الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «إن تفرقكم في هذه الشعاب..» إلى "كنا إذا نزلنا منزلا لا نسبح.."
تاريخ النشر: ٢٩ / شوّال / ١٤٣١
التحميل: 463
مرات الإستماع: 1084

إن تفرقكم في هذه الشعاب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

باب آداب السير والنزول والنوم، والمبيت في السفر، واستحباب السرى، والرفق بالدواب، ومراعاة مصلحتها، وجواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق ذلك، وأمر من قصر في حقها بالقيام بحقها.

قال المصنف -رحمه الله-:

وعن أبي ثعلبة الخشني قال: كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله ﷺ : إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان[1]، فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض. رواه أبو داود، بإسناد حسن.

أبو ثعلبة -رضي الله عنه وأرضاه- مختلف في اسمه كثيرًا، ومختلف في اسم أبيه، فبعضهم يقول: جرثوم، وبعضهم يقول: جرثومة، وبعضهم يقول: ناشر، وبعضهم يقول غير هذا.

فأبو ثعلبة يقول: "كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله ﷺ : إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية، إنما ذلكم من الشيطان فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض، رواه أبو داود، بإسناد حسن".

"نزلوا منزلاً" أي: للاستراحة في السفر، فكانوا يتفرقون في الشعاب، والشعاب: جمع شعب، وهو الطريق في الجبل، والأودية معروفة: ما يكون من متسع بين جبلين، أو أكمتين، أو نحو ذلك، من مجاري السيول، فكانوا يتفرقون في هذه الأماكن، كل واحد يذهب ويبحث عن مكان جيد يستريح أو يستظل فيه، فيذهب كل أحد في الموضع الذي يروق له، فقال النبي ﷺ : إنما ذلكم من الشيطان يعني: من عمل الشيطان، وتزيينه وتسويله وإملائه "فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض"، فهذا التفرق في الأبدان يؤثر في تفرق القلوب والأرواح، والشيطان يجد في ذلك بغيته، فيغري النفوس ببعض الشر، فيما يقارفه ويلابسه الإنسان، ويوقع ما يوقعه من الخواطر في نفس الإنسان في أمور تتصل بعبادته، أو طاعته، أو معصيته، أو ما يتصل بالآخرين من سوء ظن، أو نحو ذلك، لكن الناس إذا اجتمعوا كان الشيطان منهم أبعد، ويحصل باجتماع الأبدان من اجتماع الأرواح ما لا يحصل بتفرقها؛ ولذلك حتى في الصلاة أخبر النبي ﷺ أن الشياطين تتخلل ما بين المصلين، وأمرهم بالتراص، فقال: رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق، فو الذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف، كأنها الحذف[2].

 فالحاصل: أن مثل هذه الأمور الظاهرة الجسمانية تؤثر في القلوب والأرواح تأثيرًا بينًا؛ ولهذا لما شكوا له ﷺ : إنا نأكل وما نشبع! قال: فلعلكم تأكلون مفترقين، اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه، يبارك لكم فيه[3] فصاروا يجتمعون حتى إن البساط الواحد يسعهم من شدة تقاربهم وتراصهم، فمثل هذه الأمور تراعى، وكل ذلك يكون أدعى لجمع القلوب والتآلف، وتقارب النفوس، ونحو هذا.

فتصور الناس إذا ذهبوا في سفر أو في نزهة، وكل واحد ذهب في ناحية، هل يحصل بينهم التآلف، مثل لو أنهم فرشوا بساط وجلسوا مع بعض عليه؟ لا شك أن هناك من الفرق ما لا يخفى.

اتقوا الله في هذه البهائم

ثم قال المصنف:

وعن سهل بن عمرو وقيل: سهل بن الربيع بن عمرو الأنصاري المعروف بابن الحنظلية، وهو من أهل بيعة الرضوان قال: مر رسول الله ﷺ ببعير قد لحق ظهره ببطنه، فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة[4] رواه أبو داود، بإسناد صحيح.
ترجمة ابن الحنظلية

ذكر حديث سهل بن عمرو، وقيل: سهل بن الربيع بن عمرو الأنصاري، المعروف بابن الحنظلية، وهو من الأوس -رضي الله عنه وأرضاه-.

وابن الحنظلية: نسبة إلى أمه، أو إلى جدة من جداته، إلى أم أبيه، أو إلى أم أمه، الحنظلية؛ لأنها من بني تميم، فنسب إليها، وهو من أهل بيعة الرضوان، وهو من خيار الصحابة فإذا كان في المسجد لا يُرى إلا وهو يصلي، وإذا خرج فهو ذاكر ومسبح لله -تبارك وتعالى-، وهو هكذا في بيته في شغل بالذكر والقراءة والعبادة، ولم يكن يولد له، توفي بالشام، في أول خلافة معاوية -رضي الله عنه وعن جميع أصحاب النبي ﷺ-.

يقول: "مر رسول الله ﷺ ببعير قد لحق ظهره ببطنه" يعني: من شدة الجوع، فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة معجمة باعتبار أنها ما تنطق، ولا تبين؛ ولهذا قيل لها: بهيمة فاركبوها صالحة يعني: صالحة للركوب، تقوى عليها، وتنشط للسير وكلوها صالحة بمعنى: أنها لا تكون في حال من الهزال بسبب التجويع، أو أنها تكون قد نحرت أو قتلت، أو أزهقت نفوسها بطريقة لا تصلح معها للأكل، أو نحو ذلك.

وجاء أيضًا في حديث آخر أن النبي ﷺ خرج في حاجته، فمر ببعير مناخ على باب المسجد من أول النهار، ثم مر به من آخر النهار، وهو على حاله، فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فابتغي فلم يوجد، فقال: رسول الله ﷺ : اتقوا الله في هذه البهائم، اركبوها صحاحًا، وكلوها سمانًا[5] بمعنى أن صاحبه قد تركه من أول النهار إلى آخر النهار بلا علف ولا شراب.

أردفني رسول الله ﷺ ذات يوم خلفه

ثم قال المصنف:

وعن أبي جعفر عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- قال: أردفني رسول الله ﷺ ذات يوم خلفه، وأسر إلي حديثًا لا أحدث به أحدًا من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله ﷺ لحاجته هدف أو حائش نخل، يعني: حائط نخل[6]. رواه مسلم هكذا مختصرًا.

أبو جعفر عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- صحابي، وأبوه صحابي، وأمه أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- وقد هاجر إلى النبي ﷺ وتوفي رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وهو ابن عشر سنين، فهو من صغار الصحابة.

قال: "أردفني رسول الله ﷺ ذات يوم خلفه، وأسر إليّ حديثًا، لا أحدث به أحدًا من الناس" هذا صغير يحفظ سر رسول الله ﷺ "وكان أحب مما استتر به رسول الله ﷺ لحاجته هدف أو حائش نخل" يعني: حائط نخل، رواه مسلم هكذا مختصرًا.

وهذا في آداب السفر، حين قضاء الحاجة مثلاً "أحب ما استتر به رسول الله ﷺ " وهكذا في الحضر، ولم يكن في بيوتهم هذه الكنف.

قال: "هدف" والهدف هو الشيء الشاخص، الذي يستتر به من بناء، أو كثيب، أو شحنة رمل، أو حصى صخر، أو نحو ذلك، يقال له: هدف، أو حائش نخل، يعني: حائط نخل، وقيل له: حائط؛ لأنه يحيط بما حواه من النخيل، رواه مسلم.

وهكذا ينبغي للإنسان أن يستتر، وأحيانًا تمر ببعض الطرق السريعة، أو غير السريعة، فتجد بعض الناس في حال التكشف، وهو يقضي حاجته أمام المارة، وربما لو سُئل، أو أُنكر عليه، لقال: أنا رجل، وكأن الرجل ليس عيب في حقه أن يتكشف، ويبدي سوءته، ونحو ذلك.

"وزاد فيه البرقاني بإسناد مسلم بعد قوله: حائش نخل، فدخل حائطًا لرجل من الأنصار" يعني: كان ﷺ إذا أراد يقضي حاجته أحب ما يكون إليه حائط "فدخل حائط رجل من الأنصار، فإذا فيه جمل" في الحديث السابق: "مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه" والبعير: هو الواحد من الإبل، سواء كان ذكرًا أم أنثى، فالناقة يقال لها: بعير، والجمل يقال له: بعير، لكن الذكر منه يقال له: جمل، والأنثى يقال لها: ناقة، والكل يقال له: بعير، فالبعير مثل (الإنسان) يقال للذكر والأنثى: إنسان، والأنثى امرأة، والذكر رجل، فالذكر من البعير يقال له: جمل، والأنثى يقال لها: ناقة.

"فلما رأى الجمل رسول الله ﷺ جرجر" جرجر صوت يصدره البعير من حنجرته. "وذرفت عيناه" سالت بالدموع، وهذا من معجزاته ﷺ والحديث ثابت صحيح.

"فأتاه النبي ﷺ فمسح سراته" أي: سنامه، وسراة الشيء الأعلى منه، يقال: جبال السراة، وفلان من أهل السراة، أي: المناطق المرتفعة، بخلاف تهامة.

فالنبي ﷺ مسح سراته، يعني: سنامه "وذفراه، فسكن" يعني: بالذرفين ما يكون خلف الأذن من البعير، وهو المكان الذي يجري منه العرق بالنسبة للبعير، فمسح عليه في هذا الموضع، ومسح عليه في سنامه، فسكن.

"فقال النبي ﷺ من رب هذا الجمل؟" لمن هذا الجمل؟

"فجاء فتى من الأنصار، فقال: هذا لي يا رسول الله، فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة، التي ملكك الله إياها، فإنه يشكو إليّ أنك تجيعه، وتدئبه" تدئبه: يعني: أنك تُعْمِله وقتًا طويلاً بعمل كثير من غير راحة، ولا إجمام مع الجوع، حتى إنه -الجمل- أعيي، كما جاء في بعض الروايات؛ ولما سأل صاحبه قال بأنه قد انقطع عن السقي كانوا يعملون على هذه الجِمال كنواضح، يستقون من الآبار، فيسقون بها الشجر والنخيل، فأعيي.

يقول: "فأتمرنا البارحة، فرأينا أن ننحره"[7] يقول: تشاورنا أن ننحره؛ لأنه خلاص انتهى، وتعب واستهلك، فنهاه النبي ﷺ عن هذا.

كنا إذا نزلنا منزلاً

والحديث الأخير:

عن أنس قال: كنا إذا نزلنا منزلاً لا نُسبّح حتى نحل الرحال[1]. رواه أبو داود، بإسناد على شرط مسلم.

معنى: "لا نسبح" هذا من الرفق بهذه البهائم، حيث يكون عليها الرحل (متاع المسافر) وهذا الرحل من الخشب، كما هو معروف، كالشداد على البعير، فإنه قد يجرحها، ويؤثر فيها في جلدها، وعظامها، ولحمها، فتتعب مع طول المسير، وكثرة الأحمال.

فأنس يقول: "كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبح" يعني: لا نصلي النافلة، حيث كانوا إذا نزلوا يتنفلون، فمع أهمية النافلة عندهم لا نسبح، حتى نضع الرحال عن هذه الدواب، تخفيفًا عليها، وإراحة لها.

والرحل: هو كل ما يكون للمسافر من متاع وآنية، وما يوضع على ظهر الدابة؛ ليكون فوقه الراكب، كل هذا يقال له رحل، وهو متاع الراكب.

فيقول: كانوا يضعونها عنها من أجل أن تستريح، وأن يخف عنها الحمل، فهذا كله يرجع إلى رحمة الله -تبارك وتعالى-، وسعة هذه الشريعة، حيث أن رحمة الله بعباده قد شملت هذه الدواب، وعلمتهم كيف يتعاملون مع هذه البهائم؟ وكيف يكون الرفق بها؟ وهذا قبل أن توجد جمعيات حقوق الحيوان، فالإسلام دين شامل وكامل، يراعي مصالح الخلق، حتى البهائم؛ ولهذا جاء عن مجاهد في قوله: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159] أن البهائم تلعن عُصاةَ بَني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر، فتخرج البهائم فتلعنهم[2]؛ لأنه يكون سببًا لما ينزل من عقوبات وقحط وجدب، وما أشبه ذلك.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1.  أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في نزول المنازل برقم (2551) وصححه الألباني.
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 255).

مواد ذات صلة