الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب القناعة والعفاف (1-5)
تاريخ النشر: ٠٥ / شعبان / ١٤٢٩
التحميل: 1451
مرات الإستماع: 2698

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب القناعة والعفاف وذم السؤال مما جاء من أخبار السلف في هذا الباب ما قاله سعيد بن سويد أن عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله: صلى بهم الجمعة، ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعطاك، فلو لبست، فقال: أُفضِّل القصد عند الجِدة، والعفو عند المقدرة[1].

ويقول عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز: دعاني المنصور، فقال: كم كانت غلة عمر بن عبدالعزيز حين استخلف؟، قلت: خمسون ألف دينار، قال: كم كانت يوم موته؟ قلت: مائتا دينار، يعني: من خمسين ألفًا ما زال ينقص ذلك حتى وصل إلى مائتي دينار، ودخل عليه مسلمة بن عبدالملك وعليه قميص وسخ، فقال لامرأته: اغسلوه، قالت: نفعل، يقول: ثم عدت فإذا القميص على حاله، فقلت لها، فقالت: والله ما له غيره، ما عنده غير هذا القميص[2].

وجاء عن عمر بن مهاجر قال: كانت نفقة عمر بن عبدالعزيز في كل يوم درهمين، وكان السراج ببيت  عمر بن عبدالعزيز على ثلاث قصبات فوقهن طين[3]، هذا بيت الخليفة.

ويقول القاسم بن مخيمرة -رحمه الله: لم يجتمع على مائدتي لونان من طعام قط، وما أغلقت بابي قط ولي خلفه هَمٌّ[4]، يقول: ما عندي شيء أخاف عليه أحتاج أن أغلق الباب.

ومن أخبارهم في هذا أيضًا ما جاء عن مالك بن دينار قال: وددت أن رزقي في حصاة أمصُّها لا ألتمس غيرها حتى أموت، ويقول أيضًا: إنه لتأتي عليّ السنة لا آكل فيها اللحم إلا من أضحيتي يوم الأضحى.

وكان يحيى بن سعيد الأنصاري خفيف الحال فاستقضاه الخليفة المنصور فلم يتغير حاله، يعني: ولاه على القضاء فلم يتغير حاله، فقيل له في ذلك، فقال: من كانت نفسه واحدة لم يغيره المال[5]، على نفس التواضع والبساطة، ومن الناس من يكون في حال من الضعة والتواضع والمسكنة ونحو ذلك؛ لأنه لا يجد، فإذا وجد تغير تمامًا وصار يلبس ويركب كما لو كان أكثر الناس بطرًا، وهذا أمر غير لائق، فالاعتدال كما ذكرتُ مرارًا هو المطلوب، الاعتدال في الأمور والتوسط، فلا يترك الإنسان اللباس وهو يجد، وأيضًا لا يتخير رفيع اللباس ورفيع المراكب فيكون ذلك سجية له.

ويقول محمد بن واسع -رحمه الله- وهو من أئمة التابعين في العبادة والزهد، يقول: طوبى لمن وجد عشاء ولم يجد غداء، ووجد غداء ولم يجد عشاء، والله عنه راضٍ[6].

ويقول عيسى بن يونس: لم نرَ نحن مثل الأعمش، وما رُئي الأغنياء عند أحد أحقر منهم عنده مع فقره وحاجته، يقول الذهبي: كان عزيز النفس قنوعًا، وله رزق على بيت المال في الشهر خمسة دنانير قُررت له في أواخر عمره[7].

مع أن الأعمش -رحمه الله- من رآه -رأى هيئته- يعني: شيخه الشعبي كان إذا رآه يقول: هذا عالم! هذا وجه حائك، يتندر به، حتى إنه ما كان يُقبل على الشعبي كثيرًا بسبب أنه إذا دخل عليه يقول: هذا وجه حائك وليس بوجه عالم، يقول: وإذا أتيت إبراهيم النخعي رحب بي وأدناني وأجلسني في مجلسه، فانتفع من النخعي أكثر من انتفاعه من الشعبي، فانظروا إلى حاله كيف كان عزيزًا[8].

أيضًا ضمرة يقول: إن معاش ابن شوذب كان من كسب غلمان له في السوق[9]، يعني: ما كان يطلب من الآخرين وما ينتظر منهم عطاء ولا إحسانًا.

وأيضًا من أخبارهم في هذا ما جاء عن شعبة بن الحجاج، وهو إمام من أئمة السنة ومن حفاظها الكبار، يقول: إذا كان عندي دقيق وقصب ما أبالي ما فاتني من الدنيا[10].

وجاء عن عبدان بن عثمان عن أبيه قال: قوّمنا حمار شعبة بن الحجاج وسرجه ولجامه بضع عشرة درهمًا[11].

كل المركب بما فيه من ملحقات بهذا المقدار، طبعًا شعبة بن الحجاج إمام الدنيا في الحفظ ولا زال الناس يذكرونه ويترحمون عليه، وأخباره مسطورة في الكتب وفي أسانيد البخاري وغير البخاري، وإذا ذكر شعبة -رحمه الله- فحسبك به، لكن الناس أهل الدنيا الذين كانوا في زمن شعبة الناس الذين كانوا يرون لهم فضلًا على الآخرين بدنياهم وبما أعطاهم الله من يعرف اسم واحد منهم فقط؟ هل تعرفون اسمًا لواحد؟ أبداً، الذين لم يكن لهم هم في حياتهم إلا مظاهر الدنيا ومباهجها وزينتها وزهرتها، هل نعرف واحدًا منهم؟ أبداً، وانظر إلى القرون التي قد انقرضت وانطوت من يعرف أسماء الأغنياء في القرن الثاني عشر الهجري، والحادي عشر الهجري، والعاشر والتاسع والثامن عدد أسماء، لكن نعرف أسماء العلماء الربانيين الذين كان لهم علم وعمل وزهادة في الدنيا، فهؤلاء هم الذين يبقون، والواحد منهم شمس لا زال الناس يستضيئون به وينقلون أخباره، والله المستعان.

على كل حال بقيت أشياء لا أطيل عليكم، أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. الطبقات الكبرى (5/ 314).
  2. سير أعلام النبلاء (5/ 134).
  3. تاريخ دمشق لابن عساكر (45/ 214).
  4. المصدر السابق (49/ 207).
  5. أخبار القضاة (3/ 242).
  6. سير أعلام النبلاء (6/ 120).
  7. المصدر السابق (6/ 350).
  8. المصدر السابق (4/ 307).
  9. المصدر السابق (7/ 93).
  10. المصدر السابق (7/ 207).
  11. المصدر السابق (7/ 208).

مواد ذات صلة