الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
الحديث على آيات الباب
تاريخ النشر: ١٠ / محرّم / ١٤٣١
التحميل: 1394
مرات الإستماع: 1811

مقدمة باب استحباب طيب الكلام

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "المحافظة على ما اعتاده من الخير" لم يذكر في الكتاب الآخر الذي نقرأ منه آثار السلف شيئاً يتصل بهذا الباب.

قال النووي -رحمه الله: باب "استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء".

طيب الكلام أي: إلانته، أن يتكلم بالكلام الحسن الطيب الذي يأسر القلوب ويجذبها، ويبعث الود في النفوس والمحبة بين أهل الإيمان، فإن لم يكن فالكلام الذي لا يجرح، يقول قولاً معروفاً، بالنسبة للمرأة هي مأمورة بهذا مع الرجال الأجانب، لا تتزيد ولا تتوسع في الكلام، ولا تقول شيئاً من شأنه أن يفتن، ولكن تقول قولاً معروفاً، ليس فيه جفاء، وليس فيه ترقيق وخضوع، أما بالنسبة للرجل فإنه ما استطاع يحاول أن يتكلم بالكلام اللين المحبب إلى النفوس، وهذا من حسن الخلق، والله يقول في العهد والميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] وهذا يشمل اختيار العبارات التي يعبر بها، كما يشمل أيضاً طريقة الأداء.    

المقصود أن مثل هذا الحُسن الذي  أمر الله به أن يتخير الكلام الحسن -عبارات مناسبة، كذلك يؤدي ذلك بطريقة ملائمة، هذا في التعامل بين أهل الإيمان، ولكل مقام مقال، فقد يغلظ الإنسان في باب إنكار المنكر مثلاً، والنبي ﷺ كان يغضب إذا انتهكت حرمات الله ، وتارة يُطلب أيضاً اللطف في ذلك، وأما طلاقة الوجه عند اللقاء فالمراد بذلك البشر، تهلل الوجه، التبسم، فهذان أمران كلاهما من حسن الخلق أما الأول وهو ما يتصل بحسن الكلام فلا عذر لأحد فيه؛ لأنه يستطيع أن يستبدل كلمة مكان كلمة، ولا يضره ذلك شيئاً، لكنها النفس التي لا يستطيع الإنسان أحياناً أن يتغلب عليها، أما طلاقة الوجه والبشر فهذا نوعان:

نوع يتكلف فيه الإنسانُ العُبوسَ، إما لتيه وكبر، فهذا في غاية الذم -نسأل الله العافية، وإما لكراهية أو نحو ذلك.    

فإن كان لعذر فالإنسان وجهه يعبر عما في نفسه إن كان العذر صحيحاً أو لا، والله يقول عن نبيه ﷺ: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1] فالعُبوس وقع من رسول الله ﷺ.

ونوع منه -أي عدم طلاقة الوجه- يكون شبه خلقة في الإنسان، بمعنى أن وجه الإنسان يبدو عليه أحياناً مسحة من الحزن مثلاً، والناس يتفاوتون في هذا، يعني هذه أمور أحياناً تكون وراثية، أحياناً ترجع إلى النشأة منذ الصغر، أحياناً ترجع لحال يعيشها الإنسان مثلاً من هم يحمله أو نحو ذلك، لكن يحاول أن يغير ما استطاع، من الناس من يكون قد جُبل وخُلق على طلاقة الوجه، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، لا تراه إلا متبسماً، لا يعرف التقطيب، ولا هو هكذا، إذا رأيتَه وجدتَه دائماً مبتسماً في كل الحالات، فهذه نعمة من الله وموهبة، ولو سألت هذا الإنسان هل تتصنع هذا؟ هل ربيت نفسك على هذا؟ هل حاولته؟ هل جاهدت من أجله؟ يقول لك: لا، إنما هكذا جاءت، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، لكن الإنسان يحاول أن يتبسم في وجه إخوانه، أن يتلطف بهم، أن يتكلم بالكلام الحسن، أن يتواضع لهم قدر استطاعته، لكن لا يملك أحياناً تقاسيم الوجه إن كانت غير معبرة عن اشمئزاز وكراهية لهم، لا يملكها، تقاسيم الوجه الطبيعية لا يملكها، يعني بعض الناس وجهه أصلاً عليه مسحة حزن مثلاً هكذا خلقة فهو لا يملك هذا، لا نقول له: غير تقاسيم الوجه، لكن نقول: ابتسم إذا لقيته، تلطف معه بالمقال والكلام، ألن الكلام له، لا تقابله وتكشر في وجهه، هذا هو المذموم، ولو نظرت إلى الأطفال الصغار ونظرت إلى وجوههم لوجدت أنها تتفاوت، وتجد الأولاد التوأم وجه هذا أحياناً -سبحان الله- مبتسم، وفيه البشر والطلاقة، والآخر فيه لون كآبة، فهذه أمور الله يعطيها العبد، ما لم يكن ذلك بفعله، فهذا الذي بفعله يُنظر في الموِجب له هل هو الكبر؟ هل هو الاشمئزاز من الناس؟ هل لكراهية أمر يُسوِّغ له أن يفعل هذا معه أو لا؟    

قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}

ثم أورد قول الله -تبارك وتعالى:وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88].

جناح الطير معروف، وجناح الإنسان جانبه، ويقال أيضاً لليد، الإنسان إذا أراد أن يبطش رفع يده، ويعبر بذلك يقال: خفض الجناح يعني التواضع، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [الإسراء:24] يعني: جناحك الذليل، هنا الله يقول للنبي ﷺ وطاعته واجبة على الجميع: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فكيف بغيره من الدعاة، وغير الدعاة إلى الله ؟، من باب أولى.

قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}

ولهذا في الآية الأخرى قال: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، يقوله لنبيه ﷺ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّاالفظاظة بمعنى القسوة والجفاء والغلظة في التعامل والكلام. 

غَلِيظَ الْقَلْبِ، يعني قاسي القلب، ليس فيه رحمة، لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ بشر لا يحتملون مثل هذه الأوصاف واللون من التعاملات بقسوة، وبقلب قاسٍ لا يشعر بمشاعرهم، ولا يحس بآلامهم، فإنهم يتفرقون من حوله ولا يألفون من كان بهذه المثابة، الناس بحاجة إلى المسحة الصادقة، المسحة الحانية، والمشاعر الصادقة والشعور بآلامهم والإحساس بما يحسون به، والصدق معهم في هذه المشاعر، فإذا عرفوا من الإنسان مثل هذا أحبوه من كل قلوبهم، تعلقت قلوبهم به، القلوب مفطورة على هذا أصلاً، لكن الذي يكون خلاف ذلك يعيش لنفسه وجَعْظَريّ جوّاظ غليظ فهذا لا يحبه أحد، لو سألت أقرب الناس إليه أولاده تحبونه؟، سيقولون: لا.

وكم سمعت من أولاد يقولون: لا، لا نحبه، لا نحبه، وكم سمعت من بنت تدعو على أبيها، ومن زوجة تدعو على زوجها دعاء مرًّا، تتألم، وأنت تسمع أحياناً ما يقال، لماذا؟ بسبب الغلظة والجفاء، وللأسف أن البعض يفتخر بهذا، ويرى أنه من الرجولة، وأنه من كمال الشخصية، وأن إلانة الجانب للمرأة مثلاً أو للأطفال يكون سبيلاً لتسلطهم، واستضعافهم له، وتمكنهم منه، فتذهب قوامته، وهيبته، هكذا يتصور بعض الناس، وهذا غلط، فيفتخر بعضهم في بعض المجالس، يقول: أنا أفعل كذا، وأفعل لها كذا، وأفعل لها كذا، وهل هذا شيء تفتخر به؟ هذا شيء طيب؟، انظروا إلى حال رسول الله ﷺ مع زوجاته.  

ولو عُرض ذلك على كثير من الناس اليوم أصحاب الأخلاق الصحراوية، ولم يُنسب ذلك لرسول الله ﷺ، قيل لهم: ما رأيكم برجل كذا وكذا، ويحصل كذا وكذا؟، لربما يرون أن هذا التعامل لا يصلح مع النساء، فإذا قيل لهم: هذا رسول الله ﷺ أكمل شخصيةً، وأعدل مزاجاً، وأعظم هيبة، وأشد محبة!.  

وقد قلت لأحد الأشخاص في علاج مشكلة: يا أخي إذا كان لك زوجتان وجاءك ضيف وجاءت إحداهما بصينية فيها قهوة وشاي وتمر، وأرسلت الأخرى ولدها مثلاً وأمسك هذه من ولد تلك ورماها في الأرض، وكسر هذه الأشياء أمام الضيف، والضيف يعرف هذا ولد فلانة وهذا ولد فلانة، وأرسلته أمه ببدلها، ماذا تفعل؟ سأقتلها وأقتل ولدها، أليس كذلك؟ سودتِ وجهي أمام الضيف، وفعلتِ وتركتِ، النبي ﷺ تبعث له إحدى زوجاته ﷺ بقصعة فيها طعام للضيف، والأخرى ترسل جاريتها فتأخذ القصعة وتكسرها، وينتثر الطعام أمام الضيف، وتبعث بقصعتها فيأخذ الطعام من هذه ويضعه في القصعة السليمة ويعطيه إياها[1]، وانتهت المشكلة، فلم يحصل شيء لا طلاق ثلاث، ولا عبارات جارحة ولا شيء، والإنسان يضع نفسه في مثل هذه المقامات كيف يتصرف لو كان هو؟.  

وقل مثل ذلك في كونه يصلي ويرتحله الحسن والحسين ويطيل في السجود حتى يرفع البعض رأسه ينظرون ما الذي حصل، ثم يخبرهم: إن ابني ارتحلني، وكرهت أن أعجله[2]، لو فعل الإمام هذا ماذا سيقول الناس؟

وأيضًا ينزل من المنبر، ويقطع الخطبة، ويأخذ الحسن أو الحسين ويضمه، ويصعد به على المنبر، ويقول: صدق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُم فِتْنةٌ [التغابن:15] لمّا رأيتُ ابني هذا لم أتمالك حتى نزلت، فلو الخطيب فعل هذا، وأخذ ولدًا من أطفاله وجاء به فماذا سيكون ردة فعلهم؟

ونحن نستطيع أن نعرف المسافة التي بيننا وبين أخلاق النبي ﷺ، وهي الأخلاق الكاملة- بمثل هذا وهو أن نجعل أنفسنا في نفس المقام وننظر، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الغيرة، برقم (5225).
  2. أخرجه النسائي، كتاب التطبيق، باب هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة، برقم (1141)، وأحمد في المسند، برقم (16033)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن صحابيه لم يخرج له سوى النسائي".

مواد ذات صلة