الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه..»
تاريخ النشر: ٠٢ / ربيع الأوّل / ١٤٣٠
التحميل: 1281
مرات الإستماع: 3741

إن المسلم ليؤجر في كل شيء

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

 ففي باب "كراهة تمني الموت بسبب ضر نزل به، ولا بأس به لخوف الفتنة في الدين" تحدثنا عن هذه المسألة، ومتى يجوز للإنسان أن يتمنى الموت، ومتى لا يجوز.

ومتى يقول: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي.

بقي حديث في هذا الباب، وهو:

حديث قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خباب بن الأرت  نعوده وقد اكتوى سبع كيات، فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا، ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب ولولا أن النبي ﷺ نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطا له، فقال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب. متفق عليه، وهذا لفظ رواية البخاري.
ترجمة قيس بن أبي حازم

قيس بن أبي حازم من المخضرمين، أدرك الجاهلية، وأدرك الإسلام، ولكنه لم يلقَ النبي ﷺ فلم يحصل له شرف الصحبة، إذ مات النبي ﷺ وهو في الطريق إليه، وأبوه من أصحاب النبي ﷺ، وهذا الوحيد من التابعين الذي روى عن العشرة المبشرين بالجنة، وعُمر كثيراً، مات بعد الثمانين، عام أربع وثمانين للهجرة، وقيل غير ذلك.

يقول: "دخلنا على خباب بن الأرت نعوده، وقد اكتوى سبع كيات".

العيادة عادة تقال في زيارة المريض، وهي من العود، بمعنى أن ذلك يكرر.

يقول: نعوده، قد اكتوى سبع كيات، وجاء في بعض الروايات أنه اكتوى في بطنه سبع كيات، فقال: "إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا".

وموضوع الكي سبق الكلام عليه في الحديث عن التوكل في الأعمال القلبية، وأن الأرجح من أقوال أهل العلم أنه مكروه، فيه تعذيب بالنار، وكرهه النبي ﷺ لأمته إلا أنه لا يحرم، والنبي ﷺ لما ذكر الأمور التي يحصل بها الشفاء ذكر الكي.

يقول: "قد اكتوى سبع كيات، فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا"، يقصد من أصحاب النبي ﷺ ممن مات، ولم يعمر، ولم يحصل له شيء من زهرة الدنيا ومتاعها.

قال: "ولم تَنقصهم الدنيا"، بمعنى أن الواحد منهم مات قبل أن يحصل له شيء من المال والغنى الذي حصل للمتأخرين في الوفاة من أصحاب النبي ﷺ. 

قال: "ولم تَنقصهم الدنيا"، وهل هذا يعني أن من حصّل شيئاً من الدنيا أن ذلك يكون نقصاً في مرتبته؟

العلماء -رحمهم الله- تكلموا على هذا، عمر كان له مذهب في هذه المسألة سبقت الإشارة إليه في بعض المناسبات، فكان يحتج بقوله -تبارك وتعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [لأحقاف: 20].

فكان يرى أن ما يحصل للإنسان من التوسع في ملاذها أن ذلك يكون نقصاً من حظه في الآخرة، من نعيم الآخرة، وهذا مذهب مشى عليه جماعة من السلف فمن بعدهم.

والقول الآخر: وهو أن الإنسان إذا اتقى الله فيها وأدى حق الله -تبارك وتعالى- منها أن ذلك لا يكون نقصاً في حقه، ولعل هذا هو الأقرب.

ولكن قد يُشكل على هذا بعض الأحاديث، مثل ذِكْر النبي ﷺ الذين حصل لهم الغنيمة -الغزاة- أنهم يكونون قد تعجلوا نصف أو شطر أجرهم، فهذا قد يفهم منه أنه قد يَنقص ذلك.

لكن يمكن أن يقال: هذا خاص فيمن حصّل الغنائم من المجاهدين، ولا يكون لكل من حصّل شيئاً من لذات الدنيا.

قال: "ولم تَنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب"، يحتمل أن يكون أنهم لا يجدون موضعًا لكثرته، لا يستطيعون إبقاءه في جيوبهم -مثلاً- فهو ليس بمصروف قصير قليل يسير، وإنما هو شيء كثير فيحتاج إلى دفنه، ليس عندهم بنوك مثل الآن، يحتاج إلى دفنه في الأرض، وإذا كان هذا هو المراد فإنه يدل على أن دفن المال لا يصيِّره كنزاً يكوى به جنبه وظهره، كما قال الله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [لتوبة: 34-35].

إنما إذا أديت زكاته فليس بكنز، ولو كان تحت الأرض.

قال: "وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب".

الاحتمال الآخر: أن يكون "لا نجد له موضعاً إلا التراب" يعني: في البناء، يَبني منه المباني، فيؤجِّر، أو يبيع أو يسكن، ويتوسع ونحو ذلك، وهذا لعله الأقرب -والله تعالى أعلم- وسيأتي قرينة تدل على ذلك.

قال: "ولولا أن النبي ﷺ نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به".

يحتمل أن يكون فهم من النهي لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضر أصابه[1] العموم، سواء كان ذلك لخوف الفتنة في الدين، أو كان ذلك بسبب ضر نزل به في البدن، أو المال، أو الولد، أو نحو ذلك، يعني في الدنيا، يحتمل هذا، وكان مريضاً وقد اكتوى، لكن لا يُظن به أنه بلغت به الحال، وهم أهل الصبر على البلاء.

ولهذا جاء في بعض روايات الحديث أنه ذَكر أنه لا يعلم أحداً من أصحاب النبي ﷺ أصابه من البلاء ما أصابه، فكانوا في غاية الصبر.

وفي بعض روايات هذا الحديث ذكر فيه مجيئه مع بعض الصحابة إلى النبي ﷺ والشكوى التي شكوْها حينما كان النبي ﷺ متوسداً بُرداً في ظل الكعبة، فقالوا: ألا تستنصر لنا؟[2]، إلى آخره. فذكر لهم الحديث المعروف.

قال: "ولولا أن النبي ﷺ نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى، وهو يبني حائطاً له".

الحائط بمعنى الجدار، ويقال ذلك أيضاً للبستان؛ لأنه عادة يتخذ عليه الجدار ونحو هذا.

فقال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب[3]، متفق عليه.

فهذا قد يفسر ما سبق وهو قوله: "وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب" فهو يقول: "إن المسلم ليؤجر في كل شيء".

هل هذا من قول النبي ﷺ؟ الجواب: لا.

هذا من قول خباب ، قد يكون فهم ذلك من رسول الله ﷺ، وقد يكون ذلك قاله بفهمه واجتهاده.

"إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب"، وهل هذا على عمومه أيضاً أن الإنسان لا يؤجر في البناء مطلقاً؟

الحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: "إنّ ذلك إنْ كان على سبيل التوسع، أمّا ما كان على قدر الحاجة، فإن الإنسان يؤجر عليه باعتبار أنه يتخذ له مسكناً يستغني به عن الناس، يستغني به أهله، وولده، ونحو ذلك فيكيفهم الحاجة، فلا إشكال في هذا، لكن الكلام في التوسع في البناء أكثر من الحاجة.

قال: وهذا لفظ رواية البخاري، وجاء في روايات أخرى في غير الصحيح لهذا الحديث وفيها فوائد، في بعض الروايات أنهم لما جاءوا له بكفنه، ونظر إليه بكى، هذه في المسند وبإسناد صحيح.

فدل هذا على أنه يمكن للإنسان أن يتخذ كفناً، من أهل العلم من يقول: إن هذا لم يكن من عمل السلف، ولا يشرع.

وحديث خباب هذا يدل على أن الإنسان له أن يتخذ كفناً، وأن هذا ليس من البدع.

فالشاهد نظر إليه فبكى فذكر حمزة[4].

وفي بعض الروايات أنه ذكر مصعب بن عمير من غير ذكر الكفن، لما استشهد في أحد لم يجدوا شيئاً يكفنوه به إلا ببُرد قصير إذا غطوا رأسه ظهرت رجلاه، وإذا غطوا رجليه ظهر رأسه[5].

ثم ذكر أيضاً في بعض رواياته فيمن كان على شاكلته من أصحاب النبي ﷺ ممن تأخرت وفاته، فأدركوا كثيراً من عرض الدنيا.

قال: "وما منا واحد إلا وقد.." يعني: ذكر ما حصل له من الدنيا "فهو يَهدبها" يعني: يجتنيها.

وهذا آخر حديث في هذا الباب، والشاهد فيه تمني الموت، فهو يعتذر بنهي النبي ﷺ، فهذا قد يفهم منه أن خباباً يرى أنه لا يشرع للإنسان أن يتمنى الموت مطلقاً، ولو كان ذلك خوف الفتنة في الدنيا.

وقد سبق الكلام على هذه المسألة، وأن الأقرب أنه يجوز أن يتمناه إذا خاف الفتنة، وذكرتُ بعض الدلائل والشواهد على هذا من حال السلف الصالح كعمر بن الخطاب وجماعة حيث تمنوا الموت خوف الفتنة، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت (7/ 121)، رقم: (5671)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به (4/ 2064)، رقم: (2680).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (4/ 201) رقم: (3612).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت (7/ 121)، رقم: (5672)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به (4/ 2064)، رقم: (2681).
  4. أخرجه أحمد (34/ 550)، رقم: (21072).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا لم يجد كفنا إلا ما يواري رأسه، أو قدميه غطى رأسه (2/ 77)، رقم: (1276).

مواد ذات صلة