الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(40) مسألة المفاضلة بين قراءة القرآن والذكر
تاريخ النشر: ٠٧ / محرّم / ١٤٣٥
التحميل: 3722
مرات الإستماع: 2986

الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: سأتحدث هذه الليلة عن قضيتين اثنتين تتعلَّقان بهذه الأحاديث التي سبق الكلامُ عليها في الليالي الماضية:

الأولى: تتصل بالحديثين السَّابقين، الحديثين الأخيرين: قول النبي ﷺ: مَن قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها[1]. الحديث.

والحديث الآخر هو حديث عقبة بن عامر قال: خرج رسولُ الله ﷺ ونحن في الصُّفة، فقال: أيُّكم يُحبُّ أن يغدو كلَّ يومٍ إلى بطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين؟[2]. الحديث.

فهنا بناءً على ذلك أيُّهما أفضل: قراءة القرآن أو الذكر؟

هذه من المسائل التي أرجأتُ الحديثَ عنها في المقدمة، ووعدتُ بالحديث عن هذه المسائل المتبقية مُتفرقةً عند المناسبات التي تتعلق بها، فالنبي ﷺ هنا يذكر فضلَ قراءة القرآن، وجعله بهذه المثابة، فهل قراءة القرآن أفضل من الذكر؟

وأعني بالذكر: ما عدا قراءة القرآن مما يكون على اللِّسان من الأذكار المطلقة، أو الأذكار المقيدة، وإلا فلا شكَّ -كما سبق- أنَّ قراءةَ القرآن من الذكر، وهي من أفضل الذكر، لكن أيُّهما أفضل: قراءة القرآن أو الذكر؟

الحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلَّم على هذه المسألة بكلامٍ مُفصَّلٍ يصلح أن يكون قاعدةً عامَّةً في المفاضلات في هذا الباب وفي غيره، فهو يُقرر أنَّ قراءةَ القرآن في الأصل أفضل من الذكر، وأنَّ الذكر أفضل من الدُّعاء[3]، وسيأتي الكلامُ على هذه المسألة الأخيرة في موضعها -إن شاء الله-، وحينما يقول ذلك -بأنَّ قراءة القرآن أفضل من الذكر- يقول: هذا من جهة النَّظر المجرد، أيّهما أفضل: قراءة قرآنٍ أو ذكر؟

قراءة القرآن أفضل بهذا الاعتبار، لكن قد يعرض للمفضول -يعني: للأقل من جهة الفضل- ما يجعله أفضل وأولى من الفاضل، وذلك في بعض المناسبات والأحوال، بل قد يكون المفضولُ مُتعينًا في بعض المواضع والأوقات، بحيث لا يجوز له أن يعدل عنه إلى الفاضل.

وحينما نقول: قراءة القرآن أفضل؛ ليس هذا على إطلاقه في كل حالٍ ومقامٍ، وزمانٍ ومكانٍ، خذ أمثلةً على ذلك: التَّسبيح في الركوع والسّجود أفضل من قراءة القرآن قطعًا، بل يُنهى المصلِّي أن يقرأ القرآنَ في الركوع والسجود، كما صحَّ ذلك عن النبي ﷺ.

حينما يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد"، لا شكَّ أنَّ هذا في هذا المقام أفضل من قراءة القرآن، هكذا التَّشهد، فإنَّه ركنٌ أو واجبٌ على اختلافٍ بين أهل العلم -كما هو معروفٌ.

فهنا ليس له أن يقرأ القرآنَ حينما يجلس في الصَّلاة للتَّشهد، فيقرأ بدلًا من التَّشهد، ولو قرأ السّور الفاضلة كسورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص] فإنها تعدل ثلثَ القرآن، هنا يُقال: يقرأ التَّشهد، وإذا جلس بين السَّجدتين وقال: ربي اغفر لي، فهنا هذا الذكر أولى وأفضل وأكمل من قراءة القرآن.

وهكذا حينما ينصرف من صلاته، أو في آخر التَّشهد حينما يستعيذ من الأربع، ويقول: اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم. وحينما يقول: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك. فهذا الأرجح أنَّه يُقال قبل السَّلام، بعد الفراغ من الصَّلاة على النبي ﷺ، فهذا الموضع أفضل من قراءة القرآن أن يقول فيه هذه الأذكار، أو أن يدعو بهذه الأدعية، بل إنَّ النبي ﷺ قال: ثم يتخيَّر من الدُّعاء أعجبه[4]، فهذا موضعٌ للدُّعاء قبل السلام، وبعد الفراغ من التَّشهد والصَّلاة على النبي ﷺ، فكون الإنسان يدعو في آخر التَّشهد أفضل له من أن يقرأ القرآن، وبعدما يُسلِّم من صلاته فإنَّه يُشرع له أن يقول الأذكارَ، فقول الأذكار هنا أفضل من قراءة القرآن بلا شكٍّ، وهذا أمرٌ معلومٌ.

كذلك إذا أذَّن المؤذنُ فإنَّ إجابته أن يقول مثلما يقول المؤذن، أفضل من قراءة القرآن عند سماع الأذان، وكذلك حينما يقول بعده: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التَّامة.. إلى آخره، فهذا أيضًا أفضل من أن يقرأ القرآنَ؛ وذلك أنَّ لكل مقامٍ مقالًا، ولكل موضعٍ ما يليق به، فإذا فاته فإنَّه تفوته تلك الفضيلة، بل لربما فاته ذلك الواجب، وتختل المصلحة التي من أجلها شُرع هذا الذكر في مثل هذه المناسبة.

كذلك أيضًا الأذكار التي تُقال في أول النَّهار، وفي آخر النَّهار: أذكار الصَّباح والمساء، بالغداة والعشي، بعض الناس إذا سلَّم من صلاة الفجر فتح المصحف، وجلس يقرأ، لا، الأفضل أن يقول أذكارَ الصلاة، ثم بعد ذلك يقول أذكارَ الصباح، أفضل من قراءة القرآن، قراءة القرآن لها فضلٌ، لكن هذا في هذا الوقت وفي هذا الحين أفضل من هذه الأذكار.

هذا بالنسبة للأذكار المقيدة، سواء في الصَّلاة، أو في مناسبات مُعينة في الصَّباح، وفي المساء، وفي أحوال وفي أوقات الذكر أفضل في موضعه.

نبقى أمام الأذكار المطلقة؛ يعني: إنسان يذكر الله وهو في الطَّريق، ويذكر الله وهو جالس ذكرًا مُطلقًا، يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله. وما أشبه هذا، فهذا ذكرٌ مُطْلَقٌ يقوله الإنسانُ في أي وقتٍ شاء، فحينما يُكثر من هذا أيّهما أفضل: أن يقرأ القرآن؟

عندنا اثنان: أحدهما يذكر ذكرًا مُطلقًا، إنسانٌ جالسٌ بعد الظهر يذكر الله ، وآخر يقرأ القرآن، إنسانٌ صلَّى العشاء فجلس يذكر الله -تبارك وتعالى- ذكرًا مُطلقًا بعد ذكر الصَّلاة، والثاني يقرأ القرآنَ، أيُّهما أفضل: قراءة القرآن، أو الذكر المطلق؟

عرفنا الحكم بالنسبة للذكر المقيد، بقي الذكر المطلق، أيُّهما أفضل؟

القراءة أفضل من الذكر المطلَق، يعني: إذا كنتَ بين أمرين: قراءة، أو ذكر مطلق؛ فالقراءة أفضل؛ لأنَّ قراءة القرآن فيها الفضائل التي سمعتم، وكل حرفٍ بعشرٍ، وهذان الحديثان يدلان على شيءٍ من الفضل، والأحاديث الواردة في فضل قراءة القرآن معروفة ومشهورة ومتنوعة، فقراءة القرآن من هذه الحيثية أفضل من الذكر المطلق، وفي كلٍّ خيرٌ، لكن قد يعرض للإنسان ما يجعل الذكر أو الدُّعاء -كما سيأتي على الكلام في الدّعاء إن شاء الله- أفضل في حقِّه من القراءة، الذكر المطلق، قد تعرض له حالات يكون الذكرُ فيها أفضل من القراءة.

ابن القيم يمثل على هذا يقول: إنسانٌ جلس يتفكَّر في ذنوبه، يُحاسِب نفسَه، فانبعثت في نفسه دواعي الاستغفار في هذه الحال، والتوبة، فجلس يستغفر، استغفاره هنا مع النَّدم يُعتبر توبةً[5]، وتكلَّمنا على مسألة التَّوبة بكلامٍ مُفصلٍ في الأعمال القلبية، وتحدثتُ عن قضية الاستغفار بخصوصها: هل هي توبة، أو ليست بتوبةٍ؟ إذا قال: أستغفر الله. فهذا قد يكون توبةً، وقد لا يكون، فهذا الإنسانُ الذي تفكّر في ذنوبه فانبعثت نفسُه إلى الاستغفار، وجرى على لسانه، وندم على تلك الذنوب، وذلك التَّقصير، هذا الاستغفار في حقِّه أفضل في هذا الحال؛ لأنَّه مطالبٌ ومُتعبَّدٌ بالاستغفار من هذه الذنوب، والنبي ﷺ كان يستغفر في المجلس الواحد كثيرًا، عشرات المرات، يستغفر سبعين مرةً، يستغفر في اليوم مئة مرة ﷺ.

كذلك إذا حصل للإنسان شيءٌ، لربما من المخاوف لأمرٍ أو لآخر، نزل منزلًا فجلس يحصن نفسَه بالأذكار، فالذكر هنا أفضل في حقِّه من قراءة القرآن.

وهكذا قراءة القرآن تشرح الصَّدر كما هو معروفٌ، والذكر يشرح الصَّدر، ولكن الناس يتفاوتون في هذا، بعض الناس إذا جلس يُردد بصوتٍ يسمعه: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، يُردد هذا؛ انشرح صدرُه، وذهب عنه الضيقُ، والهمُّ، والغمُّ الذي لا يسلم منه أحدٌ.

وبعض الناس إذا قرأ القرآنَ تجلَّت عنه أمثال السُّحب من الضِّيق، والكآبة، والحزن، وما أشبه ذلك.

فالناس يتفاوتون، فمَن كان جلاءُ قلبه بالذكر؛ فليذكر في هذه الحال، فيكون أفضل من القراءة.

فالناس إذن ليسوا على سننٍ واحدٍ، وميزانٍ مُتَّحدٍ، وإنما بينهم هذا التَّفاوت.

وهكذا أيضًا قد تعرض للعبد حاجةٌ، يهمّ بأمرٍ، فيحتاج إلى دعاءٍ، ويحتاج إلى استخارةٍ، فهنا يكون الذكرُ في حقِّه والدُّعاء أفضل من قراءة القرآن؛ لأنَّه في بعض حالاته العبدُ هو بالنسبة للاستخارة مأمورٌ أن يستخير، لكن في غير الاستخارة العبدُ قد يجد قلبَه عند حصول الحاجة أو وقوع الحاجة، أو حينما يتوجّه قلبُه إلى مطلوبٍ من هذه المطالب الدّنيوية، أو الأخروية، فإنَّه يجد أنَّ قلبه يجتمع في هذه الحال على الدعاء، فهنا يُقال: الدعاء أفضل له من قراءة القرآن في هذا المقام، فيحصل له من التَّضرع والخشوع.

ولذلك نجد كثيرًا من الناس لربما يسمع القرآنَ في صلاة التراويح من أوله إلى آخره، ولا يخشع له قلبٌ، ولا تدمع له عينٌ، وإذا جاء الدُّعاء لم يتمالك، ما السَّبب؟

طبعًا المفروض أن نخشع في قراءة القرآن، لكن هناك أيضًا تعليلٌ وتبريرٌ لمثل هذا التَّصرف، أو لمثل هذا السُّلوك، أو لمثل هذه التي يمكن أن نُسميها: ظاهرة؛ وذلك أنَّ الإنسان في حال الدُّعاء يحصل له انكسارٌ، ويحصل له خضوعٌ؛ فتكون الرقَّةُ عند إذ؛ فيبكي، مقام ضراعةٍ، مقام تذللٍ، مقام مسكنةٍ، مقام سؤالٍ، مقام إظهار فقرٍ، فيتوسل إلى الله بذكر فقره، وعظمة الله وأسمائه الحسنى؛ فيرقُّ، وينكسر، ويقول: أنا العبدُ الضَّعيف المسكين الذَّليل، وأنت الغني الكريم. ثم يرقّ ويبكي، هذا طبيعي، لكن ينبغي أن يرقَّ أيضًا عند قراءة القرآن.

لكن هذا تبريرٌ واضحٌ لهذه القضية التي قد يتساءل كثيرٌ من الناس عنها، المقصود أنَّ هذا الطريق، هذا المنحى في الموازنة بين الأعمال هو من الفقه الذي يحتاج إليه المكلَّف، فقد يكون الشَّيء أفضل مطلقًا، ولكنَّه في حالات يكون مفضولًا، وقد يكون أفضل باعتبارٍ، ويكون مفضولًا باعتبارٍ آخر لأمورٍ عارضةٍ، ولكل مقامٍ مقال، ويُعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، وينزل كلّ شيءٍ في منزلته التي تليق به: العين لها موضع، والرِّجْل لها موضع، واليد لها موضع، والماء له موضع، والطعام له موضع، والكلام له موضع، فيحفظ العبدُ مثل هذه المراتب، ويكون له فقهٌ في التَّعامل مع هذا.

وذكر الحافظُ ابنُ القيم -رحمه الله- أنَّ الصابون والأشنان؛ يعني: هذه مُنظفات، يقول: هذه أنفع للثوب في وقتٍ؛ حينما يكون الثوبُ مُتَّسِخًا يحتاج صابونًا، لكن التَّبخير والتَّجمير: ماء الورد، الكيّ، يقول: هذا أنفعُ له في وقتٍ آخر، الثوب حينما يكون نظيفًا يحتاج إلى كيٍّ، ويحتاج إلى تبخيرٍ وتعطيرٍ، لكن إذا كان الثوبُ مُتَّسِخًا هل يصلح له هنا التَّبخير والكيّ؟ لا، هنا هو بحاجةٍ إلى الصَّابون، فالصَّابون له موضع، والتَّبخير والكيّ له موضع آخر.

ويذكر أنَّه قال لشيخه -شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله-: أنَّ بعض أهل العلم سُئل: أيّهما أنفع للعبد: التَّسبيح أو الاستغفار؟ التَّسبيح يُنزه الله ، والاستغفار يستغفر من ذنوبه وقصوره وعيوبه.

فقال شيخُ الإسلام جوابًا على هذا المهيع، على هذه الجادة في الموازنة قال له -رحمه الله-: إذا كان الثوبُ نقيًّا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإذا كان دنسًا فالصَّابون والماء الحار أنفع له.

واحدٌ صاحب ذنوبٍ يحتاج إلى استغفارٍ، وإنسانٌ تقيٌّ نقيٌّ، هو لا يستغني عن الاستغفار، ولكن أيضًا التَّسبيح في حقِّه يكون بحالٍ تختلف عن حال ذاك الإنسان الذي قد تلطخ بالأوزار والأوضار والذنوب الكثيرة.

يقول: وقال لي: فكيف والثِّياب لا تزال دنسةً؟ يعني: إننا بحاجةٍ إلى استغفارٍ.

يقول: ولما كانت الصلاةُ مُشتملةً على القراءة، والذكر، والدُّعاء، وهي جامعةٌ لأجزاء العبودية على أتم الوجوه؛ كانت أفضل من كلٍّ من القراءة، والذكر، والدُّعاء بمُفرده[6].

إنسانٌ يُصلي، هذا أفضل من أنَّه يقرأ القرآنَ خارج الصلاة، أفضل من أنَّه يدعو، أفضل من أنَّه يذكر خارج الصَّلاة، لماذا؟ لأنَّ الصلاة تشتمل على هذه الأمور جميعًا، مع عبودية سائر الأعضاء.

فهنا بهذا الميزان يعرف العبدُ مراتبَ الأعمال، ولا يشتغل بالمفضول عن الفاضل، ويكون بهذا رابحًا، قد قدم على ربِّه -تبارك وتعالى- بأوفر وأوفى التِّجارات، وهذا حاصلُ كلام ابن القيم -رحمه الله.

بقيت المسألةُ الثانية، أتركها في الليلة القادمة -إن شاء الله تعالى-.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، برقم (2910)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (2137).
  2. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه، برقم (803).
  3. انظر: "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (91).
  4. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدُّعاء بعد التَّشهد وليس بواجبٍ، برقم (835).
  5. انظر: "الوابل الصيب" لابن القيم (91).
  6. انظر: المصدر السَّابق (92).

مواد ذات صلة