الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(59) دعاء لبس الثوب " الحمد لله الذي كساني ... "
تاريخ النشر: ٣٠ / محرّم / ١٤٣٥
التحميل: 2783
مرات الإستماع: 3370

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: في هذه الليلة نتكلم على حديثٍ من الأحاديث الواردة في هذا الكتاب مما يُقال من الأذكار حينما يلبس المسلمُ ثوبًا، فإنَّ هذه الشَّريعة -أيها الأحبّة- شريعة تحكم حياة الإنسان من أوَّلها إلى آخرها، فلكل حالٍ حكم، والمكلَّف ليس يخلو من حكمٍ لله -تبارك وتعالى- في أحواله كلِّها، في كل الملابسات.

هذه الشَّريعة ليست تحكم أتباعها في داخل المسجد حينما يُصلون، أو في العبادات المحضة: من صيامٍ، وحجٍّ، وما إلى ذلك، وإنما تحكمهم في بيعهم وشرائهم، بل تحكمهم في مشيتهم: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63]، وذكر هذا أول ما ذكر من أوصاف عباد الرحمن: المشية، وهي تحكمهم أيضًا فيما يتعلَّق بأكلهم وشُربهم، في أنواع المآكل والمشارب مما يحلّ ويحرم، وفي كيفية تعاطيها ما يشرع ويسنّ فيما يتَّصل بطريقة الأكل والشُّرب، وهكذا في نومهم ويقظتهم.

إضافةً إلى أنها حاكمة على المكلَّفين فيما يتَّصل بالعلاقات مع الآخرين من جهة الأفراد: علاقة المسلم بوالديه، بأولاده، بقرباته، بجيرانه، بإخوانه المسلمين. أو كان ذلك بالنَّظر إلى المجموع: علاقة الأُمَّة بغيرها، تحكم في حال الحرب والسِّلْم.

فالشَّريعة مُهيمنة على جميع أفعال المكلَّفين: صغيرها، وكبيرها، لا يخرج من ذلك شيءٌ، ولا يمكن لأحدٍ أن يخرج عن مُقتضى ذلك في قليلٍ، أو في كثيرٍ، ومَن ظنَّ أنه حرٌّ يفعل ما يشاء، فإنَّه لم يعرف ربَّه المعرفة الصَّحيحة، ولم يعرف دينه وشرعه معرفةً صحيحةً، كما أنَّه لم يعرف نفسه، ومَن جهل هذه الأمور الثلاثة فقد جهل، بل استحكمت جهالتُه.

إذا لبس ثوبًا هناك أشياء يقولها، هناك تعبّد، هناك أمور يُذكِّر بها نفسَه، حينما يلبس هذا الثَّوب إنَّه إنعامٌ جديدٌ أفاضه الله -تبارك وتعالى- عليه، فله فيه عبودية، يقول النبيُّ ﷺ: مَن أكل طعامًا ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطَّعام ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوّةٍ؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومَن لبس ثوبًا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوَّةٍ؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه[1]، هذا الجزء هو الذي يعنينا في هذا المجلس، وأمَّا ما يتَّصل بالطَّعام فله مجلسٌ يختصُّ به.

فهذا الذي يلبس ثوبًا: مَن لبس ثوبًا أي ثوبٍ، فالثوب يُقال لكل ملبوسٍ، سواء كان هذا قميصًا، أو كان إزارًا، أو كان رداءً، أو غير ذلك من أنواع الملابس التي يلبسها الرجال أو النِّساء، يدخل في هذا ما يلبسه الناسُ من المعاطف، أو ما يلبسه الإنسانُ من جُبَّةٍ، أو عباءةٍ، أو غير ذلك.

فهنا يقول مُتذكِّرًا نعمةَ الله -عزَّ وجلَّ- عليه، مُقِرًّا بها، مُذْعِنًا بها قلبُه، ولسانه، وجوارحه: "الحمد لله"، فهو يُضيف الحمد إلى الله -تبارك وتعالى- لأنَّه المنعم المتفضّل: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].

هذا الذي أعطاك وحباك وأولاك ينبغي أن تكون حامدًا له عند هذه النِّعَم المتجددة.

إذا لبس ثوبًا: هنا لم يُقيده بالجديد، ولم يُقيد ذلك بكونه يقوله لأول وهلةٍ، لأول مرةٍ لبسه فيها، والقاعدة عند الأصوليين: أنَّ مَن كان من هذا القبيل -يعني: المعلَّق على شرطٍ- فإنَّه يتكرر بتكرره، إذا لبس ثوبًا.

مَن سمع المؤذن، مَن سمع النِّداء فقال مثلما قال، أو نحو ذلك، هذه التي تُعلَّق على شرطٍ: إذا دخل أحدُكم كذا مما يُطالب به المكلَّف من قولٍ يقوله، أو فعلٍ يفعله؛ فإنَّ ذلك يقتضي التَّكرر بتكرر هذا الذي علّق به، كلما حصل هذا افعل هذا، كلما حصل هذا قُلْ كذا.

فهنا يقول: مَن لبس ثوبًا فقال: الحمد لله، كل مَن لبس ثوبًا، لبست رداءً، لبست قميصًا، لبست إزارًا، لبست عباءةً، المرأة حينما تلبس لباسها الذي يختصّ بها فإنها تقول ذلك.

والأقرب -والله تعالى أعلم- أنَّ هذا محمولٌ على ما ذكرت؛ يعني: لا يختصّ بالجديد، لا يختصّ بكونه قد لبسه أول مرة، كلما لبس، كلما أردت أن تلبس قل هذا الكلام، تذكر نعمةَ الله عليك، وأضف ذلك إليه، واحمده على ذلك، هذا الذي يدل عليه ظاهرُ الحديث، وهو مُقتضى القاعدة الأصولية التي ذكرت.

وهنا حينما يقول المكلَّف: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه، هو الذي ألبسني هذا، وهو الذي رزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوّة؛ حول الإنسان ما يُحاوله، تحوّل من حالٍ إلى حالٍ، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، لا تقلّب، لا تحوّل من حالٍ إلى حالٍ إلا بإرادة الله، وقوته، وإعانته، وتوفيقه، وتيسيره، لا يقع في الكون تحريكة ولا تسكينة إلا بإرادته، ومشيئته، وتقديره.

فهنا حينما يقول الإنسانُ ذلك، وقد خرج عن حوله، وطوله، وقوّته، يقول: ما مني شيء. يخرج من أن يُضيف ذلك إلى نفسه بوجهٍ من الوجوه، ليس هذا بقدرةٍ مني على المكاسب، كذاك الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78]، وليس ذلك لقوةٍ في البدن أُحصّل بها ما يعجز عنه الآخرون، وليس ذلك بخبرةٍ، ولا باحترافٍ، ولا بصنعةٍ، ولا بعلمٍ توصَّلتُ به إلى هذا المطلوب، وإنما يقول: من غير حولٍ مني ولا قوّة، ما مني شيء، هذا فضلٌ من الله -تبارك وتعالى-.

قد يقول القائلُ: هو تعب في العمل، والاكتساب، والذَّهاب، والمجيء، حتى حصَّل هذا المال، نقول: نعم، هو ذهب وجاء، لكن كم من ذاهبٍ وراجعٍ وهو صفر اليدين، وكم من كاسبٍ قد ذهب كسبُه قبل أن ينتفع به، وكم من عاجزٍ عن الكسب أصلاً، ولا يجد طريقًا للتَّكسُّب، فهو في حالٍ من البُؤس، فليست تلك المزاولات والأعمال التي نقوم بها هي التي حصلت هذه الأموال التي قد وجدت فيها هذه المقتنيات من اللباس، والطَّعام، وغير ذلك، إنما ذلك من رزق الله -تبارك وتعالى-.

الله هو الذي علَّمك هذا العلم، وهذه الصِّناعة، هو الذي وفَّقك، هو الذي عافاك، هو الذي هيَّأ لك هذه الأسباب، هو الذي أنهض عزيمتك وهمَّتك، وهو الذي قدَّر لك هذا الكسب، وعلَّمك ما لم تكن تعلم، هذا الإنسان الذي مثل البهيمة لا عقلَ له يمشي في الطُّرق.

رأيتُ مرةً في الصباح الباكر في إحدى العواصم رجلاً يمشي على قدميه، والناس يذهبون إلى مدارسهم وأعمالهم في زحامٍ شديدٍ، وهذا يمشي بطريقةٍ عجيبةٍ، يمشي بين السَّيارات، فسألتُ، فقالوا: هذا أكبر مهندسٍ في البلد، وأشهر مهندسٍ، أُصيب في عقله، فصار بهذه المثابة.

زرتُ أحد كبار السن من الوُجهاء في إحدى النَّواحي، فسمعتُ صوتًا من خارجٍ، صُرَاخ، إنسان يمشي ويصرخ بصوتٍ وكلامٍ غير مفهومٍ، سألتُ: ما هذا؟ قال: هذا من أكبر تجار البلد، كان يثق به التُّجار، ويتعامل معهم بالآجال، ويبيع للناس بالآجال، فذهبتْ أموالُه، وصار التُّجار يُطالبونه بالدُّيون، فعجز عن هذا، وذهبت ثروتُه؛ فأُصيب الرجلُ في عقله، وصار يهيم ويخرج في الطُّرقات ويصيح، يصرخ بأعلى صوته، ويتكلم بهذيانٍ لا يُفهم.

هذا الكسب يا إخوان، هذا اللباس الذي نلبسه، هذه الأموال التي نحصّلها من أين؟

انظر، أحيانًا حينما أذهب إلى مدرسةٍ ابتدائيةٍ، وأنظر إلى التلاميذ وهم صغار خرجوا على الحياة، في الصفِّ الأول الابتدائي، أو نحو ذلك، فأتأمّل، أقول: هؤلاء لا مكاسبَ لهم، ليس عندهم شيءٌ غير هذه الرِّيالات التي أعطاهم أبوهم من أجل أن يشتروا لهم شيئًا، لكن هؤلاء حينما نقلب هذه الصَّفحة، ويتخرَّجون، ويخرجون إلى العمل، ويُعافسون الحياة، تكون لهم مكاسب، تكون عندهم حسابات مُعينة، تكون عندهم أموال، أين كانت؟ من أين جاءت؟

الجيل الذين هم الآن جيل آباء، وما عندهم من الأموال قلَّت أو كثرت، حينما كانوا في تلك المرحلة كان عندهم شيء؟ لم يكن عندهم شيء، من أين جاءت؟ الله هو الرَّزاق؛ ولهذا قال: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ فقر، نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31]، رزقهم يأتي معهم، ليس الأبُ هو الذي يرزق الأولاد؛ ولذلك لا يخاف الإنسانُ على رزقه: فلانٌ يقطع رزقي، فلانٌ لا يملك رزقَه حتى يقطع رزقَك، فالله هو الرَّزاق.

كلَّما لبست هذا الثَّوب تذكر هذا المعنى، تجدد عندك هذا الفهم السَّليم، الصَّحيح، فيبقى الإنسانُ في حالٍ من الارتباط مع الله في حمده، وشكره، وتوكله، وثقته بربِّه -تبارك وتعالى-، فهو الذي علَّمنا، وهو الذي وفَّقنا، وهو الذي هيَّأ لنا.

زرتُ مرةً بعض الشَّواطئ في نواحي فقيرة فقر مُدقع، كان القائمون على جمعية خيرية يقولون: أصعب أيام السَّنة: شعبان، ورمضان. قلتُ لهم: لماذا؟ قالوا: تأتي الزَّكوات، ولا تسأل عن المشكلات، والإلحاح، والضُّغوط التي نُعانيها: هذا أعطيته مئةً وخمسين، وأنا أعطيتني مئة! أنا أحوج!

المهم، هؤلاء سألتُ بعضَهم عن مكاسبهم ونحو ذلك، يصيدون أسماكًا، فيذهبون إلى مدينةٍ، يُسافرون إليها، يقولون: أحيانًا نصيد، وأحيانًا ما نصيد، وأحيانًا نصيد ونذهب ونبيع جميعَ ما صِدْنا، وأحيانًا نذهب ولا نبيع شيئًا، الله هو الرَّزاق، هذه الأسماك التي يصيدها مَن الذي يُهيِّئ لهذا؟ وإذا صادها هل هذا هو نهاية المطاف؟

يصيد، ثم يذهب، ولا يرجع بشيءٍ، يصيد ويذهب ويرجع بها، فالرَّزاق هو الله.

أحد هؤلاء الباعة من الذين يبيعون في الطُّرق ويتجولون، قيل له: ليكن لك مكسبٌ. كان في حسرةٍ، فقال: اشتريتُ هذه البضاعة: خضار، والسَّيارة اشتراها رجلٌ ليكون شريكًا له على النِّصف من الأرباح، ويقف من الصباح الباكر، يذهب الفجر إلى سوق الخضار، ويجلس إلى وقتٍ مُتأخِّرٍ من الليل، لا يجلس مع أولاده، يقول: بعض الأيام لا أبيع شيئًا. قلتُ: كم مجموع ما تُحصِّل في الشَّهر؟ قال: أحيانًا الصَّافي لي ألف، وأحيانًا أقلّ.

ألفٌ ماذا تصنع له؟ والرجل صادقٌ؛ يعني: الرجل كان يُناقش قضية الولد الذي سيخرج من الجامعة من أجل أن يبحث عن عملٍ، الولد ينبغي أن يُكمل الدِّراسة، ما عندنا شيء، نُريد من الولد أن يعمل، فهذا حال الأب، وهذا الحلّ الذي عُرِضَ عليه من قبل، عرضه أناسٌ من أجل أن يعمل، وأن يكتسب، فصار يعمل ويجلس من الصبح إلى الليل، إلى وقتٍ مُتأخِّرٍ، لا يجلس مع أولاده، لكن كم يبيع؟ أحيانًا ما يبيع شيئًا.

فهذه الملابس -يا إخوة-، وهذه المآكل، وهذه النِّعَم التي نتقلَّب فيها صباح مساء، لن يتركنا اللهُ في عريٍ، مَن منا الذي يبيت وهو جائعٌ، ما عنده شيءٌ يأكله؟ لكن الإنسان كلَّما نظر إلى مَن هو فوقه يشعر بالحسرة، وأنَّه محرومٌ، بينما هو في نِعَمٍ عظيمةٍ يتقلَّب فيها صباح مساء، لكن مَن الذي يشكر؟

فالله -تبارك وتعالى- هو الرَّزاق ذو القوة المتين: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوَّةٍ؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، لاحظ: الله يرزقنا، ويُعلِّمنا ماذا نقول، ويُوفِّقنا لشُكره، ثم غفر له ما تقدَّم من ذنبه، على ماذا؟ كلمة بسيطة.

هذا يدل على منزلة الحمد والشُّكر والارتباط بالله ، إضافة النِّعَم إلى المنعم المسدي لهذه النِّعَم: غفر له ما تقدَّم من ذنبه.

يُنعم عليك، ويُوفِّقك للشُّكر، ثم يجعل ذلك سببًا لمغفرة الذُّنوب، وهذا محمولٌ على الصَّغائر دون الكبائر.

وفي رواية عند أبي داود: غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر[2]، ولكن "وما تأخَّر" ضعيفة، لا تصحّ، والصَّحيح: غفر له ما تقدَّم من ذنبه.

أكتفي بهذا هذه الليلة، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابنُ ماجه في "سننه": كتاب الأطعمة، باب ما يُقال إذا فرغ من الطَّعام، برقم (3285)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (6082).
  2. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب اللباس، برقم (4023)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (6082).

مواد ذات صلة