يصل إلى مكان يصطدم فيه يبدأ يضطرب، ويقف ويدور في مكانه، تقول: حار الماء يعني ما وجد مسلكاً يسلكه فيتصرف، حار، فهنا الرسل يأتون بمَحارات العقول، يأتون بأشياء العقل يتوقف فيها، ليس للعقل فيها مجال، ولكنهم لا يأتون بأمور العقول تحيلها تقول: محال هذا، لا يمكن هذا، كيف يكون؟  

هؤلاء الرسل ينقلون عن ربهم -تبارك وتعالى- يتكلمون بالوحي، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي خلق العقل فكيف يأتي الرسل بما يناقض العقل؟

قال -رحمه الله-: ولا يُعلم عن النبي ﷺ حديث صحيح أجمع المسلمون على نقيضه فضلاً عن أن يكون نقيضه معلوماً بالعقل الصريح البيِّن لعامة العقلاء، فإن ما يعلم بالعقل الصريح البيِّن أظهر مما لا يعلم إلا بالإجماع ونحوه من الأدلة السمعية، فإذا لم يوجد في الأحاديث الصحيحة ما يعلم نقيضه بالأدلة الخفية كالإجماع ونحوه، فألا يكون فيها ما يعلم نقيضه بالعقل الصريح الظاهر أولى وأحرى، ولكن عامة موارد التعارض هي من الأمور الخفية المشتبهة التي يحار فيها كثير من العقلاء كمسائل أسماء الله وصفاته وأفعاله، وما بعد الموت من الثواب والعقاب والجنة والنار والعرش والكرسي، وعامة ذلك من أنباء الغيب التي تقصر عقول أكثر العقلاء عن تحقيق معرفتها بمجرد رأيهم؛ ولهذا كان عامة الخائضين فيها بمجرد رأيهم إما متنازعين مختلفين، وإما حيارى مُتهوِّكين، وغالبهم يرى أن إمامه أحذق منه في ذلك؛ ولهذا تجدهم -عند التحقيق- مقلدين لأئمتهم فيما يقولون من العقليات المعلومة بصريح العقل.  

هم يدعون أنهم أصحاب عقليات، والواقع أنهم مقلدة، يتبعون أئمتهم، وإذا كان مقلداً فمعنى ذلك أنه جعل العقل جانباً؛ لأن المقلد أبعد ما يكون عن مقتضى العقل، هم مقلدة يقولون: قال فلان، وقال فلان، ويرددون الكلام الذي يردده شيوخهم وأئمتهم ممن تلقوا عنهم هذه الأشياء، فأين العقول؟ ولذلك هم يرددون ويجترُّون أشياء قالها شيوخهم؛ ولهذا قصد شيخ الإسلام الرد على الرازي؛ لأن من كانوا في زمانه كانوا يعولون عليه، وينقلون منه، فهم مقلدة، ويحتجون عليه بالعقليات، وأن هذا يعارض العقل نقول: أي عقل؟ أنت مقلد للرازي أو لأرسطو، أو لأفلاطون فأين مقتضى العقل الذي تقوله؟ ثم لماذا هذا التناقض والاختلاف فيما بينكم؟ فهذه ليست عقليات، يقول: إذا كان لا يوجد تناقض بين دليل نقلي سمعي من الكتاب والسنة مع دليل لربما يكون من قبيل القطعي لكن فيه نوع خفاء بالنسبة للدليل العقلي، يقول: لم يُجمع المسلمون على رد شيء من المسموع الثابت الصحيح، هذا إذا كان لا يخالفه إجماع، فكيف بالعقل الذي يكون أظهر وأوضح؛ لأن ذلك يجده الإنسان من نفسه -الدلائل العقلية والواضحة الصريحة- يقول: هذا لا يمكن، هذا غير موجود، فإذا كان لا يوجد في الخفي فانعدامه في الجلي من باب أولى، فيقول: هؤلاء الذين يقولون: عندنا عقليات تخالف المنقول، يقول: هذه ليست عقليات، إنما هي ظنون كاذبة، فهؤلاء مُتهوِّكون خرّاصون، وغاية ما هنالك أنهم يقلدون من قبلهم، والمقلد ليس بمتبع للعقل إطلاقاً، إنما هو على اسمه، كأنه جعل قلادة في عنقه يقاد فيها، قد أسلم عقله لغيره، لكن لمن؟ لمخلوق مثله، وأبى أن يسلم قياده للوحي الذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42].   

فكل من أعرض عن الكتاب والسنة ابتلي بالاشتغال بمثل هذه الضلالات والانحرافات التي يسمونها عقليات، أو دلائل قطعية، أو نحو ذلك، كما قال الله -تبارك وتعالى- لما ذكر اليهود وخبرهم: وَلَمَّا جَاءَهمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة: 89]، وقال: وَلَمَّا جَاءَهمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهورِهِمْ كَأَنَّهمْ لَا يَعْلَمُونَ [البقرة: 101]، ماذا كانت النتيجة؟ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة: 102]، فلما تركوا الكتاب المنزل اشتغلوا باتباع أرذل الأشياء وهو السحر، فهؤلاء تركوا أيضاً السمع والنقل، فابتلوا باتباع هذه التي يسمونها عقليات، وهي في الواقع تخرصات، فأودى بهم ذلك إلى كثير من التناقض والاضطراب والحيرة والاختلاف، وسيأتي أكثر من هذا.

قال -رحمه الله-: ولهذا تجدهم عند التحقيق مقلدين لأئمتهم فيما يقولون من العقليات المعلومة بصريح العقل، فتجد أتباع أرسطو يتبعونه فيما ذكره من المنطقيات، والطبيعيات، والإلهيات، مع أن كثيرًا منهم قد يرى بعقله نقيض ما قاله أرسطو، وتجده لحسن ظنه به يتوقف في مخالفته، أو ينسب النقص في الفهم إلى نفسه مع أنه يَعلم أهلُ العقل المتصفون بصريح العقل أن في المنطق من الخطأ البيِّن ما لا ريب فيه، كما ذكر في غير موضع.

وأما كلام أرسطو وأتباعه في الإلهيات فما فيه من الخطأ الكثير، والتقصير العظيم ظاهر لجمهور عقلاء بني آدم، بل في كلامهم من التناقض ما لا يكاد يُستقصى، وكذلك رءوس المقالات البدعية جمعت بين مخالفة النقل والعقل المعلومين.

يعني: أن فيها من مخالفة العقل الشيء الكثير، فيها أغلاط، وهذه الأغلاط هي في الواقع مخالفة لما هو مقتضى العقل الصحيح؛ ولهذا يختلفون، فهم مدارس، أرسطو له مدرسة، أفلاطون له مدرسة، وهكذا هؤلاء الأتباع الذين جاءوا من بعدهم، خالفوهم في أشياء، أعني أمثال الفارابي و ابن سينا والرازي، هم مختلفون غاية الاختلاف، فبناء على أي شيء اختلفوا؟ لو كان العقل متحداً لما أوجب لهم هذا الاختلاف. 

فالحاصل أنه يذكر هذا الكلام في معرض بيان أن المسائل التي يقال: إنه قد تعارض فيها العقل والسمع ليست من المسائل البينة المعروفة بصريح العقل، كالرياضيات والهندسة والطبيعيات الظاهرة؛ إذ لم يُنقل عن النبي ﷺ شيء من هذا الجنس، وقد مضى الكلام على هذا في مجلس سابق.

النبي ﷺ لا يوجد عنه أشياء من هذا القبيل في أمور حسابية رياضية، أو في قضايا طبيعية، العلوم الطبيعية وما إلى ذلك تخالف صريح المعقول؛ لأن النبي ﷺ أصلاً لم يرسل بهذا، إنما هو مخبر عن ربه -تبارك وتعالى- مشرِّع جاء بالهدى الذي يحصل به استقامة أحوال الناس، ويصح سيرهم على الصراط المستقيم، فلا يوجد في كلامه ما يعارض هذه الأمور التي تكون من قبيل القواطع العقلية، كالمسائل الرياضية الواضحة 1+1=2، هذا لا يوجد شيء يخالفه من النقل، أما الأشياء الأخرى التي يجعلونها مقدمات ونتائج إلى آخره مما يزعمون أنها قواطع عقلية فهي ليست كذلك، والدليل كثرة اضطرابهم فيها.

قال -رحمه الله-: ومما يدل على فساد معقولات الفلاسفة وأهل الكلام الباطل بقطع النظر عما يدل على فسادها عقلاً ونقلاً: كثرة التناقض والاضطراب بين أهلها، وعدم الاستقرار والاتفاق على رأي واحد.

يعني: أن هذا دليل واضح جدًّا، يقول: بصرف النظر عما يدل على فسادها عقلاً ونقلاً، ليست هناك حاجة أن نأتي مثلاً ونقول: الأدلة العقلية على فسادها: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة إلى آخره، والدلائل النقلية التي تدل على فسادها..، يقول: هنا أمر واضح يقر به كل أحد، كثرة التناقض يدل على أن العقل هنا ليس بقاطع، لو كان من الأمور القطعية -الدلائل الصحيحة- لما حصل فيه هذا الاضطراب الكبير والاختلاف، وليس هناك طائفة أكثر من أهل الكلام اختلافاً وحيرة واضطراباً، ولذلك لما جاءت العلوم الكلامية واشتغل الناس بها كثرت الفرق كثرةً ظاهرة عظيمة كما هو معلوم، والله المستعان.  

قال -رحمه الله-: بل ربما قال الواحد من أئمتهم ورؤسائهم القول، وقال: إنه مقطوع به، ثم في كتاب آخر يقول: إنه مقطوع بخلافه، فعقولٌ هذه حالها لا يصلح أن تكون معتبرة في الأمور الجزئية، فضلاً عن تقديمها على نصوص الأنبياء والمرسلين في الأمور العظيمة من أصول الدين.

هذا ذكره في بيان معرض أن القول بتقديم الإنسان لمعقوله على النصوص لا ينضبط، وأن تناقض أصحاب المعقولات الذين يزعمون أنهم أصحاب معقولات يدل على ذلك، نرجع لعقل مَن؟ هذا الذي يقول لك الآن حينما يناقشك، أو يأتي ليضل بعض الشبيبة، ويقول لهم: لا تسلموا عقولكم لهؤلاء، لكم عقول تفكرون بها -يقصد العلماء- يعني لا تسلموا عقولكم للعلماء، أنتم لكم عقول تفكرون بها، اجعلها حاكمة على كل شيء، نقول له: عقل مَن؟ هذا يقوله الطالب في الأول الثانوي، حينما يقال هذا الكلام المضلل، وقد سمعت هذا السؤال يتكرر من غير تواطؤ في يوم واحد مرتين في الصباح وفي المساء من أناس لا يعرف بعضهم بعضاً، وكلهم في مرحلة ثانوية، يوجد من يأتيهم، ويقول لهم، كلما رأى إنسانًا يستقيم، وعلى ظاهره سمة صلاح جاء إليه، وقال له: انتبه لا يضللك هؤلاء، يضللون بماذا؟ قال الله قال رسوله، ويقول: عندك عقل، حكِّمْ عقلك، لا تعر عقلك لأحد، احذر أن تؤجر عقلك للآخرين، أو أن تلغي عقلك، عقل من هذا؟     

فأي عقل الذي يحكم على النقل عقلي أو عقلك؟ ولولا خشية الإشكال والاشتباه لذكرت لكم من المسائل في الأمور العلمية والعملية ما أجزم أننا سنخرج بأشياء في غاية الاختلاف فيه، مما يمكن أن يدرك بالعقل، مما يدل على أن العقول متفاوتة، فهذا يقول: العقل يقتضي كذا، وهذا يقول: العقل يدل على كذا، نسأل الله العافية.

هناك مشكلة كبيرة، هناك شياطين يضللون، هناك دعاة على أبواب جهنم، صغار وكبار، ويعملون، ولا يفتأ الواحد منهم، وكأنه قد وُكل بهذا، أن يضلل الناس، والذي يدورون عليه هو ما ذكرت، مثل هذا يحتاج الإنسان إلى أن ينتبه ويحذر، ولو نُوقش واحد من هؤلاء -في مجادلة علمية صحيحة- لتبين جهله، وتناقضه، وخطؤه، ثم إنك تجد هؤلاء -كما سيأتي من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يئول أمرهم إلى الانحراف والزندقة أحياناً، وقد حصل لبعض هؤلاء أنه صار من الملاحدة.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن أمر الكثير من هؤلاء -بسبب أنهم لا يجدون برد اليقين- يئول إلى المجون والفسق في أحسن حالاته -نسأل الله العافية، لا يجد الانشراح والسرور بمعرفة الله، ولا يذوق طعم الإيمان، ولا يجد برد اليقين في البراهين والحجج والدلائل الصحيحة، هو لا يجد هذا، يجد قلقًا وريبة، فيئول أمرهم في النهاية إلى المجون.

المجون عند شيخ الإسلام يعني أنه يتحول إلى إنسان فاسق، فاجر، ينحرف، ينكص على عقبيه، كان مستقيمًا، ولهذا تجد علماء الكلام هؤلاء في الغالب أبعد الناس عن التدين، وقد ذكر في أخبارهم أشياء عجيبة، أحد هؤلاء شك فيه تلامذته ، فوضعوا الحبر على رجله -على قدمه، شكوا هل يصلي أو لا، لاحظ الشك إلى حد هل يصلي أو لا يصلي؟ فوضعوا حبراً فوجدوه بعد ثلاثة لم يتغير، معناه أنه ما يتوضأ ولا يصلي، واقرءوا في تراجم هؤلاء، ولعل الله ييسر في يوم يُطرح فيه درس مستقل عن مثل هذه القضايا: كيف يكون لهؤلاء أتباع؟ بهذا العنوان.

النَّظّام يبيت على فسق -يعني على خمر- ويغدو على جرائرها -نسأل الله العافية-فبعض هؤلاء ما كان يصلي، وهم أبعد الناس عن الارتباط بالله، والقرب منه، أبعد ما يكون الواحد منهم أن يكون عالماً ربانيًّا، بخلاف أئمة السنة، فإذا قرأتَ في تراجمهم ذكرتَ الله -تبارك وتعالى- رأيتَ العلم والعمل، رأيت اليقين، وانظر في مناظراتهم ومجادلاتهم، وشيخ الإسلام ذكر في هذا الكتاب من مناظرات الإمام أحمد لهم، وأنواع هذه المناظرات، وكيف كان يحتج على أنواع الأدلة التي كان يحتجون بها، وسيأتي شيء من هذا -إن شاء الله-.

وإذا قرأت في ترجمة الإمام أحمد في أي باب من الأبواب في ثباته، في يقينه، في عبادته لربه، في علمه وسعته رأيت عجباً إضافة إلى محبة الناس له، ويذكر على كل لسان، فبقي ذكر هؤلاء، بخلاف علماء الكلام، نسأل الله العافية.

قال -رحمه الله-: وكثير من أذكياء أهل الباطل ورؤسائهم تراجعوا عن باطلهم واعترفوا بالضلال والحيرة.

هذا الكلام تابع للذي قبله، يقول: هؤلاء يتناقضون، يقر في كتاب كلاماً، ثم في كتاب آخر يناقضه، وأحياناً في نفس الكتاب، وهذا يقول كلامًا وذاك يناقضه، يقول: ولذلك أدى بهم هذا الأمر إلى الحيرة، والشك، والريبة والاضطراب، فرجع من رجع منهم.

قال -رحمه الله: فمنهم من وفق بعد ذلك لسلوك طرق أهل العلم والإيمان فصار إماماً في الهدى بعدما كان إماماً في الضلال، ومنهم من لم يتيسر له ذلك فاعترف ببطلان ما كان عليه أولاً وبقي على دين العجائز وأهل الفطر الصحيحة، وكثير منهم في طغيانهم يعمهون، وفي غيهم يترددون، وذلك أن الهدى هو ما بعث الله به رسوله فمن أعرض عنه لم يكن مهتدياً، فكيف بمن عارضه بما يناقضه وقدم مناقضه عليه؟!.

وقد ذكرت لكم طرفاً من كلامهم شعراً ونثرًا، وذكر شيخ الإسلام أشياء كثيرة منه، وقال: هذا يمكن أن يبسط في كتاب مستقل، حيرة أهل الكلام، وقال: ما بلغني من هذا شيء كثير، والذي لم يبلغني أكثر، وانظر في أحوالهم وأطوارهم حينما يذكر شيخ الإسلام أن مثل هؤلاء يتقلبون ويئول بهم ذلك إلى الضلال، إلا من لطف الله به، انظر على سبيل المثال في أحوال هؤلاء، منهم من تاب، اقرءوا وصية الرازي، له وصية جميلة جدًّا يوصي فيها أولاده ويذكر في مضامينها رجوعه ولزومه للوحي والسنة وإلى آخره.

وتجدون أيضاً هذه الوصية موجودة في بعض طبعات التفسير -تفسير الرازي- ووقع للجويني، وذُكر عن الغزالي -كما سبق- أنه مات وصحيح البخاري على صدره.

لكن إذا نظرت إلى تقلبات هؤلاء، والحال التي يصيرون إليها في مجمل أمورهم، أو في أطوار حياتهم تجد عجائب وغرائب، إذا نظرت إلى الغزالي مثلاً تجد أنه اشتغل بالعلوم الكلامية وأوغل في ذلك حتى قيل: إنه قد دخل في بطن الفلسفة -دخل في جوفها- ولم يستطع الخروج منها، فله كلام عظيم جدًّا -نسأل الله العافية- يشبه كلام أهل الحلول والاتحاد، وأولئك -أعني أهل الحلول والاتحاد- يرجعون إلى كلامه هذا، ويحتجون به، ثم تجد له أشياء في الفلسفة أيضاً من هذا القبيل وأمورًا عظيمة، ثم بعد ذلك أدى به الحال إلى أنه صار إلى التصوف، واعتزل الناس.

فالعالم الرباني لا يكون متقلباً، وإذا نظرت إلى غيره كالجهم بن صفوان مثلاً حينما ناظر طائفة من السُّمَنِيَّة بقي أربعين يوماً لا يصلي متحيراً، لا يدري بأي دين يدين، وقل مثل هذا أيضاً في آخرين وما جرى لهم في هذا الباب، نسأل الله العافية.

فبعضهم صار إلى حال لربما يشك فيها بأصل دين الإسلام، أيضاً لو تقرءون في ترجمة الشهرستاني مع أن ترجمته شحيحة في الكتب، قليلة، ليست له ترجمة كثيرة، وقد حاولت أن أجمع كل ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عنه في كتبه، وكذلك ما وجد في كتب التراجم أشياء عجيبة، نفس الذين يترجمون له يتحيرون فيه، يعني: أحياناً على طريقة المتكلمين، وأحياناً يكون على طريقة الباطنية، وبعضهم يعزو هذا إلى أنه انتقل إلى ناحية فيها ظهور لهؤلاء الباطنية، وكان الأمير منهم، فأراد أن يصانعهم، هذا من يحسن الظن به، يقول: أراد أن يصانعهم؛ ليحصِّل شيئاً من العطاء والنوال -المال- يعني هذا الذي أحسن الظن به، هذا الذي ما رماه بالزندقة، والشهرستاني هو صاحب الكتاب المعروف المشهور في الملل والنحل، هؤلاء علماء الكلام.  

قال -رحمه الله-: والمقصود هنا أنه لو سُوِّغ للناظرين أن يعرضوا عن كتاب الله، ويعارضوه بآرائهم ومعقولاتهم لم يكن هناك أمر مضبوط يحصل لهم به علم ولا هدى، فإن الذين سلكوا هذا السبيل كلهم يخبر عن نفسه بما يوجب حيرته، وشكه، والمسلمون يشهدون عليه بذلك، فثبت بشهادته وإقراره على نفسه وشهادة المسلمين الذين هم شهداء الله في الأرض أنه لم يظفر من أعرض عن الكتاب، وعارضه بما يناقضه بيقين يطمئن إليه، ولا معرفة يسكن بها قلبه.   

والذين ادعوا في بعض المسائل أن لهم معقولاً صريحاً يناقض الكتاب قابلهم آخرون من ذوي المعقولات فقالوا: إن قول هؤلاء معلوم بطلانه بصريح المعقول، فصار ما يُدعى معارضة الكتاب والسنة من المعقول ليس فيه ما يُجزم بأنه معقول صحيح، إما بشهادة أصحابه عليه وشهادة الأمة، وإما بظهور تناقضهم ظهوراً لا ارتياب فيه، وإما لمعارضة آخرين من أهل هذه المعقولات لهم، بل من تدبر ما يعارضون به الشرع من العقليات وجد ذلك مما يعلم بالعقل الصريح بطلانه، والناس إذا تنازعوا في المعقول لم يكن قول طائفة لها مذهب حجة على الأخرى، بل يرجع في ذلك إلى الفطر السليمة التي لم تتغير باعتقاد يغير فطرتها ولا هوى، فامتنع حينئذ أن يُعتمد على ما يعارض الكتاب من الأقوال التي يسمونها معقولات، وإن كان ذلك قد قالته طائفة كبيرة لمخالفة طائفة كبيرة لها، ولم يبقَ إلا أن يقال: إن كل إنسان له عقل فيعتمد على عقل نفسه، وما وجده معارضاً لأقوال الرسول من رأيه خالفه وقدم رأيه على نصوص الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-.

ومعلوم أن هذا أكثر ضلالاً واضطراباً، فإذا كان فحول النظر وأساطين الفلسفة الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلى الغاية، وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة هذه العقليات، ثم لم يصلوا إلى معقول صريح يناقض الكتاب، بل إمّا إلى حيرة وارتياب، وإما إلى اختلاف بين الاحزاب، فكيف غير هؤلاء ممن لم يبلغ مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه من العقليات؟ فهذا وأمثاله مما يبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه لم يعارضه إلا بما هو جهل بسيط، أو جهل مركب.

فالأول: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُه الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَه لَمْ يَجِدْه شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَه فَوَفَّاه حِسَابَه وَاللَّه سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].

والثاني: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ... إلى قوله: نُورٍ [النور:40]، وأصحاب القرآن والإيمان في نُورٌ عَلَى نُورٍ [سورة النور: 35]، ثم ذكر الآيات المتعلقة بذلك.

مضمون هذا الكلام مضى الكلام عليه في القضايا السابقة، ولا حاجة لإعادته، وحاصله أن هؤلاء تناقضوا في عقولهم، وأن كل طائفة لا يمكن أن يكون قول الطائفة الأخرى حجة عليها فيما تدعي أن عقولها توصلت إليه، وتقرره، ومن ثَمّ فيمكن أن يقول قائل: إن كل من أملى عليه عقله شيئاً تبعه وحكّمه على نصوص الكتاب والسنة، وقدمه عليها، وبهذا يحصل اضطراب عظيم، وكفر وضلال، ورد للوحي برمته، ومن ثم فكأن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لم يأتوا من عند الله بشيء من الهدى والنور، بخلاف من جعل عقله تابعاً للنقل.

ويقول: إذا كان هؤلاء الأئمة الكبار قد وصلوا إلى الحيرة، فكيف بالصغار الذين لم يبلغوا مبلغهم، ولا كدوا كدهم، ولا حصّلوا تحصيلهم؟ فهؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في هذه الأمور العقلية وصلوا إلى هذه الغاية، أو هذه النتيجة المؤسفة، فكيف بالناشئ الذي لم يبلغ هذا المبلغ، ومن ثم يريد أن يحكم بعقله على الوحي؟ 

هذا جواب في الصميم على هؤلاء الذين يلبسون على الناس، لكن كيف يكون هذا من قبيل الجهل البسيط، أو الجهل المركب؟ يكون من قبيل الجهل المركب إذا قرر بعقله ما يخالف ما جاء به الرسول ﷺ لكنه إذا قال: هذا يخالف العقل، ولم يهتدِ إلى شيء، فيكون جهله من قبيل الجهل البسيط.

قال -رحمه الله-: والمتناقضون في العقليات من هؤلاء قد يكون كلا الاعتقادين منهم باطلاً، وقد يكون الحق فيه تفصيل يبين أن مع هؤلاء حقًّا وباطلاً، ومع هؤلاء حقًّا وباطلاً، والحق الذي مع كل منهما هو الذي جاء به الكتاب الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.    

يعني: هؤلاء المشكلة أيضاً أنهم يختلفون في أمور ترجع إلى بعض المصطلحات، والألفاظ التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة، وقد تكون هذه الألفاظ مجملة تحتمل حقًّا وباطلاً، فهؤلاء لربما يثبتون ذلك إثباتاً مجملاً وهؤلاء ينفونه نفياً مجملاً، فيكون مع هؤلاء شيء من الحق أحياناً، ومع هؤلاء شيء من الحق، والصحيح التفصيل في مثل هذا، وهكذا في كثير من المختلفين، فيما يرجع إلى العقل، هذا ينظر إلى هذا الجانب من زاوية، وهذا ينظر إليه من زاوية أخرى، فيكون هذا معه جانب من الحق، وهذا معه جانب من الحق، فلو أردنا أن نقرب الصورة بالمثال الذي يمكن أن يفهمه كل أحد، الآن لو جئنا وعرضنا مسألة وحصل نقاش فيها، وأخذنا الآراء من الناس لوجدناهم يختلفون، لو قلنا لهم مثلاً: الإنترنت هل هو خير أو شر؟

فبعض الناس يقول: شر، وبعض الناس يقول: خير، الآن هؤلاء اختلفوا وتناقضوا، ويأتي من يقول: هناك تفصيل، فهذا الذي نظر إلى جوانب سلبية حكم بحكم عام، وهذا الذي نظر إلى جوانب إيجابية حكم بحكم عام، ولكن لو أنه فصل لكان أقرب إلى الصواب، هذا مثال بسيط فيما يختلف الناس فيه بأنظارهم، يعني ما يرجع إلى قال الله، وقال رسوله ﷺ وإنما ذلك يرجع فيه إلى ما أحصاه وعرفه عقله من جوانب الحسن، أو القبح التي يتصف بها هذا الموضع الذي سُئل عنه، وقل مثل ذلك في أمثلة كثيرة يختلف الناس فيها.

قال -رحمه الله-: الآيات والبراهين داله على صدق الرسل، وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق، وأنهم معصومون فيما يبلغون عن الله من الخبر والطلب، لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ، كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله صدق وحق، لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي، فمتى علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزماً قاطعاً أنه حق، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به، وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي، لا عقلي، ولا سمعي، وأن كل ما ظُن أنه عارضه من ذلك فإنما هو حجج داحضة وشبه من جنس شبه السوفسطائية، وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك وأنه يمتنع أن يعارض خبرَه دليلٌ صحيح كان هذا العقل شاهداً بأن كل ما خالف خبر الرسول فهو باطل، فيكون هذا العقل والسمع جميعاً شهِدا ببطلان العقل المخالف للسمع.

هذا الكلام كله أيضاً يحتج به على الرازي باعتبار أن ما جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هو حق وصدق، فهم لا يقولون على الله إلا الحق، لا يمكن أن يقولوا عليه كذباً، كما أنه لا يمكن أن يَرِد عليهم الخطأ فيما يقولون، فهم معصومون في البلاغ عن الله -تبارك وتعالى- وإذا كان الأمر كذلك وجب تقديم ما جاءوا به على ما يُدَّعى أنه من قبيل العقليات، وهذا الكلام هو الوجه العاشر من الجواب على القانون الكلي الذي ذكره الرازي. 

يقول: أنْ يُعارَض دليلهم بنظير ما قالوه، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل، هم قالوا: وجب تقديم العقل، يقول: لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، هذا إذا ثبت التناقض، وقد عرفنا معنى النقيضين، وأنهما لا يجتمعان في ذات واحدة في مواضع واحد في وقت واحد، ولا يرتفعان، يعني بالنفي، يعني لا نقول: هذا موجود، وهذا غير موجود، ولا نقول: هذا موجود معدوم في آن واحد، ولا غير موجود ولا معدوم في آن واحد، لا نقول: هذا حي ميت في آن واحد، ولا نقول: لا حي ولا ميت، هذا لا حي: هذا معنى يرتفعان، يعني لا يوصف بواحدٍ منهما، هذا لا يمكن، لابد أن يوصف بواحد من هذين، فيقول: الدليل العقلي والنقلي لو فُرض أنهما تناقضا من كل وجه فإنه عند ذلك لا يمكن أن يجتمعا، لا يمكن أن نثبت الدليل العقلي والنقلي، هذا افتراض فقط، وإلا فلا يمكن هذا التناقض، فيقول: إما أن نقول بإثبات النقيضين أو برفعهما، نقول: لا نقبل الدليل العقلي ولا النقلي، إذاً ماذا بقي؟  

أو نقول: نثبت الدليل العقلي والنقلي، هذا جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، يقول: وتقديم العقل ممتنع، هذه التي قال فيها الرازي وأهل الكلام: نقدم العقل، يقول: هذا ممتنع؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع، ووجوب قبول ما أخبر به الرسول إلى آخر ما ذكر هنا، يعكس على الرازي دليله.

يقول: الصحيح أن يقال عكس ذلك، أننا نقدم النقل على العقل؛ لأن العقل هو الذي دل عليه كما ذكرت في أول هذا المجلس.  

يقول: وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي لا عقلي ولا سمعي، وأن كل ما ظُن أنه عارضه من ذلك فإنما هو حجج داحضة، وشبه من جنس شبه السوفسطائية، ما هي السوفسطائية؟

السفسطة يقال: فلان يُسفسط، ليس مجرد احتمالات، وإنما يموه بما يطرحه فيريد أن يتمحل بقلب الحق باطلاً، ويموه بما يذكره ويورده على أنه حجج ودلائل إلى آخره، فيكون مغالطاً موهماً وملبساً ومشككاً في الحقائق الثابتة، ولذلك بعض هؤلاء يمكن أن يجادل في أن هذه السارية ذهب، وقد يكون عنده من القدرة على الإقناع، لكن كلامه باطل، فالذي يموه الحقائق، ويلبس ذلك بالباطل، ويغالط يقال له: سوفسطائي، هذه سفسطة، يعني أبعد ما تكون عن الدلائل والبراهين والحجج الصحيحة، يجادل بالباطل؛ ليرد به الحق، أو يثبت هذا الباطل، ومن هؤلاء من يجادل للمجادلة فقط يعني أصبحت هذه صنعته، فهو يجد راحة ولذة وسرورًا بالجدال للجدال، يعني: ليس لهدف الوصول إلى الحق، ولذلك كان كل هذا من قبيل الجدال المذموم الذي نهى الله عنه وذمه، فأكثر ما تجدون في القرآن من ذكر الجدال إنما ذكر على سبيل الذم كما قال الله وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [غافر: 5].

قال -رحمه الله-: والكلام هنا إنما هو لمن علم أن الرسول صادق، وأن ما جاء به ثابت، وأن إخباره لنا بشيء يفيد تصديقنا بثبوت ما أخبر به، فمن كان هذا معلوماً له امتنع أن يجعل العقل مقدماً على خبر الرسول ﷺ وأما من أفصح بحقيقة قوله وقال: إن كلام الله ورسوله في التوحيد، وأمور الغيب لا يستفاد منه علم بالحقيقة، فهذا لكلامه مقام آخر.

يقول: ما سبق من الحجج إنما يوجه ويحتج به على من يثبت صدق الرسول ﷺ يؤمن به، ويثبت صدقه، فنقول له: إذا كنت تؤمن به ﷺ وتثبت صدقه، فكيف تقدم عليه العقل؛ فإن ذلك يقتضي أنه جاء بغلط -بخطأ- أو أنه قد كذب على الله -تبارك وتعالى- فكيف يكون ما جاء به باطلًا وأنت تثبت أنه رسول الله، وتقول: إن العقل دل على ذلك؟ فأنت مناقض لنفسك؛ ولهذا كان تقديمك للعقل على النقل هو محض تناقض، وأن ذلك خلاف مقتضى العقل، فيقول: مثل هؤلاء هم الذين يوجه إليهم الكلام السابق، يقول: وأما من أفصح بحقيقة حاله..، فالحاصل أن مثل هؤلاء يلزمهم إذا قدموا العقل إما أن يجعل النبي ﷺ يكذب، أو يخطئ في الأمور التي يخبر عنها ﷺ إذا قال: إنه يصيب ويخطئ، يَرِد عليه مثل هذا الكلام، فهذا تكذيب للنبي ﷺ بل هذا إبطال لدلالة السمع، ما دام أنه يرد عليه الغلط، أو يرد عليه الكذب ويُجوَّز عليه في مثال واحد فإن ذلك يمكن أن يسري على بقية الأدلة السمعية، لكن إذا مُنع هذا من أصله وقطع هذا الاحتمال -وهو مقتضى العقل- فإن النصوص تسلم، ويُتلقى عن الله وعن رسوله ﷺ بالإذعان والتسليم، فتُورث تلك الدلائل النقلية اليقين، وإلا فلو بقي على هذا الرد وتقديم المعقولات فإن ذلك يؤدي إمّا إلى هذا وإمّا إلى هذا، يعني: إما أن الرسول أخطأ، وإما أنه قال على الله غير الحق كذباً، وحاشاهم من هذا كله، فهذا إبطال لهذا الطريق، طريق العلم بما أخبر به الأنبياء والمرسلون -عليهم الصلاة والسلام-.

ويقول: وغاية ما يمكن أن يقوله إذا أحسن المقالَ -أي الواحد من هؤلاء-: لا، الرسول ما أخطأ، ولم يتعمد الكذب على الله ، ولكنه أخبر بأمور على خلاف حقائقها؛ لأجل نفع العامة كما يقوله القرامطة وبعض الفلاسفة، وكلام ابن سينا قريب من هذا، يقولون: إنهم قالوا على سبيل التقريب للعوام؛ لأن العوام لا ينضبطون إلا بأمور محسوسة، تقول لهم: هناك نار وهناك جنة وفيها أنهار من لبن وعسل وفيها حور عين، وليس هناك شيء من هذا -نسأل الله العافية،- يقولون هذا، يقولون: إن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- قالوا هذا للمصلحة.   

فالباطنية هؤلاء من القرامطة الذين يقال لهم: الباطنية يقولون: الدين له باطن وظاهر، فالظاهر هو الذي للعوام؛ لأنهم لا ينضبطون إلا مع شهواتهم والأمور المحسوسة، فلابد حتى ينضبط مع القانون أن يقال له: يوجد جنة، ويوجد نار إلى آخره، أما أهل الحقائق فإن هؤلاء يحصل منهم الانضباط والقبول بمعرفة الحقائق والمعاني الشريفة، والمُثل العليا من غير جزاء، هكذا زعموا -قبحهم الله- فجوزوا على الرسول ﷺ التلبيس والتدليس، وهذا مثل تجويز الكذب، بل هذا كذب على الله -تبارك وتعالى- ومن ثَمّ فإن خبر الرسول على هذا الاعتبار لا يكون موجباً للعلم، وهذه زندقة، وكفر كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهذا لا شك فيه؛ ولهذا مذهب الباطنية هو زندقة.

فهؤلاء الذين يقدمون العقول إذن ماذا عسى أن يقولوا؟ أخطأ الرسول، أو قال على الله غير الحق عمداً، أو أن الرسول لم يعرف هذه الحقائق، وهذه الأمور أصلاً، وإنما تكلم  بكلام مجمل محتمل، وجئنا نحن ونزّلنا الأشياء على حقائقها، ووضعنا النقاط على الحروف كما يزعم بعضهم، فمِن قائل: إن الرسول ما كان يعرفها، ومِن قائل: إنه كان يعرفها لكنّ المخاطبين ما كانوا مؤهلين لفهمه، فجئنا نحن ونزلناها على حقائقها، فيكون ظواهر نصوص الكتاب والسنة عندهم كما قال بعضهم -بعض رءوس المتكلمين-: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر -نسأل الله العافية- فهذه الحال التي يئول إليها حال هذا الذي يقدم العقل على النقل، نسأل الله العافية.

قال -رحمه الله-: ففي الجملة لا يكون الرجل مؤمناً حتى يؤمن بالرسول إيماناً جازماً ليس مشروطاً بعدم معارض، فمتى قال: أؤمن بخبره إلا أن يظهر له معارض يدفع خبره لم يكن مؤمناً به.

يعني: هذا الآن لمّا يحتج عليهم فيما سبق ويقول: العقل الآن أثبت أن الرسول صادق، وأن السمع يجب أن يقبل، فكيف تردون السمع بالعقل، فأنتم متناقضون؟فلو أن أحداً منهم استدرك، وقال: أنا أقبل السمع بشرط أن لا يعارض العقل، فإذا عارض العقل قدمت العقل، نقول: كأنك ما صنعت شيئاً، هم إنما كانوا يتكلمون في حال المعارضة، ثم يردّ عليهم في هذا الكلام، يقول: "لا يكون الرجل مؤمناً حتى يؤمن بالرسول إيماناً جازماً ليس مشروطاً بعدم معارض، فمتى قال: أؤمن بخبره إلا أن يظهر له معارض يدفع خبره لم يكن مؤمناً به".

 يقول: يا رسول الله، أنا أؤمن بك بشرط أن لا يعارض عقلي ما تقول، فإن عارضه لن أقبل، هل يكون هذا إيمانًا صحيحًا؟

أبداً، لا يكون مؤمناً، وإنما فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65]، فهذه ثلاثة أشياء لابد منها لتحقيق الإيمان، وإلا فقد نفاه الله عنهم.

قال -رحمه الله-: العلوم ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلا بالعقل، ومنها ما لا يعلم إلا بالسمع، ومنها ما يعلم بالسمع والعقل.

هذا الكلام وما بعده قضايا متتابعة يحتج بها على هؤلاء القائلين بأننا نقبل ذلك بشرط أن لا يعارض العقل، يعني نقبل ما جاء به الرسول، نقبل النقل ما لم يعارض العقل، فيقول لهم: العلوم ثلاثة أقسام، هذا في الواقع كلام المتكلمين، يقول: أنتم تقرون، وتجمعون، وتتفقون على أن العلوم ثلاثة أقسام، يقول: أنتم تقولون هذا، هذا كلامهم الآن ينقله لكن الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- جاء به بسياق كأنه كلام شيخ الإسلام، وشيخ الإسلام يقول: أنتم مجمعون على أن العلوم ثلاثة أقسام، لكنه في آخر الكلام أقر هذا التقسيم، وقال: هذا تقسيم صحيح لا ينازع فيه، فالشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- جعله كأنه من كلامه ابتداء.

هنا يقول: العلوم ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلا بالعقل، ومنها ما لا يعلم إلا بالسمع، ومنها ما يعلم بالسمع، والعقل.

إذن هناك أشياء لا تعلم إلا بالسمع، فالذي لا يعلم إلا بالعقل هذا لا يمكن أن يكون قد جاء به الرسول ﷺ إنما هي أمور عقلية محضة، مثل: مسائل الحساب ما فيها أدلة معيّنة عن النبي ﷺ بأن 10÷5=2، هل عندك دليل على هذا؟

هذا يُعلم بالعقل فقط أن الواحد نصف الاثنين، هذا مما يعلم بالعقل، فهذه أمور ما تطرق لها الرسول ﷺ ولا يتعلق بها الهدى والضلال أصلاً، هذه مثل علوم الرياضيات، وعلوم الهندسة وما إلى ذلك مما يرجع إلى العقل، ما يعرف بالعقل من أنواع العلوم، كالعلوم الإدارية، وإن كان بعضها ظنيًّا، وبعض جزئيات هذه العلوم يكون قطعيًّا، بصرف النظر عن كونه قطعيًّا أو ظنيًّا المقصود أنه ما عُرف إلا بالعقل، علوم الطبيعة، والعلوم الرياضية كالهندسة، علوم المنطق، الإدارة وما أشبه هذا، كثير من هذا إنما عرف بالعقل فقط، وبعض هذه الأشياء قد يوجد بعض المواضع في النقل قد يُستنبط منها بعض المعاني المتصلة به، لكن قد لا يكون ذلك على سبيل القصد الأول من سياق النص ووروده، لكن يستنبط هذا.

فهذا ما لا يعلم إلا بالعقل، هذه الأمور العادية، ولا أقصد بالعادية العادات، وإنما أقصد الأمور غير الشرعية، ومنها ما لا يعلم إلا بالسمع، هذه الأمور الغيبية المحضة، يعني التي لا مدخل للعقل فيها، يعني مثل: استواء الله على العرش هل يعلم بالعقل؟

العقل يدرك العلو، لكن هل يعلم بقضية الاستواء؟ هل يتوصل إليها العقل؟ لا، هل يمكن أن يتوصل بالعقل إلى أن هناك ملكًا اسمه جبريل وميكال وإسرافيل؟

لا يمكن، هل يمكن أن يعلم بالعقل أن الله أرسل نوحاً وإبراهيم وموسى إلى آخره؟

هذا كله متوقف على الخبر الصادق، الجنة، والحور العين، تفاصيل ما في الجنة هل تعلم بالعقل؟

لا، لكن يمكن أن يدرك العقل المعاد والجزاء والحساب في الجملة، لكن هل يدرك العقل الميزان والحوض والصراط، وتفاصيل ما في الجنة والنار؟

الجواب: لا، ما يحصل في عَرَصات القيامة من دنو الشمس، إلى آخره هذا كله موقوف على السمع فقط، هذا النوع الثاني، هم يقرون بهذا، أقصد أن هناك ما لا يعلم إلا بالسمع، وهناك ما يُعلم بالسمع والعقل، وهذا كثير كما سبق، فكون الله متصفًا بصفات الكمال هذا يعرف بالنقل والعقل، كون أن هناك جزاء وحسابًا ومعادًا ، هذا يمكن أن يعرف بالعقل والنقل، كون الله متصفًا بالعلو هذا ممكن أن يعرف بالعقل والنقل، ثم سيذكر أشياء أخرى كلها تابعة لهذا الأمر، هو يحتج عليهم الآن.

قال -رحمه الله-: وطرق العلم ثلاثة: الحس، والعقل، والمركب منهما كالخبر.

الطرق التي يتوصل بها إلى العلم ثلاثة ما هي؟

يقول: "الحس، والعقل، والمركب منهما كالخبر"، الحس: الأمور الحسية، فتعرف أنك الآن في ليل أو في نهار أو نحو ذلك عن طريق الحواس الخمس، وتُعرف أشياء مما يتصل بالصحة والمرض بالنسبة للإنسان في نفسه، أو في غيره عن طريق الحس، ينظر إلى وجه هذا فيرى فيه آثار المرض، والطبيب ينظر في أشياء من تحاليل مخبرية إلى غير ذلك فيعرف ذلك بالحس، ويضع يده عليه فإن وجده حارًّا عرف أنه مريض، فيه حمى مثلاً، فهذا يعرف عن طريق الحس، كما تعرف البرودة والحرارة واليبوسة واللين وما إلى ذلك، هذه كلها معلومات من حيث هي تعرف عن طريق الحواس الخمس، وهي معروفة، أو العقل: مثلما قلنا: إن الواحد نصف الاثنين إلى آخره، هذا لا يعرف بالحس.

"أو المركب منهما"، المركب من الحس والعقل، قال: "كالخبر"، الآن لو جئنا لمسألة الخبر أو التواتر مثلاً، فيقولون في التواتر: هو نقل جمع عن جمع، يستحيل تواطؤهم على الكذب في كل طبقة من طبقات الإسناد، ويكون مستندهم الحس، هذه الجملة أن يكون المستند هو الحس: بمعنى أنهم ينقلون يضيفون إلى شيء محسوس، يقول: سمعت، أو يقول: رأيت، أو يقول: شممت رائحة المسك من فلان عندما مات، أو قتل، مستندهم الحس، وهكذا الخبر في ما كان دون التواتر، فهذا المُخبِر حينما يخبر عن شيء، يقول: سمعت، أو رأيت، أو نحو ذلك، وحينما يأتي آخر ويقول: أنا رأيت، والثالث، والرابع، ولا يصل إلى التواتر، فهذا يحكم العقل بصدقه، وقبوله، أو رده بحسب حال الناقل، وما يحتفّ بذلك من القرائن، فالعقل له مدخل في هذه القضية، كما أن الحس له مدخل فيها، فهو إما أن ينقل عن غيره بشيء سمعه، أو شاهده، أو وجد مَجْسه أو نحو ذلك، هذه طرق المعرفة والعلم والتلقي.

قال -رحمه الله-: فمن الأمور ما لا يمكن علمه إلا بالخبر كما يعلمه كل شخص بإخبار الصادقين كالخبر المتواتر، وما يعلم بخبر الأنبياء -صلوات الله عليهم أجمعين- وهذا التقسيم يجب الإقرار به، وقد قامت الأدلة اليقينية على نبوات الأنبياء، وأنهم قد يُعْلِمون بالخبر ما لا يُعلَم إلا بالخبر.

ويمكن أن يكون: وأنهم قد يَعلمون بالخبر ما لا يُعلم إلا بالخبر، يَعلمون هم عن طريق الوحي، وكذلك المشاهدة، لما عُرج بالنبي ﷺ وأسري به أيضاً شاهد، "لقد رأى من آيات ربه الكبرى"، وكذلك يُعْلِمون غيرهم، هم يَعلمون بالخبر، وكذلك يُعْلمون غيرهم بخبرهم، يخبرون عن الله -تبارك وتعالى-.

قال -رحمه الله-: وكذلك يُعْلِمون غيرهم بخبرهم، ونفس النبوة تتضمن الخبر، فإن النبوة مشتقة من الإنباء.  

النبأ هو الخبر الذي له خطب وشأن، الخبر المهم، فهؤلاء يقولون عن الله ، فخبرهم في غاية الأهمية.

قال -رحمه الله-: فإن النبوة مشتقة من الإنباء وهو: الإخبار بالمُغيَّب، فالنبي يخبر بالغيب، ويمتنع أن يقوم دليل صحيح على أن كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون الخبر، فلا يمكن أن يُجزم بأن كل ما أخبرت به الأنبياء يمكن غيرهم أن يعرفه بدون خبرهم، ولهذا كان أكمل الأمم علماً المُقرُّون بالطرق الحسية والعقلية والخبرية، فمن كذب بطرق منها فاته من العلوم بحسب ما كذب به من تلك الطرق.

فكون الأنبياء يخبرون عن أشياء لا يتوصل إليها بالعقول، فأولئك الذين لا يؤمنون ولا يلتفتون إلى ما جاء في المنقول -ما جاء به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مثل حال الفلاسفة، فإن هؤلاء قد حرموا من العلم هذا القدر الذي لا يعرف إلا عن طريق الخبر، وهو الأمور الغيبية، وهكذا لو أن أحداً قال: أنا لا أقبل شيئاً مما لا يتصل بالعقل، أو يؤخذ عن طريق العقل مثلاً، وعطل عقله حتى في الأمور المعاشية فإن مثل هذا قد حرم من العلم بقدر ما عطل من هذا النوع من طرق المعرفة، ولكن لا يوجد أحد يقول: أنا لا أقبل عن طريق العقل؛ لأن هذه أمور تمس حياته بصورة يومية متكررة، يعني لابد من أشياء يعرفها عن طريق العقل، لا يستطيع إلا أن يكون مكابراً، أي في النفي.

وهكذا لو قال أحد: أنا لا أقبل ما كان عن طريق الحس مثلاً، فإن هذا لا يكون إلا على سبيل المكابرة، لكن لو قال فيما يتصل بالشرع: أنا لا أقبل إلا ما كان عن طريق السمع فقط، فيكون قد فاته من العلم أشياء، وهكذا لو قال: أنا لا أقبل ما كان عن طريق الحس، فهذه أمور مترابطة ومتلازمة، فإن الخبر يكون مستنده في الرواية إلى الحس، والله المستعان.

مواد ذات صلة