الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
الحديث على آيات الباب وحديث «لقد عجب الله من صنيعكما..»
تاريخ النشر: ١٦ / ذو الحجة / ١٤٢٩
التحميل: 1615
مرات الإستماع: 4211

مقدمة باب الإثار والمواساة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب الإيثار والمواساة، وهذا الباب ذكره المصنف بعد الأبواب التي كانت قبله، حيث عقد باباً للكرم والجود، وعقد باباً آخر في ذم البخل والشح.

والإيثار والمواساة أعلى وأرفع مرتبة من الكرم والجود؛ لأن الإنسان قد يكون كريماً جواداً، وعنده الغنى والمال، وأما المواساة والإيثار فإن ذلك إنما يكون بتقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية، هذا هو الإيثار، تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية، وهذا لا يكون إيثاراً إلا إذا كان مع الحاجة.

بعض أهل اللغة قال: المواساة، وبعضهم يقول: إن الصحيح بالهمزة -المؤاساة، وإن نطقه بالواو -المواساة- لغة رديئة.

الشاهد بعضهم يقول: إن المواساة أو المؤاساة لا تكون إلا مع الكفاف، حيث يقل ما بيده فيواسي به غيره، ولا شك أن الإيثار لا يكون بحال من الأحوال إلا مع الحاجة للشيء، وإلا ما يكون مُؤْثرًا به، يوجد عشرة من المقاعد فارغة، وهذا جالس على واحد، ويقول: أنا أؤثرك به، تعال اجلس مكاني، هذا لا يكون إيثاراً، لكن حيث لا يوجد إلا هذا وهو محتاج إليه فهذا يقال له: إيثار، ليس عنده شيء من المال إلا هذه العشرة يشتري بها طعاماً، فوجد محتاجاً فوجد فقيراً، فقال: أنا أؤثرك بهذا على نفسي، أؤثرك بهذا الطعام على نفسي، هو محتاج للماء، ولا يوجد إلا هذا الكأس قال: أنا أؤثرك به على نفسي، في برد، في شدة، في حاجة وجاء إنسان ليس عنده ثياب فأعطاه رداءه، وقال: أنا أؤثرك به على نفسي، وجد في مكان، في سفر، في برية في كذا، وجد أحد هؤلاء ليس عنده فراش أعطاه فراشه، وقال: أنا أنام على الأرض، أؤثر، هذا إيثار.

أما إذا كان البيت مليئًا بالفرش فهذا لا يقال له: إيثار، إذا كان البيت مليئًا بالطعام لا يقال له: إيثار، إذا كان عنده مال كثير فأعطاه شيئاً من هذا المال فإن هذا لا يقال له: إيثار.

فتقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية مع الحاجة إليها هذا الذي يقال له: إيثار، وأما تقديم الغير على النفس في الأمور والحظوظ الأخروية فإن هذا مذموم؛ لأنه يدل على زهد الإنسان فيما عند الله ، مثال الإيثار بالصف الأول، وكل واحد يقول للثاني: لا، تفضل، تقدم أنت، هذا ما فيه مجال للإيثار، الإنسان يحرص على الخير والأجر وما عند الله.

لكن من أهل العلم من استثنى بعض الصور مثل تقديم الإمام العادل، أو الوالد، أو العالم، مثل الدخول إلى المسجد لاسيما يوم الجمعة الملائكة على الأبواب يكتبون الأول فالأول، فالتقى اثنان عند الباب وهذا يقول للثاني: تفضل أنت، يقدمه، لا، هذا ما فيه مجال للإيثار، لا يقدم غيره.

حصلت له حجّة، ما حج، وآخر ما حج، فحصلت الحجة لهذا، أو وُجد مقعد، أو وُجد حجز في الطائرة، مقعد واحد، قال: لا، أنا أؤثرك بهذا تفضل اذهب أنت، هذا يدل على الزهد فيما عند الله ، فهذا إيثار مذموم، ولذلك نحن نقع في أشياء أحياناً هي من باب الإحسان والكرم، ونحو ذلك كخروجنا من المسجد، تجد الإنسان يقدم صاحبه، ويقول له: تفضل، كل واحد يقول للثاني: تفضل أنت، أنت حينما تقدمه ليخرج قبلك ما أحسنت إليه، أنت تريد أن تخرجه من المسجد قبلك، وعند الدخول أنت تقدمه على نفسك، ولو أنك تقدمت عليه لكان خيراً لك، لاسيما يوم الجمعة.

قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}

قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، هذه صفة الأنصار.

قال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ [الحشر:9]، من قبل المهاجرين، يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا الحاجة يعني: الحسد، فلا يجدون في صدورهم حسداً بسبب ما يعطاه المهاجرون من الفيء، ونحو ذلك، ولا يُعطَى منه الأنصار، كما فعل النبي ﷺ حينما قسم أرض قريظة، جمع الأنصار واستشارهم.

وكان الرجل إذا جاء مهاجراً استهم عليه الأنصار، كل واحد يقول: عندي، فكان النبي ﷺ يقرع بينهم، فمن ظهرت له القرعة صار في رحله، فصار المهاجرون في وقت من الأوقات أكثر من الأنصار، فقاسموهم أموالهم، وتعرفون خبر سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف.

فلما فتح الله الفتوح -قريظة، والنضير، جمع النبي ﷺ الأنصار، وقال لهم: إن شئتم خرج المهاجرون من أموالكم وقسمتها بينهم- يعني: أرض قريظة، وإن شئتم بقوا في أموالكم وقسمتها بينكم، يعني المهاجرين والأنصار.

فقالوا: لا يا رسول الله، بل يبقون في أموالنا وتقسمها لهم دوننا، هذه مرتبة عالية، الأموال أصلاً كانت للأنصار، حتى إن النبي ﷺ قال لهم: إن المهاجرين ليسوا بأهل زرع، فبدلاً من أن تُقسم الأرض بين المهاجرين والأنصار، تبقى الأصول أملاكاً للأنصار، وتقسم الثمرة بين المهاجرين والأنصار، على أن يكون العمل من الأنصار بمقابل أن الأرض تكون ملكاً لهم، قالوا: رضينا، فلما جاءت الفتوح هذه، وخيرهم النبي ﷺ قالوا: لا، يبقون في أرضنا، واقسمها لهم دوننا[1].

وهذه ليست مجاملات، وليست أخلاقاً غير حقيقية، وإنما قال الله : يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].

يقدمون إخوانهم على أنفسهم، وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، والخصاصة هي الحاجة الشديدة، لشدتها كأنها تختص بصاحبها، خصاصة، وبعضهم يقول: هي الخَلّة، خَلّة من خصاص الدار وهي السُّقف، كانت في الأول السقوف من الجريد، ونحو ذلك فيظهر منها أشعة الشمس، فهذه الخِلال، فالخَلَّة هي الحاجة والفقر، خلَّة، والخُلَّة هي درجة عالية في المحبة، فبعضهم يقول: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، مأخوذ من خصاص الدار بمعنى الخَلّة والحاجة والفقر، والأول أوضح في المعنى، وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ الحاجة الشديدة، كأن الإنسان ينفرد بحاجته، ما عنده رفد، ومع ذلك يقدمون على أنفسهم.

قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}

وقال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، أصحاب الحاجات على أنواعهم، المسكين، ويدخل فيه الفقير.

واليتيم وهو الذي فقد أباه وهو دون البلوغ، والأسير ولو كان كافراً فإنه يحسن إليه، فهذا الأسير يجب أن يُطعم ويسقى، فكيف إذا كان مسلماً؟

عَلَى حُبِّهِ، يعني: ما يعطيه فضلة الطعام، الشيء الزائد عنده الذي لا يحتاج إليه، بقايا الطعام، لا، نعطي ما نحب من الطعام، الطعام الجيد، الطعام الذي قبل أن يؤكل، قبل أن يبدأ به أهل الدار، يعطون للفقير، للجار، للمسكين، للمحتاج، نحن للأسف قد نأنف من أن يأكل معنا العمال، والخدم، والسائقون، فتجد هؤلاء لا يأكلون مع الناس في الغالب، الخادمة ما تأكل مع النساء، لماذا؟ يأنفون منها غالباً، هذه مسلمة وأختكم في الله، ومثلكم، وهذا الخادم الذي عندك إن كان مسلماً ديتك مثل ديته سواء ما في فرق، آدمي لحم ودم، لكنه فقير والله ساقه إليك، جعل الناس على هذه الطبقات من الفقر والغنى؛ ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، فلماذا تأنف من مجالسته، ومؤاكلته ونحو ذلك؟.  

بعض الناس يبرر هذا يقول: ما يرتاحون -أي الخدم، نحن نريدهم أن يرتاحوا يأكلوا وهم مرتاحون، أنا ما أدري عن هذا التبرير، هل هو صحيح فعلاً أو لا؟ هذا يأكل لوحده دائماً، وهذه الخادمة تأكل لوحدها، مسكينة، ولا عندها من يسمع منها، ولا من يضحك معها، ولا من يتحدث معها، وإنما فقط الأوامر، اشتغلي، غسِّلي، نظفي، اكنسي، قومي، اقعدي، فقط، المواساة، أما الإيثار فهذا أبعد ما يكون، لكن بقايا الملابس، الملابس المستعملة القديمة، الأكل الذي استغني عنه، بدلاً من أن يرمى في النفايات يمكن أن يعطى لهؤلاء الفقراء، وهذا غير صحيح بهذه الطريقة، الإنسان يعرض نفسه على هذه النصوص من القرآن ومن السنة، ويربي نفسه عليها، ويغير من حاله، ولا يسمع لمجرد السماع، هل أنت كذلك أو لا؟

لقد عجب الله من صنيعكما

وانظروا هذا المثال الذي أورده بعده من حديث أبي هريرة  المخرج في الصحيحين:

عن أبي هريرة  قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال:  إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال النبي ﷺ: من يضيف هذا الليلة؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله ﷺ.
وفي رواية قال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين، فلما أصبح غدا على النبي ﷺ فقال: لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة[1].متفق عليه، في بعض الروايات: أن الرجل هو أبو هريرة.

مجهود، يعني: أصابني الجهد، وهو المشقة والحاجة، وسوء العيش والجوع، فأرسلَ إلى بعض نسائه، يعني: النبي ﷺ أرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء.

انظروا إلى بيوت أفضل الخلق النبي ﷺ ما فيه إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك ما في بيوت أزواج النبي ﷺ إلا ماء، والآن لو جئنا إلى بيوت الفقراء منا ستجد فيها غير الماء أشياء كثيرة.

فقال النبي ﷺ: من يضيف هذا الليلة؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله جاء في بعض الروايات أنه أبو طلحة وزوجه هي أم سليم.

قال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، والرحل هو المكان الذي يأوي إليه الإنسان في الحضر، هو المسكن، البيت، وفي السفر المكان الذي فيه أمتعته وأغراضه، هذا رحل فلان.

فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله ﷺ، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، ما عندهم شيء، وهذا هو الشاهد.

قال: علِّليهم بشيء، يعني: لهِّيهم بشيء، أعطيهم شيئًا يتلهون فيه، لعبة، علِّليهم بشيء، وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، الأكل قليل.

قال: وأريه أنا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاوييْن يعني: جائعيْن، فلما أصبح غدا على النبي ﷺ فقال: لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة؛ لأن الله عالم بخبايا الأمور، لا يخفى عليه خافية، يراهم، فالأيدي تتحرك في الصحن ولكنهم لا يأكلون، يحركون الفم كأنهم يمضغون الطعام، وهم لا يأكلون، والضيف يأكل، والأطفال نُوِّموا.

ولا يقال: كيف يقدم ضيافة الضيف على من يجب عليه أن يطعمهم؟ يقال: مثل هذا لم يصل بهم إلى حد الحاجة الشديدة التي يتضررون بعدم الأكل معها، وإنما هي الرغبة الموجودة عند الإنسان بالطعام لاسيما الصغار، وإلا فالحال لم تصل إلى حد الضرورة، أو الشدة، أو الضرر إذا ما أكل هؤلاء الصغار هذا الطعام، يُحمل على هذا، لا يقال: إنه ضيع من يعول، وجاء بضيف فأطعمه، لا، ما وصلت الأمور إلى حد الضرر، فنَوّموا هؤلاء الصبيان بلا طعام، ونام هو وامرأته بلا طعام، وأكل ضيف رسول الله ﷺ، وأشعروه أنهم يأكلون معه مواساة له وتطييباً لقلبه، يعني: ما تركوه لوحده، وقالوا: لا، تظاهرتْ أنها تصلح السراج، فأطفأته، فهذه مرتبة عالية في الإيثار، من يفعل هذا؟ الآن تجد أكثر الناس بيوتهم لا يطرق بابهم أحد، ومجلسهم لا يدخله أحد، ولا ترى أحداً، مع الغنى، ومع السعة، ومع الجدة، بل بعض الناس ما عنده مجلس أصلاً، يبحث عن شقة، يقال له: طيب هذه ما فيها إلا ثلاث غرف، وما فيها مجلس، يقول: هذه التي أريدها، مجلس؟ ماذا أريد من المجلس؟، الناس أراهم بالمسجد، مكلوف بخلق الله؟!، أنا أتحدث عن واقع موجود، بعض الناس هكذا يتكلم، ما أريد مجلسًا، الناس نراهم في المسجد، فهؤلاء كما قال الشاعر:

بيضُ المطابخِ لا تشقى إماؤهُمُ .....................

يعني: ما في تعب، ولا غسيل مواعين، مطابخهم ما تحتاج، ما فيها آثار، لا رماد، ولا فحم، ولا طبخ، ولا حطب، في السابق كان الناس يطبخون بالحطب، والإماء يشتغلون بالطعام، والتنظيف، والصحون، وكذا، هذا أبداً لا يطرق الباب أحد، فكيف لو كان هؤلاء في حاجة؟!.

نسأل الله العافية، أين المواساة؟ قد يكون الإنسان له جيران لا يعرف عنهم شيئًا، وهم في غاية الحاجة.

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم هذه الأخلاق، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يرفعنا، وأن يقينا شر أنفسنا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب قول الله: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [الحشر:9] (5/ 34)، رقم: (3798) ومسلم، كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره (3/ 1624)، رقم: (2054).

مواد ذات صلة