الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «كيف أنعم! وصاحب القرن قد التقم القرن..»
تاريخ النشر: ١٤ / شوّال / ١٤٢٨
التحميل: 1843
مرات الإستماع: 16233

كيف أنعم وصاحب القَرْن قد التقم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب الخوف أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: كيف أنعم وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن، واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ، فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله ﷺ، فقال لهم: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل[1]، رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

قوله ﷺ: كيف أنعم أي: كيف أسرّ وأتسع في العيش وألتذ والحال ما ذُكر؟، وهو أن صاحب القرن وهو إسرافيل ، قد التقم القرن، والمقصود بالقرن: هو الصور الذي ينفخ فيه.

يقول: واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ: أي أنه في غاية التهيؤ والانتظار والاستعداد، متى يؤمر بالنفخ فينفخ، فالنبي ﷺ يذكر ذلك على سبيل التخويف لأمته، كيف أتسع بالعيش؟ وكيف أركن إلى الدنيا وأسر بها وألتذ وأتنعم وأتوسع في المعاش والحال أن صاحب القرن قد وضعه والتقمه ينتظر متى يؤمر فينفخ؟، فأمر الساعة قريب، والنبي ﷺ يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين[2]، وأشار بالسبابة والوسطى، قال بعض أهل العلم: أي: في القرب بينهما، ما بين الأصبعين، وبعضهم قال: في الفرق بينهما، المسافة التي تكون الوسطى أطول من السبابة فيها شيء يسير، بعثت أنا والساعة كهاتين، بل إن بعثته ﷺ من أمارات الساعة، والنبي ﷺ أخبر أنه لم يبقَ من الدنيا إلا صبابة أو مثل الصبابة التي يتصابّها صاحبها، وهي ما يبقى في القربة أو الإناء في آخره، بحيث إنه إذا احتيج إلى إخراجه يحتاج إلى شيء من الجهد والتكلف لقلته، فالدنيا لم يبق منها إلا شيء يسير، ولذلك كان النبي ﷺ يمثل حاله فيها كراكب استظل تحت ظل شجرة، ثم ذهب وتركها، ولما رأى بعض أصحابه يبني حائطاً أخبره أن الأمر أقصر من ذلك، فالحاصل أن المقصود أن يستعد الإنسان لآخرته، وإذا مات ابن آدم قامت قيامته.

ولهذا النبي ﷺ لمّا جاءه أناس يسألونه عن الساعة نظر إلى أصغرهم فقال: إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهَرَم حتى تقوم الساعة[3]، يقصد: أن هذا الصغير إذا وصل إلى سن الهرم يكون هؤلاء الذين كانوا قد بلغوا مبالغ الرجال قد ماتوا فقامت قيامتهم، فكل من مات قامت قيامته، والإنسان لا يدري متى يموت، ينتظر الموت في أي لحظة، وهو جالس في مكانه، وهو قائم، وهو يمشي، يخرج من بيته لا يدري يرجع أو لا يرجع، فهؤلاء الذين نودعهم في كل يوم هؤلاء قامت قيامتهم، وعاينوا الحقائق، وانكشفت الأمور، انكشف عنهم الغطاء، وعرفوا حالهم وما يصيرون إليه.

فالمؤمن يقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، والكافر أو الذي ليس له عند الله نصيب يقول: رب لا تقم الساعة، فإذا نظر الإنسان إلى مثل هذه المعاني وتفكر فيها، وأنه وُجد من أجل أن يعمل لآخرته، وأن هناك حياةً أبدية تنتظره، ثم نظر إلى حاله، وما هو مجتهد مشمر فيه من جمع الحصى والحطام، أو أحجار الذهب والفضة، وقضى العمر بهذا، وصار يجري خلفها، وخلف عقاراتها وأراضيها ولهوها، وأشغلته عن آخرته فلم يعمل، ولم يتزود ولم يقدم لتلك الدار الخالدة شيئاً يذكر، فمثل هذا حينما يفارق الدنيا، ويخرج منها بخرقة تُقدم له لربما مجاناً، مع شيء من الحنوط، عندئذ هذا الإنسان يبصر الحقائق، ويعرف أنه كان في لهو وغفلة ولعب، حينما كان يلهث وراء السراب الذي لا ينقطع، ولا ينقضي.

انظر إلى أكثر الناس انشغالاً بالدنيا بعدما ماتوا، ماذا أخذوا منها؟ هل أخذوا منها قليلاً أو كثيراً؟ شركاتهم، مصانعهم، أراضيهم، هل أخذوا منها شيئاً يسيراً؟ أبداً، لم يأخذوا معهم طعامًا ولا شرابًا، ولا آلات، ولا نقودًا، والزاد في تلك الآخرة هو العمل، قراءة القرآن، الصدقة، الصيام، صلاة الليل، الذكر لله -تبارك وتعالى- وما إلى ذلك من الأعمال، فهذا هو الزاد الحقيقي، فالأمر قريب، وإذا أراد الإنسان أن يعرف أن الأمر قريب فعلاً فليتذكر أيامه المنصرمة، فإنه يجد أن ذلك كأنه يوم، وإذا انقضى عمر الإنسان يستشعر أن الحياة الدنيا كانت كيوم واحد، وأن اللذات هي أحلام نائم، وظل زائل، ظل يزول، يجلس الإنسان تحت هذه الشجرة، ينتقل مع الظل هنا وهنا، ثم بعد ذلك يفارقها.

أسأل الله أن يقنعنا منها باليسير، وأن لا يجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، وأن يبصرنا بما ينفعنا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، باب ما جاء في شأن الصور،(4/ 620)، رقم: (2431)، والطبراني في الكبير، (5/ 195)، رقم: (5072)، وصححه الألباني في السلسلة، رقم: (1079).
  2. أخرجه البخاري، باب قول النبي ﷺ: بعثت أنا والساعة كهاتين (8/ 106)، رقم: (6504)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، (4/ 2268)، رقم: (2951).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب سكرات الموت، (8/ 107)، رقم: (6511)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة، (4/ 2269)، رقم: (2953)، واللفظ له.

مواد ذات صلة