الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
‏(76) تحرير موضع ذكر دعاء الذهاب إلى المسجد " اللهم اجعل في قلبي نورا ..." ‏
تاريخ النشر: ٢٧ / صفر / ١٤٣٥
التحميل: 3091
مرات الإستماع: 3248

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نتحدَّث عن ذكرٍ جديدٍ من الأذكار التي يقولها المسلمُ عند خروجه من بيته إلى المسجد، وسأجعل الحديثَ عنه مُنقسمًا إلى ثلاث شُعبٍ؛ وذلك أنَّه أرفق وأدعى إلى ضبط الوقت، وكذلك أيضًا أدعى إلى ضبط هذه المسائل:

الشُّعبة الأولى: هي ما يتَّصل بالحال والمناسبة التي يُقال فيها هذا الذكر، متى يُقال؟

الشُّعبة الثانية: في الألفاظ الواردة فيه، يعني: مجموع الرِّوايات؛ لأنَّه جاء بروايات متنوعة، بألفاظٍ مُتعددةٍ، نحتاج أن نجمع هذه الألفاظ؛ لأنَّه قيل في مناسبةٍ واحدةٍ.

يبقى الجانبُ الثالث في المجلس الثالث والأخير -إن شاء الله-: وهو الكلام على معاني هذه الألفاظ، وهذا أطولها.

وفي هذه الليلة نتحدَّث عن المناسبة بعد ذكر لفظ الحديث، المقصود بذلك ما رواه ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- أنَّه قال: "بتُّ ليلةً عند خالتي ميمونة، فقام النبيُّ ﷺ من الليل. ومعلومٌ أنَّ ميمونة من أمّهات المؤمنين -رضي الله عنهنَّ وأرضاهنَّ-، يقول: فقام النبيُّ ﷺ من الليل، فأتى حاجتَه، ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام، ثم قام فأتى القربةَ، فأطلق شناقها، ثم توضّأ وضوءًا بين الوضوأين، ولم يُكثِر، وقد أبلغ، ثم قام فصلَّى، فقمتُ فتمطيتُ كراهية أن يرى أني كنتُ أنتبه له، فتوضّأت، فقام فصلَّى، فقمتُ عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني عن يمينه، فتتامت صلاةُ رسول الله ﷺ من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلالٌ فآذنه بالصَّلاة، فقام فصلَّى ولم يتوضّأ، وكان في دُعائه: اللهم اجعل في قلبي نورًا هذا هو الشَّاهد: اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، وعظِّم لي نورًا. قال كريبٌ: وسبع في التَّابوت، فلقيتُ بعضَ ولد العباس فحدَّثني بهنَّ، فذكر: عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشري، وذكر خصلتين[1].

سيأتي الكلامُ على هذه الألفاظ جميعًا وتفسيرها، لكن الآن أتحدَّث عن المناسبة التي يُقال فيها ذلك، ونحن مُقيَّدون بهذا الكتاب من كتب الأذكار، ومن ثَمَّ لا بدَّ من الكلام على ما يُورده المؤلفُ فيه، وقد مضى في بعض الأحاديث: أنَّ ذلك قد يُقال في مناسبةٍ أخرى على غير ما ذُكِرَ.

كذلك ورد كلامُ بعض أهل العلم في بعض الأحاديث: أنَّه قد لا يصحّ، وكنتُ في البداية أميل إلى أن يكون الحديثُ على الأذكار من غير تقييدٍ في كتابٍ؛ من أجل أن أُورد ما أظنّ أنَّه الأقرب والأرجح والأصحّ من الرِّوايات، وما يُقال في المناسبة التي تدلّ عليها الرِّوايات الثابتة الصَّحيحة، ولكن لكثرة تداول هذا الكتاب؛ ولأنَّ عامَّتكم آثر أن يكون الكلامُ مُرتبطًا به، فمن ثَمَّ فإننا لا بدَّ أن نتحدث عن كلِّ ما يُورده المؤلف في كتابه هذا من الأذكار.

فهنا ذكر هذا الحديث أنَّه مما يُقال عند الخروج إلى المسجد، الخروج إلى الصَّلاة، فهل هو كذلك؟

هل هذا مما يُقال إذا أراد المسلمُ أن يخرج إلى الصَّلاة؟

هذا الحديث هو في نفس السِّياق الذي مضى من حديث ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- لما ذكر صلاةَ النبي ﷺ حينما استيقظ من الليل، فمسح النومَ عن وجهه بيده، وقرأ الآيات الخواتم من سورة آل عمران، هي مناسبةٌ واحدةٌ.

والإمام البُخاري -رحمه الله- أورد أصلَ الحديث، أورد الحديثَ -حديث ابن عباسٍ في مبيته عند خالته ميمونة، والمناسبة واحدة- في ثمانية عشر موضعًا، يذكر في كلِّ موضعٍ -كما هو معلومٌ من عادة البُخاري رحمه الله- ما يكون مناسبًا للترجمة، هو يُقطّع الأحاديث كما هو معلومٌ، وفي موضعٍ واحدٍ منها ذكر هذا الجزء، وهو قوله: اللهم اجعل في قلبي نورًا ... إلى آخره. وفي باقي المواضع يذكر من الحديث قيام النبيِّ ﷺ من الليل ومسح وجهه، مسح النّوم عن وجهه بيده، قام إلى شنٍّ.. إلى آخره. ويذكر قراءة الآيات الأواخر من سورة آل عمران، فهو في نفس السِّياق؛ النبي ﷺ استيقظ، وتوضّأ، وقبل ذلك قرأ الآيات من سورة آل عمران، ثم بعد ذلك جاء هذا الذكر، فمتى قاله؟

ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- يصف الأمرَ من أوَّله حينما استيقظ ﷺ فذهب إلى حاجته، ثم غسل يديه ورجع ونام، ثم استيقظ ثانيةً، فما حصل بعد ذلك من قراءة الآيات، ومسح الوجه بيده، ثم بعد ذلك الوضوء، ثم قام إلى الصَّلاة، وذكر في جملة ما ذكر هذا الذكر.

هذا اللَّفظ الذي ذكرتُه هو لفظ مسلم، الحديث إذن أخرجه الشَّيخان، ولكن لفظ البخاري فيه بعض المغايرة اليسيرة، فالحديث مُتَّفقٌ عليه، وإن اختلفت الألفاظُ، سواء كان ذلك في نفس الذكر فيما يُقال، أو في الموضع أو الحال التي يُقال فيها.

فهنا في هذا السياق عند مسلم من رواية كريبٍ عن ابن عباسٍ: وكان في دُعائه. لاحظ: فقام فصلَّى ولم يتوضّأ، وكان في دُعائه: اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا.. إلى آخره.

فظاهر هذا السِّياق عند مسلم: أنَّ النبي ﷺ متى قاله؟

"فقام فصلَّى ولم يتوضّأ" يعني: بعدما توضّأ أولاً، هنا صلَّى ابنُ عباسٍ مع النبي ﷺ من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلالٌ فآذنه بالصَّلاة، فقام فصلَّى، صلَّى ماذا؟ ولم يتوضّأ، وكان في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا...

يعني: هذا بعد قيام الليل، فهنا قام فصلَّى، ظاهره أنَّه صلَّى الصبحَ، صلَّى الفجر، فكان في دُعائه، يعني: في صلاته -صلاة الصبح-، هذا ظاهر هذه الرِّواية.

هنا في هذا اللَّفظ لمسلمٍ نُلاحظ أنَّ الإمام البخاري -رحمه الله- أورد هذا الذكر: اللهم اجعل في قلبي نورًا... إلى آخره، قلنا: ذكره في موضعٍ واحدٍ في "الصَّحيح"، مع أنَّه أورد الحديثَ في ثمانية عشر موضعًا، لكن هذه الجملة في الذكر الذي يُقال هذا: اللهم اجعل في قلبي نورًا، وجزء من هذا السِّياق الطَّويل في الحديث ذكره في موضعٍ واحدٍ في باب "الدُّعاء إذا انتبه من الليل"[2].

والإمام البُخاري -رحمه الله- فقهه في تراجم الأبواب، فهل هذا يعني أنَّ الإمامَ البخاري -رحمه الله- يرى أنَّ هذا الذكر يُقال إذا انتبه من الليل وقبل أن يُصلِّي؟

الظاهر -والله أعلم- أنَّ ذلك ليس بلازمٍ؛ لأنَّا نعلم أنَّه في أوَّله، وإن كان البخاريُّ في هذا الموضع لم يذكر أوَّله: أنَّه قام إلى شنٍّ ثم توضّأ وقرأ الآيات قبل ذلك من سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [آل عمران:190]، فهذه قلنا: إنَّها تُقال إذا استيقظ من الليل، وقبل أن يشرع في قيام الليل يقرأ هذه الآيات، فهذا مُناسبٌ لهذه الترجمة عند البخاري: "باب الدُّعاء إذا انتبه من اللَّيل"، يعني معناه: قبل أن يشرع في صلاة الليل، هذا في الآيات؛ ولذلك فإنَّ أكثر الـمُصنِّفين قسَّموا هذا الحديثَ، يعني: جعلوا ذكرَ الآيات في موضعٍ، وذكروا هذا الذكرَ في موضعٍ كما سيتَّضح -إن شاء الله-، وهو حديثٌ واحدٌ، فيحتمل أنَّ الإمام البخاري -رحمه الله- يقصد بذلك أنَّه يقرأ الآيات، لا أنَّ قوله: اللهم اجعل في قلبي نورًا يُقال إذا انتبه من الليل؛ لأنَّ هذا له موضعٌ آخر كما وصف ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- في هذا السِّياق الطَّويل: أنَّ ذلك بعدما قضى صلاتَه من الليل صلَّى ثلاث عشرة ركعة، ثم بعد ذلك اضطجع ونفخ، ثم قام فصلَّى، فكان في صلاته في دعائه –يعني: في هذه الصَّلاة- أنَّه قال ذلك، مع أنَّه يحتمل حينما أورد البخاريُّ -رحمه الله- هذا الجزء من الحديث فقط الذي فيه: اللهم اجعل في قلبي نورًا، ولم يذكر قراءةَ الآيات تحت هذا الباب: أنَّه يقصد أنَّ هذا أيضًا من جملة ما يُقال مع الآيات، هذا لا يبعد أنَّه قصد هذا: "باب الدُّعاء إذا انتبه من الليل"، وهذا الدُّعاء، والآيات التي في آخر آل عمران هي دُعاء، لكن هذا السِّياق في حديث ابن عباسٍ لا يدل على أنَّه قاله قبل أن يُصلي صلاةَ الليل، مع أنَّه يحتمل عبارة ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- حينما قال: "وكان في دعائه"، هنا هل هذا اللَّفظ يدل دلالةً قطعيَّةً على أنَّ قوله: "وكان في دُعائه"، يقصد به في صلاة الفجر في هذا اللَّفظ؟

الجواب: لا، "وكان في دُعائه"، يعني: في جملة دُعائه الذي دعا به، سمعه ابنُ عباسٍ من النبي ﷺ في تلك الليلة، من جملة ما دعا به ﷺ، متى دعا به؟

هذا الكلام هنا يأتي الاحتمالُ، وتنوَّعت فيه الأقوال، فقد يكون ذلك من البخاري -رحمه الله- ترجيحًا لكونه قاله مع الآيات قبل أن يشرع في الصَّلاة، فأورده تحت هذا الباب.

بينما الإمام النَّسائي -رحمه الله- والعلماء يذكرون تبويبَ النَّسائي أيضًا وما فيه من الفقه الدَّقيق، النَّسائي جعله تحت باب: "الدُّعاء في السُّجود"[3]، فهنا إذا قلنا: إنَّه قاله كما في هذه اللَّفظة: "كان في دُعائه"، متى كان ذلك؟ متى دعا؟

انظروا إلى الألفاظ والرِّوايات، هو حديث ابن عباسٍ فقط ، في رواية شعبة، عن سلمة، عن كريب -مولى ابن عباسٍ- التي عند مسلم: "ثم خرج إلى الصَّلاة".

الإمام مسلم أورده بألفاظٍ ورواياتٍ مُتعددةٍ: "ثم خرج إلى الصَّلاة فصلَّى، فجعل يقول في صلاته، أو في سُجوده: اللهم اجعل في قلبي نورًا"، هذه رواية عند مسلمٍ.

"خرج إلى الصَّلاة" أي: صلاة الفجر، وليس المقصودُ بها صلاةَ الليل، فضلاً عن أن يكون قال ذلك قبل الشُّروع في قيام الليل كما يدل عليه التَّبويب؛ الترجمة التي ذكرها الإمامُ البخاري -رحمه الله-: "فجعل يقول في صلاته أو في سجوده" أنَّ هذا دعاءٌ قاله في صلاة الصُّبْح.

ما موطن الدُّعاء الذي يُقال؟ هل يدعو في ركوعه؟

الجواب: لا، فيقوله إمَّا في السُّجود، وإمَّا بعد الفراغ من التَّشهد والصَّلاة على النبي ﷺ، فهو موضعٌ للدعاء؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: ثم ليتخيّر من الدُّعاء أعجبه، فهذا موضعٌ للدُّعاء قبل أن يُسلِّم.

وكذلك أيضًا يحتمل أن يكون قاله في افتتاح الصَّلاة، يعني: قبل الشروع في الفاتحة، أن يكون من جُملة الاستفتاحات، يحتمل، لكن هنا قال: "في صلاته، أو في سجوده"، هذا عند مسلمٍ.

وفي روايةٍ عند مسلمٍ أيضًا من رواية حبيب ابن أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه: أنَّه قال هذا الدُّعاء وهو ذاهبٌ إلى صلاة الصُّبح، ولفظه: "فأذَّن المؤذِّنُ، فخرج إلى الصَّلاة وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نورًا"[4].

هذه الرِّواية ليست من رواية كريب عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، وإنما من رواية محمد بن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه: أنَّه قال هذا الدّعاء وهو ذاهبٌ إلى صلاة الصُّبح: فأذَّن المؤذِّنُ فخرج إلى الصَّلاة وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نورًا.

هذه الرِّواية عند مسلمٍ هي التي بنى عليها جمعٌ من أهل العلم أنَّ ذلك يُقال عند الخروج إلى الصَّلاة، بعضهم قيَّده بصلاة الصُّبح، قالوا: لأنَّه قاله وهو خارجٌ لصلاة الصُّبح فقط، وهذه أذكار توقيفيَّة.

وبعضُهم قال: قاله وهو خارجٌ لصلاة الصُّبح، ولا فرقَ بين صلاة الصُّبح وغيرها، فهذا مما يُقال للخروج للصَّلاة، فجعلوه من الأذكار التي تُقال عند الخروج إلى الصَّلاة.

وهنا رسالة، أو فائدة أُخرى جانبية تُجيب عن سؤال يَرد كثيرًا: كثيرٌ من الناس في هذا الوقت صاروا يُشاهدون الفضائيات والاختلافات في الفتاوى وفي كلام أهل العلم، يقولون: القرآن واحدٌ، فلماذا الناس يختلفون؟ الدِّين واحدٌ، لماذا هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا؟

هذا واحدٌ من الأسباب الكثيرة جدًّا: أن يكون ذلك من قِبَل الرِّواية، فمَن نظر إلى هذه اللَّفظة قال: يقولها وهو خارج. ومَن نظر إلى اللَّفظة الأخرى: "فجعل يقول في صلاته، أو في سجوده"، قال: هذا من الأذكار التي تُقال في الصَّلاة. فمتى يُقال في الصَّلاة: بعد التَّشهد، أم في السُّجود، أم يُقال في الاستفتاح؟

يحتمل، ومن هنا اختلفت أقوالُ أهل العلم في موضعه في الصَّلاة، أو يُقال حينما يستيقظ من النوم مع الآيات من آخر سورة آل عمران، أو أنَّه يقوله بعد الفراغ من الصَّلاة كما سيأتي في روايةٍ أخرى.

هذه الرِّواية -رواية محمد بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه- هي في "صحيح مسلم"، والواقعة واحدة، يعني: النبي ﷺ ما قال هذا وبات عنده ابنُ عباسٍ إلا مرة واحدة عند خالته ميمونة، فوصف فيها الحال.

إذن هذا التَّفاوت هو من قِبَل الرِّواة، فبعض أهل العلم قالوا عن هذه الرِّواية -رواية محمد بن علي- أنَّه قاله وهو خارجٌ إلى الصلاة، قالوا: هذه الرِّواية في صحّتها وثبوتها نظر، وإن كانت في "صحيح مسلم"، وهل في "صحيح مسلم" أحاديث ضعيفة؟

قالوا: لا، نحن ما نقصد هذا. قالوا: الإمام مسلم يُورد الحديثَ الذي هو أصل الباب، ثم بعد ذلك يُورد من الطُّرق والرِّوايات بعده، قد لا تكون على هذا الشَّرط الذي اشترطه، وإنما ذلك في الشَّواهد والمتابعات، أصل حديث الباب هو ما يفي بشرط الإمام مسلم -رحمه الله- في الصحّة والثّبوت والاتِّصال وما إلى ذلك، لكن يُورد بعده روايات متعددة وطُرق، كما هو معروفٌ في "صحيح مسلم"، فهذه الرِّوايات التَّابعة التي يذكرها، كما في هذه الرِّواية، وهي في آخر ما ذكر من الرِّوايات والطُّرق لهذا الحديث.

إذن هذه الرِّواية ليست هي الأصل في الباب، الأصل رواية كُريب التي قرأتُها عليكم في أول الكلام على هذا الحديث.

ومن هنا بعض أهل العلم قال: هذه التي فيها "فأذَّن المؤذِّن فخرج إلى الصَّلاة"، وهو يقول أنَّها لا تصحّ، ومن ثَمَّ ليس هذا من الأذكار التي تُقال عند الخروج إلى الصَّلاة، وإنما ذلك يُقال في موضعٍ آخر.

عند الترمذي من طريق داود بن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه، عن جدِّه، جاء فيه أنَّه قال ذلك حين فرغ من صلاته"[5].

وعند البخاري في كتاب "الأدب الـمُفرد" من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عباسٍ.

فهذه طُرقٌ عن ابن عباسٍ مُتعددة: "كان رسولُ الله ﷺ إذا قام من الليل يُصلِّي، فقضى صلاته، يُثني على الله بما هو أهله، ثم يكون آخر كلامه: اللهم اجعل في قلبي نورًا إذا قضى صلاته"[6].

هذا يُوافق الذي قبله عند الترمذي: "قال ذلك حين فرغ من صلاته"[7].

الرِّواية الثانية تُوضحه: إذا قام من الليل يُصلِّي، فقضى صلاته، يُثني على الله بما هو أهله"، ثم يقول: "يكون آخر كلامه: اللهم اجعل في قلبي نورًا"، آخر صلاته، قضى صلاته.

إذن هذا يدل على أنَّه في صلاة الليل قاله لما قضى صلاتَه، يحتمل أن يكون قبل السَّلام، يعني: فرغ من التَّشهد والصَّلاة على النبي ﷺ، استعاذ من الأربع: عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدَّجال[8]، واستعاذ من المأثم والمغرم[9]، ثم قال قبل أن يُسلِّم: اللهم اجعل في قلبي نورًا.

يحتمل؛ لأنَّ هذا موضعُ دعاءٍ.

ويحتمل أنَّه قاله بعدما سلَّم على طريقة شيخ الإسلام -رحمه الله-، لا يتكلم هو عن هذا الحديث بخصوصه، هو يحمل ما ورد من دعاءٍ ونحوه، كقول: "اللهم أعني على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك" أن يُقال ذلك دُبُر كلِّ صلاةٍ، كما أوصى النبيُّ ﷺ أنَّ ذلك يُقال قبل السَّلام، يعني: شيخ الإسلام -رحمه الله- كلامه معروف في هذا: أنَّ الدعاء لا يكون بعد السَّلام، وإنما يكون قبل السلام؛ لأنَّه يُناجي ربَّه، فحريٌّ أن يُستجاب له، وهو موضع دعاءٍ؛ لقول النبي ﷺ: ثم ليتخيّر من الدُّعاء أعجبه[10]، يعني: إذا فرغ من الصَّلاة على النبي ﷺ.

فهذا يمكن أن يُقصَد في هذه الرِّواية: أنَّه لما قضى الصَّلاة أثنى على الله بما هو أهله، ثم كان في آخر كلامه: اللهم اجعل في قلبي نورًا.

هذا يحتمل، والحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: "يمكن، يحتمل، يمكن أن نجمع بين هذه الرِّوايات أنَّه كان يقول ذلك عند القُرب من فراغه من الصَّلاة"[11]، يعني: لما قضى صلاته. والرِّواية الأخرى: حين فرغ من صلاته. ابن حجر يقول: عند القُرب. مُقاربة الفراغ منها، يعني: قبل السَّلام. ويحتمل أنَّه قاله عند السَّلام.

وعند أبي يعلى في "الـمُسند": "ثم صلَّى الرَّكعتين قبل الفجر"[12]، يعني: أنَّه جعل ذلك في الركعتين قبل الفجر، وهذا قال عنه الـمُحقق -مُحقق "مُسند أبي يعلى" قال-: "إسناده صحيحٌ".

والظَّاهر أنَّه يقصد بذلك أصل الحديث؛ لأنَّ أصله في "الصَّحيحين"، ولكن هذه اللَّفظة ليست في "الصحيحين"، والإسناد الذي عند أبي يعلى لا يخلو من مقالٍ، وإن كان أحسن حالاً من إسناد الطَّبراني في "الكبير"، و"الأوسط"، وفي كتابه الآخر "الدُّعاء".

وكذلك ما أخرجه أبو نُعيم في "الحلية"، فإسناده عند أبي يعلى أحسن حالاً، لكنَّه أيضًا لا يخلو من مقالٍ؛ فعند الطَّبراني في "الكبير" و"الأوسط" و"الدُّعاء"، وعند أبي نُعيم في "الحلية"، وكذلك عند البيهقي في "الدعاء": "فلمَّا صلَّى الركعتين قبل الفجر قال"[13].

الآن هذه الرِّواية: "صلَّى الركعتين قبل الفجر قال"، يحتمل أنَّه قال فيها، لكن الرِّواية التي عند أبي يعلى: "ثم صلَّى الركعتين قبل الفجر، فلمَّا فرغ من صلاته قال"[14].

وأيضًا هنا فرغ يحتمل أنَّه سلَّم، ويحتمل أنَّه قاله قبل السَّلام، يحتمل، لكن الرِّواية لا تخلو من ضعفٍ.

وفي روايةٍ: "فلمَّا ركع الركعةَ الأخيرة"، هذا في صلاة الليل –يعني: الوتر- "فاعتدل قائمًا من ركوعه قنت فقال"[15]. وذكر الحديثَ، لكن إسنادها لا يصحّ.

والذي يظهر -والله أعلم- أنَّ ذلك ليس من الأذكار التي تُقال عند الخروج إلى الصَّلاة، يريد أن يخرج إلى المسجد ليس هذا من الأذكار، لكن هذا يُقال في الصَّلاة، يحتمل أنَّه في صلاة الصُّبح، ويحتمل أنَّه في صلاة الليل، هذه الرِّوايات محتملة.

والرِّواية التي ذكرنا عند مسلمٍ -رحمه الله- من حديث كُريب أنَّه قال لما ذكر صلاتَه من الليل، وأنَّ بلالاً آذنه بالصَّلاة –يعني: صلاة الصبح-: "فقام فصلَّى ولم يتوضّأ، وكان في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نورًا"، أنَّ هذا يحتمل أنَّه قاله في صلاة الصبح، ويحتمل أنَّه قاله في غيرها، يعني: قاله في آخر صلاة الليل. ويحتمل أنَّه قاله بعد ذلك.

كما أنَّه يحتمل أنَّه قاله لما قام من الليل قبل الشُّروع في الصَّلاة، كما يُشعر به صنيع البخاري -رحمه الله تعالى-؛ لأنَّ الرِّواية الأخرى؛ رواية شُعبة، عن سلمة، عن كُريب التي عند مسلم: "ثم خرج إلى الصَّلاة فصلَّى، فجعل يقول في صلاته، أو في سجوده"، يعني: صلاة الصبح.

فلو قاله المسلمُ في صلاته -صلاة الصبح- في سجوده، أو بعد الفراغ من التَّشهد؛ لكان ذلك -إن شاء الله- في موضعه؛ لأنَّ ذاك أصلاً هو موضعٌ للدُّعاء، يعني: السُّجود، وقبل السَّلام أيضًا، بعد الفراغ من الصَّلاة على النبي ﷺ، ولو قاله في آخر صلاة الليل في سجوده مثلاً، أو قبل الفراغ منها، قبل السلام؛ فذلك أيضًا في موضعه، والعلم عند الله -تبارك وتعالى-.

هذا ما يتعلق بهذه الجزئية، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب الدُّعاء إذا انتبه بالليل، برقم (6316)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
  2. "صحيح البخاري" (8/69).
  3. "سنن النَّسائي" (2/218).
  4. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
  5. أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء ما يقول إذا قام من الليل إلى الصَّلاة، برقم (3419)، وضعَّفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"، برقم (2916).
  6. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، برقم (696).
  7. أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء ما يقول إذا قام من الليل إلى الصَّلاة، برقم (3419)، وضعَّفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"، برقم (2916).
  8. أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب التَّعوذ من عذاب القبر، برقم (1377)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب ما يُستعاذ منه في الصَّلاة، برقم (588).
  9. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الدُّعاء قبل السلام، برقم (832)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب ما يُستعاذ منه في الصَّلاة، برقم (589).
  10. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب ما يتخيّر من الدعاء بعد التَّشهد وليس بواجبٍ، برقم (835).
  11. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/117).
  12. ([12]) أخرجه أبو يعلى في "مسنده"، برقم (2545).
  13. أخرجه الطَّبراني في "المعجم الكبير"، برقم (10668)، و"الأوسط"، برقم (3696)، و"حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (3/210)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/161)، برقم (105).
  14. أخرجه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (4/419)، برقم (2545).
  15. "فوائد تمام" (2/122)، برقم (1318).

مواد ذات صلة