الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
صور من تعظيم السلف لحرمات المسلمين (2-2)
تاريخ النشر: ٠٥ / رجب / ١٤٢٧
التحميل: 1855
مرات الإستماع: 2580

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الحديث عن تعظيم حرمات المسلمين، وأخبار السلف والعلماء والخلفاء في ذلك.

ومنها: ما جاء في خبر هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي أنه كان لا يُدخل في بيت المال شيئاً حتى يشهد أربعون قسّاماً لقد أُخذ من حقه، ولقد أُعطي الناس حقوقهم، ما يُدخل شيئًا في بيت المال حتى يقسم أربعون أنه أُخذ من حقه، وأن الناس أعطوه[1]، يعني ليس من المظالم، ما أُخذ من أحد بطريق فيه ظلم.

وهذا عطاء السُّليْمي قيل له: إن فلان بن علي قتل أربعمائة من أهل دمشق على دم واحد فقال متنفسًا: هاه، ثم خر ميتا[2].

كما نشاهد ذلك ونطالعه ويسمعه العالم من محاصرة أمة في فلسطين من أجل جندي واحد، كم قُتل وشرد، وكم انتهكت من حرم.

وقل مثل ذلك في لبنان، وإن كنا نعلم أن مثل هذه الأمور مبيتة ومدبرة قبل أن تحصل، وهم يعترفون بذلك، ولا ينكرونه، ولكنهم وجدوا الذريعة التي دخلوا من جهتها.

قال الإمام الذهبي: حكى الثقات أن أبا عثمان الصابوني كان يعظ، فدفع إليه رجل كتابًا ورد من بخارى يشتمل على ذكر وباء عظيم بها ليدعو لهم، ووصف في الكتاب أن رجلا أعطى خبازًا درهمًا فكان يزن، والصانع يخبز، والمشتري واقف، فمات ثلاثتهم في ساعة.

فلما قرأ الكتاب هاله ذلك واستقرأ من القارئ أفأمن الذين مكروا السيآت [النحل:45] الآيات ونظائرها، وبالغ في التخويف والتحذير، وأثر ذلك فيه وتغير، وغلبه وجع البطن، وأُنزل من المنبر يصيح من الوجع فحمل إلى حمام فبقي إلى قريب المغرب يتقلب ظهرًا لبطن وبقي أسبوعًا لا ينفعه علاج، فأوصى وودع أولاده ومات وصلي عليه عقيب عصر الجمعة رابع المحرم.

 فهذا رجل لما سمع بهذه البلية والمصيبة والمحنة التي وقعت للمسلمين لم يحتمل، فأصابه ما أصابه من الألم، وبقي يكابده حتى مات، فالمسلم لا يعيش لنفسه وشهواته فقط، بل يهتم بأمور المسلمين.

 وقد سمعت من بعضهم يقول حينما أخبر بمآسي المسلمين وما يحصل لهم من القتل الذريع يقول: أين حصل هذا، فقيل له: في المكان الفلاني، فقال: أهم شيء نحن نسلم.

والنبي ﷺ يقول: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا[3].

ويقول أيضاً: مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم...[4]، والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة، فينبغي للمؤمن أن يشعر بآلام إخوانه ومصائبهم، وأن يهتم لهمهم، وأن يغتم لغمهم، أمّا أنّ ذلك لا يحرك فيه ساكناً فإن هذا يدل على ضعف في الإيمان.

 ثم ذكر الإمام النووي -رحمه الله- باباً بعده له نوع اتصال بهذا الباب، وهو باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة.

 العورات جمع عورة: وهي كل شيء يحتاط له، فلذلك يقال للثغور وهي بلاد المسلمين المتاخمة للعدو:  عورات، ويقال لها أيضاً: عورات الثغور، ولذلك قال المنافقون: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13] أي: أنها مكشوفة للعدو، لمّا جاء الأحزاب وطوقوا المدينة، ولذلك قيل للمرأة: عورة؛ لأنه يحترز لها ويتحفظ عليها، وتحفظ من أن يصل إليها أحد، فيجب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة، فإذا وقفتَ على شيء مما يشين أخاك المسلم، أو يدنس عرضه أو يتأذى بظهوره وانكشافه للناس فيجب عليك ستره.

نقل عن المسيح إن صح عنه ذلك-: أنك إذا رأيت عورة أخيك منكشفة أن لا تزيد في كشفها وأن تُزيح عنه باقي الثوب، وإنما الواجب أن تستر ذلك.

وهكذا ما يتعلق بأعراض الناس، إذا رأى الإنسان عيباً في أخيه فإنه يستره، ويسدد بالنصيحة والتقويم بالتي هي أحسن، بكلام ناصح مشفق محب، فلا يفرح بزلته ويفشيها باسمه فيقول: فلان ما تعرفونه، أنا رأيته يفعل كذا وكذا في اليوم الفلاني في المكان الفلاني، أو بصفته التي يُعرف بها، إذا ذكر صفته عرف الناس أن المقصود هو فلان، ثم إذا أفشى الإنسان مثل هذه القضية وهذا الزلل والخطأ وأذاعه ونشره في الناس هل يحصل تقويم لهذا الإنسان الذي اعوج؟ الجواب: لا.

يقول: النهي عن إشاعتها لغير ضرورة، إما لمصلحة تتعلق بهذا الشخص، أو لدفع ضرره وشره، ويراعى في ذلك مصلحة الغير، كالمجتمع مثلاً، لمصلحته هو، وهذه قضايا تقع وتتكرر كثيراً، ويَسأل عنه من يعانون الحسبة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقولون: هذه بنت فلان، أو زوجة فلان، وجدت في خلوة مع رجل، ماذا نصنع بها نستر عليها أو لا نستر عليها؟.

فنحن نقول لهم:  ينظر في مثل هذه القضايا، هل هذه المرأة في ما يبدو من خلال الكلام معها أنها مستهترة وأنها متمرسة في هذا الفساد والشر، أو أنها كما يفعل بعض النساء تتحدى وتهدد وتتوعد، فهذه لا مجال للستر، هذه لابد أن يستدعى ولي أمرها لأن هذا عرضه معرض للضياع، فيقال له: هذه ابنتك، أدبها، أوقفها عند حدها.

وأحياناً يبدو من الحالة أنه لم تقع فاحشة، أن هذه أول مرة تحصل، واضح من الخوف والهلع والانهيار والبكاء والارتباك، كل القرائن تدل على ذلك، بل يظهر منه أنه تاب وأفاق من غفلته، فمثل هذا يُستر عليه، ويُنصح هذا الانسان رجلاً كان أو امرأة، ويقال له: لا تعدْ إلى مثل هذا، فالله يفضحك في الدنيا والآخرة، فهذا الطريق سلكه سالكون قبلك فما أفلحوا ولا نجحوا، وهو طريق الشيطان يوردك المهالك.

وهناك قضايا أخرى تراعى، أحياناً قد يكون هذا الإنسان لا تظهر منه تلك التوبة، وإذا تُرك فمعنى ذلك ضياع العرض، لكن إذا أعلم وليه يقتل هذا الانسان، وبأبشع قتلة، فنكون بهذا سبباً في قتله، وغيّرنا المنكر بمنكر أشد منه، فمثل هذه الحال إذا علم أنه سيترتب مفسدة أعظم فعندئذ يكون الستر أولى، والخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، فنراعي في هذا الباب هذه القاعدة.

وهذه الأمور تحتاج إلى علم وفقه في الدين، وتحتاج إلى عقل راجح يستطيع أن يوازن بين الأمور، وكذلك إلى بصر في الواقع، لأن كل قضية لها حكم، لاسيما مثل هذه القضايا التي تتعلق بأعراض الناس، هذه قد تكون امرأة جار لك، ربما يكون زوجها من النوع الذي لو أخبر أو كلم لاتهم من تكلم معه؛ لأنه لا يعقل ولا يتفاهم ولا يحسن التصرف ولا يستشير ولا يتروى في الأمور، وإنما يقدم إقدام الأهوج.

 وهذا قد يقتل زوجته ويقضي عليها.

والناس يتفاوتون، فمن الرجال من لو قيل له: إن امرأته تفعل ما لا يليق، لقال: ما شأنكم بها أصلاً؟، أنا راضٍ عن فعلها، ومنهم من يقول: والله أنا أحبها ولا أستطيع فراقها، ماذا أصنع؟.

 وهذا رجل قال للنبي ﷺ: إن تحتي امرأة لا ترد يد لامس، قال: طلقها، قال: إني لا أصبر عنها، قال: فأمسكها[5]، والعلماء اختلفوا في توجيه هذه الجملة هل أنها تمكِّن من نفسها، أم ماذا؟، فأمره النبي ﷺ أن يفارقها، فقال: إني لا أصبر عنها، قال: فأمسكها، فهذا يختلف باختلاف الناس، فمن الناس من تصلح له مثل هذه، ومن الناس من لا تصلح له.

 المقصود هنا أنه قال: لغير ضرورة، أي لا تُشاع، أحياناً لمصلحة الآخرين فمثلاً هذا إنسان تقدم لخطبة بنت فقال أحدهم لأهلها: هذا الرجل نحن نراه يسكر، ونعرفه، فيتكلم بقدر الحاجة، لأن الله يقول: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النــور:3].

وهذا إنسان قد يصاحب ولده أحداً من الناس، وذلك الإنسان معروف بالفحش والفجور، فيقال: هذا إنسان يقارف معصية كذا وكذا، بشرط أن لا يتكلم بكلام فيه قذف وهو لا يستطيع إثباته، وإنما يقول: هذا الإنسان له تصرفات مريبة، أو لا يؤتمن.

أحيانًا هذا الإنسان يكون قد عم شره وطم ضرره وأثره الفاسد، فيحتاج الناس أنهم ينبهون ويحذرون من مثل هذا.

  1. انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 352)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (74/24)، وتاريخ الإسلام (3/ 545).
  2. تاريخ الإسلام (8/332).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب نصر المظلوم، (3/ 129)، برقم: (2446)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، (4/ 1999)، برقم: (2585).
  4. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، (4/ 1999)، والبخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، (8/ 10)، بلفظ: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم...
  5. أخرجه النسائي في سننه، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخلع، (6/ 170)، برقم: (3565).

مواد ذات صلة