الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
الحديث على آيات الباب (2-3)
تاريخ النشر: ٢١ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 1828
مرات الإستماع: 2101

قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء...}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الآيات التي ذكرها الإمام النووي -رحمه الله- في صدر هذا الباب -باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قوله -تبارك وتعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71]، وهذه الآية فسر الله بها هذه الولاية، ولاية أهل الإيمان لبعضهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهو أمر ظاهر، وذلك أن الإنسان إذا كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإنه يكون ناصحاً لإخوانه، ومسدداً لهم، ومكملاً لنقصهم، أضف إلى ذلك ما جاء في بعض الآثار "إذا أمرتَ بالمعروف ونهيتَ عن المنكر شددتَ ظهر المؤمن"، فيحصل بذلك لأهل الإيمان من الرفعة ويحصل لهم بذلك من التكامل، وتلافي النقص والعيوب التي لا يخلو منها بشر، والإنسان قد يغفل فإن لم يجد من ينبهه لربما يستمر على هذه الغفلة وتدعو كل خطيئة أخواتها، وهكذا يستمر الهبوط والتلاشي والضعف حتى يضمحل الإنسان، ويضمحل كثير من أعماله، بل ومن مفاهيمه التي كان يدعو إليها؛ لأن الهبوط في كثير من الأحيان لا يشعر به الإنسان، وكثير من أولائك الذين انحرفوا وتراجعوا حينما يُسألون يقولون: لم نتحول لهذا تحولاً مفاجئاً، وإنما كان ذلك مع الأيام والليالي، يحصل الفتور عن بعض المستحبات التي كان يعملها الإنسان، ثم ما يلبث أن يتوسع شيئاً فشيئاً في الأمور المشتبهة، ولربما يترخص في بعض الأمور التي كان يعتقد حرمتها، فيتأول في أول الأمر، ثم بعد ذلك يأتي للحرام مُكَاشَرة، لا يبالي، حتى يصل إلى حد لربما ترك معه الصلاة، فهذه الأمور كيف تُسدَّد وكيف يكمل النقص وكيف يستدرك الإنسان العجز والضعف؟ يكون بتسديد إخوانه، كلما رأوا نقصاً ذكَّروه ونبهوه ونصحوه فالمؤمن مرآة لأخيه[1]، فيحصل عنده من التذكر ما يعقبه الإبصار بإذن الله ، ولا يستهويه الشيطان، ولا يستطيع أهل الغفلة أن يستجرُّوه وأن يستزلوا قدمه ليكون مشاركاً لهم في الآثام؛ لأن له إخواناً يذكرونه بالله إذا نسي، ويعظونه إذا غفل.

قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ...}

وقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۝ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79] وإسرائيل هو يعقوب، وبنو إسرائيل هم ولد يعقوب ، وهم أسباط كما هو معلوم، فجعلهم الله على اثني عشر سبطاً، كل سبط يمثل قبيلة، فهؤلاء من الإسرائيليين الذين وصفهم الله -تبارك وتعالى- بأنهم لُعنوا على لسان داود، قال بعضهم: لعنوا على لسان داود يعنى به أولائك الذين اعتدوا في السبت، فكان لعنهم بأن صيرهم الله قردة خاسئين، وأما الذين لعنوا على لسان عيسى ابن مريم ﷺ فهم أولائك الذين كفروا من أصحاب المائدة، فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115]، قالوا: إنهم تحولوا إلى خنازير، وبهذا المعنى فسر بعض السلف قوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60]، فقالوا: القردة هم الذين اعتدوا في السبت، والخنازير هم الذين كفروا من أصحاب المائدة، وهذا لا يوجد -فيما أعلم- ما يدل عليه بخصوصه، ولكن يذكره بعض المفسرين أخذاً من أخبار بني إسرائيل، ولا يُبنى ذلك على شيء يوثق به -والله تعالى أعلم، لكن يقال: إنهم لعنوا على لسان هؤلاء الأنبياء وهم من أفضل أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام، واللعن هو: الطرد والإبعاد من رحمة الله ، وحينما تلحق الإنسانَ لعنةُ الله فإن ذلك يعني أنه قد فعل كبيرة من كبائر الذنوب، ما الذي فعله هؤلاء؟ قال: بِمَا عَصَوا الباء للسببية أي: بسبب عصيانهم وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ أي: بسبب تجاوزهم للحد الذي حده الله لهم، ومن ذلك اعتداؤهم في السبت، ومن ذلك أيضًا أنهم بعد موسى عندما دخلوا الأرض المقدسة أمروا بفعل وقول، أمروا أن يدخلوا سجدًا أي: ركعًا، حمداً على نعمة الفتح، وأن يقولوا قولاً يشكرون الله فيه، أي: يقولوا حِطة، أي: حُط عنا خطايانا، فدخلوا يزحفون على أستاههم استهزاء ويقولون: حبة في شعرة، بدلاً من حطة، وفي بعض الروايات حنطة في شعرة -قبحهم  الله، فهذا من اعتدائهم، واعتداؤهم كثير جداً، ثم قال الله مبيناً ما أوجب لهم اللعن أيضاً: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ، يحتمل أن يكون المعنى "لا يتناهون" أي: لا يقصرون، أي: أن الواحد منهم يستمر في معصية الله لا يرعوي، ولا يكف، ولا يتناهى يعني لا ينقطع، لا يمتنع، تقول: هذا عمل غير متناهٍ، وهذا لا يتناهى أي: لا يكف عن عمله بل هو مستمر، يحتمل هذا وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله، والمعنى المشهور الذي عليه الجمهور هو أن قوله: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ أي: لا ينهى بعضهم بعضًا، وهو المتبادر من ظاهر الآية، "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه"، لا ينهى بعضهم بعضاً إذا رأوا المنكر فاستحقوا اللعن والذم، ولهذا جاء بـ "بئس" الدالة على الذم، "لبئس ما كانوا يفعلون"، وسمى تركهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فعلاً، فدل على أن التروك داخلة في جملة الأفعال.

أسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود، أول كتاب الأدب، باب في النصيحة (7/ 279)، رقم (4918)، وقال الألباني في صحيح الجامع: صحيح، بلفظ: المؤمن مرآة المؤمن، رقم (6655).

مواد ذات صلة