الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب ذكر الموت وقصر الأمل (3-3)
تاريخ النشر: ١٧ / صفر / ١٤٣٠
التحميل: 1153
مرات الإستماع: 1959

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما ورد في هذا الباب -باب الموت، وقصر الأمل- ما قاله عبد الحق الأندلسي -رحمه الله- شعرًا:

إن في الموت والمعاد لشغلاً وادكارًا لذي النهى وبلاغا
فاغتنم خطتين قبل المنايا صحة الجسم يا أخي والفراغا[1]

ومن شعر أسامة بن منقذ:

مع الثمانين عاث الضعف في جسدي وساءني ضعف رجلي واضطراب يدي
إذا كاتبت فخطي خط مضطرب كخط مرتعش الكفين مرتعدي
فأعجب لضعف يدي عن حملها قلمًا من بعد حطم القنا في لبة الأسدي
فقل لمن يتمنى طول مدته هذه عواقب طول العمر والمددي[2]

وهو كما سبق فقد سئل النبي ﷺ: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: من طال عمره، وحسن عمله[3]، فإذا كان مع هذا حسن عمله، فالحمد لله، لا سيما إذا متّع الإنسان بسمعه وبصره، فيعبد ربه، ويذكره، ويقرأ كلامه، أما الذي يعيش هذه المدة دون أن يرفع رأسًا لهذه الأمور، وهي العبادة والذكر، وقراءة القرآن، وما شابه ذلك، فلا يجمع من هذا الطول وهذا البقاء إلا العناء والتعب والآلام؛ لأنه يبقى من العمر أضعفه وأكدره، فهو عرضة للآفات والأمراض، وتذهب لذاته.

يقول أيضًا ابن الجوزي -رحمه الله-: "ما اجتمع لامرئ أمله إلا وسعى في تفريقه أجله"[4].

وهذا آخر من شيوخ الحنفية يقول:

أرى المرء يهوى أن تطول حياته وفي طولها إرهاق ذل وإزهاق
تمنيت في عصر الشبيبة أنني أعمر والأعمار لا شك أرزاق
فلما أتى ما قد تمنيت ساءني من العمر ما قد كنت أهوى وأشتاق
يخيل في فكري إذا كنت خاليًا ركوبي على الأعناق والسير إعناق[5]

يعني: السير السريع.

يقول:

ويذكرني مر النسيم وروحه حثائر تعلوها من الترب أطباق
وها أنا في إحدى وتسعين حجة لها في إرعاد مخوف وإبراق
يقولون ترياق لمثلك نافع وما لي إلا رحمة الله ترياق[6]

يقول: أصبح يخيل إليّ وأنا أحمل على النعش، والرجال يسرعون بي، والسير إعناق، ويخيل إليّ إذا هبت الريح، وذاك التراب الذي تحمله الرياح على تلك الحفرة وهي القبر، فصار ذلك يخيل إليه؛ لأنه قد دنا من أجله، مع أن الكثيرين لا يتصورون هذا، ولا زال أملهم طويلاً، فهم يؤملون أن يبقوا ويتمتعوا.

ويقول أيضًا:

لبست من الأعمار تسعين حجة وعندي رجاء بالزيادة مولع
وقد أقبلت إحدى وتسعين بعدها ونفسي إلى خمس وست تطلع
ولا غرو أن آتي هنيدة سالمًا فقد يدرك الإنسان ما يتوقع[7]

والمقصود بهنيدة يعني مائة عام، أي: أن أبلغ المائة سالمًا.

وقد كان في عصري رجال عرفتهم حبوها وبالآمال فيها تمتع
وما عافى قبلي عاقل طول عمره ولا لامه من فيه للعقل موضع[8]

يعني: على طول العمر، لكن كل هذا ينبغي أن يقيد بما ذكرت، وإلا كما وقع لأحد الملوك لما رأى رؤيا، وجاء بمعبر فعبرها له، قال: يموت أهلك، وتبقى أنت، فغضب، وهم به، ثم أخرجه وزجره، ثم جيء له بآخر، فسأله عن هذه الرؤيا، فقال: أيها الخليفة إنك أطول أهلك عمرًا، ففرح، وأعطاه هدية، والنتيجة واحدة؛ لأن الإنسان إذا طال عمره، فيمر به من الأحزان والآلام، ويمنى بفقد الأحبة، من أبناء وإخوان وقرابات وجيران ومعارف؛ ولذلك تجد الرجل كلما تقدم به السن فقد أصحابه الذين كان يعاشرهم، وبينه وبينهم مجالس وذكريات وسفرات وإلى آخره، حتى ينفرد وحده.

وقد رأيت رجلاً كبير السن، ظننت أنه مريض، فسألت عنه، فقيل هو هكذا على فراشه من السآمة، يعني ذهب كل الناس الذي حوله من أصحاب، الذين في أقرانه وسنه، وقريبًا منه، حتى انفرد وحده، وصار لا يجد من يجالس، فكان على فراشه دائمًا يطول عليه الوقت، ويستثقل الزمان، وهذه قضية تحتاج إلى معالجة، لا تترك، وإن كان هذا خارج عن الموضوع، يعني ينبغي أن يكون أولاد هذا وقراباته قريبين منه، ولا يشعرونه بهذا الانفراد والوحدة، ويحصل له شيء من السلوة، فيحدثونه ويزودونه بما يجري حوله، من الأخبار، ومما يستجد لهم ولقراباتهم وللمجتمع وللعالم، فإذا جلس مع الناس عنده شيء يتحدث به، وشاركهم به، فلا يكون بعيدًا عنهم، عائشًا مع ذكرياته قبل ستين سنة، أو سبعين سنة، يتحدث عن الجمال والإبل  والجمالين، وأشياء قديمة، والأولاد يقولون: نحن نحرج إذا جلسنا في المجلس ليس عنده إلا حكايتين، أو ثلاث يرددها، هو يرددها من أجلكم أنتم، تركتموه وحده، وليس عنده أي معلومات، ولا يدري ماذا يدور في هذا العالم؟ فإذا جلس مع الناس يريد أن يشارك يريد أن يتحدث، وما عنده شيء، وهذا خطأ، والمفروض أن يُعنى بهؤلاء، بحيث لا يشعرون بغربة بين أهليهم، والناس حولهم. 

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

والله أعلم.

  1. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ت إحسان عباس (4/329) والازدهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار (ص:5).
  2. لباب الآداب لأسامة بن منقذ (المقدمة/20).
  3. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الزهد، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن برقم (2329) وصححه الألباني.
  4. نقله عنه في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ت إحسان عباس (5/162).
  5. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (22/40).
  6. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (22/40).
  7. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (22/40).
  8. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (22/40).

مواد ذات صلة