الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث «من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه..»
تاريخ النشر: ١٠ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 2835
مرات الإستماع: 32523

من كظم غيظاً وهو قادر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما أورده الإمام النووي -رحمه الله- في باب الصبر من كتاب رياض الصالحين حديث معاذ بن أنس أن النبي ﷺ قال: من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنفذه...[1] الحديث.

معاذ بن أنس من أصحاب النبي ﷺ وهو منسوب إلى جهينة، وليس معاذ بن جبل الصحابي المشهور .

هذا معاذ بن أنس الجهني، سكن مصر بعد النبي ﷺ وروى عن النبي ﷺ أحاديث ليست كثيرة، جملة ما رواه عن النبي ﷺ يبلغ ثلاثين حديثاً، بخلاف   معاذ بن جبل .

يقول معاذ بن أنس: قال النبي ﷺ: من كظم غيظاً، ومعنى ذلك أنه احتمله وتجرعه وصبر على مرارته دون أن ينفّس عن نفسه بتفريغ هذا الغضب بالتشفي بالقول أو بالفعل، كأن يشتم من أغضبه، أو أن يتعدى عليه بالضرب أو القتل أو نحو ذلك، وإنما أبقى ذلك في داخل نفسه.

كأن يرى أمراً يهيجه، أو اعتدى عليه أحد بالسب أو الضرب أو نحو ذلك، فاحتدمت نفسه، وتحركت نوازع الغضب في داخلها فكبت ذلك، وصبر عليه مع شدة الدافع الذي يدفعه من أعماق نفسه للتشفي، فلم يصدر منه قول ولا فعل يخرجه عن كظم الغيظ.

والغيظ المقصود به الحنق والغضب، إذا تحركت النفس واحتدمت بوجود ما يهيجها ويحرك دواعي الغضب فإن الإنسان يكون بهذا الاعتبار مغتاظا.

والغيظ هنا نكرة يدخل فيه كل غيظ، فلم يذكر النبي ﷺ درجة من درجاته، كأن يقول: من كظم غيظاً شديداً، فهذا يدل على أن الإنسان إذا كظم الغيظ ولو كان ذلك غيظاً دون غيظ فإنه موعود بهذا الأجر الذي سنذكره بعد قليل من حديث رسول الله ﷺ، لكن ذلك بشرط: وهو قادر على أن ينفذه معناه: ليس أنه سكت مع شدة ما في نفسه لعجزه، أو لخوفه من الناس، فلا يستطيع أن يتكلم، ولا يستطيع أن يتشفى، ولا يستطيع أن يقتص ممن أغاظه، فمثل هذا ليس بموعود بهذا الجزاء المذكور في الحديث؛ لأن الصبر إنما يحمد مع وجود الإمكان والقدرة على تحصيل مطلوبات النفس من التشفي وغيره، هذا هو الذي يحمد عليه الإنسان، أما أن يصبر على أمر لا يستطيع أن يتشفى فيه فيصبر على الغضب وهو لا يستطيع أن ينفذه فإن ذلك لا يحمد من الإنسان، بل إنما أقعده عجزه، ولو كان قادراً لفعل غير ذلك، وتصرف إزاء هذا الإنسان الذي أغضبه.

فالعفو إنما يحمد مع المقدرة، وكظم الغيظ إنما يحمد مع القدرة على إنفاذه، لكن كظَمَ وسكت لخوفه فهذا لا يحمد.

ويقول: وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة، هذا فيه تشريف وتكريم وبيان لمرتبته ومنزلته.

فلو أراد الناس أن يكرموا شخصاً، هل يأتوه بالبيت سراً ويقولون له: تفضل هذه شهادة، وهذه هدية، ولا يدري أحد، أم أنه يدعى في الملأ، ويعطى هذا الشيء، ويشار إليه، ويقال: هذا في مقابل كذا؟.

فتصور إذا كان هذا في مدرسة، أو نحو ذلك من أمور الدنيا، فكيف أمام الخلائق، والذي يكرمه ويدعوه هو الله ؟، فهذا يدل على فضل كظم الغيظ.

قوله: حتى يخيره من الحور العين ما شاء الحور جمع حوراء، وهي المرأة التي في عينها حَوَر، والحَوَر فسر بتفسيرات من أشهرها: شدة سواد العين في شدة بياض، يعني: هذا السواد يكون شديداً، ليس بلون العسل، ولا أخضر، ولا أزرق، وإنما هو شديد السواد، هذا هو الحَوَر وهو أجمل ما يكون في أوصاف العين، ولذلك الله  وصف أولائك النسوة في الجنة وهو من أعظم نعيمها، قال تعالى: وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة:22].

ولكن الفطر إذا مسخت، وألغى الناس عقولهم صارت أذواقهم مقلوبة، فصاروا يستحسنون الزرقة مثلاً، فلا تسأل عن كثرة السائلين عن حكم لبس العدسات الزرقاء، أو الخضراء أو نحو ذلك، مع أن هذه الأوصاف أصلاً قبيحة، وتبدو المرأة في صورة كأنها لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، خاصة إذا شقرت شعرها، كأنها امرأة لا تعرف هذا الدين ولا سمعت به، نسأل الله العفو والعافية، تتشبه بشُذّاذ الأمم من أهل الضلال والمغضوب عليهم والضالين.

فأقول: هذا خيره الله من الحور، والعين جمع عيناء، والعيناء هي واسعة العين، وذلك أن من أوصاف العين المحمودة السعة، ولذلك يذكرون في أوصاف النساء في الجمال يذكرون أن السعة تُطلب في أربعة أشياء، والصغر في أربعة أشياء، والكبر في أربعة أشياء، والضيق في أربعة أشياء، إلى غير ذلك مما يذكرونه في أوصاف النساء، فمن ذلك سعة العين، أن تكون العين واسعة، بياضها في صفاء، ليس يضرب إلى الصفرة.

ويقول الأطباء: إن الصفرة إنما تكون بسبب تتابع الأحزان والهموم والأكدار التي تمر على الإنسان، فلذلك تجد بياض عين الطفل شديد الصفاء والنقاء.

تصور لو قيل للناس اليوم: مَن فعلَ الفعل الفلاني -مع أنه شيء لا يكلفه مالاً، كظْمُ غيظ فقط- خُير من نساء الدنيا ما شاء، يتزوجها ويُدفع عنه المهر، ماذا يفعل الناس؟ يقولون: نكظم الغيظ إلى يوم القيامة.

أليس الناس يتهالكون على نساء الدنيا؟ والرجل يدرس سبع عشرة سنة في أقل الأحوال، ثم بعد ذلك يعمل من أجل أن يجمع مهراً وقوتاً، ولربما اقترض القروض، ولربما أخذ الزكوات، من أجل أن يحصّل شيئاً من المال من أجل أن يتزوج، وهذا الزواج قد يفشل، والمرأة فيها من العيوب ما فيها مما يعرف في بني آدم، ومع ذلك فأين هذا من ذاك؟، يخيره الله من الحور العين على عمل يسير، فهذا يدل دلالة واضحة صريحة على أن كظم الغيظ من أفضل الأعمال، وأبرها عند الله -عز وجل، فهو ثقيل في الميزان، مع أننا قد نتساهل في مثل هذه الأمور.

الحسين بن علي جاءه غلامه بكوز يصب عليه الوضوء، فصب فلما رفعه استعجل فأصاب رَباعيته وكسرها، فنظر إليه، فقال الغلام: والكاظمين الغيظ، قال: كظمت غيظي، قال: والعافين عن الناس، قال: عفوت عنك، قال: والله يحب المحسنين، قال: اذهب أنت حر، قال: فما جائزة العتق؟ قال: ليس في البيت إلا السيف والدَّرَقة، خذها، أي: ترس وسيف، فهذا الذي يملكه، خذها واذهب بها، على كسرة الرباعية.

لو واحد منا حصل له مثل هذا، ماذا يقول له؟ وماذا يفعل بهذا الخادم المسكين؟ لربما يدعو عليه بأن الله يكسر رقبته، ويكسر ظهره، ويسفّره بيومه، ما تغيب الشمس وهو في البلد، وهذا أعتقه وعفا عنه، وأعطاه ما يملكه في بيته، والأمثلة على هذا كثيرة جداً، تعرفون خبر الخليفة الذي وقع له مثل هذا من الجارية حينما وقع عليه الماء الحار، فقالت: والكاظمين الغيظ، قال: كظمت، قالت: والعافين، قال: عفوت، قالت: والله يحب المحسنين، قال: اذهبي فأنت حرة.

وكذلك خبر بعض السلف الأكابر الذي كان معروفاً بكثرة الحلم، لما كان عنده غلام صَلْف، فكانت له ناقة يحج عليها، ويجاهد عليها، لا يعدلها بشيء من شدة محبته لها، فأعطاها الغلام يستقي عليها الماء، فضربها ضربة على عينها حتى سالت على خدها، فقالوا: الآن نعرف حلم فلان، فلما جاء ونظر إلى عينها تسيل على خدها، قال: فهلا كان الضرب في غير الوجه، ثم قال: اذهب لا أراك أنت حر.

فنحن لما نعرض أنفسنا في حالات الغيظ والغضب على مثل هذه النماذج والأمثلة، أو على هذا الجزاء الكبير نجد أننا نفرط كثيراً، فالنفس تحتاج إلى ملاحظة، وأن يستشعر الإنسان أن الكلام الذي يسمعه أنه هو المخاطب به، وما يضيعنا في كثير من الحالات إلا أن الواحد منا دائماً يشعر أن المخاطب غيره، أو أنه يسمع لمزيد من الثقافة، ولكن لو أنه سمع سماع المنتفع المستفيد لتغيرت الحال.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب من كظم غيظا (4/ 394)، رقم: (4779)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحلم (2/ 1400)، رقم: (4186).

مواد ذات صلة