الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث «إن لله ما أخذ، ولله ما أعطى..» (1-2)
تاريخ النشر: ٠٩ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 3345
مرات الإستماع: 7440

إن لله ما أخذ، ولله ما أعطى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

­­فلا زلنا في حديث أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ، وحبه وابن حبه -رضي الله تعالى عنهما- وذكرنا طرفاً من ترجمة أسامة .

وقوله: مولى رسول الله ﷺ أي: أن النبي ﷺ قد أعتق أباه، وهو زيد بن حارثة ، فسرى العتق إلى الولد، فصار عتيقاً، والمولى يطلق على الأعلى، وعلى الأدنى، بمعنى أن المُعتِق -بكسر التاء- يقال له: مولى، ويقال للمعتَق العبد الذي صار حراً يقال له أيضاً: مولى، فهي من الأضداد.

يقول: وحبه وابن حبه، حِبه كما يقال: خِدنه مثلاً، والمقصود به أنه محبوبه، فالنبي ﷺ كان يحبه ويحب أباه.

قال: "أرسلت بنت النبي ﷺ إن ابني قد احتضر فاشهدنا".

بنت النبي ﷺ المشهور أنها زينب -رضي الله تعالى عنها، أرسلت إليه ﷺ تقول: إن ابني قد احتضر.

وبعضهم يقول: إن المقصود بذلك هي أمامة بنت بنت النبي ﷺ، وهو الظاهر من كلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى، ومع أن ذلك يُشكل عليه أن أمامة عاشت بعد النبي ﷺ كما هو معروف، وهي التي كان يحملها ويصلي وهي بنيّة قد ارتفعت قليلاً، وهنا ذكرت الاحتضار.

ويجيب الحافظ ابن حجر –رحمه الله- عن هذا بأنه قد اشتد بها المرض، فظنت أمها أنه قد نزل بها الموت، فدعت النبي ﷺ وهذا قد يحصل، أن الإنسان يشتد به المرض حتى يُظن أنه قد مات، ثم بعد ذلك عافاها الله ، فعاشت مدة بعد ذلك.

وبعضهم يقول: هذا ليس في أمامة، وإنما هو في علي، غلام لبنت النبي ﷺ.

وبعضهم يقول: هو في ولد لعثمان يقال له: عبد الله، وعثمان متزوج أيضاً ببنت النبي ﷺ.

وظاهر هذا الحديث أنه ذكر؛ لأنها قالت: إن ابني، ولم تقل: إن ابنتي، لكنه جاء في رواية أخرى ما ظاهره أنها بنت، بل فيه التصريح بأنها أمامة، أن أمامة بنت بنت النبي ﷺ قد احتضرت، فالمقصود أنها حادثة واحدة فيما يظهر، ولكن ذلك اختلف بسبب نقل الرواة، والله تعالى أعلم.

ومعنى الاحتضار: أن يكون الإنسان في حال النزع، وقد نزل به الموت، ويعاني من آلامه وسكراته، هذا هو الاحتضار.

أما مرض الموت فقد يطول، وقد يكون شهراً، وقد يكون سنة، وقد يكون أقل وأكثر، ولكن الاحتضار هو حالة خروج الروح، وحالة معاناة الموت وشدته وسكراته، وهذا لا يطول عادة.

فأرسل يقرئ السلام ﷺ عليها، يسلم عليها، بلغها تسليمه ﷺ ويقول: إن لله ما أخذ، ولله ما أعطى.

بمعنى: أن الملك ملكه، والخلق خلقه، فما أخذ فهو أمانة أخذها صاحبها، وما أعطى أي: ما أبقى على قيد الحياة، ينزع أرواح أقوام، ويمهل آخرين، فله ما أخذ، وله ما أبقى على قيد الحياة، وله ما أعطى من استبقاء آخرين، وولادة أناس أيضاً.

وهذا أصل كبير، إذا استيقنه العبد استراح، فلا يحزن حزناً يفضي به إلى الضجر والخروج عن القدر الواجب الذي ينبغي على العبد أن لا يتعداه من التسخط على ما ينزل به من الأمور المؤلمة.

وقال النبي ﷺ: الصبر عند الصدمة الأولى[1]، وكثير من الناس يحسن القول، وقد يظن في نفسه الكثير من الصبر، ولكنه إذا وقعت المصيبة خرج عن طوره.

ولا شك أن الإنسان قد لا يعرف مقدار صبره، ومعياره الحقيقي حتى تقع المصيبة، فإذا وقعت المصيبة عند ذلك يظهر حال الإنسان من الصبر وعدمه، فلربما يبكي، ويرفع صوته بالبكاء، ويلطم وجهه، وينتف شعره، ويقول ما يسخط الرب -تبارك وتعالى.

وتعرفون خبر تلك المرأة التي مر بها النبي ﷺ وهي تبكي على قبر، فأمرها النبي  ﷺ بالصبر والاحتساب، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرف أنه النبي ﷺ، ثم قيل لها: إنه رسول الله ﷺ، فأتت إليه فلم تجد عند بيته أو عند بابه بواباً، فقالت: إني لم أعرفك، فقال لها: إنما الصبر عند الصدمة الأولى[2].

فأقول: الجزع أمر ينبغي أن يعالج في النفوس، كثير من الرجال -دعك من النساء- لا تستطيع أن تستقبله بخبرٍ دون الموت، لو قلت له: ابنك وقع له مكروه دون الموت لربما أغمي عليه، ولربما صدر منه ما لا يليق إطلاقاً، فمثل ذلك لا شك أنه بسبب ضعف في قلب الإنسان، ضعف في القلب، فالقلب إذا ضعف خارت قوى الإنسان، فلا يسيطر على اللسان، ولا على النظر، فيشخص البصر، ولا يسيطر على الجوارح، فتبدأ تشطح وتضرب، يضرب نفسه، وهذا شيء مشاهد، فالإنسان ينبغي أن يصبّر نفسه، وأن يعود نفسه على الصبر ويتذكر هذا المعنى.

وتعرفون قصة أبي طلحة، لما مات ابنه، فلما جاء لامرأته وسألها عن هذا الابن المريض، قالت: هو أسكن ما يكون، يعني مات، لكن هو فهم أن الولد في حالة لا بأس بها وقد هدأ عنه المرض والاعتلال، وكانت قد تزينت له، وتطيبت ثم وقع عليها، ثم بعد ذلك سألته عن رجل أو عن أحد أعطاه أمانة، ثم جاء وأخذها، فما موقفه؟ ثم أخبرته بأن يحتسب هذا الابن، فأتى إلى النبي ﷺ ثم أخبره بما وقع، فدعا لهما النبي ﷺ[3].

وهذه الأمور التي وقعت في ذلك الجيل يمكن أن تقع، وقد سمعت مرة بنفسي من أحد هؤلاء الناس يذكر صاحباً له من المعاصرين، فيقول: فلاح وقع له كما وقع لهذا الصحابي ، عنده مزرعة في ناحية البلد، وهو رجل من العامة، ليس بطالب علم ولا عالم.

ورزقه الله بالبنات إلا ابناً صغيراً، فمرض هذا الولد الصغير مرضاً شديداً، وأنتم تعرفون الحال التي كان عليها الآباء الأولون، لا توجد مستشفيات، ولا توجد عناية، وإذا ذهب الإنسان إلى محل قريب لربما يخرج في الصباح ولا يأتي إلا في الليل، لضعف المواصلات، وضعف الأحوال، فالولد هذا كان في شدة المرض، فلما جاء هذا الأب في المساء -في الليل- كانت هذه الأم قد أخرجت البنيات إلى المزرعة، وأمرتهن بالحصاد، هي لا تريد الحصاد، ولكنها تتهيأ لاستقبال زوجها وتتلطف به، فلما جاء سألها عن الولد، فقالت: بخير، ثم تعشى، ثم ضاجعها، ثم أخبرته، قالت له: إن أعطاك أحد أمانة، ثم طلبها هل تمتنع؟ قال: لا، قالت فإن صاحب الأمانة جاء ليستردها فأعطيناه.

وهذه قضية واقعة، نعرف من وقعت له بعينه، وسألت صاحبه هل كان يعرف خبر الصحابي؟ قال: لا، ثم قال الأب قصيدة طويلة -سمعتها ولم أحفظها- يذكر فيها أموراً مهمة جداً في الاعتقاد، والصبر، والتوكل، والاستواء على العرش، وعلو الله على خلقه، وكثيراً من أوصاف الكمال لله في هذه القصيدة.

قوله: لله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمى، وقد تستغربون أن النبي ﷺ يرد بمثل هذا الرد، ففي واقعنا المعاصر إذا أردنا أن نقيس لربما إذا قيل فلان فيه جرح، أو سقط من دراجته، اجتمعت الأسرة بقضها وقضيضها، واستدعوا القريب والبعيد، ولا يسعه أصلاً أن يتردد عن الحضور.

ولو دُعي الأب أو الجد وقيل له: فلان ينزف، أو فلان مريض، أو فلان في وضع صعب وحرج، مباشرة يترك ما بيده ويحضر الجميع، ويجتمع الناس من قرابته ونحو ذلك.

والنبي ﷺ أمر ابنته أن تصبر وتحتسب، وهو أرأف الناس.

نقول: لا ينبغي أن نقيس الحياة التي كانت في ذلك الوقت على حياتنا اليوم، لكن هذا المعنى يدركه آباؤنا الذين عاشوا حياة تشبه حياة الجيل الأول، فقد كان الميت يموت ويدفن في النهار، وتموت المرأة وتدفن وزوجها في السوق، بل لربما كان عند بعض أصحابه، فكانت الحياة بسيطة جداً، ولا تحتمل التأخير، ويغتنمون إذا كان ثمّة جماعة قد اجتمعت للصلاة عليه، وليست هذه بالنسبة لهم قضية يتوقف عليها الدفن، فكانت حياتهم ببساطة، والموت عندهم كثير، الجدري يحصدهم، بل كانوا يموتون من الحصبة وأمراض يسيرة، وكان يموت فيها أعداد كثيرة جداً من الناس، فلا يقاس ذلك الوقت على وقتنا هذا، ففي وقتنا هذا قد يستغرب هذا الكلام، لكنه في وقتهم أمر معتاد، ألفه الناس، ولا إشكال فيه، والموت عندهم لا يستغرب إطلاقاً، وهذا شيء معروف.

قال: فلتصبر ولتحتسب وهذا هو الشاهد من إيراد هذا الحديث في باب الصبر، تصبر، تحبس نفسها عن الجزع، وتحتسب الأجر عند الله -تبارك وتعالى.

هذا، وللحديث بقية، أسأل الله أن يلهمنا وإياكم الصبر والثبات، وأن يشرح صدورنا، وأن يعيننا وإياكم على طاعته وشكره وحسن عبادته وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى (1/ 438)، رقم: (1240)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى (2/ 637)، رقم: (926).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور (1/ 430)، رقم: (1223)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى (2/ 637)، رقم: (926).
  3. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي طلحة الأنصاري  (4/ 1908)، رقم: (2144).

مواد ذات صلة