الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
بعض ما ورد عن السلف في باب الخوف (2-2)
تاريخ النشر: ١٩ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 1645
مرات الإستماع: 2306

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما ورد عن السلف في باب الخوف من الله تعالى ما جاء عن حصين الوزان قال: لو قُسم بث حزن عبد الواحد بن زيد على أهل البصرة لوسعهم، وكان يقوم إلى محرابه كأنه رجل مخاطَب، ولما حضر سفيان الثوري الموت جزع فقال له مرحوم بن عبد العزيز: ما هذا الجزع؟ فإنك تقدم على الرب الذي كنت تعبده، فسكن، والشاهد من هذا أنه جزع لشدة خوفه من الله -تبارك وتعالى.

ويقول عطاء الخفاف: ما لقيت سفيان الثوري إلا باكيًا، فقلت: ما شأنك؟ قال: أتخوف أن أكون في أم الكتاب شقيًّا، قال قبيصة: كان سفيان إذا نظرت إليه كأنه راهب، فإذا أخذ في الحديث أنكرته، يقول الذهبي: لقد لحق سفيانَ الثوري خوفٌ مزعج للغاية، فكأنما وقف للحساب، وسمعه عثّام بن علي يقول: لقد خفت الله خوفاً عجباً، يقول: عجب لي كيف لا أموت؟ ولكن لي أجل يقول: وددت لو أنه خفف عني من الخوف، أخاف أن يذهب عقلي، وعنه: إني لأسأل الله أن يذهب عني من خوفي، بلغ به الخوف هذا المبلغ حتى خاف على عقله، فنسأل الله أن يرحمنا ويغفر لنا، ويقول ابن المهدي: كنت أرمق سفيان الثوري في الليلة بعد الليلة، ينهض مرعوباً ينادي النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، وجاء عن السلف في هذا أخبار كثيرة ومن ذلك ما جاء عن محمد بن سليمان العباسي أنه عند موته قال: يا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني كنت حمّالاً، وكان رقيق القلب، وهذا مثال من الأمثلة الكثيرة التي أشرت إليها من قبل أن من السلف من كان عند الموت في حال الاحتضار يستحضر الخوف ويبكي، وعلى كل حال من أهل العلم من قال: إنه يجمع بين الخوف والرجاء في حالاته كلها، والحديث دل على أن الإنسان عند الموت يُغلب جانب الرجاء، لكن لا ينسى أيضاً جانب الخوف، ويقول الفضيل بن عياض: من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد، ويقول الرشيد: ما رأت عيناني مثل فضيل بن عياض، دخلت عليه فقال لي: فرِّغ قلبك للحزن وللخوف حتى يسكناه، فيقطعاك عن المعاصي ويبعداك عن النار، وصلى أبو بكر بن عياش خلف فضيل بن عياض المغرب وابنه علي -أي ابن الفضيل- إلى جانبه فقرأ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1]، فلما قال: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر:6]، سقط عليٌّ على وجهه مغشيًّا عليه، وبقي فضيل عند الآية، يقول: فقلت في نفسي: ويحك، أما يكون عندك من الخوف ما عند الفضيل وعلي، فلم أزل أنتظر عليًّا، فما أفاق إلى ثلث من الليل بقي، ولا شك أنه قد غلبه الخوف فوقع له هذا، وعلي بن الفضيل أخباره معروفة في ذلك وبأسانيد صحيحة، وإن كانت هذه الحال وهي ما يحصل للإنسان من الغشية لم تكن مما يقع للنبي ﷺ وهو أكمل الناس تقوى وخشية لله ، ولم يكن ذلك يقع لأصحابه ، وخير الهدي هدي محمد ﷺ[1]، لكن من الناس من يضعف قلبه عن احتمال ما يسمع، فيحصل له مثل هذا، والكمال أن يوجد الخشوع في القلب دون هذه الأمور التي تقع من غشية ونحوها.

وجاء عن فضيل بن عياض أنه قال: بكى ابني عليٌّ، فقلت: يا بني ما يبكيك؟ قال: أخاف ألا تجمعنا القيامة، ويقول الفضيل: أشرفت ليلة على عليٍّ وهو في صحن الدار، وهو يقول: النار ومتى الخلاص من النار؟ وقال لي: يا أبتِ سل الذي وهبني لك في الدنيا أن يهبني لك في الآخرة، ثم قال: لم يزل منكسر القلب حزيناً، ثم بكى الفضيل وقال: كان يساعدني على الحزن، يا ثمرة قلبي شكر الله لك ما قد علمه فيك، هذا الأب وهذا الولد، ومما جاء عنهم ما ذكره علي بن المديني -رحمه الله- يقول: كنا عند يحيى بن سعيد فقرأ رجل سورة الدخان فصعق يحيى وغشي عليه، ويحيى بن سعيد القطان هذا إمام في السنة، وكما قلنا: إن الأكمل حال النبي ﷺ، ويقول الإمام أحمد: لو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى، يعني الصعق، لدفعه يحيى، إمام في السنة والاتباع، ليس من الصوفية، ولا من أهل البدع، ومع ذلك وقع له هذا، فكما قلت: إن من الناس من يُغلب، وإن الكمال في خلافه، وعلى كل حال أترك بعض الأخبار في مجلس آخر -إن شاء الله.

أسأل الله أن يرزقنا وإياكم قلوباً خاشعة وعيوناً باكية من خشية الله، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص والعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح أحوال المسلمين، وأن يفرج عن إخواننا في فلسطين وفي كل مكان، وأن يصلح شأنهم كله، وأن يقوي ضعفهم، وأن يجبر كسرهم، وأن ينصرهم على عدوهم وعدوه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، (2/ 592)، رقم: (867).

مواد ذات صلة