الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(101) دعاء الاستفتاح " ومحياي ومماتي لله رب العالمين "
تاريخ النشر: ٢٩ / ربيع الأوّل / ١٤٣٥
التحميل: 2862
مرات الإستماع: 2616

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: أيّها الأحبّة، ما زال الحديثُ متَّصلاً بقول الـمُصلي في دعاء الاستفتاح: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ، وأنا أول المسلمين، أو: وأنا من المسلمين[1].

مضى الكلامُ على صدر هذا الذِّكر، ثم بعد ذلك نواصل الحديث عمَّا بقي منه مما يتأتى في هذه الليلة، إن شاء الله تعالى.

فقوله: ومحياي ومماتي ذكر هذا بعد قوله: إنَّ صلاتي ونُسكي، فذكر هاتين العبادتين اللَّتين هما من أجلِّ العبادات، وأشرفها، وأنَّه مُخلصٌ لله ، هذا باعتبار أنَّ النُّسك هي الذَّبيحة، أو أنَّه ذكر سائر ما يُتقرَّب به إلى الله -تبارك وتعالى-، أنَّه في جميع أعماله مُخلصٌ لربِّه .

ثم: ومحياي ومماتي يعني: حياتي، وموتي، وهذا الموضع يحتمل معنيين: محياي ومماتي، المعنى الأول: أنَّه لا يملك حياتي وموتي إلا الله -تبارك وتعالى-، لا يملك الموتَ والحياة إلا هو: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك:2]، فهذا خلقٌ لله يملكه، ويتصرَّف فيه، فلا يستطيع أحدٌ أن يُميت، أو أن يُحيي.

وإبراهيم ﷺ لما ناظر النَّمرود قال له أوَّل ما قال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258]، فلمَّا كابر هذا وقال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، وهو يقصد بذلك أنَّ مَن استحقَّ القتلَ أنَّه عفا عنه مثلاً، تركه، أطلقه، فاعتبر هذا من قبيل الإحياء والإماتة، وهذا ليس هو المعنى المقصود في قول إبراهيم ﷺ، وإنما الله -تبارك وتعالى- هو الذي يملك ذلك، فإذا أراد اللهُ إحياءَ نفسٍ، فمهما عمل العاملون، واجتمع الأولون والآخرون على أن يمنعوا عنه هذه الحياة؛ فإنَّهم لا يستطيعون، وكذلك الموت؛ فإنَّ الذي يحكم به ويُنزله على مَن شاء من العباد مهما كان مُتحصنًا، مهما كان عنده من الأدوات، والقدر، والإمكانات، والأطباء، والفرق الطبية، والأموال؛ فإنَّهم لا يغنون عنه شيئًا، الكلّ يموت إذا أراد الله ، إذا جاء أجلُه، فالطَّبيب يموت، وصاحب المستشفى يموت، ويموت الكبير، والصَّغير، والفقير، والغني، والمريض، والصَّحيح.

ومن هنا إذا كان هذا المعنى هو المراد؛ فإنَّ العبدَ يتذكر هذا جيدًا، ثم بعد ذلك يتمسَّك بما أُمِرَ به، ويسلك الصراط المستقيم، ويعلم أنَّ الذي يملك الحياةَ والموتَ هو الله ، فهذا يبعث أهل الإيمان على الثَّبات، على أن يكون الخوفُ من الله -تبارك وتعالى-، وإنما يخاف الناس على اثنتين: الرزق، والأجل، فهذه جاء الضَّمان فيها: لن تموتَ نفسٌ حتى تستوفي رزقَها وأجلَها، فاتَّقوا الله وأجملوا في الطَّلب[2].

إذًا المرض لا يُقرِّب الأجل؛ فلا داعي للقلق، عدوك لا يملك أجلك، أولئك الذين لا يُريدون بك خيرًا لا يملكون أجلك، فإنَّ الذي يملك الموتَ والحياةَ هو الله؛ ولذلك نُشاهد أنَّ من المرضى مَن يُعمّر، ويموت كثيرٌ من الأصحاء، ليس بهم علّة، ولا بأس، لا عنده أمراض خطيرة، ولا أمراض طفيفة، يموت وهو في فراشه، يموت وهو في سيارته، يموت وهو عند باب بيته، يموت وهو بين أولاده، ويعيش هذا المريضُ مُدَدًا طويلةً، فلا داعي للقلق حينما ينزل المرض، الأجل إنما يملكه الله .

كذلك انظروا إلى أولئك الذين يركبون الأخطار، كما قال الشَّاعر:

لو أنَّ عبدًا مُدرك الفلاح لناله مُلاعِب الرِّماحِ[3]

"الفلاح" يعني: البقاء بهذا البيت، "لناله مُلاعِب الرماح" الذي يتعرَّض للأخطار في القتال.

وكذلك أيضًا ما ذكره الله عن خبر أولئك الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت، فقال لهم الله: مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]، فالفرار من الموت: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ [الأحزاب:16]، إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة:8]، ما قال: يلحقكم، وجهًا لوجهٍ، تفرّ منه، وتجده أمامك.

ذُكِرَ أنَّ أعرابيًّا ذهب إلى قريةٍ من القرى فوجد جنازةً، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا ميت. قال: وما السَّبيل إلى الخلاص؟ قالوا: يقولون: إنَّ الوباءَ ينزل القرى، فعليك بالبوادي. يعني: أصحّ، فذهب إلى البادية فرأى قبرين؛ قال:

وحدّثتُماني إنما الموتُ بالقرى فكيف وهذي هضبة وكثيب[4]

يعني: يقول: أنا لستُ بقريةٍ الآن، هذه هضبة، وهذا كثيب، أنا في الصَّحراء، وهذه القبور ما شأنها؟!

فالموت لا يستطيع الإنسانُ أن يتخلَّص منه، أو أن يُخلّصه أحدٌ منه، إذًا يبقى ارتباط القلب بالله .

المعنى الثاني: محياي ومماتي أنَّ حياتي لله، وفي الله، وفي طاعته، وعبادته، والتَّقرب إليه، ومماتي الرجوع إلى جزائه، يعني: أنَّ أحوالي جميعًا من أوَّلها إلى آخرها، وما تُفضي إليه إنما هو مُرتبطٌ بالله -تبارك وتعالى-، لا كما تُشركون أنتم، وتعبدون غير الله، أو تعيشون لحظوظ أنفسكم، وشهواتكم، أو تعبدون أهواءكم، وما إلى ذلك.

يعني: ما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصَّالح، كلّ ذلك لله -تبارك وتعالى-، لا أُشرك معه سواه: وبذلك أُمرتُ، هذا الإخلاص العظيم أمرني الله -تبارك وتعالى- به.

فمحيا الإنسان: هو حياته كلّها، من أوَّلها إلى آخرها، كلّها لله، تكون معمورةً بطاعته وتقواه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّاريات:56]، فهذا هو الغرض، هذا هو العلّة التي من أجلها وُجِدَ الخلق.

وهكذا ممات الإنسان يكون ذلك لله، باعتبار أنَّه يُفضي بالعبد إلى جزائه، أو باعتبار أنَّه يموت على التوحيد والإخلاص، أو أنَّ ذلك يملكه الله -تبارك وتعالى.

وبعض أهل العلم يُفسّر ذلك بطاعات الحياة، والخيرات الـمُضافة إلى الممات، ما يحصل له من وصيةٍ، وما إلى ذلك مما يكون بعد موته، مما يتركه بعد موته، مثل: الـمُدبر مثلاً، التَّدبير أن يكون عنده مملوكٌ مثلاً، ويقول: هذا إذا متّ فهو حرٌّ، فهذا كله مما يحصل له بعد الموت.

أو يكون ذلك بمعنى: أنَّ إرادتي من الحياة والممات أيضًا كلّ ذلك فيما يُرضي الله -تبارك وتعالى-، ويُتقرّب به إليه، ويكون بهذا العبدُ يكون على حالٍ من التَّقوى، والاستقامة، والطَّاعة، والإخلاص، واستغلال الأوقات، والترفع عن حظوظ النَّفس، وعن الالتفات إلى المخلوقين، فيسلم من الرِّياء والسُّمعة، لا يكون في قلبه أدنى التفات إلى أحدٍ من المخلوقين، يقول: أنا لله، وفي الله، ما لي شيء، وما مني شيء، ما يدور حول نفسه: تارةً مُرائيًا، وتارةً مُسمعًا، وتارةً مُنازعًا، يقف عند نفسه، ويتوقَّاه الناس، ويُحسِنون إليه؛ لأنَّهم يعرفون منه أنَّه يُنازع على النفس، وأنَّه يطلب حظوظَها، فلا بدَّ أن يُحْسَب له ألفُ حسابٍ -نسأل الله العافية-، هذا لا يكون بهذه المثابة.

المؤمن جميع أحواله من المحيا والممات كلّ ذلك لله ، هو لا يريد إلا الله، انظروا وقارنوا هذا بين بعض الناس، حتى بعد الممات يريد حظوظَه النَّفسانية، وشهواته المتقضية، حتى بعد الموت، يعني: بعض الناس مثلاً يتمنى أنَّه يموت موتةً يشتهر بها -نسأل الله العافية-، يعني: يُرائي بالموت، فيُمكن أن يركب المراكبَ الصَّعبة من أجل أن يُذْكَر، فهذا موته ليس في سبيل الله، وبعضهم لربما يطلب الشَّهوات، يعني: مثل الذي يقول:

إذا متّ فادفنّي إلى أصل كرمةٍ  تُرَوِّي عظامي بعد موتي عروقُها
ولا تدفننّي في الفلاة فإنّني أخاف وراء الموت ألا أذوقها[5]

هذا يُحبّ الخمر جدًّا، ويشربها، ويخاف إذا مات أن يُحرَم منها، فيقول: ادفني تحت كرمةٍ، شجرة عنبٍ؛ لأنَّ الخمر يُعصَر من العنب في ذلك الوقت:

إذا متّ فادفنّي إلى أصل كرمةٍ تُروِّي عظامي بعد موتي عروقُها
ولا تدفننّي في الفلاة فإنّني  أخاف وراء الموت ألا أذوقها[6]

إلى هذا الحدِّ، هذا يبحث عن الخمر حتى بعد الموت، شيءٌ عجيبٌ! مُلاحقة للشَّهوات حتى بعد الممات.

على كل حالٍ، المؤمن تكون حالُه أُخرى، لكن تأمَّلوا حينما يقول، حينما يُعْلِن منذ البداية في صلاته من أوَّلها يقول: يا ربّ، صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وتكون صلاتُه يريد بها غير الله ، يُرائي بهذه الصَّلاة مثلاً، فهو يبتدئ هذه الصَّلاة بالكذب، ويقول: وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فهذا لا بدَّ أن يكون قيامُه وقعوده لله، وفي الله، يريد ما عند الله، لكن لو أنَّ أحدًا يقول مثل هذا الكلام وهو أبعد ما يكون عن تحقيق هذا المعنى، حياته كلّها لشهواته: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18].

فهذا الذي يقول: وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ وواقعه يُكَذِّب هذا تمامًا؛ هو محياه لشهواته، لحظوظ نفسِه، فهو يكون قد كذب بهذه الدَّعوة، وابتدأ صلاته بهذه الكذبة الكبرى: لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لله إذا كانت الحياة والممات أُضيفت إلى الله -تبارك وتعالى-، واعتبرنا أنَّ ذلك من قبيل إضافة المعنى؛ تكون هذه اللام للاختصاص: أنَّ ذلك يختص بالله، أو للاستحقاق، حينما تقول: الحمد لله، هذه للاستحقاق، حينما يكون المقصودُ بهذه الأعمال التي يعملها الإنسانُ في حياته وموته تكون اللَّامُ للاستحقاق، وحينما يكون المرادُ أنَّ الله يملك الحياة والموت؛ فهنا يمكن أن تكون اللامُ للملك على وجهٍ من التَّوسع.

فالربّ، الله، المألوه، المعبود، الذي تألهه القلوب، ربّ العالمين، وعرفنا أنَّ الربَّ كما في الأسماء الحسنى يأتي لمعانٍ: كالمالك، والسَّيد، والمدبر، والمربي، والمصلح شؤون خلقه، فهذا هو الربّ: لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فالله -تبارك وتعالى- إذا قلنا بأنَّ معنى "الرب" هو المالك، أو السَّيد، فهذا من صفات الذَّات، الربوبية، وإذا قلنا بأنَّ معناه: المدبّر مثلاً، المربي لخلقه، المصلح لأحوالهم، فهذا من صفات الأفعال، وقد مضى الكلامُ على هذا في الأسماء الحسنى: لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

والربّ إذا دخلت عليه اللامُ: "الرب"، أو قيل: "رب العالمين"، فهذا إنما يكون لله ، وأمَّا إذا أُضيف إلى غير ذلك: ربّ الدار، ربّ الإبل، فهذا لا شيءَ فيه أن يُقال في حقِّ المخلوقين.

والعالمون ما المقصود به؟ جمع عالم، عند أهل اللُّغة أنَّه مأخوذٌ من العلم، ومن ثم فإنَّه يقع على مَن يُوصَف بالعلم، فمَن الذي يُوصَف بالعلم؟ الملائكة، الإنس، الجنّ، هؤلاء، وفُسِّر بذلك، فسَّره طوائف من أهل العلم بهذا الاعتبار.

وبعض أهل العلم يُفسِّره بما هو أوسع من هذا؛ فيقولون: إنَّ ذلك يُطْلَق على ما سوى الله؛ ولهذا لما قال فرعونُ لموسى ﷺ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ۝ قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الشعراء:24]، وهذا من أحسن ما يُفسّر به: السَّماوات والأرض وما بينهما، فالعالم العلوي والعالم السُّفلي كلّه داخلٌ في هذا، وهذا يصدق على أنَّ ما سوى الله يُقال له: عالم؛ خلافًا لمن خصَّه بمعنًى: كالإنس، يعني: من بني آدم، أو بالدُّنيا وما فيها مثلاً، وبعضهم يقول: إنَّه مشتقٌّ من العلامة؛ لأنَّ كل مخلوقٍ هو علامة على الخالق، يدل على وجوده، وقُدرته، ووحدانيَّته، وما إلى ذلك.

لا شريكَ له في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وبذلك أي: التوحيد الكامل، والإخلاص قولاً واعتقادًا، أُمِرْتُ أمرني اللهُ -تبارك وتعالى-، وأنا من المسلمين يعني: من المستسلمين، المنقادين، المطيعين لربِّهم وخالقهم -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.

في روايةٍ أخرى ستأتي: وأنا أول المسلمين، هذا بأيِّ اعتبارٍ؟

إذا قاله النبيُّ ﷺ؛ لأنَّ ذلك منقولٌ عنه، فإنَّ النبيَّ ﷺ هو أول المسلمين من هذه الأُمَّة -عليه الصلاة والسلام-، فتكون الأوَّلية نسبية، وهذا يُفْهَم من السياق ومُقتضى الحال، ولا يصحّ بحالٍ من الأحوال، ولا تفهم العربُ إطلاقًا من هذا أنَّه أول المسلمين في العالم، وما قال بهذا أحدٌ، وما اعترضوا على النبي ﷺ بمثل هذا.

والعجيب: أنَّ بعض مَن يُلبِّسون على الشَّباب هذه الأيام يُوردون عليهم أشياء سهلة مثل هذه، وتُشْكِل على بعضهم، يُريدون الطَّعن في القرآن، يعني: القضية واضحة يفهمها العربي بمجرد الخطاب، بل يفهمها الأعجمي أيضًا، ولكن: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، لكن غير النبي ﷺ إذا قال: وأنا أول المسلمين على هذه الرِّواية، هل له أن يقول هذا؟

بعض أهل العلم يقولون: غير النبي ﷺ يقول: وأنا من المسلمين، الرِّواية التي بين أيدينا، ولا يقول: أنا أول؛ لأنَّه ليس بأوَّلهم، إلا إن قصد الآية، أنَّه يقرأ الآية؛ لأنَّ الآية فيها ذكر الأوَّلية، قالوا: فهذا يكون على سبيل الحكاية فحسب.

لكن هذا الكلام ليس محلَّ تسليمٍ، وإنما قد يُقال غير ذلك، يعني: فيمَن قال: وأنا أول المسلمين غير النبي ﷺ، فيكون بأي اعتبارٍ؟

باعتبار أنَّه يقصد بذلك، يعني: حينما يُقال: لا إشكالَ فيه، أنَّه يقصد بذلك: "أنا أول المسلمين"، يعني: ليس المقصودُ أول مَن وُجِدَ، أول مَن أسلم، أول مَن اتَّصف بذلك، وإنما معناه: أنا أول يعني: يقتضي أنَّ هذا يُفسَّر بالمبادرة والمسارعة في الامتثال: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81]، مع أنَّ النَّصارى قبله عبدوا المسيح، فيقصد أنا أول مَن يُبادر إلى هذا إذا ثبت ذلك، فهذا يُقال كما تقول لصاحبك مثلاً: إن كان الأمرُ كذا فأنا أول مَن يُؤيدك. قد يكون أيَّده آخرون، لكن تقصد سرعة المبادرة، فهذا تفهمه العربُ من سياق الكلام، ولا حاجةَ لشقِّ الشّعرة والشَّعيرة؛ فيصعب التركيب، ولا يُفهم الكلامُ على وجهه.

الشَّافعي -رحمه الله- يقول: باعتبار أنَّ النبي ﷺ هو الذي يقول ذلك؛ لأنَّه كان أول مُسلمي هذه الأُمَّة[7]. لكن الكلام في غير رسول الله ﷺ، موسى ﷺ قال: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163]، فهذا كلّه له محامل صحيحة، ولا إشكالَ فيه -إن شاء الله-.

وهنا حينما يُعبّر بمثل هذه الصِّيغ التي تكون للمُذكر: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، فالمرأة كذلك، يعني: المرأة داخلةٌ فيه، لكنَّه يُعبّر عادةً بالـمُذكر من باب الأشرف، الصِّيغ غالبًا تأتي بصيغ المذكرين لهذا الاعتبار، وإلا فالمرأة هي داخلةٌ في هذا، فهي تقول: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، ما تحتاج إلى أن تقول مثلاً للضَّرورة: وأنا -مثلاً- أول المسلمات، أو أولى المسلمات. لا حاجةَ لمثل هذا، لكن هو يمكن أن يكون على إرادة الأشخاص -أشخاص المسلمين-، فيشمل الذَّكر والأُنثى.

هذا ما يتعلَّق بهذه الجملة، ونتوقف عند هذا، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  2. أخرجه في "الموطأ": كتاب القدر، جامع ما جاء في أهل القدر، برقم (3347)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (2738).
  3. انظر: "الأساليب والإطلاقات العربية" للمنياوي (ص61).
  4. انظر: "ديوان المعاني" للعسكري (2/179).
  5. انظر: "عيون الأخبار" لابن قتيبة (1/96).
  6. انظر: "عيون الأخبار" لابن قتيبة (1/96).
  7. انظر: "شرح مسند الشافعي" للقزويني (1/315).

مواد ذات صلة